الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درس (2) في معنى المكان: القدس كبلدة -الله والفلسطيني- العتيقة

بلال عوض سلامة
محاضر وباحث اجتماعي

(Bilal Awad Salameh)

2021 / 4 / 30
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تأتي الأهمية لأي مكان في كونه الشرط الاجتماعية والوجودي للجنس البشري، الذي يشكل المساحات والفضاءات والصروح والأبنية لوجوده وخياله وتمثلاته المكانية في علائقية الانسان بالمكان، لتصبح عبر سيرورة التفاعل والانسكان معاً هوية وشخصية كلاً منهما، تطبع الأثر والرمز والمعنى على الآخر، فيتشكل التاريخ والهوية والذاكرة والمعاني والجماليات والأمن والاستقرار، حتى السلم والحرب، وقد يكون للمكان أيضاً، أهمية وقدسية وشحنة عاطفية أو روحانية بمعزل عن ساكنيه، بمعنى أن المكان لم يعد فيه بشر تقطنه، ولكنه بقي كإشارة الى وجوده/ أو وجود ما لشعبه أو لشعب آخر فيه، عبر شحنة ورابطة تاريخية ومقدسة بهذه البقعة في زمن ما، تُشكل استمرارية له، حتى بوعينا به.
أما القدس الفلسطينية والبلدة العتيقة، تأتي اهميتها ورمزيتها من البعدين السابقين، بمكانها المقدس والمعاني المنبقة من التاريخ والدين وحتى الأسطورة في استمرارية فلسطينية تجاوزت الأربعة آلاف عام متواصلة، والاستمرار البشري والمجتمعي الفلسطيني فيها بأوجهه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ليأخد رمزية ودلالة أعلى من المتسويين السابقين، كلاً عن حدا، ويصعد من أهميتها في زمننا المعاصر صياغة هويتها والصراع على استلاب المكان أو استعادته، بما يعنيه من تاريخ وانسان ووشائجه وهويته وتعبيراته الحضارية والثقافية التي يطمع الاستدمار الصهيوني فيها في محاولة دؤوبة لخلع ونزع القدس الفلسطينية منها، ومحو الفلسطيني من فضاءها. فهذا الاستعمار كما وصفه الشاعر فوزي البكري المقدسي بـ أرضـاً مقـدَّسـة يجـوس خلالها... فيـهـا مطامعـه وفيهـا مرتعـه.
فالمكان بمفهوم أوجيه(1) هو هوياتي وعلائقي وتاريخي، وكل مكان لا يمكن وصفه بأنه هوياتي أو تاريخي أو علائقي يمكن تحديده بـ: اللامكان(ص. 79-80)، وهي سمة الحداثة المفرطة، فما بالنا بحداثة استعمارية صهيونية صراعها وقلقها وأزمتها في ايجاد إشارة لها في هذا "المكان" كحيز وتاريخ وسياق فلسطيني لتجد مبرر لها في هذا الفضاء، فهذا الفضاء الفلسطيني؛ الذي شغله ويشغله منذ قرون عدة، فهم الذين قاموا على تشكيله وصياغته، فهم عاشوه وتعايشوا معه وتطوروا ضمن الحيز الفلسطيني والمقدسي، وهم من رصدوا أهميته ورمزيته، وحددوا المواقع والصروح لأثر القوى البشرية وأيضاً القوى الربانية فيه، يدركوه في ممارستهم اليومية واسماء الشوارع وبوابات البلدة العتيقة، والتكايا والكنائس والجوامع التي تحفظ الذاكرة التاريخية للمكان، أليس لباب العامود عمر تجاوز الالفين عام ؟ رغم اسماءه المتعددة منها باب دمشق، حتى اضحت القدس بصروحها جميعا وكأنها "مكان للتعبد، وكمكان يقدم فيه القرابين والأضاحي"(ص.47)، تحفظه الذاكرة الشعبية المتجذرة بالأرض.
