الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
جولة في أروقة النفس في رواية ( ست أرواح تكفي للهو ) للكاتبة والطبيبة المصرية دعاء إبراهيم, دراسة ذرائعية مقدّمة من الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي
عبير خالد يحيي
2021 / 4 / 24الادب والفن
توطئة :
الرواية النفسية: هي رواية تروى فيها الأحداث بطريقة التجاذبات الذاتية بين وعي الإنسان ودواخله النفسية بشكل صراعات أو توافقات تطرح عبر ساحة اللاوعي لمناقشتها فوق مسرح الوعي الإنساني بمفاهيم سردية متوافقة ومختلفة بشكل متناص مع الأحداث السردية الواقعة فوق مسرح الحياة اليومي بشكل محتوم, وتكون مسجلة في ذهن واحد أو أكثر من من شخصياتها, يتحدث بضمير الأنا بالتحديد, ليساهم في تقديم الشخصيات من خلال وجهة نظره الخاصة ليطرحها بإطار سردي أمام المتلقي, ويأخذ فيه تدفق سيل الوعي دورًا أساسيًّا ومشوّقًا في السرد, يتوازن مع سرد الأحداث الخارجية أو يفوقه أهمية أحيانًا, ولا يتم سرد الأحداث وفق تسلسلها الزمني, وإنما وفق تداعيات الوعي في ذهن السارد.
نشأت الروايات النفسية في الفترة التي طلع فيها فرويد بنظرياته النفسية, ويعدّ (دويستويفسكي) رائد الرواية النفسية الروسية في القرن التاسع عشر، وقد عمل على تشريح النفس الإنسانية وغاص في كهوفها المظلمة, فكانت روايته (المراهق ) خير مثال على ذلك, ولكن الرواية النفسية لم تبلغ قمتها إلّا في القرن العشرين على يد مارسيل بروست وجميس جويس وفرانز كافكا, عندما هيمنت الحداثة والمعاصرة على الأدب الغربي بالعموم, وعلى الرواية بالخصوص, حيث تبلورت خصائصها تبلورًا واضحًا.
ولعلّ الرواية المعاصرة بالعموم -وبجميع مواضيعها- أخذت من الرواية النفسية جانبًا كبيرًا مكّنها من تكوين المحور السلوكي النفسي بدقة كبيرة ضمن المحاور والمستويات العلمية الفلسفية التي ثبتتها النظرية الذرائعية في الواقع السردي العربي المعاصر.
أما عن الرواية النفسية العربية, فقد تأخّر ظهورها في الساحة الأدبية العربية, بتأخّر تبلور فن الرواية بشكل عام, وفن الرواية المعاصرة بشكل خاص, ولعل السبب الرئيس هو تقاعس الروائيين عن الاطلاع الجدّي على الطب النفسي وعلم النفس, فلا تكفي المطالعات السطحية والقراءات المجملة في علم النفس لتكون مادة مرشوشة رشًّا على صفحات رواية, بل لا بدّ من بذل الكثير من الجهد بالإطلاع المعرفي, وباستشارة ذوي الاختصاص للوقوف على ماهية الكهوف العطنة الراقدة في أعماق نفس الشخصية البطلة لفتح فوهاتها المغلقة والنفوذ إليها لتفسير الأحداث الغريبة التي تقوم بها الجوارح الخارجية لتلك الشخصية.
ولعل روايات الطاهر بن جلون – وهو أشهر روائي فرنسي الجنسية من أصل مغربي يعيش في فرنسا ويكتب باللغة الفرنسية - قد هيمن عليها الجانب النفسي الذي غطى الشخصيات والزمن والمكان الروائي, ولنأخذ مثالًا على ذلك روايته المعنوبة ب ( تلك العتمة الباهرة) التي جسّد فيها اغتراب الشخصية عن ذاتها بعد أن سلبت منها الذاكرة وسقطت في حياة عدمية تردها بعض المشاهد الذهنية التي تُثار بمشهد واقعي بسيط.
وقد وجدتُ هذه الرواية, المعنونة بـ( ستُّ أرواح تكفي للَّهوِ) رواية معاصرة نفسية بامتياز, بذلت فيها الكاتبة المصرية الشابة الدكتورة دعاء إبراهيم مجهودًا جبّارًا لتخرج لنا هذا العمل الأدبي المتكامل الذي وضعت فيه علومها في علم النفس والطب النفسي- مستفيدة من علومها الطبية واستشاراتها لذوي الاختصاص - في قالب أدبي مشوّق تميّز به قلمها الرشيق, وسأدلّل على ذلك من خلال دراستي النقدية الذرائعية هذه.
السيرة الذاتية للكاتبة:
- د. دعاء ابراهيم كاتبة مصرية ولدت فى مدينة الاسكندرية 1988
- حصلت على بكالوريوس الطب والجراحة جامعة الاسكندرية عام 2011 م
- صدرت لها مجموعة قصصية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بعنوان نقوش حول جدارية عام 2013وتعد تلك المجموعة أولى خطواتها الأدبية .
- صدرت لها متتالية قصصية بعنوان " جنازة ثانية لرجل وحيد " عن دار منشورات الربيع عام 2015 وقد ترشحت متتاليتها للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية لمرتين خلال دورتين.
- صدرت لها رواية بعنوان: لآدم سبع أرجل عن دار منشورات الربيع 2017
- الأعمال التي صدرت عن الكاتبة :
1- نقوش حول جدارية ....مجموعة قصصية
2- جنازة ثانية لرجل وحيد .... متتالية قصصية
3- لآدم سبع أرجل ... رواية
مستويات التحليل الذرائعي
أولًا – المستوى البصري و اللساني الجمالي External and Linguistic Level::
نبدأ بـ :
-1المدخل البصريExternal Trend ::
رواية مطبوعة ورقيًّا, بالحجم المتعارف عليه للرواية, تقع في 238 صفحة, بطباعة جيدة وخط ذواضح.
الغلاف كعتبة بصرية أولى:
الغلاف الأمامي صورة مؤطرة بإطار رصاصي فاتح, ضمنه ومن الأعلى وفي الوسط تجنيس العمل (رواية), تحته اسم الكاتبة بالبنط الأسود العريض( دعاء إبراهيم), يقابله من الأسفل عنوان العمل بذات البنط الأسود العريض ( سِتُّ أرواحٍ تَكفي للَّهوِ) وتحته شعار دار النشر واسمها.
أما محتوى الصورة فهو عبارة عن رسمة بالفن التجريدي لرأس إنسان وجهه أحمر تغيب إحدى عينيه وراء خصلة شعر من شعره المجعّد والمنفوش والذي تبدو من خلاله عيون ووجوه غريبة تسكن الفجوات أو التجعدات, الرأس مسنود على رقبة نحيفة تطلع من ثوب برتقالي متموج بتموجات كالنقوش مع مشتقات اللون الزيتي والناري, كما تخرج من الثوب يد سوداء بأصابع طويلة ورفيعة, بينما يستقر على كتف الرجل هر أسود بأربعة عيون. اللافت أن الخلفية التي تحيط برأس الرجل هي عيون واسعة ومخيفة...
دلالة اللون البرتقالي في علم النفس ورمزيته: من المهم أن نتذكر أن رمزية وارتباطات اللون البرتقالي ليست عالمية, فغالبًا ما تلعب الاختلافات الثقافية دورًا بارزًا في كيفية ارتباط الأشخاص بالألوان, في الولايات المتحدة يربط الناس اللون البرتقالي بالزي الرسمي للسجن, بينما يرتبط في بلدان أخرى بالملوك والروحانية.
الدلالات النفسية للقطة السوداء: خرافة تداولها الأبناء عن الأجداد, غلب عليها الخيال, وارتبطت بالتطيّر عند البعض, فمن كبار السن من يؤكد أن القط ذا اللون الأسود مسكون بالجن... وهناك من لا يزالون يعتبرون رؤية القط الأسود شؤمًا ومجلبة للحظ السيء.
فإذًا, بشكل عام الدلالة اللونية والشكلية للوحة الغلاف تتجه باتجاه الروحانيات ( الميتافيزيقا).
الغلاف الخلفي: نفس الإطار الرصاصي يحيط بمساحة برتقالية مكتوب علها باللون الأسود عنوان العمل وفقرة سردية تعريفية باختصار وتكثيف كبير مختارة بعناية لكشف غموض العنوان, والربط بين العنوان والمضمون:
" كل يوم يمر عليَّ – ونهى تتقلّب في نومتها- أفكر, ربما تخونني كقطة مع أي ذكر يرمقها في الشارع! للقطط أرواح عدّة! ستشم رائحة الدم الممزوج بالمطر وتموء, تتشمّم المُلقَى هناك وتلعقه بلسانها الحار لتصلح ما فسد فيه, وما فسد ليس سوى ثقب ينفذ إلى القلب, فقط ثقب بحجم عقلة الإصبع يسهل إصلاحه بإحدى أرواحها السبع, ستقول المرأة بجوار الجثة : ستُّ أرواح للَّهوِ, السابعة لك يا حبيبي المقتول!".
العتبة المرئية الخارجية الثانية هي العنوان: ستُّ أرواحٍ تكفي للّهو
جملة اسمية طويلة نسبيًّا, اصطادت بها الكاتبة قارئها ليبدأ التشويق والشّدّ منها, بإضافة صورة الغلاف, لاحظت أن الكاتبة تدخل العدد في عناوين معظم أعمالها ( جنازة ثانية لرجل وحيد_ لآدم سبع أرجل), ويكون له دلالة, ليس عبثًا, ما يجعله تكنيكًا تتبعه الكاتبة, يكون لها بصمة مميزة.
صورة الغلاف مع العنوان يعطي المتلقي انطباعًا أوليًّا بأن مضمون الرواية يدور حول الأرواح والسحر والشعوذة, والفقرة بالغلاف الخلفي تكشف عن هلاوس نفسية للسارد.
العتبة الداخلية: كانت الإهداء:
إلى الذين لن يقرؤوا هذه الرواية أبدًا؛ فلديهم من القصص ما يكفي!
وهذا الإهداء مستفز للغاية, وإشارة إيحائية لاستمرارية التعاقب الحدثي فوق مسرح الديمومة، عتاد من إرهاصات تختبئ بين طيات التجربة الإنسانية التي ولجت تحت ذريعة ( كل ممنوع مرغوب) فمن لا يقرأ سيجد تلك الأحداث في داخل نفسه ِشاء أم أبى, وهذا تحدّ يعكس ثقة الكاتبة بما تكتب, وكأنها تقول: لا يستطيع أن يمنع المتلقي نفسه عما كتبته حتى وإن لم يقرأ عملي هذا، فأنا أكتب، وبتحدٍّ عما يحتل نفسه ....!وأنا أعلم ما يمنعه ويعطيه العذر عن عدم قراءتي, بذريعة الفوضى الخارجية التي فسحت لي الطريق لأتسلل لدواخل نفسه دون أن يحس ...و يا له من تحدٍّ غريب لم يزر دواخلي من قبل....!!؟
يقع العمل في 27 فصل, لكل فصل رقم وعنوان, اللافت أيضًا أن عناوين الفصول أيضًا عبارة عن جملة طويلة, لكنها ملخصة لمحتوى الفصل, وبذلك تحقق الكاتبة معيارية العنوان كمكوّن بصري ملخص لمحتوى أو لمضمون الفصل, لكن العنوان الطويل غير مستجب نقديًّا, لأن الإطالة تفقد العنوان خاصية التكثيف, وتكشف النص, خصوصًا إذا كانت عناوين إخبارية ومباشرة, وبعضها جمل مأخوذة كما هي من داخل النص أو الفصل, نذكر بعض تلك العناوين على سبيل المثال لا الحصر:
خارج حدود العقل/ داخل حدود العقل/ حياة داخل المرآة/مشاهد متفرقة رأتها المرآة خلسة وأخبرتنا/ دموع بلا سبب وجيه/حكاية تخجل المرآة من حكيها!/ العصا حين تصبح بطريقة معقدة أنا/ استقبال لا يرحب بالزائرين/كتاتونيا حي يتحوّل إلى جثة/ جنية عارية تفسد صداقة الرجال/حكاية قاتل ظنّ نفسه مرآة/ كريستين قطة سبعينية ضخمة/ الحكاية كما ينبغي لعصا أن تحكيها!/ وساوس عصا- شيطان!/
بينما نجد أن العناوين القصيرة, والتي استخدمتها الكاتبة في بعض الفصول, كانت أكثر جذبًا, وأكثر فاعلية بالقيام بالمهمة الرئيسية للعنوان في اختزال مضمون النص وتكثيف دلالاته, نذكر مثلًا :
فطام/ وقت للهرب/ سعيد جثة حيّة/ سم قاتل/ الروح الأولى/ رجل المرآة/ مورستان (أ) رجال/ طابور لا ينتهي/ بدلة عرس/ .
راعت الكاتبة في روايتها الشكل العام للصفحة, وترتيب الهوامش والحواشي, وانتظام الفقرات والجمل والتراكيب ضمنها علامات الترقيم الصحيحة, دون أي أخطاء إملائية أو نحوية تذكر...
وتجنيس العمل : رواية معاصرة نفسية.
-2 المدخل اللساني Linguistic Trend ::
وهذا المدخل هو مدخل الدوال والمدلولات والمفاهيم التركيبية والجمالية واللغوية وتوابعها الاشتقاقية, وحتى تحليلاتها الفونولوجية، والمرفولوجية والسياقية, حسب المنظور البنيوي التواصلي الذرائعي.....
تتحدّد من خلال هذا المدخل:
• الثقافة الأدبية الشاملة للكاتب:
ومدى استفادتها من مخزونها الثقافي والمعرفي, وتوظيفه في عملها الأدبي, يدلنا على ذلك الألفاظ والتراكيب المستخدمة, والتي تشير إلى ثقافتها الطبية وخصوصًا في الطب النفسي, سيما وأن الكاتبة أصلًا طبيبة, ولو تناولنا الجمل التالية بالتحليل لوجدنا أن الكاتبة تجيد الولوج إلى داخل النفس الإنسانية, وتكشفها كمساحات للصراع الداخلي أسوة بالصراع الدرامي الخارجي الحاصل بين الشخصيات, فتخوض في دواخل شخص مصاب بالذهان أو البارانويا أو( جنون الارتياب) وتعكس الحركة الانفعالية الداخلية عنده من خلال العينات التالية:
- في المدينة الجامعية أبقيت باب حجرتي مغلقًا, لا أخرج منها إلا حين يعمّ الصمت في الخارج, لكنه لا يعمّ داخل رأسي, تزحف أصواتهم إليّ رغم تأكّدي أنهم ليسوا في الخارج, ...وأحيانًا ما أتتبع الخطوات دون الذهاب إلى جهة محددة, الخطوات التي ترصدني وتتسمّع حركاتي, تصوّر تصرفاتي لتنقلها للمخابرات, أمسك مقبض الباب حتى تتعرّق يدي, ثم أتراجع في اللحظة الأخيرة.
- مخي يذوب منذ البداية...لأنني ببساطة كنت هنا وهناك, أتشكّل كالصلصال, يتحرك مخي (السائل) ويظل جسدي حبيس الغرف المغلقة, تندمج خلايا مخي الحية مع خلايا تفتقد الروح, فيتبادلان المنفعة, أعطيهم جزءًا من روحي ويعطونني المعرفة, فتصبح كل الأشياء حولي حيّة, تخبرني بكل ما يدور في غيابي الذي صار في الآونة الأخيرة حضورًا طاغيًا... استطعت بحكمة أن أحوّل مرضي لمعجزة ! وروحي لعدة أرواح.
- هاهي أمي تنفّذ وصيتها في طريقة إعطائي الدواء, تحضر لي الماء وتضع الحبات في يدي, وتتأكّد قبل أن تغادر أنني ابتلعتها, لكنها تغادر مسرعة في أكثر الأحيان مما يمكّنني من إخراجها من أسفل لساني والإلقاء بها خلف السرير.
- أنا لست مريضًا يا نهى, أنا صاحب معجزة ينكرها البشر, أملك شيئًا غير تقليدي, وهم اعتادوا كل ما هو تقليدي,... كل ما هو غريب يصيبهم بخيبة واضحة....
- تسمّرت عيناي على جاري في السرير المقابل, وجدته عازفًا عن الدنيا ... لا يتحدث أو يتحرك لا يرد إذا وُجِّه له الحديث, وإذا وقفت أمامه لا يعطي إشارة بأنه يراك, وبالتأكيد لا يأكل, وإذا أوقفوه لا يجلس, يظل هكذا, وإذا أجلسوه لا يقف, لا يذهب للحمام, ينساب بوله على السرير دون أية حركة منه, كان جثة حيّة, تمثالًا من شمع ينبض, سمعتهم يقولون عنه: دخل في كتاتونيا. لم أفهم ! يبدو مصطلحًا طبيًّا معقدًا, يعلقون له المحاليل التي تبقيه حيًّا.
إغناء أو توازي:
«البارانويا» أو الذُهان ،أو جنون العظمة, وهو حالة نفسية مرضيّة تتمثّل بجنون الارتياب من الاضطهاد في بعض الأوقات، بحيث يعاني المريض من عقدة اتجاه المجتمع، ظنًّا منه أنّ الجميع يبغون إيذاءه والتخلّص منه... لكن يكون هذا الشخص غاية في المنطقيّة والوعي، بحيث يخدع المحيطين به ويوهمهم بصواب تفكيره، بينما يكون عنيدًا، لا يتقبّل الانتقاد بتاتًا.
ومرض البارانويا هو أحد الأمراض النُفاسية التي تصيب المرء ولا يدري بوجودها, فلا يعترف بأنه مريض, ولا يطلب المساعدة أو العلاج, على عكس الأمراض العصابية التي تصيب الشخص ويعرف بوجودها ويلجأ إلى الاختصاصي لمساعدته في تجاوزها, فمريض الوسواس القهري مثلًا, يعرف بوجود هذه الحالة لديه, كما يدرك أنها ليست طبيعية, فيبحث عن العلاج ليتخلص منها, أما المصاب بفصام الشخصية، والذي يهلوس ويسمع أصواتًا غير موجودة، فلا يعرف أنه مريض، وبالتالي لا يعالَج ما لم يلاحظ الأهل المشكلة ويذهبوا به إلى الطبيب. إذا رضخ المريض للأمر الواقع ولجأ إلى العلاج، فهو حتمًا سوف يوقفه لا محالة ما إن يصبح بمفرده دون متابعة.
ويبقى أبرز ما في الأمر أنّ الشخص المُصاب بالبارانويا لا يتقبّل الإنتقاد مُطلقًا, ويكون متمسكًا بآرائه ولا يغيّر رأيه وإن بُرهن له العكس، بل يعتبر أنّ مغالطته إهانة! وفي الحالات الأكثر تطوّرًا، يمكن أن يكون الذُهان هو المعاناة من حالة يظنّ الشخص نفسه فيها أنه فوق مستوى البشر!
كتاتونيا: أو مرض الجامود , مرض نادر الحدوث إلا أنه مرض نفسي خطير, وهو شكل من أشكال الفصام, الفصام التخشبي, حيث يصل الأشخاص المرضى إلى مرحلة من انعدام الحياة ونفي الوجود وقرار العيش كالميت.يكون الشخص المريض كالتمثال الشمعي, لا يستطيع فعل أي شيء,إذا ترك واقفًا ظل على حالته, وإذا حرّكته سار معك أينما تسير, وإذا تركته قاعدًا ظلّ على حالته تلك, لا حركة كأنه بالفعل من الجمادات, ولا يبادر بأي رد فعل ولا يتفاعل مع أي منبه خارجي, ولا يستجيب البتة إلى أي كلام, ويرفض التواصل مع الآخرين, ويرفض الطعام والشراب.
• المعرفة الأكاديمية بالأجناس الأدبية:
للكاتبة دراية عالية بالتقنيات السردية, كما أنها تمتلك براعة التنويع بتلك التقنيات, على الرغم من أن ضمير السارد المتكلم (أنا) يحدّ نوعًا ما من استخدام كل التقنيات, سيما عند الحاجة إلى وجود سارد آخر يسرد من الخارج, على اعتبار أن السارد في الرواية النفسية يسرد من الداخل, وهو ليس ثقة كونه مريض نفسي له هلوساته وتصوراته المخالفة لمجريات الأحداث الحقيقية, فابتكرت الكاتبة تقنية السارد الخارجي, ولأن الرواية المعاصرة ساحة للشخص أو الذات المفردة, لذلك شخصنت الكاتبة السارد الخارجي من محتويات الروي وعناصره المتحركة من الجمادات مثل :( مرآة – عصا) وهذا إدراك ذكي منها يجعلنا نتأكد من أنها على معرفة تامة بالأجناس الأدبية والتقنيات السردية.
• البنية اللغوية من مفردات وتراكيب وسياق:
اختارت الكاتبة الألفاظ والمفردات البسيطة والمفهومة, وصاغتها بتراكيب وجمل قصيرة ومتوسطة, مبتعدة عن الجمل الطويلة لتحافظ على تسارع يكاد يكون منتظم, تأخذ القارئ معها عبر رشاقة النقلات من جملة لأخرى, تراكيب سليمة من الناحية النحوية منتظمة في سياقات المعاني التي تبتغي الكاتبة تصويرها, لنأخذ مثالًا يوضح ذلك:
وجدتُ نفسي أمام سؤال وجيه من جثة متحركة: " أمال فالح في إيه!" , كنت مضطرًا للإجابة؛ لأن السؤال حاز أهمية مختلفة حين طُرح بعد الموت, تلعثمتُ, ثم انطلق لساني موضحًا أنني كنت أذاكر طوال حياتي دون أن أصبح فالحًا, أُغلِق الحجرة وأمكث أمام الكتب, تسحبني الحروف إلى عالم آخر كالمنوِّم.
نلاحظ بساطة الألفاظ المألوفة ( وجدتُ, سؤال, إجابة, جثة, الموت, تلعثمتُ, لساني, موضحًا,فالح, انطلق, أذاكر, أغلق, أمكث, الحجرة, الكتب, تسحبني, الحروف, المنوم...)
والتي تجتمع في تراكيبها التي نوّعت الكاتبة في نظمها بين جملة فعلية ناقصة( وجدت نفسي, كنت مضطرًا, كنت أذاكر, أصبح فالحًا) وجملة اسمية مشبهة بالفعل ( لأن السؤال حاز) ثم جمل فعلية( تلعثمتُ, انطلق لساني موضحًا, أغلق الحجرة, أمكث أمام الكتب, تسحبني الحروف...) هذه التراكيب بالطرقة التي رصفتها الكاتبة, جعلتنا أمام صورة نراها تمامًا كما يراها السارد في مخيلته حين عاد به سؤال الحاضر إلى أفعال الماضي.
• أما عن البنية الذرائعية ( الدلالة والمفهوم): تدور في إطار المفهوم.
فالدلالة تشير إلى المدلولات التي جاءت بها الكاتبة كثيرة لتدلّل على المعنى, وحصرتها بالمفهوم, لتوقف المراوغة بين الدالة والمدلولات التي تحمل الكثير من المعاني, والتي قد تخرج عن المعنى الذي أرادته الكاتبة, نأخذ تلك العينة كمثال:
أصنع خربشات على المكتب, أستكشف القلم مبعثِرًا حبره على الصفحات البيضاء, أتتبّع خيط النمل, ثم أتفنّن في قتله وتخويفه, وحين يتملّكني الملل أملأ الفراغات البيضاء بشخبطات مموهة, وجوه, ورود, أعين أحيطها بدلّات زرقاء, حتى تهلك الأوراق من كثرة اللهو الذي يشبه المذاكرة.
الدلالة : المذاكرة
المدلولات : خربشات, المكتب, القلم, الصفحات, شخبطات, خيط النمل, أتفنّن, أملأ الفراغات, وجوه ورود, أعين, الأوراق, اللهو, الملل, المذاكرة
المعنى: التسلية
المفهوم : مرحلة التلمذة أو التعليم الأولى.
فالمفهوم يغلف المعنى الذي يغلف المدلولات التي تغلف الدلالة.
مع الوقت تحوّلت شخبطاتي إلى نهود وحلمات, نهود كبيرة, نهود صغيرة, تختلف الحجرة من حولي, أرى كل شيء يتدلى نحو عيني ويهتز في خفة وتواطؤ. أحفظ الصور في ذاكرتي من المجلات التي تخرج أسفل المكاتب في المدرسة, أشاهد من بعيد دون أن ينتبه أحد من زملائي, وحين يحاول أحدهم أن يقحمني أتصنّع اللامبالاة, كأنها لا ترهقني مثلهم, أو كأنني العارف بكل شيءوقد امتلأ فضولي, وشبعت نفسي, شعرت أنني بذلك أحفظ كرامتي, أخفي ذلك الضعف الأهوج, أحفظ لضعفي سرّيته فلا يتكشّف. الضغف أمام أية امرأة لمجرّد أنها كائن آخر يختلف عني, أحب اختلافهن وأشتهيه.
الدلالة: المراهقة
المدلولات: تحوّلت, نهود, حلمات, نهود كبيرة, نهود صغيرة, تختلف الحجرة, يتدلى, يهتز, الصور, ذاكرتي, المجلات, شبّعت نفسي, الضعف, الأهوج, سرّيتي, امرأة, كائن يختلف عني, أحب, اختلافهن, أشتهيه
المفهوم : البلوغ والنضج الجنسي.
استخدمت الكاتبة الكثير من المدلولات التي تشير إلى الدلالة وهي انتقال السارد إلى مرحلة المراهقة, وحصرتها بمفهوم البلوغ الجنسي والإرهاصات النفسية والحسية المرافقة لتلك المرحلة.
• البنية الجمالية ومتعلقاتها البلاغية – علم البديع وعلم البيان:
سأمر على بعض البيان:
غلب عليها التشابيه:
- أسمع صوت مخي السائل داخل جمجمتي كقطعة ثلج متهالكة تحت شمس أغسطس.
- سمّها يتسكّع في دمي.
- كان جسدها يابسًا كعشب أصفر, وكنت أصغر من شربة ماء تسقيها.
- تحجّرها كتمثال جميل يجعلني هادئًا كالثلج.
- كلما حاولت أن استعرض فحولتي فشلت كطفل.
- أنا وحيد كنبتة شيطانية, لم تجد شمسًا ترعاها.
- تنكب داخل رأسي الحقائق كوسوسة شيطان مطّلع يسهر على نبتته حتى تكبر.
ثانيًا- المستوى الأخلاقي Moral Level
تنظر الذرائعية للنص الأدبي على أنه نص ذو رسالة إنسانية, وهذا يستدعي أن يكون له خلفية أخلاقية ليكون للأدب أولوية المشاركة الفعلية في بناء المجتمع الذي نروم فيه الفضيلة والخير والجمال, والأديب الحقيقي يجب أن ينأى عن الترويج للشر والانحلال الأخلاقي والإباحية والعدائية والعنف, تحت أي مسمى من المسميات المبرهجة, وله أن يحقق المتعة الفنية في الكثير من المواضيع البعيدة عن التفكك والانحرافات النفسية والاجتماعية المهلكة, ولن يتسنى ذلك إلا بالانضواء تحت منظومة الأخلاق العالمية التي تنقذه من الوقوع في مستنقع الإسفاف والسفه, وترقيه إلى مرتبة المثقف المستنير.
هذا المستوى الأخلاقي يتمثّل بدراسة:
1- البؤرة الفكرية الثابتة أو التبئير الفكري Static Core:
أثبّت فيها المفاهيم المركزية للنص, والمتمثلة ب:
أيديولوجية الأديب الفكرية:
والتي لا يمكن المساس بها نقديًّا طالما أنها تنضوي تحت المنظومة الأخلاقية العالمية, دون أن تخدش الحياء الإنساني, وبعيدة كل البعد عن العنصرية والطائفية والعنف والإرهاب. لقد قدّمت لنا الكاتبة عملًا معرفيًّا علميًّا في إطار روائي أدبي, أطلعتنا فيه على بعض الأمراض النفسية منها الشائعة ومنها النادرة, والتي يمكن أن تصيب العديد من الأشخاص في مساحة مجتمعية إنسانية صغيرة وكبيرة على حد سواء, متقدمة أو متأخرة حضاريًّا, وتأثير ذلك على الدائرة الاجتماعية المحيطة بالشخص المصاب بالتقدير الخاص, والمجتمع ككل بالتقدير العام.
استراتيجيتها النصية:
كاتبة موضوعاتها الأدبية في مجال النفس البشرية, فهي تكتب من داخل هذه النفس, وتخرج منها إلى الخارج بمقدار ما تريد رؤيته منه بما يخدم موضوعاتها, وهي كاتبة تميل في كتاباتها إلى السخرية من التناقضات الاجتماعية والفكرية في المجتمع.
نظرتها نحو مجتمعها والعالم بمنظور إنساني:
لقد دخلت الكاتبة قعر النفس البشرية, وأخرجت ما فيها إلى الحيّز المرئي والمحسوس, لتلفت النظر إلى أؤلئك الذين وقعوا في هوّة الكهوف المظلمة_الأمراض النفسية_ وحلّلت الأسباب الاجتماعية المؤهّبة لتلك الأمراض, وألقت الضوء على أبشع جريمة انتهاك يمكن أن ترتكب, حينما يُودع مريض نفسي في دار استشفاء ويتم انتهاك عرضه بطريقة بشعة من قبل المسؤول عن مراقبته, بدون تمييز بين ذكر وأنثى, فكلاهما متاح, وكلاهما مباح, طالما أنهما فاقدان الأهلية العقلية ومغيّبان نفسيًّا, لتقول لنا الكاتبة بطريقة غير مباشرة : أن أغلب المجتمع مريض نفسيًّا, وساقط أخلاقيًّا, لذلك لن يشفى فيه المرضى الذين خضعوا للتشخيص الطبي, وهم في أمس الحاجة لمدّ يد العون لهم, في الوقت الذي نجد أن أقرب الناس إليهم يملّون منهم ويتقاعسون عن نجدتهم, فلا يجدون الخلاص إلا في الموت انتحارًا, أو بطلب النجدة ممن هم معهم في نفس الشرك.
لكن جنّيّتي بكت وهي تلحظ وجهي باهتًا, ثم دفنت جسدها داخلي, داخل ذرات الزجاج التي تحتك بجسدها الطري, وصرخت بي:
_ ما تسيبنيش! أنا ما ليش غيرك! هاعمل إيه في الشوارع الضالمة؟!
_ مش هسيبك أبدًا, هتلاقيني في كل حتة حواليكِ! زي ما كنت جمبك في المستشفى, أنا الجني اللي مش هيفارقك أبدًا!
2-الخلفية الأخلاقية للنص أو الثيمة :Theme´-or-Moral Background:
كانت الكاتبة ملتزمة بالكلمة المؤدبة, فعلى الرغم من أن بعض المشاهد كانت تصف مشاهد تحتمل أن تترافق ببعض الألفاظ والأفعال غير المؤدبة بحكم السرد, إلا أنها لم تفعل ذلك, واكتفت بالتلميح أو الإشارة إلى ذلك, بمنأى عن خدش للحياء, سأورد مشهد اغتصاب الفتاة المريضة نفسيًّا, والتي يدعوها السارد ب( جنيّته) من قبل المراقب الذي يدعوه ب ( ظلّه):
فتحت الباب ببطء فرأيت المشهد الذي لن أستطيع مَحْوَه مهما حدث, كان ظلي غطاء يغطي جنيتي النائمة على أرض الحمام, يتأوّه بانتشاء رجل يقف على الماء, وجسده عصا لها وتد مغروس بجسدها, عصا مدبّبة مليئة بالأشواك, ما إن تدلف لا تخرج إلا بالدماء.
قامت الكاتبة بملاحقة السلبيات في محاولة منها لإرساء القوائم الأخلاقية في المجتمع مدركة أن ذلك واجب الأدب والأديب الحقيقي, وابتعدت عن أي فكر يزرع العداء والفرقة بين الناس, منتظمة بمنظومة الأخلاق العالمية, فلم تتعرّض لعرق أو دين أو معتقد أو عرف, لم تؤيد مصطلح الجريمة الكاملة, حتى أنها جعلت السارد يرزح تحت وطأة الخوف من محاكمته على جريمة ارتكبها بمخيّلته, ويحاسب نفسه على فعل شائن لم يرتكبه حقيقة وإنما هيّأته له مخيلته المريضة. وبذلك رجحت لنا الكاتبة كفة العدالة ببحثها عن ثغرة يمكن لها أن تنفذ منها لتحقق ذلك.
ثالثًا– المستوى النفسي Psychological Level:
1- المدخل السلوكي: Behaviorism Theory:
شهد النقد الأدبي العربي اهتمامًا ملحوظًا بدراسة النص, ورفدت تلك الحركة النقد بدراسات ثقافية عديدة, كان لعلم النفس حصة منها, والقراءة النفسية للنص الأدبي تقع ضمن منظومات القراءات المتعددة التي جرّبت أدواتها النقدية في دراسة النص, وهي ليست معزولة عن غيرها, بل اشتركت بتداخلات مهمة حصلت بين تلك القراءات . ومن منطلق أن الأدب سلوك إنساني راق, يسلك الناقد هذت المسلك النفسي بعناصره, المحفز stimulus, والاستجابة response, أو الفعل action ورد الفعل reaction, أو السؤال والجواب question and answer, لكي يتوصل إلى أعماق الأديب من خلال نصّه, وهي حالة من التداعي والاندماج بين شخصية الأديب والمتلقي أو المحلل لدراسة الوضع النفسي للشخصيات وتأثير الكاتب النفسي عليها .
نستطيع في هذا العمل أن نرصد العديد من التساؤلات والإشكالات, على عدة أصعدة منها:
أسئلة نفسية:
وأجدني هنا أمام أسئلة نفسية ذات طبيعة هستيرية! تتكرّر فيها أسئلة بعينها, عن الموت, عن القتل, عن الخيانة, عن المرض, عن الروح, عن الجريمة, وكلها تبدأ بأداة الاستفهام ( هل), أسئلة مضطربة تريد منها الكاتبة أن تنقل لنا حجم الحالة النفسية المرضية التي يحيا بها البطل, مريض يرتاب بكل شيء, إلى درجة أن لا يستطيع أن يحدّد إن كان ميت أم لا :
- من أقوى من رجل هزم الموت على يد امرأة ؟! أعطته روحًا من روحها, سيأتي لينتقم مني! لأم أقصد قتله, لماذا لا أتخلص من هذا الجحيم؟! أليس من الأسهل قتل نفسي بدلًا من الوقوع في تلك الورطة؟! لكني لن أموت قبل أن أعرف هل القطة التي بجوار الرجل الميت زوجتي؟! أم عاهرة أخرى؟!
- رقدت في السرير أعاني آلامًا لم أعهدها من قبل, هل هذه هي أعراض القتل؟! تصيب القاتل بعد الانتهاء من جريمته؟ّ هل مسني مرض حين اقتربتُ من سعيد ميتًا ؟!
- هل سأتمكن من إنقاذ مخي من التلاشي؟!
- صرت باهتًا تدور حول عينيّ كدمتان, كدمة زرقاء, وأخرى بنفسجية, هل مت؟!
هناك أسئلة هستيرية, مثارة عبر التهيؤات التي أرادت الكاتبة أن تطلعنا عليها لنحدد- وبشكل دقيق- أعراض المرض النفسي المصاب به البطل, لندرك لاحقًا أنها كانت ذكية جدًّا باستخدامها ( المرآة_ العصا) كوسائل مشخصنة للقيام بمهمة السرد, في الأماكن التي لن يكون من المعقول ولا من المقنع أن يسرد فيها البطل, وهو على هذه الدرجة من غياب الإدراك والوعي, لنقف على بعض هذه الأسئلة:
- طالت ذقني ولم تجد من يهذبها! لماذا صرت أشبه سعيدًا إلى تلك الدرجة؟!
- نظرت إلى صفحة وجهها الذي يرتسم عليه وجهي وسألت: كيف صارت نهى مرآة, وصارت المرآة نهى؟! كيف سأقبّل وجهي ؟! والأسوء كيف سأخرق جسدي الذي صار جسدها؟!
- تركت الأرض ونظرت إلى المرآة, رأيت وجهي متكسرًا إلى قطع بلورية صغيرة, وكذلك وجه نهى . سألت من الذي كان يكلمني ،هي أم المرآة؟!
- كيف استحال جسد نهى إلى كدمات وجروح؟ هل آذيت الإنسانة الوحيدة التي أحبها؟! كيف تكسرت المرآة على جسدها؟ هل فعلها رجل المرآة ليجعلني متهمًا أمامهم؟!
هناك أيضًا تساؤلات الإنسانية :
وهي التي أجرتها الكاتبة على لسان المرآة في محاولة منها لشخصنة أو أنسنة الجماد, وجعلها وسيلة تتولى مهمة السرد المنطقي المقنع والواعي, السرد من الخارج, وهذه بعض تلك الأسئلة التي طرحتها المرآة وكان محورها العمّال:
- هل كنت حية وقت اختلاط ذراتي وانصهارها على يد أحد الأفران الضخمة؟
- هل سمعتهم وهم يشكون ضعف الحال, قلة المرتبات, فقد الأحبة, سوء الحظ؟ !
- هل رأيت غمزاتهم وهم يصفون ليلة حب؟ وسمعت ضحكاتهم على نكتة ساذجة؟ ورأيتهم يبصقون, ويأكلون, ويلعنون المدير؟ ويلعقون حذاءه؟!
- لماذا لا تنهي تلك الدراما وتتركه؟! لماذا يعشق البشر الدراما بذلك الشكل؟
- هل رأيت ذرات عرقهم أمام النار المشتعلة في جسدي؟ والأهم هل تألمت وقتها؟ ماذا أعرف عن الألم لأتحدث عنه بأريحية؟
- لماذا صرت إنسانية إلى هذا الحد الخطير؟ هل حدث ذلك من كثرة التصاقي بهم؟! صرتُ أفكّر كشخص مختل!
- قلت ما الذي أفعله؟ أنا مجرد مرآة ! كيف أفكر كرجل؟ كيف صرت رجلًا بقلب شارد وعقل مختل؟
أسئلة فلسفية
طرحها البطل في لحظات وعي نسبية, يظهر من خلالها عمق تفكيره التي يعكس ثقافته ونبوغه, فهو شخصية متفوقة على المستوى التعليمي, يتحدّث عن مجتمع مستشفى الأمراض العقلية, ينقل معاناة المرضى هناك, وهم فئة مهمشة, بل منبوذة ليس من المجتمع فحسب, بل من ذويهم أيضًا, كيف رأى أن وجوههم ورقة بيضاء! لا ملامح فيها ولا تعابير, ولا ألوان لشخبطات فرح أو حزن, امتعاض أو رضى, بكاء أو ضحك, ... فقط صفحة بيضاء بلون البلاهة التي يخشى البطل أن تصيبه بمعاشرتهم:
- وجوههم ورقة بيضاء لم يخطُط بها أحد, ما أسوأ هذا البياض, هذا العدم الذي يبدو وجودًا, الوجود الذي لا يصنع أية شخبطة, هل سأصير أبله مثلهم مع الوقت؟!
إن الخربشات والحفر التي على الجدران هي ذواتنا مرسومة في لحظات التأمل في ذات المكان, مخطط اهتزازي لدفقات شعورية تغوص عمقًا كلما كان التوتر سيد الحالة, مقاربة أكثر من رائعة في تساؤل البطل, إن كانت حكايات المرضى المسجونين بين جدران الغرف في المشفى تختلف عن حكايانه, لم يقل تشبه, بل قال تختلف, هو يشكك في كينونته هو, في حكاياته هو, بعد إن ثبّت حكايات المرضى على موضوع ( اليأس من الخروج), وحرّك حكاياته هو, وفتحها على أوجه الاختلاف, لا التشابه!
- نظرت إلى الحائط جواري, وسألت: هل تلك الحفر صنعها أناس يئسوا من الخروج من هنا؟! هل للحفر حكايات تختلف عن الحفر في حجرتي؟!
أسئلة ميتافيزيقية:
هناك أسئلة عن خصائص المخلوقات والأشياء, جبلّة الخالق في كل منهما! مفهوم الصمت, ولماذا لا يصمت البشر؟ وما الذي يمكن أن يحدث لو خرجت المخلوقات جميعها عن خصائصها, عن صبغة الله فيها؟ خصيصة البشر الكلام كقاعدة عامة, والصمت كاضطرار وأوضاع, ماذا لو صمت البشر في ذات اللحظة؟ يجيب البطل بنفسه على هذا السؤال, سنسمع صوت الفراغ الأبدي, الموت وهو ما تمناه البطل في تلك اللحظة! الموت راحة أبدية حسد عليها البطل هابيل القتيل, وهو يسقط حاله على حال قابيل, مثله ربما شعر بالندم عندما ارتكب جريمته:
- لماذا لا يصمت البشر ولو للحظة واحدة ؟ ما الذي يمكن أن نسمعه إذا صمتنا جميعًا في لحظة واحدة؟ صوت الفراغ الأبدي, ينقصني سماعه!
- لماذا لم يفكر أحد أن قابيل مسكين يلاحقه الندم, وتلتصق به وصمة الجريمة الأولى, الموت راحة ! هابيل محظوظ!
أسئلة اجتماعية:
تلقيها الكاتبة على لسان البطل ليلقيها في وجه المجتمع ليعرّيه أمام مرآة مسؤولياته واختياراته للقيادات التي جعلها تمسك بزمام أمور الناس, فتعالت على الناس, ونصّبت نفسها آلهة عليهم:
- لماذا لا يشعر المسؤولون عنا بالذنب؟ ينامون هادئي البال, بينما يتحول محمد إلى جثة حية؛ لأنه يلوم نفسه, لماذا لم أشعر بالذنب مثله؟!
- من قال لهم إننا نريد أن نشفى ؟! لماذا يقررون مصائرنا كآلهة؟!
2-المدخل العقلاني أو التوليدي:Mentalism Theory
يرى تشومسكي إعادة الاعتبار إلى القدرات العقلية التي تميز الإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى. فكل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق, وإن كان بينها تفاوت كبير لأنه أمر رباني شريف
وحدات التحليل العقلاني أو التوليدي :
التناص : ثلاثية التناص هي أهم مدخل إغنائي مشترك بين:
1-الحياة وأحداثها الحقيقية: ومن منّا لم يعايش أو سمع أو قرأ قصصًا حقيقية كثيرة عن المرضى النفسيين في حيّه أو قريته أو مدينته, في المجتمع عمومًا صغر أو كبر, قصص حدثت في الزمن الماضي أو الحاضر, يرى المنظر الذرائعي عبد الرزاق عودة الغالبي أن: كل نص كتب من قبل شخص, قد اشترك في كتابته الآخرين دون أن يدري كاتبه, لكون الحياة أطول وأوسع من أحداثها, لذلك تتكرر الأحداث دومًا, لكونها متشابهة ومتناصة مع بعضها بشكل ثلاثي :
1- الأديب نفسه: الأديبة طبيبة, مهنتها وعلمها وثقافتها الطبية تمكنها من توظيف مداركها ونقل مشاهداتها واستفساراتها وزياراتها الميدانية للمارستان وإتيان بعمل على هذه الدرجة من الدقة أمر منطقي وغير مستغرب, فالأديبة تناصت مع نفسها ومداركها العقلية والعلمية.
2- الآخرين من الأدباء: تناصت الأديبة مع كل من كتب الرواية النفسية من الروائيين الغربيين والعرب.
3- تناصت الكاتبة مع أحداث الحياة, بما شهدته أو سمعت أو قرأت عنه.
ثالثًا– المستوى الحركي في التحليل Dynamic Level
ندرس في هذا المستوى :
1-البناء الفني: بعناصره التالية :
العنوان : ستُّ أرواح تكفي للَّهو
جملة اسمية, المبتدأ عدد ومعدود, مضاف ومضاف إليه, والخبر جملة فعلية في محل رفع خبر.
وهي جملة مأخودة من فقرة في الفصل الأول, والتي شبّه فيه السارد زوجته( نهى) التي ربما تخونه كقطة مع أي ذكر يرمقها بالشارع, وكانت تلك أول قضية ارتياب تعرضها الكاتبة على لسان السارد, والقضية الارتياب الثانية أن للقطة سبع أرواح, قد تشم رائحة دم الشخص الذي قتله السارد في الشارع المظلم ممزوجًا بالمطر, قد تموء وتنقلب امرأة ترثي رجلَها المقتول, الذي أخذ روحًا من أرواحها السبعة, وتعزي نفسها ببقاء ست أرواح تكفيها لحياة لاهية, فهو يرتاب بالمرأة, ويعتبرها قطة عاهرة, هذا الارتياب والاعتبار الذي لم تسلم منه أي امرأة عرفها, حتى أمه, تحت هذه الذريعة سيلجأ السارد إلى قتل سبع قطط يعتقد أنها ستبلّغ عنه الاستخبارات.
الاستهلال:
مقدمة زمكانية, مشهد حدّدت فيها الكاتبة على لسان السارد زمان ومكان تم فيه فعل مثير:
اليومَ قتلتُ أحدَهم, احتضنَ السكينَ بين ضلوعه في عناق طويل, وربما أبدي! التصقتْ عيناي بالسكين الذي لم يخطئ هدفه, والتفتُّ مذعورًا لأطمئن أن الزقاق خالٍ من الرفقاء, لم يرَني أحد لحسن الحظ.
الزمكانية:
يعتبر الزمن بجريانه المحور الأساسي في النصوص السردية الروائية, ليس فقط باعتبارها سرد لأحداث تقع في زمن ومكان, بل باعتبارها أيضًا تشابك بين مستويات زمنية مختلفة, منها الخارجية ومنها الداخلية, فإذا كان الزمن الخارجي الواقعي بأبعاده وامتداداته في الماضي والحاضر والمستقبل, أي المسترجعة والحالية والمستشرفة, يساهم في توليد الأحداث وتناميها, بالترافق مع توليد الشخصيات وبناء أبعادها على محور التوليد في مخطط التشابك السردي, في المكان الذي تدور فيه الأحداث التي تقوم بها الشخصيات, بصدامات وصراعات درامية, ما يجعل للزمن الخارجي دور لا يستهان به في ربط الأحداث مع بعضها البعض, وربط الشخصيات بعضها ببعض, فإن الرواية المعاصرة تُعنى أيضًا بالزمن النفسي الداخلي الذاتي المتخيّل الذي ينفتح على عدة أزمنة تتشابك معيقة استمرارية حركة الزمن باتجاه الأمام, باستخدام تقنية تيار الوعي والذكريات, والرواية المعاصرة تستخدم تلك التقنيات المعاصرة التي تعطيها أبعادًا فنية تتجاوز فيها الأزمنة الواقعية إلى التخييلية, والأزمنة الطبيعية الخارجية إلى الذاتية الداخلية, هذه المفارقات الزمنية تؤثر على إيقاع السرد, فيتناوب السرد, وبترتيب غير منتظم, بين سرد استرجاعي مثار بعتبة آنية تنقلنا من سرد حالي في الحاضر إلى سرد ذكريات, أو تيار وعي, ثم فجأة نجد أنفسنا أمام سرد استشرافي مستقبلي, وفي كل الأحوال يتم قطع وتوقيف الزمن الخارجي واستدعاء الزمن الذاتي والهروب إليه وارتماء في عتمته والاستسلام له والهوس به والتلاشي فيه حد الوقوع فريسة لبراثنه.
سأدلّل على ذلك بالمثال التالي:
ارتديتُ ثيابي على عجل دون أن أضع سكينًا؛ وجود آلة حادة معي يمثل خطورة, لا بدّ أن المنطقة مليئة بالمخبرين, كنتُ مشوّشًا بمئات الأفكار التي تقفز إلى ذهني؟! وأسوؤها على الإطلاق هذا الجوع الذي يلحّ عليّ الآن كأنني لم آكل منذ عام! فبينما أفكر بملمس حبل المشنقة على رقبتي, وعشماوي الذي سيسألني عن رغبتي الأخيرة, وما يمكن أن يحدث لي داخل الحبس الاحتياطي, وخوفي من السير في الشارع في ذلك الوقت لئلا أصطدم بضابط يشك في هيئتي, يقلب هناتي المهتزة في عقله, ويستنتج بسهولة أنني الفاعل! بينما أفكر في هذا كله ظلّ الجوع يقفز إلى عقلي ويشلّ تفكيري!... كان أهم ما يشغل بالي هو كبتُ جوعي أولًا, ساندوتشات الفول بالزيت الحار كانت كافية لترتيب رأسي وإيقاف التشويش. سمعتهم يتحدثون عن جنازة جارنا سعيد سواق التكسي الذي توفي بالأمس, هل قتلتُ سعيدًا دون أن أدري؟!
لا يقاس الزمن النفسي بوحدة الزمن كما هو الحال بالزمن الخارجي, بل بالحالة الشعورية, والحالة الشعورية متبدّلة وليست ثابتة, ما يجعل وحدة الزمن النفسي قيمة متغيّرة, فقد تكون لحظة سعيدة, وقد تكون سنوات خواء.
أما المكان في هذه الرواية فقد تعدّد بين الشارع المظلم, والسكن الجامعي, وشقة السارد, وشقة سعيد, وشقة كريستين, وسطح العمارة, ومحل الأثاث, والمورستان, وعقل السارد.
التشابك السردي: عناصره:
- الموضوع: المريض النفسي بين الصراع النفسي الداخلي والصراع المجتمعي الخارجي, والنهاية المأساوية المحتومة.
- الحبكة:
في الرواية النفسية تكون الحبكة تابعة, وتعتمد على تحديد شخصية الشخصية, وقد لا يتم تقديم الأحداث بالترتيب الزمني, بل أنها تحدث في جمعيات الفكر والذكريات والأوهام والخرافات والتأملات والأحلام, على سبيل المثال عمل جميس ( أوليسيس )1922 في دبلن خلال 24 ساعة, لكن أحداث اليوم تثير الجمعيات التي تأخذ القارئ ذهابًا وإيابًا عبر حياة الشخصيات في الماضي والحاضر. وفي معقدة وغامضة أعمال فرانز كافكا, العالم الخارجي ذو طابع خارجي, والأحداث التي يبدو أنها تحدث في الواقع تحكمها منطق الأحلام الشخصي.
وطبقًا للإغناء السابق, في هذا العمل نجد نوعين من الحبكة, حبكة ظاهرة وحبكة مخبوءة, المتعارف عليه أن الحبكة الظاهرة هي الحبكة الخارجية الطبيعية أي المرئية والمميزة بالأحداث والصراع الوجداني بين الشخصيات الحية الحقيقية, بينما الحبكة المخبوءة تكون في الصراع الوجداني الداخلي في ذهن ووجدان البطل, وفي هذا العمل ينقلب التوصيف, فتكون الحبكة الظاهرة هي الصراع في الذات البطلة, بينما تنقلب الحبكة الخارجية إلى حبكة مخبوءة يتم الكشف عنها في الصفحات الأخيرة من الرواية, وأحيانًا تتشابك الحبكتين بطريقة فنية احترافية تجعلنا نُحار بينها, وهذه الحيرة كانت على طول الرواية لونًا مميزًا من عنصر التشويق, تجعل القارئ مستيقظ الحواس, يرفض أن تستغفله الكاتبة, ولا يريد أن تتفلّت منه خيوط النسج الفني.
الحبكة الظاهرة إذًا داخلية ذاتية: يحكي فيها السارد دواخله, وهو بطل الرواية, شخص مضطرب نفسًا, مسكون بوساوسه وارتياباته, يؤكّد أنه قتل أحدهم طعنًا بالسكين في زقاق معتم في ليلة ماطرة, لارتيابه بأن ذلك الشخص كان يراقبه ليبلغ عنه المخابرات, الشاهد الوحيد على جريمته تلك كانت قطة يظنها قطة المقتول الذي يظنه جاره سعيد سواق التكسي الذي سمع بخبر موته في صباح اليوم التالي, هذا المريض يعتقد أن مخه يذوب, وتندمج خلايا مخه الحية مع خلايا تفتقد الروح ك (المرآة والعصا) يتبادلان المنفعة, يعطيهم جزء من روحه ويعطوه المعرفة, فتصبح كل الأشياء حوله حيّة تخبره بكل ما يدور في غيابه, فيصبح حضوره طاغيًا, يحاول الوصول إلى تلك القطة, يزور شقة جاره المتوفى, تدعوه أم المتوفى إلى رؤية الميت في غرفته, وتغريه زوجة المتوفي, يزور المقابر, ويحكي عن عبث حراس المقبر بالمقابر وإخراج الموتى وسرقة أسنانهم وأعضائهم, وعن محاولاتهم دفنه حيًّا ونقاشهم حول إشكالية دفنه بملابسه أم عريانًا كما خلقه الله, يخلع ملابسه ويفرّ منهم, يجد قطة سعيد ويفعصها بيديه وهو على يقين من أن في قتلها خلاصه الأبدي من الأرواح التي تراقبه, يلتقي بزوجة سعيد التي لم تحزن على موت زوجها, تعرب له عن رغبتها فيه مبدية إعجابها بشجاعته, لأنه قتل زوجها سعيد ولم يخف, ويمشي عريانًا ولا يخاف, وفي مرة أخرى يقيم معها علاقة جنسية في الشارع.... هنا ينقطع السرد الذاتي ليبدأ السرد الواقعي الخارجي أو الحبكة المخبوءة التي تتكشّف باستمرار السرد والمتابعة المكثفة لمجريات الأحداث المنطقية:
موت السواق سعيد ذات صباح, رمي قطة سعيد من أعلى العمارة, مراقبة شقة الجارة العجوز كريستين التي تربي العديد من القطط والتي يظن السارد أن إحداهن رأته وهو يرمي قطة سعيد, نجاحه بالتواصل مع كريستين ودخوله شقتها واكتشافه أنها تربي ست قطط فقط, فتراوده فكرة مجنونة أن يقتل تلك القطط ويريّح البشرية من شرّها:
" سبع أرواح ستخلّصني للأبد من إمكانية عودة سعيد للحياة, روح ماتت, ولم يتبقَ غير ست!"
تحاور معها عن إمكانية تزاوج القطط على سطوح العمارة, أوهمها أن له ثلاثة ذكور في سن الزواج, أعطته ثلاث قطط من قططها الإناث, تركها مربوطة بحبال فوق السطوح, وجدت قطتين تلعبان أمام باب شقتها فأخذهما, وقام برمي القطط الخمس من فوق السطوح على مرأى من أهل الحي, عادت كريستين من الكنيسة تحمل قطتها السادسة, فوجئت بما حدث وأصيبت بغيبوبة, تفلّتت منها القطة السادسة فالتقطها السارد من على السلم وسارع بالصعود بها إلى السطوح حيث قام برميها ليلًا, هاجمته كريستين عندما مرّ أمام باب شقتها, ضربته وسبّته, أبعدها عنه بقوة, وهرب, يتعرّض لزوجته بالضرب المبرح لأنه عجز عن معاشرتها, يخرج من المنزل, ليفاجأ عند عودته بأن كريستين انتحرت! رمت بنفسها من شرفة بيتها لتلحق بقططها الست, تقوم قائمة أهل الحي عليه ويتوعدون بالقصاص منه.
العقدة المنطقية: ترى الأم أنه يتوجب عليها أن تودع ابنها مستشفى الأمراض العقلية حفاظًا على حياته, وحياتها وحياة زوجته وابنته, وهناك يسرد ما يحدث في المشفى من انتهاكات مشينة للمرضى من قبل المسؤولين بمراقبتهم, فنرى المراقب المسؤول عنه يلوط به, ونفس المراقب (العسكري أو ظلّه كما يسميه) يغتصب الشابة المريضة الحامل التي تتعرى أمام الجميع بشكل دائم, والتي حسبها البطل جنيّته, وتظن مثله أن مخها يذوب, وكيف انقض عليه وضربه ضربًا مبرحًا, وأبعده عنها, وكيف تعرض لجلسات الكهرباء التي جمّدت مخه السائل ( كما يظن), تدهشنا الكاتبة في تصوير مشهد جلسة الكهرباء, ورسم الصورة بالرمز والتخييل بعيدًا جدًّا عن المباشرة والتقرير العلمي, إذ كان بإمكانها أن تشرح ذلك علميًّا, وهي الطبيبة المدركة للحالات المرضية التي تتناولها في الرواية, وسبل علاجها, لكنها لم تتخلّ عن أدبيتها على مدار الرواية, فنلاحظ كيف وصفت تلك الجلسة التي كانت الذروة التي تجمعت عندها كل خيوط الصراع الدرامي المنطقية:
وضعوا جهازًا على رأسي, حقنوا داخل وريدي مادة صفراء لزجة! رأيت غربان تقتحم الحجرة , تكسر زجاج النافذة وتعبر نحو رأسي, تنقر رأسي بمنقارها الحاد, نقرات مزعجة مخيفة , ثم تطير إلى الجهاز بجواري, تتحدث بصوت إنساني مزعج, تصدر نعيقها العالي حتى تصم أذنيّ, هل آن الأوان لأشفى؟ هل تهتز الرض من تحتي؟ وتصطدم بنجمة مجنونة تقفز هنا وهناك فتحطمها وتحطمني معها؟! الأضواء تضرب رأسي وتمحو من ذاكرتي السم الذي وضعته لي أمي, تفر إلى أصدقاء المدينة فتنهاهم عن تبليغ المخابرات, تجمع قطط العالم لتخبرها أن تكف عن مطاردتي.
الانفراج المنطقي:
تلاشي الشخوص في مثلث الانفراج بالتدريج...
مات مريض ا لكتاتونيا (محمد) منتحرًا بعد أن نطق قائلًا له: اهرب!
يخرج من المستشفى مع أمه وزوجته, يلتقون في الشارع بزوجة سعيدة وكانت تتكلم مع أمه دون أن يبدو عليها أنها تعرفه, وكيف عرف منها أن سعيد مات بغيبوبة سكر, أي أنه لم يقتل سعيد!
حياته بعد خروجه من المستشفى, الهواجس تعاوده, يعتزل في البيت خوفًا من نظرة الارتياب في أعين الناس كونه خريج مستشفى أمراض عقلية, تظاهره بأنه يأخذ أدويته, بينما بالحقيقة يرميها وراء السرير, ارتيابه بأن زوجته ستقتل طفلتهم, وقرارها بهجره, يطلقها ويعيد اتهامه لأمه أنها قدّمت له طعامًا مسمومًا وهو صغير كي تتخلص منه, خروجه ببدلة العرس إلى الشارع تنفيذًا لوعده لأمه( أن يلبس شيك عندما يطفش من البيت).
نأتي إلى العقدة الذاتية : التي استخدمت فيها الكاتبة تقنية فنية يتقنها النصّاص المحترف بالعادة, وهي تقنية التدوير, حيث يعيدنا الكاتب إلى نفس مشهد البداية, إلى ذات المكان, يكمل فيه الحدث أو ينهيه, وكأنه يتمثّل مقولة أن (القاتل يحوم دومًا حول مسرح جريمته), فنجد السارد في ذات الزقاق الضيق, وفي ليلة مظلمة, يحمل ذات السكين وذات الهواجس, ليدخل في منازعة متكافئة مع خصمه الذي هو ظله, أو نفسه التي تغيّرت, لتغدو جديدة لا تعرف الخوف, ليكتشف أنه يقتل نفسه, بعد أن تحوّل لمرآة ضخمة تكسرت من ضربة السكين, مرآة كانت وسيلة من وسيلتين كان يستعين بهما ليعرف كل شيء يحاك له في غيابه:
وقفت أمام الزقاق, كان خاليًا من الرفقاء ومخنوقًا بين بنايتين, لم أرى جثة في منتصفه, ليس هناك عظام ناتئة بين مياه الصرف, ما لاحظته كان هناك ذلك الطيف الذي يبرق ينتظرني في نهاية الشارع.... خطوة, اثنتين, ثلاثًا, يتحرك مثلي تمامًا بالسرعة نفسها, أخرجت سكيني في الوقت الذي أخرج فيه سكينه.... يشبهني تمامًا, لا يختلف عن وجهي سوى في علامات الفزع, الفزع الذي لم يجربه من قبل! نظرت إلى البدلة التي أرتديها, كانت دامية ! تحتضن سكيني! " هل قتلت نفسي؟" متى تحوّلت لمرآة ضخمة ؟! تتكسّر إلى آلاف القطع حين تتلقى ضربة سكين؟! أحسست بهشاشة الزجاج وأنا أسقط! لقد كنت محقًا منذ البداية!
الانفراج الذاتي:
اختلاجات نفسية لمحتضر, تحضر فيها الشخصيات المريضة, وتأخذ بالتلاشي, مثل ( كتاتونيا) المنتحر الذي يتدلى من السماء, يغمز له ويبتسم, فيبتسم له ويردد كيانه:
" هربت يا صديقي, لم أعد أحتمل الحقيقة, ثم صرخت فيه ليتوقف عن الاهتزاز: ما بك أيها المجنون؟!"
ثم تأتي جنيّته العارية, الفتاة الحامل التي أحبها وقاتل من أجلها في المستشفى, والتي كانت السبب في أنه تلقى جلسات الكهرباء التي جمّدت مخه, فحرمته من شعوره بأنه صاحب معجزة ينكرها البشر. أتت تقلّب جسده:
" شهقت جنيتي العارية! أخيرًا أتتني, لاحظت اختفاء الانتفاخ ببطنها! أين ذهب جنينها؟! قلّبت جسدي وهي تبكي صارخة, حاولت طمأنتها, لكن صوتي خرج ضعيفًا مبحوحًا, أدركت أن أنفاسي, تذهب بلا عودة, نامت فوقي لتغلق الثقب الذي تنسحب منه روحي, كانت ملائكية لها جناحان يصلان إلى السماء, رأسها قمر فضي, وجسدها أزرق بلوري, لم أرَ أجمل منها في حياتي, لامست عناقيد شعرها الغجري الذي يتطوّح مع الريح, كان أسود كالليالي الطويلة التي مرت بي, طويلًا يصل إلى كعبها, لها كعب ناصع أبيض, رغم أنها تسير في الشوارع حافية, همست في أذني بصوت أسطوري: ما زلت ساخنًا كحَيٍّ يمكن إصلاح ما فسد منه! ..... غاص ماتبقى مني داخل جنيتي منتصبًا بعد أن خلعت بنطالي, ثم انطفا داخل رحمها الواسع الذي يحتضن آخر ما تبقى من الروح, انتابني صفو لا تكدّره الدنيا, سعادة حقيقية بلا منغصات, هل أحلم؟! أتتني صرختها, لحظة انفجار بكارتها على يد ميت يبحث عن الحياة, وسال دمها داخل دمي!"
كما حضرت القطط تشهد ذات المشهد, هذه المرة ليس قطة واحدة وإنما مئات القطط, إحداهن أنهت علاقة حميمية مع قط تحبه ( ليس مع ذكر عابر كما كان في بداية الرواية), وصوت جنيّته يتردّد في السماء : " أنا قادرة على إحيائك, ست أرواح تكفي للهو, السابعة لك يا حبيبي المقتول!"
تأملت مئات القطط التي اجتمعت حولنا, لم أغضب من وجودها وابتسمت"
النهاية الذاتية: موت فيه سكينة وخلاص, لكل الشخصيات النفسية, وكأن الكاتبة تقرّر أن الموت هو الخلاص لكل روح أعياها الشقاء والتهميش, ولكل نفس أنهكتها الهواجس والوساوس, في مجتمع مريض بالمجمل, لكنها غرست بذرة أمل في رحم هذا المجتمع المريض, فانتفخ بإشارة إلى أن هناك جنين يتكوّن في داخله, لعلّه يحيطه بالعناية والاهتمام إن وُلد, ليكون ابن ذلك المجتمع الذي يتوجّب عليه وحده الاهتمام بطفله, لكن أليس واردًا أن يلقيه لقيطًا كما ألقى غيره؟ نهاية تركتها الكاتبة مفتوحة على عهدة مئات القطط ( العاهرة) التي تموء:
" تحسست الخربشات التي انحفرت في جلدها, بطنها تنتفخ, جزء مني يتشكل داخلها, نظرت إلى (كتاتونيا) الذي يشدني للأعلى, وتحجّر وجهي على ابتسامة مُطمئنة, لم يعد قادرًا على الحركة بعدها, هل هذا هو الموت؟! قبّلتني قبلة أخيرة, لعقت وجهي الذي يذوب, وتركت ما تبقى مني لمئات القطط التي تموء حولنا!"
الشخصيات:
الشخصية في الرواية المعاصرة تختلف عنها في الرواية الكلاسيكية, فبينما هي في الرواية الكلاسيكية حقيقية من لحم ودم, تشبه شخصيات الواقع, حيث يستمد الروائي شخصياته من المجتمع المحيط به من الأشخاص الذين يعرفهم أو سمع عنهم, أو يضع الكثير من ذاته في تلك الشخصيات, أو في أحدها على الأقل, وتكون شخصيات متحركة وحيوية داخل العمل التخييلي, بينما نجدها مغايرة تمامًا في الرواية المعاصرة, حيث تتسطح فيها الأبعاد الخارجية, بحيث تشكل مكوَّنًا نصيًّا لا نصيب له بالحياة خارج النص, ولا وجود له إلا داخل اللغة, حتى أن بارت قال : "إن ما هو آيل إلى الزوال في رواية اليوم ليس الرواية, إنما الشخصية, فما لا يمكن كتابته الآن هو اسم العلم"
وهذا القول مردود عليه, وقد يمكن أن نقبل عدمية كتابة اسم العلم, لكننا لن نقبل بحال من الأحوال زوال الشخصية, بذريعة حقيقة أن الشخصية هي من تصنع الأحداث في الواقع, وذريعة فنية أيضًا هي أن الشخصيات هي من تولّد الأحداث العمل الفني, ينتقيها ذهن الكاتب ويرتبها ويدخلها لتلعب أدوارها على مسرح الصراع, وإلا كان العمل السردي يحتمل أي مسمى بحثي ما عدا المسمى الروائي, وهذا ما وجدناه إلى حد ما في هذه الرواية, لم تأتِ الكاتبة على ذكر اسم البطل, فقط شخصيات قليلة هي من أتت على ذكرها, وبدلالة معينة, مثل (سعيد القتيل المزعوم, نهى زوجة البطل, وكريستين الجارة صاحبة القطط), وهناك اتجاه نحو تشييء الشخصية كما فعلت الكاتبة أيضًا عندما أدخلت المرآة والعصا لتنوبا عن سارد عليم جعلته الكاتبة ساردًا مشاركًا, الرواية الكلاسيكية تهتم بالأبعاد الخارجية للشخصية, من تفاصيل جسدية وهيئة اجتماعية مميزة لكل شخصية, بينما نجد أن أغلب الروايات المعاصرة تعمد إلى تسطيح هذه الأبعاد والملامح, وتركز على تعميم مفهوم (المجهول) على تلك الأبعاد, لكننا سنجد أن الكاتبة وصفت بعض الأبعاد الخارجية لبعض الشخصيات, تحديدًا الشخصيات التي يظن البطل أنه قتلها أو كان مسؤولًا عن موتها, مثل شخصية سعيد وكريستين, يقول واصفًا سعيد:
سعيد يملك جسدًا نحيفًا, لم يرتدِ بدلة طوال حياته, لكنه يتمتع بحسّه المخابراتي, حيث يشبه أنفه الطويل أنف فأر ( أبعاد جسدية)
إنه دائم السخرية من الجميع, ولم يكن يسخر منهم من وراء ظهورهم, لديه القدرة على السخرية من الشخص أمامه, كأنه يتحدث عن شخص آخر غير موجود, كان يسخر من نفسه, يتمتع بحس فكاهي قادر على إسقاطنا في نوبة من الضحك ( أبعاد اجتماعية)
يصف كريستين فيقول:
كريستين امرأة وحيدة, أبناؤها يعيشون بالخارج ولا يأتون لزيارتها, حتى اتصالاتهم انقطعت, توفي زوجها منذ عامين, من بعده تركت لقططها حرية الإنجاب, كريستين امرأة طيبة يحلها أهل المنطقة, لا تتذخل في شؤون غيرها, كما أنها تقدم المساعدة لأي محتاج, يقولون أن جذورها إيطالية, لكني لا أشعر بذلك, تشبه جدتي, الجدات الأصيلات, لهن الكلمات والأمثال الشعبية نفسها ( أبعاد اجتماعية)
أما طريقة عرض الشخصيات فهي:
الطريقة التمثيلية : تنحّت الكاتبة بعيدًا, ومنحت لشخصية البطل حرية التعبير عن نفسها, وإخراج دواخلها من أفكار وخواطر وعواطف وميول وهواجس, باستخدام ضمير المتكلم( أنا), وحتى عندما شاركت معه المرآة والعصا عرضتهما بنفس الطريقة.
المرآة:
الحكاية تبدأ من كوني لا أحب الدراما, أكرهها والغريب في الأمر أن ما يحبه المرء لا يدركه, فالدراما الحياتية لا تحدث إلا أمام عيني, ابتداءً من رغبة الكثيرين في البكاء أمامي, وانتهاءً بهذا المخبول الذي يريدني أن أحكي! وتساءلت أكثر من مرة : ما الجديد الذي يرصدونه في عيونهم المنتفخة المتورمة بالدمع؟!
لم أجد الإجابة غير أني مغناطيس! ربما؛ لأنني أقف مستسلمة ويحتاج المرء بين الحين والاخر لهذا الصديق المستسلم.
العصا :
أنا حية من قبل أن يعطيني هذا الأبله جزءًا من روحه على حد تعبيره, أنا حية منذ بداية الخلق, بالتاكيد كنا في الرض قبل هبوط البشر إليها, لكن تاريخنا الحقيقي ابتدأ معهم, وابتدأت الماساة , مت أول مرة حين كسرني صبي ساذج وأبعدني عن حضن أمي, ثم اجتثت أمي ليوسّع حجرته- حين صار شابًا- ليتزوج, ويأتِ بشياطين مثله,..... لا أريد أن أذكر تاريخنا المشرف , فنحن- وأختص بذلك هذا الجنس النبيل " العصي" – كنا في يد هابيل نهش على الغنم, ثم بيد موسى وهو يكلم ربه, شق بنا البحر لنصفين, وتحولنا بين يديه لحيات تأكل, وأكل منا السوس بين يدي سليمان, ما جدوى ما أقوله لهذا المخبول؟! أنا في النهاية عصا لا أملك أية قدسية! لن يفرق معي إن أمسك بي شيطان أو نبي! أشعر أنني أهذي بتلك الحكايات؛ لأنني مشتتة , ذهني غير صاف, أو ربما لأن تلك أول مرة أتحدث فيها, فأريد أن أقول كل شيء......
2_البناء الجمالي: عناصره
الأسلوب style:
بالوقوف عليه بدقة نحدد درجة العمق الأدبي عند الأديب, أي مقدار انزياحه نحو الخيال والرمز, خلطت الكاتبة بين المدارس الأدبية المعاصرة (الواقعية, الرمزية, السريالية, البرناسة, الفن للمجتمع, الرومانسية, الطبيعية) خلطة غير متجانسة فتكوّن لديها منتوج من الجمال العلمي, عبارة عن لوحة مرسومة بالكلمات, استخدمت علم الجمالAesthetics ويُعنى علم الجمال بناء الجملة جماليًّا وليس لغويًّا, أي حساب التوافق بين عناصر الجملة ( الألفاظ ) للتعبير عن وحدة جمالية, لننظر إلى هذه اللوحة الفنية التي رسمتها الكاتبة بهذا الأسلوب:
أشعر أن ذوبان مخي وخلاياه جعلني أتسع, يتسرب مخي من تحت عقب الباب, ويتشكل خارج إطاره البشري, يتجمد على هيئة أخرى يريدها, هيئة تجعله يرى آلاف المشاهد التي تتوالى من أزمنة مختلفة, يبحث في دهاليز ذاكرتي عن نفق غير مظلم, ينظر بعين مختلفة, عين عليمة ومطلعة, يطلع على مشاهد من حياة الآخرين دون أن يكون جزءًا منها, يراها كما تراها مرآة مصقولة وناعمة, مرآة تقع في منتصف الحجرة تشهد الحقيقة وتعرّيها, هناك أشعر أن ذوباني تجمّد وسط ذرات الرمل الساخنة, طبقات فوق طبقات تلمع تحت أشعة الشمس لتكشف الغبار العالق, مرآة لم يستغرق تصنيعها سوى ساعات قليلة تحتضن ذرات مخي.
استخدمت الكاتبة أسلوب سردي إنشائي يشبه السهل الممتنع بالشعر, وطعمته بشذرات الجمال الأدبي والبلاغي, واستطاعت أن تنتج عملًا أدبيًّا ناجحًا كوحدة فنية متكاملة, يؤكّد قدرتها على التحكم بدرجة عالية في لغتها, فاللغة طيعة برأس قلمها, تمكّنها من النسج الفني المتقن, والتلاعب بالألفاظ, ما يجعلها متمكنة من صناعة الكلام بشكل مدهش, سلس, رشيق وشيّق.
لنأخذ جزءًا من مشهد احتضار البطل على إسفلت الطريق كمثال بسيط على ذلك:
كنت أذوب, ليس مخي فقط, كل جسدي يذوب ليلتحم بنُقَرِ الأسفلت الرديء! يزحف على الطرقات ويندمج بكل ما يقابله, يزحف إلى العقول النائمة فتستيقظ وتفكر في أفكار ليست لها, أفكار مجنونة مثلي, ألست مجنونًا في نظرهم؟! فليختبروا قليلًا من الجنون! كنت مستمتعًا بذوباني العالمي, وقدرتي الهائلة!
السرد Narration :
طريقة بناء الحدث:
لقد استخدمت الكاتبة الطريقة التقليدية في عرض الأحداث الواقعية الخارجية, والداخلية الذاتية, وهي الطريقة التي تمتاز باتباعها التطور السببي المنطقي ( مقدمة- عقدة- نهاية) لكنها استخدمت العديد من من التقنيات السردية الحديثة, من العودة إلى الماضي ( Flashback) , مستعينة في ذلك ببعض التقنيات والأساليب مثل تيار الوعي
Stream of Consciousness, و المناجاة Soliloquy والذكريات . Memories
أما عن سردية الحدث فكانت بطريقة الترجمة الذاتية كما أسلفنا في المقدمة, إلا حين كان السارد المرآة أو العصا, كان السرد بطريقة السرد المباشر, بضمير الغائب, وفيها حلّلت الكاتبة أفعال الشخصيات تحليلًا دقيقًا وعميقًا, ساقت السرد على شكل مشاهد مرقمة( مشهد رقم 1....2 ....3) في أحد هذه المشاهد, وتحديدًا المشهد رقم 3)), جاء السرد هكذا:
تجلس الزوجة على السرير البارد تهدهد طفلتها التي تمص حليبها كأنه آخر زادها, تلفظ ثدي أمها من فمها وتصرخ بحرقة, ثم تعاودالقرص عليه بقوة, مالها لا تشبع؟! ..... ألقت الأم بالطفلة التي لا تشبع على سريرها, وانطلقت نحو الحمام, لم أرَ ما فعلته هناك, لكن بدا لي من هيئتها أنها كانت تحبس بولها
نمر على بعض التقنيات السردية الأخرى التي استخدمتها الكاتبة :
الحوارات الخارجية :Dialogue
حوارات قصيرة, وقليلة بشكل عام, تقتصر على السؤال والجواب بشكل عام, تقصد بذلك بث الروح الحيوية في الشخصية, أجرتها الكاتبة باللهجة العامية بنية أن تكون الشخصية قريبة من الواقع الحياتي, وإن كان لي على ذلك انتقادًا, لأنها حصرت الرواية في إطار محليٍّ ضيق, وهي ليست كذلك, فهي رواية نفسية مكانها الذات الإنسانية, وليس للمكان فيها خصوصية محلية, وهي تكتب بأسلوب يشبه السهل الممتنع, وهو أسلوب يساعدها كثير في صناعة حوارات متقنة ودقيقة تؤدي وظيفتها بسهولة في الكشف عن الناحية الثقافية والاجتماعية والآراءالفكرية والنوايا للشخصية, فلماذا فصلتنا بالحوار العامي عن سلاسة هذا الدفق الأسلوبي؟ اللغة العربية الفصحى التي مكّنتها من كتابة هذا السرد البديع, كانت أقدر على أن تُخرج فيها حوارات أكثر حيوية وشمولية وجمالية.
هذا حوار بين البطل وأمه في حوار محوره الزوجة نهى:
قلت باستسلام:
- فين نهى؟!
- كانت عايزة تروح لأهلها بس أنا حلفت عليها إنها ما تمشيش بالليل, هي في أوضة الأنتريه وقافلة على نفسها.
- خايفة مني؟!
الحوارات الداخلية :Monologue
وسيلة للتعبير عن مكنونات نفس الشخصية عند عجز الحوار الخارجي عن القيام بذلك, فتقيم الشخصية حوارًا مع ضميرها أو نفسها, في محاولة للتخفيف عن الضغط الواقع عليها من جهة, وترتيب أفكارها وتحليل أوضاعها من جهة أخرى. استخدمت الكاتبة هذه التقنية باستفاضة, وأختار منها هذا المونولوج:
قلت لنفسي: لابد أنه ذاك الرجل الذي يراقبني منذ فترة, في كل مرة أستشعر وجوده أتعثر في خوفي, ثم أطلق أقدامي حتى أصل إلى منزلي, لكني أتجاوزه بشارع أو اثنين حتى أتمكن من خداعه.
التغذية الخلفية flashback:
مثارة بعتبة واقعية, حدث أومشهد محفّز يأخذ السارد إلى الذكريات, وأحب أن أشير هنا إلى براعة الكاتبة في التلاعب بالإلفاظ بالمقدار الذي يعطيها الدفق المناسب الذي تزن به مقدار تداعيات الذاكرة, بأسلوب أدبي منسوج بالترابط, جملة جمالية وأخرى واقعية, وكأن الجمل تتناسل بالتبادل:
كيف أتوا إلي دون أن أسعى لإيجادهم؟! المشاهد تتداعى وتتداخل, مشاهد بالأبيض والأسود وأخرى ملونة, أرى زوجتي تلوي شفتيها وهي تتذكر خطوبتنا مع صديقتها, صديقتها تجلس جواري على السرير لا يفصل بيني وبينها سوى الغبار! أراهل ولا تراني, كسحابة مثقلة بالغيوم, لن تشعر بوجودها إلا حين تمطر, تذكرت حياتي بالمدينة الجامعية, كنت أسمع زملاء الدور أثناء غيابهم وهم يتحدثون عني, كأنهم هنا, أو كأنني معهم دون أن يحسوا بوجودي...
تدفق تيار الوعي :Stream of consciousness
حديث النفس للنفس دون رقيب, بتداعي سيل الأفكار كما هي بفوضويتها وقلقها وهواجسها وكل انفعالاتها الداخلية, ويدخل في إطار هذا التيار الكثير من التغيرات والتقلبات والتفاعل بين الماضي والحاضر, وغالبًا ما تكون الجمل مفكّكة والأفكار غير مترابطة والمشاعر متداخلة, يصعب معها متابعة النص, لكنها تعبّر فعلًا عن خلجات النفس الفطرية في اللاوعي, ولا أدَلّ عليها أكثر من أحلام اليقظة...
انتابني قلق! وصار لكل شيء صدى في أذنيَّ؛ الهمسات, حركة الأيدي, انطفاء سيجارة على الأرض, ارتطام كعب, زقزقة عصفور, تثاؤب العمال, أزيز البواب, حتى الإضاءة ترف في عيني, لها رجع غير مسموع, تخفت وتعلو, تظلم وتضيء, تبدو الأشياء على بساطتها مخيفة, السلالم تخيفني, وتصيبني بدوار, كذلك تجمع العمال ورجال الأمن, وتذكرت عادتي القديمة أيام المذاكرة في عدّ الحفر, نظرت إلى الحائط جواري, وسألت : هل تلك الحفر صنعها أناس يئسوا من الخروج من هنا؟! هل للحفر حكايات تختلف عن حفر حجرتي؟!
المناجاة : Soliloquy
نوع من الكتابة النثرية أهمله لزمن طويل دارسو الأدب العربي القديم من الأكاديميين, بينما التفت إليه فريقان هما : المستشرقون ممن نظروا إلى الأدب العربي من خارج تقاليده الأساسية المتوارثة, والكتاب والشعراء العرب المحدثون ممن وجد في هذا اللون من الكتابة مصدرًا للاستلهام يبنون عليه ويطورونه. وهو موقف اتصالي خاص بين أنا المتكلم وأنت المخاطب, وهو موقف يكشف عن رغبة حارقة لا تتحقق في التواصل والالتئام, أو على الأقل في مجرد تبادل حوار, وليست المناجاة مجرد دعاء أو ابتهال يتجه من طرف إلى طرف, بل هي قبل ذلك إحساس ممض بالغربة, يدور بلا نهاية في فلك اليأس والشكوى والتردد.
وقد استخدمتها الكاتبة كتقنية سردية حديثة على الوجه التالي:
أبانا الذي في السماء, أعترف بخطيئتي الكبرى, لم أتعمد أن أقتل, القتل هو الذي يتعمّد مصاحبتي! أبانا الذي في السماء لقد تطهّر هذا الجسد من أجل روح المسكينة كريستين, لم تكن تستحق موتة القطط التي ماتتها! أبانا الذي يرى ذلك المورستان ويصمت, إن غفرت لي خطيئتي الكبرى فاغفر لكريستين ذنبها الأعظم, لم تكن تقصد مصاحبة القطط!
أبانا الذي في السماء, ها أنا أتخلّص من خوفي, لن يراقبني أحد بعد اليوم, لن يرعبني شبح في شارع مظلم, أنا خائف جدًّا, وهناك آلاف الخائفين مثلي, وأنت لا يرضيك أن يموت خراف الرب خوفًا, لن أترك عيونها الحادة الملونة توقظني, أبانا الذي في السماء أنا لا أنام, لن أنام حتى تنطفئ عيونها للأبد!
الأحلام والمنامات:
أيضًا هي تقنية سردية معاصرة تستخدم بكثرة في الروايات النفسية, تعبر عن الإرهاصات المضطربة الشديدة التي يعاني منها المريض النفسي, تكثّف فيها الكاتبة مجمل الهواجس التي تسيطر على الشخصية البطلة:
على السرير الأصفر كان النوم عصيًّا, لا يريد أن ينطبع على جبيني الذي يحمل قبلتها, وفي النهاية رحتُ في نوم قلق تغلبه الكوابيس! رأيتها في نومي وهي تُخرج جنينها وتأكله, أمي تبكي بلا سبب واضح, نهى تخنق ابنتنا بكيس المخدة, ثم تطلب الطلاق, وهي تُرفِق جوابًا من المستشفى يؤكد جنوني, بينما أنا داخل دوامة من الكوابيس القاتمة ....
الجمال:
الصور المدهشة التي ينبغي أن تزين البناء الفني لأي عمل إبداعي, خارج نطاق الجمال اللغوي المتمثل بالزخرفات البديعية والبلاغية, اللوحات الفنية المرسومة بالكلمات, والتي _كما أسلفنا في حديثنا سابقا في عنصر الأسلوب_ برعت الكاتبة برسمها بضربات رشيقة من ريشتها المغموسة في ممزجة الألوان التي اختارتها بعناية من المدارس الاسلوبية المعاصرة. لنتأمل العينات الجمالية التالية:
- صرخت كل خلية بجسدي من الفرح, واتسعت غرفتي لتطل على العالم, أو أن العالم صار يطل على سريري كل صباح, يلقي التحية قبل أن يستأذن للانصراف, ويحملني فوق جناحه.
- ظللت عالقًا في عالم ضبابي, حيث يبدو كل شيء حولي هشًّا.
- كنت زجاجيًّا لا أحتمل ضربة حجر؛ لذا اختبات داخل سريري مستسلمًا.
- في الليل ينقشع الضوء الذي يحجب الرؤية ويبقي لي ضوء القمر الفضي, كم أحب الفضة ! فأشعتها تمنحني القدرة على التلوّن والانعكاس.
- ستنبت الأزهار في الربيع بينما يتعايش الواحد بالمئة مع عفاريته في هدوء وسلام, ولن يتغير شيء.
- ما أتذكره أنني انتبهتُ إلى الكراهية شجرة وافرة الغصون والثمر, لا تحتاج لسُقيا, تتغذى وحدها على قلبي.
- تمنيتُ يدَينِ أربت بهما, ولسانًا أتغزّل به, ورجلين أتحرك بهما لغوص داخل جمالها القمري.
- أعشق الفضة التي تسيل وسط الموج الذي يتكسّر على سطحي, البحر يشبهني, لنا خاصية واحدة, وانعكاس واحد لفتاة جميلة.
- قسوت على جسد نهى الصخري ليذوب, ثم أثارني ذوبانها الرملي, واعتلت وجهي حرارة واشتعالًا.
- وقف جسدي صلبًا يستعد للغوص في الرمال الباردة فيلهبها بحموته التي لم تشتعل منذ زمن.
- حين لامست ناري برد جسدها تلوّن وتشكّل لتبدو نهى أمامي بلورية, زجاجية شفافة.
- اليتم امتلكني, لم يعد لظهري متّكأ.
- كلماتي تخرج ملتصقة ببعضها البعض وغير مفهومة, أتعجب مما يحدث! أسمعها في رأسي واضحة تمامًا , وما إن تخرج إلى النور حتى تتلكأ وتنبعج وتتحور إلى كلمات أخرى.
- آلاف الكلمات تندفع مرة واحدة من الكتلة التي تذوب, كشلال صغير انبثق من شفتي, وانا وسط مياهه أغرق!
- الشمس أول ما خبط رأسي, ثم صوت البشر.
التجربة الإبداعية للكاتبة:
استطاعت الكاتبة أن تقدّم لنا عملًا روائيًّا معاصرًا عندما دخلت المدارس الأدبية المعاصرة في الأسلوب بخلطة غير متجانسة (الواقعية, الرمزية, السريالية, البرناسة, الفن للمجتمع, الرومانسية, الطبيعية) وعندما استخدمت التقنيات السردية المعاصرة ( الحوارات الخارجية والداخلية, التيار الوعي, التغذية الخلفية, الذكريات, المناجاة, الأحلام....), فكان عملها عملًا روائيًّا معاصرًا بامتياز.
وعند الحديث عن تجربتها الإبداعية وتفرّدها بين أقرانها من الكتّاب أو الأعمال الروائية المشابهة, نجدنا أمام كاتبة استطاعت أن تبتكر وسيلة سردية رفعت عملها إلى مستوى الإبداع فوق المألوف, وتفصيل ذلك كما يلي:
الفرق بين التقنية السردية والإبداع فوق المألوف:
الفرق هو أن التقنية ثابتة سرديًّا, أي هي عنصر من عناصر السرد الثابتة, أما الوسيلة فهي الإضافة السردية الخاصة التي يأتي بها الكاتب إبداعيًّا وفق حاجات السرد موضعيًّا في مكانية السرد وزمانيته, وفق المحاور السردية المستمرة من بداية الروي حتى نهايته, وقد أتت الكاتبة بوسيلتين سرديتين جعلتهما شخصيتين سرديتين هما ( المرآة – العصا). والشخصنة استخدمت قبلًا, لكن كتقنية سردية, ونعني بالشخصنة كتقنية سردية: أنها تشمل عناصر السرد الأساسية (العقل, الذات, النفس, الخاطر, الضمير, اليد, أشياء ثابتة تساهم بالكتابة العقل ومكوناته), وما خرج عنها :(القلم, الحبر, الورقة...) بمعنى أن ( محتويات العقل+ محتويات الكتابة) هي تقنية شخصنة سردية.
أما شخصنة الأشياء غير المتعلقة بالسرد فهي وسائل, ندعوها شخصنة الوسائل, وقد جعلت الكاتبة هذه الوسائل شخصيات أساسية مشاركة بالسرد, لا تقل أهمية عن السارد البطل, بل هي تسرد الأحداث التي لا يمكن لشخصية البطل أن تسردها, فهو ليس سارد عليم, والرواية المعاصرة لا تحتمل وجود سارد عليم, فكان إتيان الكاتبة بوسائل سردية وشخصنتها وربطها بالسارد البطل والمكان والزمان والأحداث عبر علاقة ورابط مُمَنْطَق بطريقة غاية في الذكاء والحيلة, ابتكار يحسب لها, سأتكلّم عن ذلك الرابط, ثم سأتكلم عن المواضيع الهامة جدًّا التي طرحتها الكاتبة عبر هاتين الوسيلتين.
لقد ربطت الكاتبة بين السارد البطل وبين المرآة والعصا بما يتناسب مع حالته المرضية التي يعتقد فيها أن جسده يبقى حبيس الغرف المغلقة بينما تندمج خلايا مخه الحية مع خلايا تفتقد الروح, فيتبادلان المنفعة , يعطيهم جزءًا من روحه ويعطوه المعرفة, فتصبح كل الأشياء حوله حية, تخبره بكل ما يدور في غيابه الذي صار فيكما يعتقد حضورًا طاغيًا, فمريض البارانويا يؤمن أن قدراته فوق مستوى البشر, فصارت المرآة حضوره الطاغي في غرفة نومه, والعصا حضوره الطاغي في المورستان.
تقف زوجتي أمام المرآة تكبّ غضبها عليّ دون أن تتجمّل, تبعد أدوات المكياج بعيدًا وتعلم أن المرآة لن تخبر بشيء, فهي خرساء صامتة, لكنها لن تتصور أبدًا أن المرآة تحدثني , وتخبرني بكل ما يحدث في غيابي, أن المرآة المصقولة صارت بعملية معقدة أنا!
- يا مرايتي, جه الوقت أنك تحكي!
- اخرس!
تكوّمت في الطابور خائر القوى, بظهر محني ورأس غائر, لماذا صارت العصا بهذه القسوة حين أصبحت بطريقة معقدة أنا؟!
- يا عصايتي السحرية, جه الوقت إنك تحكي!
- اخرس!
الوسيلتان تبدأان كلامهما بكلمة : اخرس!
المرآة والعصا ستعرضهما الكاتبة كشخصيات بالطريقة التمثيلية, كما عرضت شخصية البطل, تستخدم ضمير المتكلم, تعبر عن ما يختلج بداخلها من أفكار وعواطف وميول, ونشعر أننا فعلًا أمام شخصية إنسانية حقيقية بكل ما فيها من نزعات الخير والشر, مثلًا لنرَ كيف تقدم المرآة نفسها كشخصية فيلسوفة, تحب وتكره, وتأتي على ذكر السارد البطل وتنعته بالمخبول:
الحكاية تبدأ من كوني لا أحب الدراما, أكرهها, والغريب في المر أن ما يحبه المرء لا يدركه, فالدراما الحياتية لا تحدث إلا أمام عيني, ابتداءً من رغبة الكثيرين في البكاء أمامي, وانتهاءً بهذا المخبول الذي يريدني أن أحكي!
أما العصا فتنحى منحىً تاريخيًا بالحديث عن نشأتها منذ بداية الخلق, وقبل هبوط البشر, تعلن أن المملكة النباتية كانت المملكة الحية الأولى على سطح الأرض قبل أن يهبط الإنسان عليها, وتتكلم بنزق عن تطور مراحلها وعلاقتها بالإنسان منذ أن كانت نبتة إلى أن انتهت عصا متختلفة ومتعددة الاستخدامات بأيدي من وصفتهم بالحمير عبر التاريخ, شارحة الظروف التي جعلتها تكتسب صفاتها السيئة والحسنة, ناعتةً البطل بالأبله:
أنا حية من قبل أن يعطني هذا الأبله جزءًا من روحه على حدّ تعبيره, أنا حية منذ بداية الخلق, بالتأكيد كنا على الأرض, وقبل هبوط البشر إليها, لكن تاريخنا الحقيقي ابتدأ معهم, وابتدأت المأساة, متّ أول مرة حين كسرني صبي ساذج وأبعدني عن حضن أمي..... ص 195
ويهمنا هنا المواضيع التي تطرّقت إليها الكاتبة عبر هاتين الوسيلتين السرديتين, وهي مواضيع عامة, ومواضيع خاصة ترتبط بالبنية السردية للرواية, وكأنها حبك فرعية, تصب في المصب الرئيسي, الحبة العامة للرواية.
المواضيع العامة:
المواضيع العامة التي تناولتها المرآة:
- الموروث الفكري الشعبي الذي يشوبه الكثير من الجهل والخلط والميتافيزيقا:
الجدات تقول :" لا تنظر للمرآة ليلًا" وأحيانًا : " لا تنظر للمرآة كثيرًا", وغالبًا: " إنك لاترى نفسك داخل المرآة, بل ترى شيطانك", أتساءل : ما الفرق؟! وأضحك! رغم جهلي الحقيقي بالعالم السفلي وما يحويه من جن وعفاريت؛ فإن الجدات دومًا صادقات والمرآة كاذبة.
تتمتع الكاتبة بقدر لا يستهان به من خفة الظل التي تحرّك بها ما يمكن أن يفتر من عنصر التشويق, فتجعل المرآة شخصية مثقفة متنوّرة تتمتع بحس فكاهي, وتحليل إسقاطي ساخر على المجتمع بقضاياه وحوادثه العامة, فتتحدّث عن حوادث الطرق, والجوع, بالمواجهة مع الجهل والخرافات:
ومن هنا تبدأ الدراما: "مسّه جنّ لأنه كان يحدّث نفسه أمام المرآة", وإذا افترضت أن ذلك يحدث ؛ فإنني أجزم أنه يحدث بنسبة لا تصل إلى واحد بالمئة, وهي النسبة المقبولة عالميًّا؛ فالجميع في النهاية يلقي ما في جوفه أمامي دون قلق, وإذا كان تسعة وتسعون بالمئة منهم لا يصابون بوعكة عفريتية؛ فيمكننا بضمير مستريح أن نهمل عن عمد الواحد بالمئة, ... ومن الممكن إدراج تلك الفئة ضمن الفئات التي تموت في حوادث الطرق يوميًّا, أو أؤلئك الذين يموتون جوعًا, بينما يُلقي باقي سكان العالم ما تبقّى من طعامهم في القمامة. ستنبت الأزهار في الربيع بينما يتعايش الواحد بالمئة مع عفاريته في هدوء وسلام ولن يتغيّر شيء".
- الشقاء الإنساني:
تحدّثت عنه من خلال معايشتها لألام وشقاء العمال الذين قاموا بصنعها, عن قلة مواردهم المالية, وفقد الأحبة, التعب الجسدي الذي لا يتوازى مع المقابل المادي, عن امتهان الكرامة الإنسانية, وتسلط القوي على الضعيف, عن الألم النفسي والجسدي:
" ...هل سمعتهم وهم يشكون ضعف الحال, قلّة المرتبات, فقدالأحبة, سوء الحظ؟! ورأيتهم يبصقون, ويأكلون, ويلعنون المدير, ويلعقون حذاءه؟! هل رأيت ذرات عرقهم أمام النار المشتعلة في جسدي؟! والأهم هل تألمت وقتها؟! كما ينبغي لأضحك عليهم بقية عمري! ...."
- التردّي الأخلاقي:
تحدّثت المرآة عنه من خلال معايشتها اليومية للتصرفات المشينة للحاج صاحب محل الأثاث الذي كانت تقيم فيه كمرآة على تسريحة, اعتبارًا من جشع صاحب المحل, إلى تحرشه جنسيًّا بالفتيات اللواتي يعملن في المحلات المجاورة, ويفدن إلى المحل لحاجتهم لدخول الحمام عنده بدلًا من دخولهن حمام المقهى المجاور, وإغراءاته الرخيصة التي يستغل بها حاجتهن المادية:
... قال: كل شيء ممكن بلا عقد أو مشاكل, كل شيء ممكن ببعض الأموال! تبدأ الخطة بسؤال عن الصحة والحال, ثم استفسار عن الاسم, ثم تلميحات بالإعجاب؛ لمسة , اثنتين, ثلاثًا عن غير قصد, لمسة, اثنتين, ثلاثًا عن قصد, لمسة, اثنتين, ثلاثًا عن تواطؤ واتفاق! ثم يضع الحاج لافتة (مغلق للصلاة) ويغلق معها باب معصية زوجته وباب الحمّام أيضًا. اللمسات الثلاث تأتي بموبايل جديد, وبعض الفكة, والبقاء في الحمام مدة أطول مع الحاج تزيد الهدايا.
المواضيع الخاصة:
أما عن المواضيع الخاصة التي تناولتها المرآة عندما أصبحت في مرآة على تسريحة في غرفة نوم البطل:
- الأمومة:
من خلال ( فرجتها) على نهى وهي ترضع ابنتها, ومعاناتها الكبيرة معها نفسيًّا وجسديًّا:
تجلس الزوجة على السرير البارد تهدهد طفلتها التي تمص حليبها كأنه آخر زادها, تلفظ ثدي أمها من فمها وتصرخ بحرقة, ثم تعاود القرص عليه بقوة! منذ ثلاث ساعات وهي تنتقل من ثدي لآخر, ومنذ ساعتين والأم تتململ, ثلاث ساعات على الوضعية ذاتها, تتعرّق الطفلة وتبرز أوردتها من المجهود, وتتعرّق الأم, .... ألقت الأم بالطفلة التي لا تشبع على السرير, وانطلقت نحو الحمام, لم أرَ ما فعلته, لكن بدا لي من هيئتها أنها كانت تحبس بولها. عندما عادت رأيت ثدييها يُعتصران بالدم, وعيناها تبكيان, وقفت أمامي تتبيّن حالتها المزرية, عيناها متورمتان من كثرة البكاء, ومطفأتان من قلة النوم, وفزعتان من القلق والجهل, تتعامل مع كائن لا تعرف( كتالوجه), وليس لديها أحد يخبرها. رفعت ثيابها لتكشف بطنها التي ترهلت من أثر الحمل والولادة, تمتد بها خطوط سوداء متشابكة, لونها الأسود يجعلها بارزة أكثر على جلدها الأبيض.
- الجنس الذاتي:
تناولت الكاتبة قضية الجنس من أوجه عديدة, ليس بقد الإثارة وإنما بقصد إلقاء الضوء على أوضاع اجتماعية سيئة تجرّ لمشاكل جنسية تولّد صراعات كبيرة في المستوى النفسي والمجتمعي على حد سواء, من أبرزها الجنس الذاتي بدون وجود الشريك! عندما تصل الحرمان الجنسي إلى الذروة التي لا يمكن معها تحمّل جوع الجسد, فيبحث الإنسان عن البديل مع نفسه, بمعنى أوضح ( العادة السرية), المرآة تسرد هذا الحدث, عندما بلغ اليأس والتعب والشعور بالإهمال قمته عند نهى زوجة البطل, شهور عجاف كما تصفها المرآة وهي بين رعاية الطفلة ونشر الغسيل بينما يغطّ زوجها في كوابيس وضلالات بين أشباح وقطط.
اليوم فوجئت بها تخلع ثيابها كاملة أمامي, ظهرت على سطحي العاكس بيضاء رشيقة, اقتربت أكثر , ثم اعتلت التسريحة لتنام فوقها, تلامسنا واحتضنتُ انعكاسها الفضي, واندمجتُ معه, مع ذرات جسدها, كان جسدها يابسًا كعشب أصفر, وكنت أصغر من شربة ماء تسقيها, انطوتْ داخل ذرّات الرمل الزجاجية التي تحتك بجسدها الطري وتترك عليه خربشات دامية, صرختْ, تأوّهتْ, سألتْ: لماذا يغيب زوجها شهورًا؟! ولعنت سؤالها المهين! هي لا تحتاجه,لا تريده, تكرهه, تكره طفولته, تكره رجولته, ليس هناك أشهى من الذات, الذات المجردة!
وهناك حكاية تخجل المرآة من حكيها, حكاية ممارسة البطل للجنس مع زوجة سعيد في الشارع, بعد أن فشل بإتيان زوجته نهى, ليفاجأ بعدها أنه كان يمارس مع قطة!
- مع قطة يا نجس!
لم أفهم, ولم تكن هناك فرصة للفهم وسط ضرباتهم المتلاحقة, وبين كل ضربة وأخرى أتلقى سبة أسوأ من التي سبقتها, نظرت إلى رجولتي المهدرة على الأرض عارية تبكي, كمن فوجئ بهذا الفعل المشين من المارّين في الشارع....
أما العصا فلها أيضًا مواضيعها:
- مواضيع وقضايا اجتماعية :
تتعلّق بالتربية الأسرية والتفريق بالمعاملة بين الأولاد, ونتائجه السلبية على حياة الأسرة ككل, (العسكري) صاحب العصا كان لديه بنت وولد, دلّل البنت حد الإفراط, فهربت مع عشيقها, ووضعت رأسه في الطين, أما الولد فكان حازمًا جدًا معه يتسلى بضربه, ثم طرده, وهذا ما ترتب عليه عزلة اجتماعية تقوقع فيها العسكري زادت من قسوته, ومهّدت لشذوذه الجنسي:
.... منهم من يقول: أصله كان مدلعها! وآخر يرد: ربنا بيخلص منه حق الواد اللي رميه! ويتحوّل الشارع بأكمله إلى فلاسفة وقضاة ومحامين, ويتحول معهم العسكري وتتبدّل حياته, يفضّل العيش بعيدًا عن الشمس داخل جحور صنعها لنفسه, لا يشتري طلبات البيت إلا ليلًا, يأخذ (نوبتجيات) أكثر ليظل بالمستشفى أطول فترة ممكنة, يبكي أحيانًا دون سبب مقنع, ولم يعد يفارقني أبدًا, يسير بي أينما ذهب, حتى حين ينام يضعني بين ضلوعه وأمام زوجته, وإذا ضاق بزوجته الحال هدّدها بي ملوّحًا فتصمت عن انتقاده أو الإعلان عن رغبتها بتركه.
وسأكتفي من هذه الدراسة بما تقدّم, فهي دراسة مستقطعة, عرّجت فيها على أهم ما فيها عبر مستويات ذرائعية محدّدة, وليس عبر كل المستويات الذرائعية.
الخاتمة:
في النهاية, أعترف أنني عاجزة عن إيفاء الموضوع حقّه, فالمعاصرة في الرواية العربية ليس كما قال البعض بأن الروائيين العرب لم يقربوا أو لم يخوضوا في رواياتهم غمار المعاصرة, وهذا طبعًا كلام غير صحيح, بل كانوا من المجرّبين الأوائل, وإن تأخّروا بعض الوقت, فالروائي السوري( حنا مينة) - وهو الروائي الكلاسيكي المشهور- كتب آخر رواية له ( عاهرة ونصف مجنون) وكانت رواية معاصرة, أتمنى أن تأخذ الرواية العربية المعاصرة مسارها الصحيح ومساحاتها الكبيرة التي تستحقها, لأنها فعلًا أكثر تعبيرًا عن بواطن النفس الإنسانية التي طغت إرهاصاتها في العصر الحالي حتى على أحداث الحياة, مهما عظمت تلك الأخيرة...أعتذر عن تقصيري بالإلمام الكامل بالموضوع, فالنقص مني, والكمال لله...
#دعبيرخالديحيي
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس