الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحصانة البرلمانية بين الانتهازية والمساواة

الياس خليل نصرالله

2021 / 5 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


حاز مصطلح "حصانة عضو البرلمان" على حصّة كبيرة من التداول دون غيره من المصطلحات الاخرى التي تتردد في الآونة الأخيرة، في الساحة السياسية، ممّا يدفعنا حتمًا للعودة إلى مفهومها الأساسيّ وطرح أسئلة كثيرة لمعالجتها مثل: ماذا تعني الحصانة؟ وبماذا يتميّز عضو البرلمان عن غيره؟ هل يعني ذلك الهروب من المسؤولية؟ أو أنّ هناك ضوابط واضحة تفرق بين حريّة النائب في ممارسة أعماله النيابية، واعماله الشخصية، وأنه مسؤول في النهاية امام القانون؟ التعريف الاصطلاحي للحصانة البرلمانية يعني أنها نوع من الحماية القانونية التي يعطيها الدستور لنواب الشّعب في البرلمان، كنوع من الحماية السياسية والقانونية، حتّى يستطيع النائب، أن يؤديَ وظيفته الدستورية كسلطة تشريعية بعيدًا عن تأثير الترهيب والترغيب من قبل السلطة التنفيذية، على اعضاء البرلمان.
إنّ الحدث المؤسس لفكرة الحق في الحصانة لأعضاء البرلمان، يعود إلى القرن الرابع عشر، حين نجح البرلمان في حينه أن يجبر الملك "ريتشارد الثاني" على التّراجع عن قرار الإعدام لعضو برلمان بتهمة الخيانة، بجريرة تقديمه مذكرة اقتراح قانون ضد الملك. وقد تقرر الحق في الحصانة لأول مرة في إنجلترا سنة 1688 في أعقاب إقرار الوثيقة الدستورية المعروفة باسم قانون الحقوق. ونصّت هذه الوثيقة بأن حريّة التعبير والمناقشة، والاجراءات داخل البرلمان لا يمكن أن تكون سببًا للملاحقة القضائية، أو أي ملاحقة في محاكم أخرى، وذلك لحماية النواب من جبروت سلطة الملك، وليس حمايتهم من مواطنيهم واستثنت هذه الحصانة شمول القضايا الشخصية. لقد شكل نجاح قرار البرلمان هذا، حجر الأساس لضرورة توفير حصانة لأعضاء البرلمان بغية حمايتهم من تعسف وتنكيل السلطة التنفيذية.
وطبقت الدول الديمقراطية نموذجين من الحصانة البرلمانية. النموذج الأوّل هو "ويستمنستر" (الانجليزي) والذي يمنح عضو البرلمان حصانة موضوعية، مشروطة بعدم محاكمته، أو تحميله أية مسؤولية جنائية أو حقوقية، لكل فعل أو قول يرتبط بعضويته، مثل التصويت، التعبير عن آرائه ومواقفه. كما لا تمنحه الحصانة التداولية (البرلمانية) على سبيل المثال، بعدم توقيفه او اعتقاله، اذا اتهم بمخالفة ترتبط بأمور خاصة به. ولا يتمتع العضو بحصانة من الملاحقة الجنائية على مخالفات لا صلة لها بنشاطه البرلماني. ولقد ارتكز وانطلق هذا التوجه من تطبيق مبدأ المساواة امام القانون. أمّا النموذج الثاني هو الفرنسي والذي كانت بدايته عام 1789، والذي يوفر حصانة موضوعية، وايضًا حصانة تداولية واسعة، والتي تحمي عضو البرلمان من المحاكمة في مواضيع لا صلة لها بعمله البرلماني، الا إذا قرر أعضاء البرلمان رفعها بالأغلبية او ببنود وشروط يحددها قانون الحصانة.
وبالنسبة للديموقراطيات المستقرة فهي تتموضع بالأساس في قالب النموذج الاول، وذلك بهدف تطبيق مبدأ المساواة أمام القانون. أما النموذج الثاني فنجده مطبّقا الْيَوْمَ، بشكل خاص في دول ديموقراطية يتربص بها التصدع وخطر استقرار ديموقراطيتها. ومن الطبيعي ان يرتبط هذا النموذج بتبريرات لتطبيقه، من بينها حماية عضو البرلمان من استغلال السلطة التنفيذية، صلاحياتها، وقوتها الواسعة لتوفر امكانية افتراء تهمة على النائب في السلطة التشريعية، لعرقلة قيامه بمهامه، أو للتخوف الملموس بأن تتوجه الحكومة الى الجهاز القضائي، لمقاضاة اعضاء برلمان من المعارضة بتلفيق وحياكة تهمة ضدهم. ومثال لذلك توجه الرئيس التركي أردوغان الى البرلمان في أعقاب الانقلاب الأخير عليه، لنزع حصانة مائة عضو بتهمة دعم الانقلاب. الا اننا نجد من يعارض حصانة تداولية بطعنه انتهاز الفرصة من شخصيات متورطة في مخالفات جنائية، بان يُنتخب عضوًا في البرلمان، لتحمي الحصانة من تقديمه للمحاكمة. فتصبح الدولة والبرلمان ملاذًا لمخالفي القانون. ومثال على ذلك هرب فلاتو شارون من فرنسا الى اسرائيل لارتكابه مخالفات جنائية واتخاذ النيابة العامة الفرنسية قرارًا بمحاكمته.
ورغم أنه بالكاد يتحدث العبرية، فقد شكل في عام 1977 حزبًا يُدعى فلاتو شارون، لخوض انتخابات الكنيست في ذلك العام ، على أمل الحصول على حصانة برلمانية لتجنب تسليمه إلى فرنسا، وفاز بالعضوية في الكنيست. ومثال آخر هو "اسكوبار" زعيم مافيا المخدرات الكولومبي، الذي نجح بأن يصبح عضو برلمان، فطوّقت الحصانة التداولية كليهما وحمتهما من المقاضاة. وهناك من يعتبرها كتمتع عضو البرلمان بامتيازات وأفضلية لأعضاء وهذا مسٌ صارخ بمبدأ المساواة. ليس سرًا ان الحصانة في اسرائيل تعتبر من اوسع الحصانات في العالم وتوفرت تبريرات لذلك على ضوء الوضع الحساس لدينا في مجال علاقة الاكثرية والاقلية، المتدينين والعلمانيين والعرب واليهود، وكذلك الوضع السياسي المتغير باستمرار، والاختلاف الحاد في الآراء بين حكومة واخرى. اذا هناك بشكل قاطع ان تفتري السلطة على عضو كنيست بسبب اراءه نشاطاته ومعتقداته. لهذا فهناك داع من حيث المبدأ لوجود حصانة واسعة في اسرائيل، لكن لا يجوز ان تكون واسعة زيادة عن اللزوم، وان تشمل امورا غير معقولة، تدفع الجمهور لفقدان ثقته بالسلطة. مثل هذا الامر الذي يمكن النائب من عدم تقديمه للمحاكم، بسبب ارتكابه مخالفة جنائية مشينة، والسماح له بالاستمرار في تولي منصبه في الكنيست، هناك ايضًا اشكال على الصعيد الاجرائي، مثل التصويت العلني على رفع في لجنة الكنيست، وسريا عند التصويت عليها في الهيئة العامة للكنيست وهذا مس بالشفافية وحق الشعب معرفة موقف نوابه في هذا الشأن.
تعايشت إسرائيل لفترة السبعينات مع هذا النموذج، اذ قامت الكنيست بالمصادقة على غالبية طلبات المستشار القضائي للحكومة لرفع الحصانة التداولية لمقاضاة أعضاء متهمين بمخالفات جنائية. ولكن في الثمانينات مع تفشي ظاهرة تورط مجموعة من أعضاء كنيست في مخالفات جنائية، واستغلالهم حصانتهم التداولية لحمايتهم من المقاضاة، دفع ذلك الكنيست لتشكيل لجنة لتعاين وتبحث هذا الموضوع. واوصت بإجراء بعض التغييرات في عملية رفعها. واجهت اقتراحات التغيير، معارضة من أعضاء كنيست، بادعاء ان هذه الخطوة ستسلب من المُشرِّع فرصة الحماية، وان هذه الخطوة، ستمس بوظيفة ومكانة الكنيست كسلطة عليا تمنح الحصانة وترفعها. لذا يجب بقاء الكنيست الهيئة الوحيدة التي تمنح الحصانة وتملك حق رفعها. وتجدر الاشارة ان بعض اعضاء كنيست طالبوا ان تتم عملية رفعها خارج الكنيست، من قبل هيئة قضائية، او هيئة محلفين، لتفادي التسييس الزائد في عملية سحبها. وواجه هذا الاقتراح معارضة شديدة من قبل الكثير من اعضاء الكنيست باعتباره تماديا كبيرًا يسلب المشرِع من قدرته الدفاع عن نفسه.

وفي 22 كانون الأول، ناقشت لجنة الكنيست طلب المستشار القضائي للحكومة رفع الحصانة عن عضو الكنيست حزان. ورفضت اللحنة الطلب برفع الحصانة بأغلبية 8 مقابل 7. وفي اليوم التالي، رفضت اللجنة أيضًا طلب رفع حصانة غورلوفسكي، بأغلبية 11 مقابل 5. عندها بادرت الحركة من أجل جودة الحكم بتقديم التماسا إلى محكمة العدل العليا بإلغاء قرار لجنة الكنيست. وفي 23 اذار 2005، قبلت هيئة موسعة من 7 قضاة بالإجماع هذا الالتماس. واعتمد قضاة المحكمة في تبرير قرارهم بان ينحصر بحث لجنة الكنيست بفحصها فقط وجهة نظر المستشار القضائي للحكومة، وبما أن اللجنة نظرت وقررت حسبت اعتبارات أخرى خارج نطاق اختصاصها لتصر أمرًا بإلغاء قرار اللجنة. اجتمعت لجنة الكنيست بعد قرار المحكمة مرة أخرى لمناقشة رفع الحصانة، ورفضت الطلب، بأغلبية 10 إلى 6 اعضاء. فقررت في اعقاب ذلك الحركة من أجل جودة الحكم الالتماس إلى محكمة العدل العليا مرة أخرى، واعلن المستشار القضائي للحكومة أنه لن يدافع عن قرار لجنة الكنيست. ولقد اثار ت قرارات لجنة الكنيست، وقيام المحكمة العليا بإلغاء قرارتها ،والمنافية لتطبيق مبدأ سلطة القانون، موجة انتقادات واسعة من الجمهور ومختصين في القضاء، والعلوم السياسية.
وفي أعقاب هذه التطورات، اضطرت الكنيست بإجراء تعديل فوري في البند "33" من قانون الحصانة، والذي أقرت فيه أنّ الحصانة التداولية لا تحمي من المحاكمة، حيث يتوجب على العضو المتهم بعد تقديم المستشار القضائي للحكومة نسخة من لائحة الاتهام بمحاكمته الى رئيس الكنيست، عندها يحق للعضو المتهم خلال شهر من تقديمها، التوجه بطلب الى رئيس الكنيست كي يمنحه اعضاء البرلمان المحافظة على حصانته، وإذا انتهت هذه الفترة، ولَم يتقدم بهذا الطلب، يفقد الحق في عدم مقاضاته. اما اذَا قدم هذا الطلب، في الفترة المنصوص عليها في القانون، فيحوله رئيس الكنيست الى لجنة الكنيست للتداول والتصويت عليه، فإذا ايدته اغلبية اعضائها، ينقل قرارها الى الهيئة العامة للكنيست لتصوت عليه بشكل سري (كان التصويت سابقًا علنيًا، والذي اتاح الفرصة لأعضاء برلمان للتقرير وفقا لمقولة "حكّلي بحكّلك" او لاعتبارات شخصية او حزبية). وفي حالة دعم الأغلبية من الأعضاء عدم رفع حصانته التداولية، فلا يجوز مقاضاته الا بعد انتهاء عضويته في البرلمان. وشملت بعض هذه التعديلات ،تحديد النقاط التي يحق للجنة الكنيست بحثها والتقرير بموجبها، منها: فحص اذا كانت المخالفة تقع في حدود الحصانة الموضوعية، وهل القرار برفع الحصانة التداولية لمحاكمة عضو كنيست ينبع من سوء نية، او من تمييز مرفوض.
ومن الجدير تأكيده حملت هذه التعديلات في طياتها اشكالية وتمادي وعملية تفخيخ، لأعضاء كنيست من اقلية قومية بإحجامهم تقديم طلب عدم رفع حصانتهم التداولية لمعرفتهم مسبقا رفض طلبهم. وهذا ما حصل مع النائب محمد بركة، حين امتنع عن طلب رفع الحصانة في أعقاب توجيه لائحة اتهام له بإهانة شرطي ومحاكمته لأنه ادرك رفض طلبه. وعليه، فقد نتج عنها المسّ في موضوع الاستجابة لطلب الحصانة التداولية، لمجموعة الأقلية القومية واعضاء كنيست من حزاب معارضة مواجهتية.

أمّا رئيس الحكومة الحالي فهو يدّعي بعد قرار المستشار القضائي للحكومة بتقديمه للمحاكمة، أنّ طلبه من رئيس الكنيست بمنحه الحصانة لا يتناقض مع المفهوم التاريخي لمبدأ فصل السلطات. إن قراره هذا أوّلًا، ينفي تصريحًا سابقًا له قال فيه: إنه "إذا قرر المستشار القضائي للحكومة تقديمي للمحاكمة، فلن أطلب الحصانة". ولم يقدم نتنياهو طلبا لرئيس الكنيست في موضوع حصانته لعدم توفر اغلبية برلمانية داعمة لطلبه.
اما بالنسبة لادعائه بعدم تناقض طلبه بان تقرر الكنيست عدم رفع حصانته، مع مبدأ فصل السلطات، فبرأيي أن طعوناته هذه غير شرعية وخطيرة في كافة ابعادها بتهربه من محاكمته في قضايا، ليس لها اية صلة باي نشاط، او موقف او تصريح في اطار عضويته في البرلمان.
برأيي يشكل طلب رئيس حكومة، منحه الحصانة من المحاكمة، مسًّا جليًّا بمبدأ فصل السلطات، وعدم تطبيق مبدأ سيادة القانون وتجميد المداولات والقرارات القضائية في قضايا لوائح الاتهام المقدمة ضدّه، والغاء اجهزة الكبح والتوازن في الديموقراطيةً. لا سيّما أنّ هذا المطلب يتنافى مع كل معايير ومقاييس النزاهة والعدالة والشفافية والاستقامة. ومن أبعاد ذلك، تبخيس وظيفة الحصانة التداولية من ناحية، وتدني مكانة الكنيست في الحيّز العام بإقرارها عدم سحب حصانة متهم في قضايا جنائية شخصية. ان هذه التوجهات والتبريرات والممارسات هي "شعبوية" تتنكّر لاستقرار النظام والمجتمع، وتنذر بتحولات سلبية خطيرة. ومن المحتمل أن ينجم عن ذلك تفاقم وتمادي الأغلبية باتخاذ قرارات تعسفية، وقد حذر مونتسكيه حينما قال "إن النفس البشرية تنزع الى الاستبداد اذا استأثرت بالسلطة، وستتمادى في استعمالها، حتّى تجد قوة توقفها عند حدها، القوة تحد من القوة". يصرح رئيس الحكومة وغالبية مؤيديه، ان اغلبية الشعب تؤيده، والشعب هو مصدر السيادة. وهذا ادعاء مرفوض جملةً وتفصيلاً ولا تتوفر في هذا الطرح امكانية فضح وتفنيد هذا الشعار التمويهي. وقد اثبتت التجارب التاريخية ان ليس كل من يحصل على اكثرية بالانتخابات انما هو حقيقة تمثل اغلبية الجماهير.. واكبر دليل على ذلك وصول عدد من الانظمة الدكتاتورية الى سدة الحكم، كما حدث في اوروبا بعد الخرب العالمية الأولى وكما حدث ويحدث في الانتخابات في عدد من الدول العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وول ستريت جورنال: إسرائيل تريد الدخول إلى رفح.. لكنّ الأمور


.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: مسودة الاتفاق الحالية بين حماس




.. صحيفة يديعوت أحرونوت: إصابة جندي من وحدة -اليمام- خلال عملية


.. القوات الجوية الأوكرانية تعلن أنها دمرت 23 طائرة روسية موجّه




.. نتنياهو يعلن الإقرار بالإجماع قررت بالإجماع على إغلاق قناة ا