فتشكيل القدس، والبلدة العتيقة بمعالمها وقيمها كمكان فلسطيني يعد أحد الرهانات للوجود الفلسطيني تاريخياً كان ذلك على المستوى الفردي أو الجمعي، الديني والوطني والاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، على المستوى اللغوي"اللجهة العامية" أو الصوري، هم من جعلوا القدس مكاناً مشتركاً ومقدساً للفلسطينيين المقدسيين، في عاداتهم وتقاليديهم واخلاقياتهم فلكمة "ابن بلد" و"خال" إشارة الى هذه العلاقة اليومية والحميمية في الواقع اليومي المعاش، في الدفاع عن حدودهم وجغرافيتهم للمكان الذي شكلوه لحمايته، فهذا المكان مقدس، وهذا الفلسطيني يستل قدستيه منه، وبالعكس صحيح، فحينما امتشق الشاب جون وليم قاقيش سكنيه لطعن قوات المستوطنين في البلدة القديمة بتاريخ 24 أيار 2015، وفي إفادته لمحقق الشاباك "الاسرائيلي" صرح "أتريد أن أرى المستوطنين يدنسون المسجد الأقصى وأبقى هادئاً، تعتدون على المرابطات وتريديون أن نبقى نتفرج، فقال المحقق باستغراب: أنت مسيحي، فرد جون كان :مسيحي الديانة، مسلم الهوى، فلسطيني الهوية، مقدسي ثائر"(2)، وهو نفس السلوك للفلسطيني الذي منع وأحبط مستوطناً صهيويناً من حرق كنسية الجثمانية بتاريخ 4 كانون الأول من 2020.
هذه الرهانات والتحديات هي فردية وجمعية بنفس الوقت، فالمسلكيات في المكان المشترك والممارسة القيمية وحتى الاخلاقية والدينية والاجتماعية والوطنية هي مبدأ دلالي بالنسبة للفلسطيني، دلالي بمعنى المكان وقيمه ورموزه يمارس قهراً ما على ساكنيه، وبالمقابل يمارس الناس دوراً في صياغتهم وتشكيليهم للحيز ضمن هذه العلائقية، فتزود هذه العلاقة الثنائية بمعنى دنيوي بمكان، وديني بمكان آخر، واجتماعي واقتصادي بمكان آخر، أو قد يحتضن نفس المكان لكل هذه الممارسات "من الرقص، الى الدبكة، الى الباركور، البيع والشراء والتثاقف في السوق"، فكل حضور لهذه الممارسات وتكرارها يعزز ضرورتها ويؤكده، وبهذا المعنى يشكل مكان الفرد/الجماعة مكان الولادة والهوية الجمعية/ الفردية كما يشير أوجيه.
فالأشكال المُؤسِسة للمكان من: المؤسسة الاجتماعية كالعائلة، وشكل الأبنية ونظامها الهندسي الذي يميل للشكل العمراني"للحوش" كما هي العادة الشامية، يتوسط المنازل مساحة كفضاء اجتماعي مصغر لعائلات متعددة أو من نفس العائلة الممتدة لممارسة الطقوس والشعائر والمناسبات الاجتماعية، تضيق المساحة لإي أمكنة أو قد تتسع، تتراص المنازل ببعضها البعض كأنها في صلاة ربانية، غير تاركة لغريب يتسلل بينها-رغم الاستيلاء على منازل المقدسيين-، فمن جهة تنعدم فيه الخصوصية، ولكن من جهة أخرى تنفتح فيه العلاقات كمساكن شعبية.
شوراع البلدة العتيقة متراصة وضيقة لكنها تحتضن الكثير والتنوع، حتى أكبر من طاقتها الاستيعابية، ورغم أن للبلدة العتيقة عدة أبواب "باب الخليل، السهرة باب الأسباط، باب السلسلة، باب الجديد" ألا أن أهمها باب العامود، حيث يعد المدخل الرئيسي لكل الأماكن والحارات عبر هندسة هي أقرب للشريان الذي تتواصل فيه خلاياه مع بعصها البعض لتنشبك بباب العامود باعتباره الرئة الرئيسية لجسد المكان في البلدة العتيقة، فمنه تستطيع الوصول إلى اي مكان فيها.
شبكة "المواصلات" الجغرافي بين الحوراي والأحياء والأماكن جميعها تقود إلى السوق الرئيسي بتفرعاته المختلفة "خان الزيت.. سوق العطارين... سوق الواد" كمُؤسِس اقتصادي، حيث يلتقي التنوع والتعدد والتثاقف بين البلدة العتيقة والقرى والمناطق المحيطة من القرى والتجمعات الفلسطينية الأخرى-وهذا تم حرمانه للمكان من قبل الكيان الصهيوني- حتى تصل وتتوال المناشط الاقتصادية ومصالح الناس الى الأشكال المُؤسِسة الدينية: كالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة الذي يشكل مؤِسس ورمز هام للمكان ببعده الديني.
ومن هنا، اكتسبت البلدة العتيقة أهميتها ورمزيتها الدينية من السيد المسيح والمعتقد الشعبي والديني المسيحي في الصلب والقيام، والصعود/الرفع في الاسلام، كما هو المعتقد الاسلامي والشعبي في المعراج للرسول الكريم الى السماء، "لتكون القدس بوابة الأرض إلى السماء وبوابة السماء إلى الأرض"، ويحتل الديني الصدراة في الأهمية كون التاريخ المؤسس لهذه المدينة احتل الصدراة الدينية تاريخياً، ومسيحياً واسلامياً فقط، والذي لم يشر التاريخ إلى اي وجود يهودي فيها وانما كأفراد فلسطينيين، وخارجها فقط، فالقدس لم تكن يوماً "أورشاليم" كما يتم الاعتقاد أو الإدعاء.
فالمعتقد الديني لصلب ودفن المسيح كان في منطقة اسمها "الجُلجُثة" وهي خارج مدينة "اورشاليم المزعومة" كما يوضح كلا من انجيل ولوقا 23- 33 ويوحنا 20/19(3)، حالياً تقع "الجُلجُثة" داخل القدس الفلسطينية التي فيها بني على قبر السيد المسيح كنسية القيامة، ففي انجيل يوحنا 19: 38-42 وانجيل متى 27: 57-61 يشيران إلى أن ان مكان الصلب والقبر حسب المعتقد المسيحي كان في هذه المنطقة "" الجلجثة أو الجمجمة" "وخارج اورشاليم"، وعليها تم تشييد مدينة جديدة على تلال الجلجثة التي اطلق عليها اسم ايلياء كابيتوليا، وحرم على اليهود دخول المدينة الجديدة، فلا بد من تبني هذا الموقف وترميزه فلسطينيا، بأن القدس هي مكان مقدس للفلسطينيين المسيحيين والملسمين فقط، ففيه تم بناء مسجد ايلياء الذي هو الآن اسمه المسجد الأقصى، ففي حديث صحيح مسلم يقول "إنَّما يُسَافَرُ إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِيَاء"، في محاولة تصحيحية للمعلومة في الحس العام والمشترك لمعناها الفلسطيني بامتياز، رغم أنها ليست من هدف المقالة الحالية.
أذاً، اهمية القدس بابعادها ورمزيتها الاجتماعية والوطنية والدينية، إعطى للمدينة دلالتها ومعناها التي يحتفظ فيه المقدسيين بشكل خاص، والفلسطينيين بشكل عام، ونشدد على الديني هنا، ليس من أجل اختزاله وهو فهم يتعارض مع فهمنا، ولكن العلمانيون الفلسطينيون يرفضون أن يُفهم التاريخ ببعده الديني، حتى لا يكون جوهر الصراع ديني، وهو ليس كذلك، ولكن أحد روافده كما نعتقد، فالمستعمر الصهيوني وظف الدين والرواية التوراتية المزعومة في خدمة مشاريعه الاستيلائية وما زال حتى اللحظة يقرأ التاريخ الاكاديمي المهيمن من منظور تناخي استعماري في فهم المكان، في المقابل: الاسلاميون يختزلون القدس ببعدها الديني فقط، وينزعون عنها البعد الاجتماعي والوطني، فالاثنان مخطئان، فما معنى القدس بمعزل عن المسجد الأقصى وكنيسة القيامة؟، وما معنى القدس بمعزل عن ناسها وتاريخهم وحضارتهم وهويتهم الوطنية وذاكرتهم التي تشكلت وتبلورت حولها وفيها ببعدها الديني والوطني، وإلا فبماذا تختلف رام الله عن بلدة –الله والفلسطيني- العتيقة؟.
فكل فلسطيني، وبالأخص المقدسي على وجه الخصوص: لا يفكر/يؤسطر المكان وإنما يعيشه، ولا تشغله الرمزية وإنما يمارسها، فاليومي والمعاش"سياسيا/وطنياً/ دينياً/ اجتماعياً" هو ما يسكنه ويعطيه معناً من نوع فريد، أليس "الشيخ عيسى" الذي يعاقر الخمر مثل صعلوكها الغير ملتزمان دينياً، كما هو الحال لمتعاطي الحشيشة و"المروانة"، كما الحال لدى المتدين والملتزم والتاجر والعامل والمرابطة وغير المحجبة والانسان العادي يذودون في الدفاع عن القدس ومسجدها المقدس، وهم انفسهم من استعادوا رمزياً باب العامود مؤخراً، أليسوا هم أنفسهم من بدأؤا بممارسة الصلاة والدعاء كشكل احتجاجي في معركة البوابات الالكترونية عام 2017 لتصبح "الجكارة" المقدسية فعل نضالي بتعبير وشكل وثقافة جديدة ووطنية.
كل واحدُ فينا يحمل في داخله صورتها وحاجته اليها حسب المعنى الذي يضفيه على المكان/المدينة المقدسة، هذه الفرادة هي من عززت دورها ومكانتها ورمزيتها الوطنية، باعتبارها حلقة من حلقات الصراع، نذكر جميعاً هبة البراق 1929، وهبة 1996 و1998 أو بما يعرف بهبة النفق، أو بهبة الأقصى والاستقلال عام 2000، فقد بقي الأقصى ولم نصل إلى الاستقلال، وفي معركة البوابات الالكترونية ومعركة باب الاسباط واستعادة باب العامود، ألم يرتقي الشهداء في سبيلها، ليصبح شعار "بالروح يا اقصى" اغنية جيل من الشباب الذين لم يختبر الانتفاضات الكبرى ولم يعرفوا الثورة ولم يدرسوا كراسات ماوتسي في حرب الغوار "كر وفر" التي شكلت استراتيجيتهم في المواجهة الأخيرة، ولماذا يُقدم الشاب نضال عبود بالإعلان عن نيته بالصلاة في المسجد الأقصى كمرابط مسيحي في الدفاع عنه؟، أو بالتواجد مؤخراً على درجات باب العامود في شكل احتجاجي ليستعيد السيادة على المكان، فلا بد من فهم تمثلات ومعاني تسكنه هو ذاته في المكان، قد لا يدركها البعض ولن يستطيع فهمها، إلا إذا فهم أن حاجته رغم اختلافها هي نفسها كحاجة عبود في المكان، أو فهم أن الروح القُدس قد يتجلى في اسوار البلدة العتيقة أو في المسجد الأقصى أو في درجات باب العامود، وكأنه باستعادة الباب يستعيد ذاته المقدسية بإمتياز.
من يذكر أحمد مناصرة كمصاب وأسير، أو الشهيد محمد علي، او مهند الحلبي وبهاء عليان وآخرين، من يذكر هؤلاء ... وهوؤلاء؟ الأمر الذي دفع بفيصل دراج يقول في مقدمته إلى أين يذهب الشهداء؟(4)، فما معنى الشهيد في السياق الفلسطيني؟، ألم يتحول الشهيد وجسده إلى فكرة/مكان، والفكرة تفضي إلى أفكار أخرى، ألم يتحول الجسد الفلسطيني للشهيد كمكان وصرح يحتجز ويمارس العقاب على جسده باحتجازه، ألم يصبح الجسد/المكان/الشهيد/المقدسي كحيز مُرمز ومسجل في ذاكرة المكان؟، كما هو شارع الشهداء/باب العامود؟
تتجلى في المكان كل الأشياء في أكثر مشاهدها قسوة/اعتلالاً/ انفراطا من العقد/انحلالاً/ تقدماً/ تديناً/ بشاعةً/ قبحاً/ جمالاً، ولكن من يحافظ عليها في صورتها المثالية هو الذي ما زال يعطيها الصور والتمثلات ويشحن ايقونتها الجميلة والرومنطيقية بعاطفة نضالية أو من يستخدم المكان المقدس دينياً ووطنياً، لعلهم رأوا معاني نحاول فهمها، أو تأويل التأويل لإدراك معناها.

(1) أوجيه، مارك ( 2018). اللاأمكنة: مدخل أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة. ترجمة ميساء السيوفي. البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار.
(2) الميادين (26 ايار 2020). "جون قاقيش من حارة النصارى في القدس.. يدخل عامه السادس في الأسر"، موقع الميادين، (28/4/2021)، على الرابط الالكتروني:

(3) لمزيد حول هذه العلومة يرجى الاطلاع على: سلسع، نظمي يوسف (12/2/2021). "القدس اليوم ليست أورشليم الأمس، وهل يمكن القول أن الصخرة المشرفة قد صلب عليها المسيح؟"،موقع رأي اليوم، (29/4/2021) على الرابط الالكتروني:








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ


.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب




.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام


.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ




.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا