الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة / الرجل الغريب

علي قاسم مهدي

2021 / 4 / 26
الادب والفن


الرجل الغريب
(1)

طاولةٌ صغيرةٌ مصنوعة من خشبِ الزانِ وكرسي، مدهوناً بطلاء أخشاب. بقايا قهوة شكلت رسوم معقدة على سطح الطاولة، أشبه بلوحاتٍ سرياليةٍ ،بالقربِ منهما سريران تفصل بينهما مسافة صغيرة، احَدهم مرتباً بشكل جيد أما الآخر من خلال تكور الأغطية والوسائد ،يؤكد بأنه مستخدم من قبل احد ما دون شك.ورف رصفت عليها دفاتر ملاحظات كثيرة .
تضمُ هذه الأشياء غرفة صغيرة باردة، على الرغمِ من المِدفئة التي تتوسط الجدار المقابلِ للسريرين.على الطاولة كوب قهوة وقدح ماء ودفتر ملاحظات مصفرة أوراقه،قلم حبر وآخر تأشير بلون أحمر، ضوء المصباح الساقط بشكل شاقوليا، رسم ظلا لرجلا جالسا على الكرسي .
رجل غريبا ،تُحيط به نفاسه، ويلفه هدوء رهيب ووحدة قاتلة، غادرت سماواته غيوم الحياة والفرح ،يفتقدَ الأحبة من أهل وأصدقاء،جالسا على كرسيه الخشبي، نظر حوله،كأنه يتفقد أشياءه، يجول بنظره بيأس، وشريط ذكرياته يدور بمخيلته التي أرهقها الانتظار،فز كأنه سمع كركرة طفل، سمعها بعدما حدث صوت من خلال سحب دفتر ملاحظاته ؛ يشبه خربشة على سطع ورقة أثارت لديه ذكريات دفينة ،ادخل إصبعه في أذنه وحركه بقوة يريد التأكد من سمعه، دفع نظارته السميكة التي كادت أن تقع، بسبابته إلى الخلف ،وراح يقلب دفتر ملاحظاته ،مسك قلم الحبر بتراخي ،نَظَرَ إلى ساعته ،الوقت يمر فاترا كريه .
(2)
لازم الإدمان على الكتابة منذ زمن طويل وكذلك على الكثير من الأمور الأخرى.أدمن الوحدة التي اعتاد عليها .
كرر كلمة يأرب أجد ولدي بأكثر من عشرون صفحة . هذا ما قراءته بإحدى دفاتر ملاحظاته -

(3)
أغلق الدفتر بعد أن دون (( ما أطول هجرتي داخل نفسي .وما اشد غموضها ،هجرة أبدو فيها أحيانا كأنني شخص آخر أو كأنني لا اعرف من أنا ))
ثم امسك قلم التأشير وسحبه بعد أن رفع غطاءه على ملاحظة ،بدت مهمة لتأكيده عليها بلون الأحمر.وضح نظارته على الطاولة وأعاد ترتيب أشياءه ،ونهض ببطء ،خطى نحو الباب ،رفع يده حرك زر المصباح لإطفاء النور ،وعند خروجه سمع نفس الكركرة مرة أخرى اخترقت إذنه
- يا الهي.
حانت منه لتفاتة ، أعاد تشغيل المصباح، رمقَ الغرفة كأنه لن يراها مرة أخرى تأملها جال ببصره يطوف بها ،شم عبقها ،تراخت عيناه ،نزلت دمعة وتبعتها أخريات سال الدمع على خديه، افقده بصره واتزانه لحظات مسح خديه بكم قميصه ،حرك جفنيه لازالت بقايا الدمع، سار تعثرت قدماه بالطاولة ألصغيرة انكفاء الكوب تسربت بقاياه نحو دفتر ألملاحظات، لم يبالي اقترب من المدفئة لم يشعر بحرارتها، اقترب أكثر،مد يده نحو صورة معلقة وسط الجدار ،مرر أصابعه عليها برفق تحسس الوجه القابع خلف الزجاج طرقت سمعه نفس الكركرة من جديد، أنعشته ،انزل الصورة بهدوء ، مسح الغبار عنها ،قَبَلها.
وتقدم نحو السرير المرتب، رفع الغطاء، واندس تحته، احتضن الصورة وغط بنوم عميق.
(4)
- هنا نهاية القصة.. الرجل ، نام ، مات لأيهم ، دعونا نتفق على نهاية قد تكون غريبة بعض الشيء-
بعد أكثر من شهر جاءت الشرطة - بعد أن تلقت اتصال من الجيران-
لابد أن حدث شيء للرجل الغريب الذي يسكن البيت المجاور لهم .
دخلت الدورية بعد طرق مستمر،اضطرت بعده إلى كسر الباب ..تقدم احد أفراد الشرطة،علت صدره من جهة اليسار علامة تعريفية - الرائد وليد الغريب آمر دورية -
تقدم نحو غرفة الرجل الغريب دون شعور منه ،وقف عند الباب برهة ،حرك المقبض ،دخل توسط الغرفة ، أجالَ النظر تملكه شعورا غريبا، كأنه شم رائحتها من قبل ،جلس على الكرسي وقعت عيناه على صورة لطفل خلفه يد تمسكه ،ملقاة بعناية على وسادة احد الأسرة ،أمر احد أفراد الدورية بجلبها، نظر إلى ملامح الطفل،كان دون الثلاثة سنوات .تأملها، شده حنين للصورة ،ضربت رأسه ومضات كأنها برقٌ، شحنت ذاكرته،لاجترار صورٍ شتى تداخلت مع بعضها محدثة تناسقا مموسقاً بدقة ،خفق قلبه ، فَغَرَ فاه مصدوما ، وظل هكذا ،أحس كأن اليد التي في الصورة امتدت خلف ظهره أمسكت به بحنان، تحسس مكان اليد وجده دافئا ،
- رباه ما هذا.
تسمرت يداه على الصورة .
- سيدي سيدي.
- ماذا
- لا يوجد احد بالبيت
- حسنا .
أشار إلى وجه الطفل بالصورة وسال احد أفراد دوريته .
- هذا وولد أم بنت.
- سيدي اعتقد بنت.
- انظر جيدا.
- ولد سيدي ولد.
- لا يعقل.
وضع الصورة على الطاولة ،سحب دفتر الملاحظات وراح يقلب صفحاته ،بَنَت الدهشة ملامحها عليه، وقعت عيناه على ملاحظة على الرغم من اختلاط القهوة بحروفها ،بدت واضحة ،وبدأ يقرأ.
- نكران الذات اللعبة المزيفة التي يلعبها الخاسر دوما، كي يبرر أخطاءه متكئا على عكاز التضحية . ولأننا تحركنا الأهواء والرغبات ننعزل عن العالم مبكرين بسبب الأنانية المركبة فينا والمنعكسة علينا لهذا نحن نكره أنفسنا ولا نشعر. ننكر ذاتنا لأننا نريد نكران الآخرين . وهكذا تستمر الحياة ،وفي النهاية لا يوجد رابحا، فقط من تخلى عن أنانيته .. ربما سيقرأ احد ما اكتب . إنها هلوسات فاقد ابن
صعق. خرج جميع رجال الدورية بينما ظل في مكانه، سحب الصورة من جديد نظر إليها ابتسم الطفل في وجهه فرك عيناه منذهلاً ، رمقها بتمعن ،بعض ملامح الصورة تنطبق عليه .
- يا الهي.
قلبها لعله يجد ما يُنهي ذهوله ، وهنت قواه ولم يكمل ما مكتوب على ظهر الصورة إلا بصرخة خرجت منه ملأت المكان
(ترى أين أنت ألان يا ولدي )
نظر إلى الصورة ، وصاح بحشرجة
- أنا ألان هنا يا والدي.
ابتسم لوجهه واحتضن صورته، وأغلق الباب وعم السكون بالغرفة من جديد إلا من صوت الابتسام، وصوت طرقا على الباب.


( انتهت )
بغداد 15/4/2020





الجملة مقتبسة نصا من مقال لاودنيس نشره على الفيس بوك الدكتور عارف الساعدي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس