الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرواية الدينية والبديل الشعري عند وليم غولدينغ

حكمت الحاج

2021 / 5 / 2
الادب والفن


انها واحدة من أهم الروايات التي كتبت في القرن العشرين باعتراف النقاد جميعا، "السقوط الحر" للكاتب الإنكليزي الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1983 "وليم غولدينغ" وبترجمة إلى العربية من "محمد درويش" المترجم العراقي الذي قدّم لنا من قبل كتاب كولون ولسون "فن الرواية" عام 1986 وأتبعه برواية لنفس الكاتب تحت عنوان "طفيليات العقل" 1989 ثمّ رواية الكاتب الإنكليزي "كنغزلي أيمس" بعنوان "جيم المحظوظ" والتي صدرت طبعتها العربية ببغداد عام 1990 ورواية "امرأة الضابط الفرنسي" لــ "جون فاولز" عام 1994 وغيرها من الأعمال المميزة في عالم الثقافة الإنكليزية. وقد قدّم السيد محمد درويش للرواية بمقدمة مختصرة ولكنها مهمة من أجل أن تكون مدخلا للقراءة تعين القارئ غير المختصّ على خوض غمار الرواية، وعلى هذه المقدمة اعتمدنا في تقديم بعض المعلومات عن وليم غولدينغ وروايته المهمة السقوط الحر.
وُلِدَ غولدينغ في نيوكواي، في مقاطعة كورنوول، وتلقى تعليمه في مدرسة مارلبره الثانوية حيث كان والده مدرّساً، ثمّ في كلية بريسنوز، التابعة لجامعة أكسفورد. كان والده يرغب في أن يصير ابنه عالماً، إلا أنّه سرعان ما أبدى اهتماماً شديداً بالأدب، وهذا ما دفعه إلى أن يحوِّل دراسته في أكسفورد إلى الأدب والفلسفة، وتخرّج في عام 1935. وبعد أن عمل فترة قصيرة مع فرق مسرحية صغيرة ممثلاً وكاتباً، غدا مدرّساً في إحدى مدارس مدينة سولزبْري. التحق في أثناء الحرب العالمية الثانية بالبحرية الملكية وأسهم في إغراق السفينة الحربية الألمانية «بسمارك»، كما أسهم في غزو النورمندي قبل أن يعود مع نهاية الحرب إلى التدريس والكتابة.
كثيراً ما توجد في قصص غولدينغ المجازية إلماعات إلى الأدب الكلاسيكي والأسطورة والرمزية الدينية اليهودية المسيحية. ومع أنّه ما من خيط يجمع رواياته ويوحدها وأن تقنياته السردية تتنوع وتتبدل من رواية إلى أخرى ولا يجمعها رابط حسب بعض النقاد؛ إلا أن اهتمامه الأساسي هو البحث في موضوعة الشر، الذي يظهر لديه في إطار ما وُصِف بأنه نوع من التفاؤل القاتم من الناحية الدينية. ولعل إنجاز غولدينغ الحقيقي يتمثل في أنه عاش في قرن شديد الاضطراب واللاإنسانية، وترك وراءه مجموعة من الأعمال تعكس الرعب الذي شهده القرن المنصرم بقدر ما تساعد على فهمه.
ان عبارة السقطة الحرة او السقوط الحر هي عبارة ذات منزع لاهوتي تشير الى سقوط آدم أبي البشر من الفردوس الأعلى الى الارض المدنسة، وهي حصرا تتضمن المعنى النهائي للخطيئة الأصلية التي هي عبارة عن الاكتفاء الذاتي بأن يكون الإنسان هو الأول والأخير والمرجع الوحيد لنفسه. فهذا ما يُعرف بالخطيئة الأصلية أي رغبة الإنسان في أن يكون إلهاً مستقلاً. إن موقف تأليه الذات جعل الإنسان يعبر عن رفضه لله وهنا تجاوز الإنسان الوصية الإلهية الأولى "أنا هو الرب إلهك لم يكن لك إله غيري"، كما جاء في سفر التكوين. إن جوهر الخطيئة الأصلية يقوم على غياب النعمة أو غياب الترفيع الميتافيزيقي الذي كان الله منذ البدء قد قرره للإنسان. وهذا الحرمان يفصل حقاً الإنسان عن الله، كما يشرح لنا ذلك القديس أوغسطين.
ولكن، كيف وظف وليم غولدينغ هذا المفهوم الديني التوراتي، في النسيج الروائي؟
إنّ الاختلافات في اتجاهات الكتابة الروائية -معتمدين على تعريف الرواية بوصفها وسيلة للتعامل مع الحقيقة- تنشأ أصلا عن اختلاف أساسي في وجهة النظر الخاصة بطبيعة الحقيقة. وتبدو الرواية في نهاية المطاف بيانا صادقا لانطباع فردي مصحّح بالرجوع إلى الحقيقة. والحقيقة التي نعنيها هنا هي الحقيقة الطبيعية. ومن هذا المنطلق يكون الصدق صفة أسمى من الجمال وتصبح مسألة العدل وإشاعة العدل مطلب الفنان وغايته. إنّ مجرد الجمال في الفن يبدو تافها والنجاح على حساب سعادات الآخرين أنانية مريعة. هذه هي واحدة من المشكلات التي تعامل معها "غولدينغ" بنجاح وإن كان مصحوبا ببعض الأسى وذلك عائد في النهاية إلى صلب مشكلة تتعلق بالشعر. فقد أوضح "غولدينغ" في مقالة نشرها في وقت مبكر من حياته أنّ إحدى المآسي التي تعين عليه أن يتحمّلها في حياته هي عجزه عن كتابة الشعر فأنتج بدلا من ذلك عددا من الروايات التي تنحى في تيمتها الرئيسية باتجاه الرؤية الشعرية للعالم مستعملا الرمز في التعبير عن أبطاله وسقوطهم. فروايته الأولى "إله الذباب" على سبيل المثال لا تقدم لنا قصّة مجموعة من الطلبة ألقت بهم الأقدار في جزيرة معزولة وحسب، بل ترسم خطوطا متقاطعة مثيرة للشجن لمجمل تاريخ الإنسان، مسلطة الضوء على التطور الاجتماعي بوصفه نتاج السقوط بدءا من تناول الفاكهة المحرمة وانتهاءا بأعمال القتل الجماعي. وتشبه هذه الرواية رواية أخرى لـــ "غولدينغ" وهي "الورثة" أو الوارثون، وهو كتاب أسطوري يمكن تفسيره في ضوء المفاهيم الدينية. يبدو إنّ لهذه الملاحظة علاقة بمشكلة فلسفية بارزة تظهر للعيان بمجرد محاولتنا تقديم تعريفات ناجزة لألفاظ مثل "الصدق، الحقيقة، الجمال، العدل، السعادة". فالصدق يتمثل في حقائق الكون الطبيعي كما يتخيله العلم ومن واجب الفنان أن يبرز هذه الحقائق أو هذا الصدق وبما أنّ الحياة ليست جميلة بل منحطة وحقيرة كما أظهر ذلك "داروين" وغيره فالفن ليس جميلا. إنّ الجمال فيما يتعلّق بالأدب يتمثّل بخصائص الأسلوب والتركيب الشكلي من حيث السهولة والمحسنات الزخرفية أمّا فيما يتعلّق بالحياة فالجمال يتعلّق في عالم من السلوك المهذّب. إنّ الأسلوب والسلوك قد يحجبان الواقع المؤلم لما نعتبره هو الحقيقة. لذلك فإنّ العدالة تقوم بكشف الوجه الجامد وعلى الأغلب البشع للعالم الطبيعي ومن الطبيعي أيضا أن يكون عدم التعاطف مع مثل هذا الهدف صعبا وخصوصا في السنوات الأخيرة حيث ساد النتاج السطحي لكثير من الكتابات في إنكلترا وأمريكا.
إنّ منهجا مثل هذا لم ينجح حتى في اجتذاب كتاب أعظم موهبة وفراسة من "وليم غولدينغ". فقبل مائة عام أو أكثر من الآن أي حوالي 1892م كتب "ستيفن كرين" يقول: "لقد رفضت مدرسة التحذلق في الأدب وبدا لي أنّ هناك شيئا في الحياة يفوق جلوس الإنسان وإجهاد دماغه بالتفتيش عن الكلمات البارعة وهكذا تورطت في الحرب الجميلة بين أولئك الذين يقولون بأن الفنّ بديل الطبيعة للإنسان وبأنّنا سنكون على أقصى ما يمكن من الطبيعة والصدق..".
إنّ ما يميز "غولدينغ" ليس هو مجرد الأسلوب الذي اختلف به عن غيره من كتاب عصره، بل أيضا هو الوسائل التي أفاد بها من تقاليد الخط الأدبي الطويل مطبقا دروس الماضي على شكل أولاني لم يكد حتى الآن يكتسب تعريفا محدّدا. لقد اكتسب من الماضي المفهوم القائل بأنّ الإنسان شخصية بطولية مأساوية وبهذا استبدل تفاؤلية القرن التاسع عشر بالشك والسخرية. انها سخرية مريرة تلك التي يعتمدها "غولدينغ" في معظم رواياته خاصة "إله الذباب" و"الورثة" وقد أعاد ترسيخ الرأي القائل بأنّ الفن ليس مجرد تابع للأخلاق والتقدم الاجتماعي فإذا ما اختلف في هذه الوجهة عن الروائيين المعاصرين له فإنه يكون قد تعلم الكثير منهم وقد صب ما تعلمه منهم ومن الكتاب الذين سبقوه حياة وقوة جديدتين في المفاهيم القديمة، فهو قد تعلم أولا الأمانة والوضوح في معالجة الموضوعة الرئيسية له، وثانيا قد أدرك أهمية التغيير الاجتماعي كعامل مهم في تجارب هذا العصر..
وعلى العموم، فإن هاتين النقطتين: الثيمة والتغير، تصبان في بؤرة واحدة تشكل المنظور الرئيس لأعمال "غولدينغ" منذ روايته الأولى "إله الذباب"، ألا وهي "الرؤية الدينية للعالم"، عالم الحقيقة. وإذا ما أخذنا برأي الناقد "فرانك كيرمود" فإن المضمون الديني في أعمال "غولدينغ" يتفاوت في درجة وضوحه من رواية إلى أخرى ولكنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخفى على القارئ في روايته الرابعة والتي هي موضوع مقالنا هذا، السقوط الحر. فعنوان هذه الرواية كما هو واضح مستمد من قصة سقوط الإنسان الواردة في الكتاب المقدس.. فهذه الرواية تناقش مسألة لاهوتية بحتة، فعندما يدرك الإنسان حقيقته يلح عليه السؤال التالي: متى يسقط الإنسان وما هي الحدود التي إذا تجاوزها يصبح من الهالكين وتزول عنه نعمة الله؟
ويشير الناقد "بيتر كامب" في مقالة له منشورة في كتاب "الرواية في القرن العشرين" إلى أنّ روايات "غولدينغ" عموما ذات مغزى واحد وهو أنّ الإنسان ينتج الشر مثلما تنتج النحلة العسل، وإن هذه الروايات تعالج مشكلة مأزق الفرد بوصفه إنسانا وأنّ الهدف الأساس من وراء هذه الروايات هو جعل الإنسان يواجه حقيقة محزنة تتمثل في قسوته وشهواته إضافة إلى ذلك فإن هذه الروايات تعلن عن إيمان راسخ بأن الإنسان أسير خطيئته الأصلية وأنّ طبيعته آثمة وإن وضعه محفوف بالمخاطر.
أما في روايته هذه "السقوط الحر" فإن "غولدينغ" يثير سؤالين أساسيين هما: "متى فقدت حريتي؟" و"كيف فقدت حريتي؟" فسعى من خلال الإجابة عليهما أن يرسخ مفهومه عن أن الإنسان يسقط في الخطيئة وهو حر الإرادة. فيستعرض بطله الفنان الأسير في أحد المعتقلات النازية حياته قبل الأسر وبعده (بضمير المتكلم) في محاولة لاكتشاف حقيقة انه لم يعد يملك القدرة على الاختيار واتخاذ القرار. وكل ذلك بأسلوب شيق يؤكد مكنة هذا الروائي وطريقته في الترميز والواقعية في آن واحد للتعبير عن فكاره الفلسفية والدينية والاجتماعية.
منحت الملكة إليزابيث الثانية في 1988 وليم غولدينغ لقب فارس، وكان قبل وفاته، قرب مسقط رأسه، يعمل على مخطوطة لم تكتمل، عنوانها «اللسان المزدوج» The Double Tongue حول سقوط الحضارة الإغريقية وصعود الحضارة الرومانية، وقد نُشِر هذا العمل في عام 1995 بعد وفاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي


.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض




.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل


.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا