الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بمناسبة عيد العمال العالمي حوار حول اليسار العراقي

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2021 / 5 / 4
الادب والفن


بمناسبة 1 أيار عيد العمال العالمي
حوار في عدد خاص عن اليسار العربي ودوره التاريخي من مجلة الأهرام الأسبوعي المصرية:

الروائي سلام إبراهيم: الفكر اليساري أثرى الأدب الإنساني
القصة العراقية الحديثة والرواية أسسها وطورها يساريون

حوار: سيد حسين

* يقول “ماركيز”: أنا أكتب حتى يحبوني الناس وأكسب الكثير من الأصدقاء سلام إبراهيم لماذا تكتب؟

الكتابة قدر الكاتب، أعتقد أنها جزء من تكوين الكاتب، تنشأ بادرة وتنمو معه وتتجلى بالمثابرة والصبر وتطوير هذه الهبة مجهولة المصدر. وجدتُ نفسي يوماً مكتظا بأشياء لا يمكن البوح بها، أفكار غريبة لو قلتها لتعرضت للفظ المحيط الاجتماعي، ومن هنا نشأت علاقة سرية بيني وبين الورقة. أسطر عليها أسراري ومشاهداتي ليتطور الأمر ويصبح مشروع حال كتابتي أول قصة قصيرة قبل سن العشرين. فكانت الكتابة بحثا حقيقيا في الذات والمحيط لاكتشاف وتعرية الحقائق المخفية تحت ركام تقاليد حطت مجتمعاتنا انحطاطاً مريعاً. بالعكس كتاباتي جعلت المحيط يسخط عليّ وتعرضت مرات عديدة للتهديد. وبات الجميع في مدينتي وعائلتي والوسط الأدبي والسياسي العراقي يتفحص بريبة مصحوب بعدم ارتياح، لكن ذلك لا يهمني أبدا.

-كيف ترى العراق اليوم وحال العراقيين، ماذا تقول لهم، أو ربما ماذا يقولون لكِ؟ والوضع الثقافي العراقي حاليا؟.

العراق اليوم في أسوء وضع منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة 1921. فهو في حروب مستمرة منذ عام 1980 تُوِجَتْ بالاحتلال الأمريكي 2003 الذي جلب معه قوىً سياسية طائفية وقومية وسلمهم السلطات، تبين لاحقاً أنهم مجاميع من اللصوص المحترفين صاغوا دستوراً يمهد لتفتيت وتقسيم العراق، وأنتجوا سياسة أججت الصراع الطائفي والقومي مشعلين حرباً أهلية تتصاعد وتخفت في دورة مستمرة حتى الآن، وهي الطريقة الوحيد ليستمروا بنهب الثروات وقتل الناس باسم الدين والطائفة والقومية.
أما العراقي فقد أصبح يتوقع الموت في أية لحظة بسيارة مفخخة أو عبوة ناسفة، أو يلقي الشباب حتفهم في حرب مستمرة سواء بهذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتناحرة.
أزور العراق كل عام وأمكث أشهرا أرى فيه الفظائع والمآسي، الكل ساخط، لكن يجري شحنهم طائفيا ولولا هذا الشحن لأطاح العراقيين بالسياسيين الفاسدين المجردين من الضمير والإنسانية.
الثقافة محتقرة ورجال الدين يعملون ليل نهار من منابرهم على تجهيل الناس وتعمية بصيرتهم بالخرافات والعواطف الدينية المنبثقة من ظلام القرون.

تعرضت للاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي أكثر من أربع مرات للفترة من 1970ـ 1980 والتحقت بصفوف الثوار في كردستان العراق في غسطس1982 حدثنا عن تلك الرحلة الطويلة التي عشتها بين جبال كردستان ثم إيران ودمشق وبيروت وتركيا وموسكو والدنمارك، ماذا أخذت سنوات المنفى منك وماذا أعطتك؟.

هي رحلة عمري في خضم عراق مضطرب الصراع فيه دموي بين القوى السياسية وخصوصا في زمن نشأتي. إذ لم يكن بهذه الحدة والعنف في الزمن الملكي 1921-1958. كان معقولاً إلى حدٍ ما. تفتح وعيّ منذ التاسعة من عمري على عنف هذا الصراع والبعث مع القوميين العرب ينقلبون على سلطة عبد الكريم قاسم فأختفي نصف معلمي مدرستي وأعتقل أعمامي والجيران، وسمعنا قصصا وفظائع عن اغتصاب نساء وطرق تعذيب تجعل الجسد يرتعد، وكان عائلتي منغمرة بالنضال الوطني منذ ثلاثينات القرن الماضي، ومتحمسة لفكرة المساواة والاشتراكية. فعانت ما عانت من سجون وتعذيب فنشأ الأولاد على هذا التقليد، وبسبب هذه الأفكار والمواقف تعرضت إلى الاعتقال بشكلٍ مبكر وأنا لم أتجاوز 16 عاما، ليتكرر أكثر من أربع مرات، وفي الثمانينات قتلوا تحت التعذيب أخي الصغير الرسام التشكيلي كفاح عبد إبراهيم الذي كتبت عن تراجيديا مصيره أخر رواياتي –إعدام رسام- التي صدرت هذا العام لديكم في القاهرة عن دار الأدهم، وقتلوا أبناء عمتي صلاح وعلي في عام 1983 لم نستلم الجثث ولم نعثر عليهم في المقابر الجماعية عقب الاحتلال، وكذلك ابن أختي –وداد- التي تكبرني، محمد حازم الذي أعدم 1995 وسلمت جثته، أما عن رحلتي بين الثوار وتشردي أنا وزوجتي في معسكرات اللجوء في تركيا وإيران وموسكو فقد صورت طرفا من هذه المسيرة في روايتي –الحياة لحظة – و –الإرسي- . أما في محطتي الدنمركية الأخيرة منذ عام 1992 فقد كانت ضرورية لأنها أنقذت حياتي بالعناية الصحية وتوفير مستلزمات العلاج لوضعي الصحي المتردي نتيجة للمسيرة الشاقة وإصابتي بقصف بالأسلحة الكيمياوية 1987، فمن هذه البقعة الهادئة المعزولة جعلت أتأمل التجربة وأستعيدها أدبا روايات وقصص ستكون شاهدة وثائقية مضاف لبنيتها الجمالية على عصرها.

*يري البعض أن الانقلابات العسكرية والسياسات المتخبطة عطلت استكمال المشروع الثقافي للمبدع العراقي كيف؟!.

الانقلابات العسكرية والسياسات المتخبطة عطلت حياة العراقي وعقدتها، وصف سياسات متخبطة غير دقيق، فهي أدت إلى حروب لا يزال مشتعل أوراها ووقودها عراقيون بعمر الورد، حروب أدت إلى نزوح أكثر من أربعة ملايين عراقي حتى عام 2007 إلى دول العالم، أما بعد هذا التاريخ حتى الآن فهناك ملايين أربعة أو أكثر نزحت داخل العراق نتيجة التطهير العرقي والطائفي وحرب داعش والأكراد. فكيف بالمبدع العراقي الذي جهد في هذه الظروف بالغة التعقيد للتواجد في الساحة الثقافية العربية والعالمية ونجح بهذا الشكل أو ذاك.

* مرَّ الأدب العراقي بمرحلتين فاصلتين هما مرحلة ما قبل الاحتلال ومرحلة ما بعد الاحتلال وأنت كتبت أعمالا في كلتا المرحلتين.. ما خصائص المغايرة بين المرحلتين؟ وتأثيرها علي الرواية العراقية؟.

لم يشكل الاحتلال فاصلاً بين مرحلتين في الأدب العراقي، فالأدب كان منقسماً إلى قسمين زمن الدكتاتور، أدب مكتوب في ظروف الدكتاتورية تميز بنصوص زيفت الوعي الشعبي وجملت قيم القتل والحرب وطبلت للدكتاتور وهذه الجوقات الكبيرة رجعت وسيطرت على الصحافة والمجلات واتحاد الأدباء والقنوات التلفزيونية والإذاعية ولبست لبوسا جديدا إذ توزعت على الطوائف والأحزاب، وقلة لزمت الصمت والحياد لتحافظ على حياتها وكتبت نصوصا أوغلت في التاريخ القديم تاركة الحاضر العراقي المشتعل ، وأدب مكتوب في المنفى في ظروف الحرية وهو تيار كبير رفد الأدب العراقي بنصوص روائية وشعرية وفي الفنون الأخرى عالجت إشكالية العراقي زمن الدكتاتور وأنا من هذا التيار، ونشرت دراسة عن الرواية العراقية في مجلة تبين الأكاديمية تفصل وضع الرواية العراقية منذ النشأة حتى ما أشرت إليه. أما بعد الاحتلال فقد أختلط الحابل بالنبال وراح كتّاب الدكتاتور يكتبون عن الوضع الجديد لا بروح متعاطفة إنسانياً مع وضع العراقي والعراق، ولكن بهدف التشفي بالوضع الجديد حالمين بوضع سلطتهم الغاربة. ولكن تبلور الآن جيل شاب يكتب أدبا إنسانياً يعالج الوضع العراقي بعيون ذكية ومواهب واعدة بدأت ترسخ أقدامها في الأدب العراقي والعربي. أما ما كتبته عما بعد الاحتلال أقول أن نصوصي متصلة فالتاريخ لا يتجزأ والأحداث والمسببات لها نتائج تكون أسباباً لأحداث جديدة وهكذا.

-القارئ لرواية “حياة ثقيلة” يجدها مليئه بالخيبات وإلانكسارات والشخصيات البائسة والمكسورة وبها أيضا جانب مبهج رغم كل هذه الخيبات ماذا قصدت من ذلك؟.

الرواية الناجحة تعرض نسيج حياة حيّ بشخصياتها الغنية المتنوعة التي تشعر القارئ بأنها موجودة حقاً رغم أنها مصاغ كيانها بأحاسيسها وحزنها وفرحها من كلمات قومتها على الورق، وحياة ثقيلة رواية سيرة مشتركة مع ثلاث شخصيات هم أصدقائي يشتركون معي في الأحلام والموقف من الحياة والنضال كنت الوحيد من بينهم الناجي من المخاض، وعدت إلى العراق عقب الاحتلال أبحث عنهم لأفجع بمصيرهم التراجيدي المتناغم مع مصير أحلامهم والعراق كبلد يتفتت ويتألم ويذبح كل يوم من قبل قوي أجنبية تتحكم بقواه السياسية وبجهل أبنائه الذين يقتل بعضهم بعض في حرب داخلية لا أفق لها ولا حل. والشخصيات الثلاثة عرضت لتاريخ علاقاتها وتكوينها وأحلامها وطرائفها وهمومها وتكوينها الاجتماعي وعلاقاتها الأسرية ومسار مواقفها وأفعالها من خلال علاقتي بها لأعرض في كل قسم من أقسام الرواية الثلاثة مصيرها التراجيدي المفجع.

* هل روايتك ” حياة ثقيلة” تروي الواقع العراقي بعين المثقف والكاتب؟.

كل الروايات هي بعين المثقف والكاتب حتى لو كان ضمير السرد هو الضمير الثالث “هو” وراويها “الراوي العليم” ففكر الكاتب وطبيعة نظرته للحياة وفلسفته يقف خلف الأحداث المتخيلة أو الواقعية، فكيف بحياة ثقيلة التي أسرد فيها بأسمي الحقيقي وباسماء الشخوص الحقيقية وبأحداث حقيقية، لكن كما هو شأن كل رواياتي وقصصي أجهد لأبعاد الأراء والأفكار والمقولات في نصوصي، فكل هذا يأتي من طبيعة الحدث المنتقى الذي عبر تفاصيل حياتية يقول فلسفته ومقولته.

*هل يجد الروائي المنتمي إلى مشهد متعدد العرقيات والمذاهب صعوبة في أن يكتب ما يعتبره “حقيقة روائية”؟!.

الروائي الحقيقي ينتمى فكراً إلى الإنسانية وما يصوره من أحداث وثيم تمس جوهر الوجود كون البشر خلقوا أحراراً لذا يقوم بمهمة الدفاع عن المقهورين والمسحوقون في كل زمان ومكان بغض النظر عن مذاهبهم وأعراقهم وقومياتهم بعرض وتصوير مأزقهم في الحياة، دون هذا المنطلق لا قيمة جمالية للنص وكاتبه.

* لم يكن 31 آذار/مارس 1934 يومًا عاديًا في تاريخ العراق السياسي الحديث، حيث سعى الشاب البروليتاري المكافح يوسف سلمان يوسف (فهد) لإطلاق أول بذرة يسارية تنظيمية من رحم الجنوب العراقي الرازح تحت سياط الإقطاع والأرستقراطية الدينية ومهانة الاستعمار ماذا حدث من وقتها إلي الآن؟!.

“فهد” شخصية أسطورية في تاريخ اليسار العراقي، فهو لم يطلق بذرة اليسار، بل كان اليسار قد تبلور فكرياً منذ منتصف عشرينات القرن الماضي في بغداد بين أواسط المثقفين كحسين الرحال ومحمود احمد السيد، وظهور فهد من مدينة الناصرية وهو عامل ثلج بسيط بحركته ونشاطه وذكائه حول تلك الحلقات المتناثرة إلى حزب أعلن عن تأسيسه في 31 أذار 1934، سرعان ما أكتسح الشارع العراقي وقاد الأنتفاضات التي هددت السلطة الملكية، وخصوصا انتفاضة 1948 عقب ولادة المنظمومة الإشتراكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية والمد اليساري الذي عمَّ العالم، فاعتقل “فهد” في ذلك العام وحكم عليه بالإعدام فنفذ به وأثنان من القادة 1949 ليتحول إلى رمز ويتماهى مع المسيح والحسين في دعوته للحق والعدالة والمساواة ومقاومة الأستعمار وليذكي نضال الحزب الشيوعي ويمده بالعزيمة المستمرة حتى الآن رغم تقلبات الأوضاع السياسية والأحتلال.

*اثنان وثمانون عامًا مرت على ميلاد اليسار العراقي الكادح، ولا زلنا نراه يتصـدر ساحات الاحتجاج العراقيـة، وفي مقدمتها “ساحة التحرير”، جمهورٌ كهل، يُقاومُ اليأس بزخـمٍ معنـويٍ عـال، وسط خضم الصـراعـات المذهبيـة وإصـرار قوى الإسـلام السياسي الحاكم على تمـزيـق هوية مصيرنا المشترك، فضلًا عن التشظي المجتمعي الغارق في بـرك الطـائفية الآسـنة كيف ترى ذلك؟.

أرسى مؤسس الحزب الشيوعي “فهد” تقاليد نضالية ومبادئ وتراث نظري ضخم ساهم في بنيان الحزب الذي رسخ وأجتاح الشارع العراقي وقتها كما ذكرت، وبخلاف الأحزاب الشيوعية العربية ركزّ المؤسس على فكرة الوطن والوطنية في كل كتاباته، وحتى في المحكمة العسكرية التي حكمته بالإعدام قال قولته الشهير بأنه قبل أن يكون شيوعيا فهو عراقيا وطنيا، وحينما أعتنق الشيوعية صار أكثر حرصا على العراق كوطن. وسار الحزب على هذا التقليد رغم المذابح التي تعرض لها على يد حزب البعث في أنقلاب 1963، ورغم أرتكابه العديد من الأخطاء السياسية التاريخية، كالتحالف مع البعث 1973 ودخول مجلس الحكم عقب الأحتلال بشخص سكرتيره “حميد مجيد موسى” ومساهمته بوزيرين في أول حكومة. لكن تقاليد الوطنية لازالت راسخة، ويعد اليوم الحزب الشيوعي القوة السياسية الوحيدة المتشبثة بوحدة العراق ويضم بين صفوفه كافة الطوائف والقوميات والأديان، وهذا السبب الجوهري لقيادته حركة الأحتجاجات منذ 2010 إلى الآن.

* – عند الحديث عن تأثير الفكر اليساري على الأدب العراقيي، هل نستطيع ان نحدد الفترة الزمنية التي بدأ بها هذا التاثر؟
وهل تأثر الأدب العراقي بالفكر اليساري ام الأدب الروسي؟.

بخلاف الأدب في الوطن العربي كانت نشأت الأدب الحديث في العراق متداخلة عضوياً مع ولادة اليسار العراقي، فمن أرسى القصة العراقية الحديثة وكتب أول رواية فيها الشروط الفنية للرواية هو “محمود احمد السيد” في عشرينات القرن المنصرم، وكان صحفيا نشيطا وداعية يساري نشر الكثير من المقالات المحرضة مدافعا عن الفقراء ومبشرا بالإشتراكية، ليواصل الروائي والقاص غزيز الإنتاج “ذو النون أيوب” الذي كتب عشرات الروايات ومئات القصص بصيغة واقعية أجتماعية أنتقادية، وكان يعمل في الحزب الشيوعي حتى أصبح عضو قيادياً عمل مع “فهد” وأختلف معه، والشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان قريبا جدا من الفكر اليساري وكتب قصيدة من أشهر قصائده “يوم الشهيد” في رثاء أخيه “جعفر” الذي أستشهد في مظاهرة في الأربعينات، الشاعر بدر شاكر السياب مجدد القصيدة العربية كان شيوعياً وشعره بشكل عام مكتوب بروح الإنسانية ومعانقة المسحوقين، أما مؤسس الرواية الفنية العراقية الحديثة “غائب طعمة فرمان” فقد كان شيوعيا وعاش معظم حياته في موسكو لاجئاً عقب 1963 وكتب رواياته كلها عن العراق من هناك، وكذلك الروائي فؤاد التكرلي الذي كتب أرفع الروايات الفنية وأعمقها، الشاعر سعدي يوسف ووو لو عددت فالقائمة ستكون طويلة وكل هؤلاء يساريي الهوى رفدوا الأدب العراقي بدواوين وقصص وقصائد وحتى الفنانيين التشكيلون والمسرحيين ومن صنعوا أول الأفلام السينمائية أغلبهم يساريين. وكان الأدب الروسي والفكر الماركسي منهل ودليل للأدب العراقي منذ النشأة وحتى الآن، فهو أدب وفكر إنساني عظيم وسم الأدب العراقي بميسمه

* بالعودة إلى بدايات النشاة أو التأثر، المجتمع العراقي في تلك الفترة كان في معظمه مجتمعا محافظا، هل كان ذلك التأثر سهلا بالفكر اليساري؟

صحيح أن المجتمع العراقي مجتمع محافظ صارم التقاليد، عشائري، لكنه متنوع فيه قوميات وطوائف وأديان، وكان الوضع البشري بائساً فقر ومجاعات وفيضانات وأمراض وأحتلال، فكانت فكرة الأشتراكية ساحرة ومغرية للمثقف إبن المدينة وللغالبية المسحوقة، مضاف أن الفكر اليساري يبشر بالأخوة والمساواة بغض النظر عن الدين والقومية والطائفة وهذا جذاب أيضا. وإذا أضفنا إلى ذلك حيوية وفعالية شخصية “فهد” الأسطورية، كل هذه العوامل أدت إلى أنتشار الفكر اليساري حتى في الأوساط المتخلفة التي لا تعرف القراءة والكتابة بعمق الريف العراقي الذي كان وقتها يشكل الغالبية السكانية، لم يعيق هذا الفكر وبالتالي الحزب الشيوعي سوى عاملين جعلاه يتلكأ وينحسر، الأول: هي المذابح والسجون التي أقامها حزب البعث وميلشياته “الحرس القومي” 1963، وخشية المرجعيات الشيعية في الحوزة في النجف التي تحالفت وقتها مع البعث فأطلق المرجع “آية الله محسن الحكيم” دعواه الشهير “الشيوعية كفرُ وإلحاد” التي حرم بموجبها التعامل مع الشيوعيين. لكن حتى هذين العاملين لم يقضيا على الحزب الشيوعي الذي ظل حياً حتى الآن ويتصدر النضال ضد الفاسدين ومن أجل عراق موحد.

*في الاعمال الادبية والفنية نشهد دائما الشخوص التالية: الشيخ الرجعي والاقطاعي الظالم، العامل واستاذ المدرسة المتنور والفلاح المتمرد، ألم يوقع ذلك الأدب العراقي بنمطية الشخصيات المقولبة؟.

عمّ هذا النمط من الكتابة في السرد فترتي العشرينات والثلاثيتات والأربعينات وكذلك في الخمسينات وقد كتبت أعداد لا تحصى من القصص، فروايات “ذو النون أيوب” غالبيتها كتبت تحت تأثير الأيدولوجية اليسار وتحديداته الطبقية التي جعلت من كل ثري مستغل وشرير، وكل فقير مظلوم وبطل ومكافح، لكن الأدب العراقي تجاوز هذا النمط مع ظهور قصص عبدالملك نوري وفؤاد التكرلي الذي أمسكا بأرومية الأدب الإنساني وكتبا قصصا إنسانية لازالت تُقرأ وكأنها مكتوبة للتو، أما بعد ذلك فقد تنوع الأدب العراقي وبقى اليسار لصيقا بنماذجه المضيئة، إلى أن ظهر جيل من كتبة السلطة الدكتاتورية فكتبوا أدبا شائها يمجد الحرب والقتل والوطنية الزائفة وهذا موضوع أخر.

* الا تري أنه يحسب للفكر الاشتراكي أنه جعلنا نعيد فهم تاريخنا وتراثنا؟

ماذا فعل ماركس؟!. ماركس ورفيقة أنجلس درسا تكون المجتمعات من البدء فكان كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لانجلس، ولكي يصلوا إلى فهم الحاضر زمنهم والتاريخ قام مركز في كتابة رأس المال بتحليل التاريخ والكيفية التي وصلت في المجتمعات إلى هذا التطور، ولم يكتف بذلك بل دعا إلى تغيير العالم وتحقيق المساواة.
كل التطور الذي وصلت إليه أوربا الغربية كان بتأثير الفكر الماركسي الذي وعى العمال ليناضلوا من أجل حقوقهم، أما هنا في الدول الأسكندنافية فالأحزاب الأشتراكية الديمقراطية التي حققت نمطا من أنماط الأشتراكية المعتمد على الضرائب والتي حكت منذ الحرب العالمية الأولى، وهي أحزاب ولدت من مؤتمر الأممية الثانية التي أنشأها ماركس. ولم تزل هذه المجتمعات هي الأفضل إنسانياً في تاريخ الحضارة البشرية.

* كان لهذا الفكر أثر أيضا على المفردات اللغوية، اولا كون التأثر بالفكر وثانيا بطبيعة العمل الحزبي الذي كان يمارسه الكاتب والمثقف، كالمطبعة والمحبرة والمنشور السري وغيرها، ألم يثر هذا الفكر معجم الادب العراقي؟

الفكر اليساري لم يثرِ الأدب العراقي فحسب بل أثرى الأدب الإنساني، فكل روايات تولستوي منطلقة من ثيمة المساواة، ويكاد أشهر الكتاب والشعراء وأهمهم مروا بهذا الشكل او ذاك بالحزب الشيوعي في بلدانهم، غوركي، همنغواي، جون ريد، جون شتنباك، سارتر، البير كامو، كازنتزاكي، نيرودا، أرغون، ناظم حكمت، غائب طعمة فرمان، بدر شاكر السياب، سعدي يوسف، وجيلنا الذي التحق بالثوار في الجبل في ثمانيات القرن الماضي. وبالتالي أثرى الفكر اليساري الفكر الإنساني ووطد فكرة المساواة التي جعلت الأديب يجد طريقة إلى الإنحياز التام إلى الإنسان كوجود يبغي الكمال بالحرية والمساواة.

* ماركس قال لا يمكن للاشتراكية ان تنشأ الا بحضن البرجوازية؟

ولدت الثورة الصناعية في الغرب البرجوازية التي قامت بأنشاء المصانع وشغلت الناس مكونةً طبقة العمال التي ناضلت من أجل تحسن ظروف عملها وأجرها، وجاء ماركس والفكر الأشتراكي ليضيء لها سبل تحقيق ذاتها، وهذا معنى قول ماركس الذي ذكرته.

* البعض يري أن الأدب تحول إلى أن يكون نخبويا، ولكن بلا جمهور؟
يتناسب ذلك مع حجم التخلف والأمية في هذا البلد أو ذاك، بلدننا العربية نسبة الأمية فاقت 70% وهذا أحد أسباب ظهور الحركات الإسلامية السلفية التي تعتمد على الفقر والأدمغة المطموسة بظلام الأمية والخرافات وهي سهلة يمكن غسيل أدمغتها وزجها في حرب الأرهاب الأسلامي على الحضارة الحديثة. وفي البلدان المستقرة والمزدهرة للأدب جمهور واسع يصغي ويتابع ويقرأ.

* -لنفترض أن حرب الخليج لم تكن، وروسيا الاشتراكية لم تنهر، هل كان سيستمر تأثير الفكر الاشتراكي على الأدب ام أن الزمان سيتجاوزه حتى بوجود روسيا؟

أولا لا يجوز الأفتراض بالتاريخ، وفي هذه المسائل لاتبنى أفكار بنفي وقائع تاريخية
ثانيا: الفكر الإشتراكي، غير محصور بالتجربة الروسية، وجد له تفسيرا وتطبيقا مختلفا لدى الروس، أجتهد لينين مخالفاً المفهوم الماركسي حول التطور والأنتقال السلمي للأشتراكية، فنظر لبناء الأشتراكية في بلد واحد بفكرة دكتاتورية البروليتاريا وعن طريق أستلام السلطة بالقوة وهذا ما أدى إلى نظام الحزب الواحد وظهور المنظومة الأشتراكية بأنظمتها التوليتارية التي قمعت الأفكار المناوئة وهذا السبب الجوهري الداخلي لأنهيارها.

* من انطلاق ثورة 1917 خرج مفهوم ” الواقعية الاشتراكية ” وتبلور مع مكسيم غوركي. الآن وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، هل يمكن أن نشهد توطيداً لمفاهيم من مثل ” الواقعية السحرية ” وأخرى تنبثق من إهاب ما يطلق عليه اليوم ” صراع الحضارات ” وكيف يمكن للرواية كفن أن تتعامل مع العالم اليوم؟

التسميات المختلفة للمدارس الأدبية التي تحلل وتفسر العمل الأدبي تنطلق دائما من منطلقات أيدلوجية نظرية فتراهم ينظرون وينسبون الرواية إلى هذه المدرسة أو تلك. أنا شخصياً غير ميال إلى هذه التنظيرات وأتحاشها في مقالاتي النقدية والدراسات التي كتبتها، فمن خلال متابعتي الطويلة للنصوص الأدبية وجدت أن النص الروائي يعالج واقعه ومشكلاته في زمنه، وكلما كان ملتصقاً ومنحازاً للإنسان ومصاغة بموهبة وبراعة وذهن عميق يفهم ملابسات زمنه وبفلسفة تتلمس محنة الوجود ومعناه يكون النص جميلا ومميزاً.
فالأدب الروائي المعاصر منذ نشأة وظهور الرواية في جوهره واقعي بغض النظر عن التسميات.

*يري البعض الحزب الشيوعي اليوم هو ليس أكثر من حزب احتجاجي، شأنه شأن أي تنظيم آخر خارج السلطة، وظيفته تنظيم المظاهرات الاحتجاجية للتأليب على السلطة، بحق أو بدونه؟ وفي نفس الوقت يتمتع الحزب بكوادر وكفاءات تنظيمية وثقافية وإعلامية وإدارية نزيهة، مؤهلة لتلعب دوراً بارزاً في المشاركة في حكم العراق وإعماره لو أحسن استخدامها؟

ما يميز الحزب الشيوعي العراقي هو النزاهة وقيادته مناضلين أعرف أغلبهم كنا معاً في تجربة الكفاح المسلح طوال فترة ثمانينات القرن الماضي، ويعرف الشعب العراقي جيدا أنهم أنزه الناس، فمن الكبائر لدي الشيوعيين السرقة والفساد. وجُرب أثنان من قادته أستوزروا في السنة الأولى لتشكيل وزاري زمن مجلس الحكم ونزاهتهم يضرب بها المثل. الأحزاب الأخرى طائفية مناضليها تحولوا إلى تجار وضموا في صفوفهم كل البعثيين ورجال زمن الدكتاتور كل في طائفته، وحتى الأكراد اعادوا الأعتبار لما كانوا يسمونهم “الجحوش” وهي القوى الكردية التي كانت تقاتل الثوار.
مشكلة العراق أن الإنسان فيه فسد منذ فترة الحصار، صار يقبل الرشوة بسبب الجوع، يتبع الرشوة الكذب الخداع المخاتلة أستغلال المنصب، وعقب الأحتلال وسقوط الدكتاتور وتغير المداخيل لم يتغير شيء، فالحزب الشيوعي يعمل وسط مجتمع شائع فيه الفساد زادته الأحزاب الدينية التي اعادت سلطة العشائر وصاغت دستور ملغوم، يعني قضاء فاسد، برلمان فاسد، سلطة تنفيذية فاسدة، مواطن فاسد، وفي ظل هذه الظروف يتظاهر الشيوعيون والشرفاء وهم قلة وسط محيط الفاسد الكاسح.

* ما لم يغيِّر الحزب الشيوعي العراقي نفسه، ويتحول إلى حزب جماهيري بالفعل لا بالقول والتمنيات، ولا يتشبث بأمجاد الماضي، حزب يكسب ثقة الجماهير وينال أصواتهم في الانتخابات. وهذا يتطلب من الحزب التخلي عن الكثير من شعاراته وأهدافه الطوباوية التي لا نصيب لها في التنفيذ على أرض الواقع ما رأيك؟

يعاني الحزب الشيوعي من مشاكل جمة مطلع على العديد منها، فهو منحصر جماهيراً، عجز عن أستقطاب الشباب لأسباب شتى، لم يتوسع بقى محصوراً فأضطر إلى إعادة العديد من الأعضاء الذي أسقطهم حزب البعث في حملته القمعية الشهيرة 1978-1979 بعد أنفراط عقد الجبهة معه، وهؤلاء المسقطين لديهم شعور بالنقص وكبار السن وهم يقودون غالبية محليات المدن، العامل الثاني طرق ونمط التفكير الحزبي ظلت هي ما هي عليه وكأن الحزب في خمسينات القرن الماضي ورغم الأدعاء بالأنفتاح والديمقراطية لكنه داخلياً لم يزل على بنيته التنظيمية التي تعود للفترة الساتالينية وتالتقاليد التي أرساها فهد، التعصب الحزبي الذي يتطابق تماما مع تعصب العشيرة العاطفي، والتشبث بالماضي النضالي التليد وكأنهم يضعون دم الشهداء حاجزا أما تجديد الحزب وتغيير بنيته وأهدافه كي يستوعب الوضع الجديد وينتفتح على التغيرات التي حدثت في المجتمع، التغني بسلطة الفرد فسكرتير الحزب الشيوعي “حميد مجيد موسى” الذي أرتكب خطأ عمره بالأنضمام إلى مجلس الحكم لا ممثلا للحزب بل ضمن المكون الشيعي ظل في منصبه سكرتيرا وما يزال منذ أكثر من عشرين عاما. وكما قلت لك تربطني علاقة نضالية واجتماعية مع قادة الحزب الحاليين وأزور مقرهم في بغداد كل عام عند زيارتي للعراق، فتحاورت في جلسة مع عضو مكتبه السياسي د. عدنان عاكف “أبو يسار” وكان رفيقي زمن الثورة في الجبل، وطرحت فكرة تجديد الحزب بأنتهاج طريقا مختلفا أثبت التاريخ صحته وتحويلة إلى حزب أشتراكي ديمقراطي إذ بين التاريخ أن نهج هذه الأحزاب هو الأسلم لبناء مجتمع العدالة والمساواة، لاسيما أن هذا الصراع بين التيار ين أحتدم في الحزب في أربعينيات القرن الماضي وقمعه “فهد” الستاليني بقوة وكتب كراس مشهور “حزب شيوعي لا أشتراكية ديمقراطية”. فأجابني بأن برنامجهم ديمقراطي لكن الأسم فقط، فقلت لا يكفي أولا تغيير أسم الحزب، وثانيا تبيان خطأ الفترة الساتالينية “فهد” والقول بوضوح بالنهج الجديد، أتعرف ماذا أجاب، رفيقي سلام تريد الحزب يتفلش!. قلت له وأقول لك: سيظل حزبا منحسرا صغيرا شريفا غير فعال إذا بقى بهذه التركيبة والعمل والأهداف والعناصر.

*سقوط جدار برلين كان يعني للكثير من اليساريين هزيمة للاشتراكية وبالتالي دفعت الكثير منهم إلى النكوص وارتداد باتجاه وعي قومي تقليدي محافظ أو أوصولي إسلامي مناهض للمشروع الغربي هل هذا صحيح؟

خفت الكثير من وهج الفكر الأشتركي بتهاوى تجربة الدول الأشتراكية وحكم الحزب الواحد، سقوط جدار برلين وتفكك الأتحاد السوفياتي كان تتويجا لفشل تجربة حكم الحزب الواحد وليس للتجربة الأشتراكية، الفكر الأشتراكي لا زال يمكك الحل السحري لمشكلة الحضارة البشرية، أما عن شدة التوجه لمشروع أسلاموي كانت هذه القوى في بلدننا الوحيدة المنظمة، لكنها وبفترة قصيرة قياسا للتاريخ تكشف وجهها الإرهابي البشع ومعاداتها لكل ما يمت للحضارة والتطور بصلة.

* كيف تري المعركة بين اليسار العربي والإسلاميين الدائرة الأن؟والتي تدور رحاها في الوطن العربي بين اليسار العربي بمن فيه التيارات العروبية وتيار الإسلام السياسي بكل أسمائه منذ ظهور اليسار وحتى اللحظة؟

اليسار العربي ضعيف لا يمتلك كيانات راسخة كالسابق، الكثير من شخصياته أمتزجت وتداخلت مع سلطة الدولة كما هو الحال في مصر وسوريا مثلا إزاء محاولة الأسلاميين الأستحواذ على السلط وتغيير بنية الدول إلى دولة إسلامية قمعية كما هو الحال في إيران. من المفترض أن تنهض حركة يسارية جديدة ذات توجه ديمقراطي علماني لبناء دولة مدنية ديمقراطية تمنع نشوء وإقامة أحزاب سياسية على أساس عنصري أو ديني أو طائفي، وتجعل من العمل السياسي عقلاني بالسماح لأحزاب عقلانية لديها برامج تعالج مشاكل مجتمعاتها بخطوات واضحة يقودها رجال شرفاء سينبثون ولابد من رحم الأجيال الجديدة، دون هذا البعد ستجتر مجتمعاتنا مشاكلها وتعيد دورة العنف والتخلف نفسها في حلقة مفرغة.

-برأيك هل ستنعكس الأحداث في العراق على الروايات المقبلة، وهل سينشأ ما يسمى “جيل بعد الحرب” في الرواية؟

بالرغم من ظروف الحرب والمأساة يتبلور جيل من كتاب القصة الشباب والروائيين أصدروا روايات ممتازة تعالج الأوضاع العراقية وبطرائق سرد مبتكرة وجديدة ومن زوايا مختلفة، وبدأ هذا الجيل الذي أسميته ما بعد الحرب بالظهور الفعلي.

-هناك إشكالية واقعية بين الروائيين والكتاب ،فأكثر المبدعين حينما يعانون من الاغتراب داخل أوطانهم وتسنح لهم الفرصة أن يغادروا الوطن وخطورته وقيوده التي تعيق الإبداع والإنتاج تكون البيئة الأخرى حاضنة لموهبتهم ومكانا خصبا لغزارة إنتاجهم هل هذا ينطبق عليك أم للهجرة والغربة عن الوطن رقم قيودة أمور أخرى؟

لم أعانِ من الاغتراب داخل الوطن، فقد كنت فعالاً ومنفعلا بالأحداث نشطت سياسياً وثقافياً، لكن تهديد الوجود الفيزيقي في الاعتقال والتعذيب ثم السوق إلى جبهات الحرب وقوداً رخيصاً، ما جعلني أقاوم الدكتاتور وسياسته والتحق بالثورة المسلحة في الجبل لأصاب بقصف بالأسلحة الكيماوية إصابة مميتة 1987 وأنجو مثل قدر، ثم أتشرد في معسكرات اللجوء إلى وصلت إلى الدنمارك 1992، لولا وجودي في هذا البلد لما كتبت سوى مجموعتي القصصية الأولى “رؤيا اليقين” لأني كنت قد مت بسبب عطب رئتي كما أخبرني البروفسور الذي فحصني بعد أيام وصولي. هذا المنفى غيرّ حتى بنيتي الفكرية وحولها.

*تقول كانت لديك مسافة فكرية مليئة بالشك والحوار مع كل الأيديولوجيات بما فيها الماركسية، وخلال رحلتك مع عالم السياسة والثقافة التي دخلتها مبكرا أواخر ستينيات القرن الماضي تنقلت من ماركسي يساري ثوري يؤمن بالكفاح المسلح على الطريقة الجيفارية بحيث عارضت جبهة الحزب الشيوعي العراقي مع البعث حدثنا عن تلك الفترة؟.

في وقت مبكر اختلطت بالوسط الثقافي والسياسي في مدينتي، وأصبحت صديقا لصيقاً لشاعر يساري عراقي جدد في قصيدة العامية العراقية وكان لتوه خارج من سجن الحلة 1968 حيث قضى خمس سنوات، كان جار لنا ومن خلال هذه العلاقة والمحيط الذي دخلته تعرفت على طبيعة الصراع السياسي والمجتمعي، وكان الجو يساريا يؤمن بالعنف كطريق لتغيير المجتمع وتنقيته، ومن هنا عرفت تروتسكي وسارتر والأدب الوجودي وكل ما يعارض بنية الأحزاب الشيوعية التقليدية، فيقينا من دعاة فك التحالف مع البعث والإطاحة بهم في ثورة مسلحة لتحقيق المجتمع الاشتراكي، ومن هنا كنت متحمساً وعملت سرا مع الحزب الشيوعي زمن ضربته والتحقت مع زوجتي إلى الثوار في الجبل، ومن خلال تلك التجربة وتجربة التشريد ثم الوصول إلى الدنمرك تغيرت قناعاتي وفلسفتي في الحياة وبتُ أنشد تحولاً سليماً للمجتمعات نحو المساواة وتقسيم الثروات بعدالة بين ساكنيها عن طريق الثقافة والوعي وسن قوانين تحترم الإنسان ووجوده وتوفر مستلزمات عيشه الكريم.

*روايتك “الحياة لحظة” يري البعض أنها تسيء إلى “حركة الأنصار الشيوعيين” وتتنافى مع ما كنت تقصده، فهل كانت هذه الرواية محاولة جادة لتسليط الضوء على مرحلة تاريخية عاشها الكاتب وأردت الكشف عنها بأمانة ؟ أم هي رسالة مقصودة لإطراف معينة؟

الحياة لحظة تصوير دقيق لوضع مجموعة من الثوريين حوصروا في موسكو وهم في طريقهم إلى دول اللجوء وقت انهيار حكم الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي وتفككه. والمجاميع كانت قد وجدت في شقتي في موسكو مأوى مؤقت بعد سفر زوجتي وطفلتي إلى الدنمرك، صورت لحظات فشل الانقلاب العسكري ومدى كره الشعب لنظام الحزب الواحد، فبدأ الثوار يحاكمون الوضع والتجربة الثورية الفاشلة، وسقوط مدينتهم الفاضلة موسكو، وعمدت لتوثيق أحداث مخفية وفظائع مارسها الثوار سراً كتعذيب المعتقلين، الإعدام سرا، القتل تحت التعذيب، فظائع السلوك، كاشفاً أن الثوري ليس من طينه خاصة كما يصوره الأدب الشيوعي وحزبه، بل هو بشر لا يختلف عن طبيعة البيئة العنيفة التي نشأ بها إلا وهي بيئة العراق وتقاليده العشائرية الصارمة التي تولد عالم سري يزخر بالفضائح. مضاف إلى أن النص يتأمل في الحياة ليلخص ثيم جوهرية منها أن الحياة لحظة، واليوم هدية، وكل الأيدلوجيات لا تبرر قتل إنسان والكثير من جواهر الأفكار المنحازة للإنسان. ومن الجدير بالذكر أن الرواية مكتوبة بين عامي 2004-2007 أي تتأمل التجربة من ناصية التعرف العيش في مجتمع يقيم أرقى نظام اجتماعي عرفته الحضارة الإنسانية حيث تحولت تماما إلى إنسان يؤمن بالسلام والاشتراكية الإنسانية التي تولد من رحم الثقافة والوعي. وبهذا ليس لها علاقة بتصفية حساب بل ولدت من مخاض تجربة حياة وفكر وتأمل.
-في رأيك هل أثرت ثورات الربيع العربي على النتاج الإبداعي.. وهل نجح المبدعون في التعبير عنها أدبيا؟

أنها ليست ثورات هنالك سخط شعبي من أنظمة فاسدة شمولية استغلته قوي دينية سلفية وبدعم من دول سلفية شمولية والغرب للذهاب بالصراع إلى بعده الدموي الفادح فمزقت المجتمعات وفتت الأوطان وأسقطت أو كادت بنى دول قامت عقب اتفاقية سايكس بيكو، وجعلت أبناء الوطن الواحد يقتل بعضهم بعضا. وهذا الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن. ومن المؤكد أن ذلك سينعكس على النتاج الإبداعي لاحقا بعد هدوء موجه العنف وتبيان نتائجها.

هناك من يرى أن هذه الثورات العربية كشفت فشل النخبة المثقفة وتراجعها عن أداء دورها. ما رأيك؟

النخب الثقافية والسياسية العربية المتنورة بكافة مساربها معزولة غير فعالة، أضعفتها في التاريخ الحديث السلطات العسكرية سجناً وتعذيبا وقتلاً وحصارا فاضطرت أغلبها أما إلى الانضمام إلى صف السلطة أو الهروب إلى المنافي، مما أتاح الفرصة لرجال الدين والقوى السلفية إلى السيادة والتوسع في ظل تكريس التخلف والخرافة والشعوذة بمباركة السلطات والتي لم يخطر في بالها أنها ستكون المادة المناسبة لقوى الإرهاب التي وظفتها بغسيل الدماغ والأموال.

– أين دور المثقفين والمفكرين في مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب؟ وخاصة تنظيم داعش والنصرة وغيرها؟

تنشر عشرات الدراسات والمقالات في المواقع الالكترونية والصحف لمثقفي اليسار ومفكريه، ومبدعيه كتبوا ويكتبوا الكثير من الروايات التي تكشف عن الوجه البشع والمظلم لهذا الفكر المعادي للحضارة والإنسان والحياة، لكن المشكلة أنهم قتلة، والأمية متفشية، والقيم والتقاليد المجتمعية تساعد في إشاعة الفكر التكفيري بالإضافة إلى المد المالي من دول الخليج والغرب وإسرائيل التي هي المستفيد رقم واحد من هذا الخراب إذ تعيش في أمان بينما من حولها يقتل بعضهم البعض.

* كلمات قليلة مكثفة عن روايتك الجديدة الصادرة هذا العام 2016 في القاهرة –إعدام رسام_؟

الرواية عن أخي كفاح عبد إبراهيم الذي يصغرني بأعوام ثلاثة 1957-1983 نشأنا في غرفة واحدة عبارة عن مكتبة وسريرين وكان رساما تشكيليا موهوباً وطالب جامعي يدرس الهندسة وشيوعي أضطر إلى الاختفاء في الحملة على الشيوعيين وانقطعت أخباره 1980. وبعد ثلاثة أعوام 1983 أبلغ بعثوا على والدي ليبلغوه أنهم أعدموه ولم يدلونا على قبره ولم نعثر عليه في المقابر الجماعية المكتشفة عقب الاحتلال. الرواية سيرتنا معا داخل العائلة والمجتمع، وسيرة متخيلة لمقتله من خلال تصوير ساحة الإعدام في قسمها الأول، والمراثي وتفاصيل عيشنا المشترك وتصور متخيل لوجوده في أقبية الدكتاتور السرية في قسمها الثاني، وتصوير لظروف الدفن والتشييع في قسمها الثالث. وهي محاولة لتذكير العراقي بفداحة الموت والفقد الذي أصبح يوميا عاديا في العراق وكأن القلوب تعودتْ وقستْ.

• هل تعتبر ما أدخلته من تجديد على فن كتابة الرواية مدرسة جديدة أو لونا آخر غير الذي قُدم من قبل؟

هل أدخلت تجديدا على فن الرواية؟!. الكلام كبير جدا ولا أستطيع قوله، لكن أستطيع القول باطمئنان عقب ست روايات ومجموعتين قصصيتين أنني قدمت من خلالها نمطا من سرد سيرة ذاتية وعائلية ومجتمعية وبالأسماء الحقيقية التي لم أغير ها إلا في مواضع فيها فضائح، ورسمت الأمكنة وبشرها وزمنها وخصالها في علاقتها بالحياة وثيمها الجوهرية، عامدا إلى جعلها مضاف لبنيتها الفنية وثائق تفيد الدارس للمجتمع والتاريخ لاحقا، ومثل هذا النمط من الكتابة في الرواية والسرد العراقي جديد وغير مسبوق.

* هل تري أن الحريات العربية مازالت تعاني من القيود؟

لا حريات في الوطن العربي. سلطات تتظاهر بالحريات لكنها قامعة فاسدة إنسانها جاهل مسحوق، وهناك استثناءات قليلة جدا كالوضع في المغرب مثلا.

*برأيك ما أبرز التحولات التي طالت الرواية العراقية?

ثمة انفجار في الكتابة الروائية العراقية، يكتب الكثير من الشباب والمخضرمين وتصدر لهم روايات وأغلبها تعالج الأوضاع العراقية القريبة والتاريخية في محاولة لفهم ما جرى ويجري. لم يجر متابعة هذا النتاج بشكل كاف، إذ يختلط فيه الغث بالسمين، لكنها ظاهرة صحيحة وسترسخ النصوص الإبداعية الحقيقة ولابد. أما تحولاتها فالرواية العراقية شديدة الالتصاق بالواقع العراقي وتعبر عن مأزقه منذ التأسيس والنشأة فرواية المنفي ثم رواية ما بعد الاحتلال. أما ما كتب في ظل الدكتاتورية فقد شحب لتصنعه الأيدلوجي أو غموضه المفتعل وسيتلاشى مع مرور السنين.

*ما هو جديدك في الفترة القادمة ؟

قادتني الكتابة والرؤيا والنصوص التي كتبتها إلى تأمل وضع العراق وأنا أبنه الذي أحبه فنزلت إلى طفولتي وظروف نشأتي باحثاً عن تفسير لم آل إليه وضع العراقي وكيف تحول العنف إلى ميسم وسم كل منافذ وتفصيل الحياة، فشرعت في عمل يبحث سرداً عن ظروف نشأتي التي هي نشأة كل فرد عراقي، أعمل على مهلٍ مستمتعا باحثاً ناسجا مصوراً ذاك الطفل العراقي الذي كنته وكيف صرت هذا من تلك الظروف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا