الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسيرة ميشيل كيلو بين الثابت والمتحول

فيصل عباس محمد

2021 / 5 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


المرة الأولى التي أسمع فيها باسم ميشيل كيلو كانت في عام 1977 حين قمتُ بزيارة صديقي الكفيف عصام الخطيب في منزله بقرية "القطيلبية" في ريف جبلة على الساحل السوري لأهنئه بخروجه من سجن فرع أمن الدولة، حيث قضى فيه عدة أشهر بسبب انتمائه إلى تنظيم سياسي محظور، حزب العمل الشيوعي- المكتب السياسي، وأيضاً كعقوبة له على تأليف وغناء أغانٍ سياسية تنتقد النظام السوري وتهزأ من رئيسه حافظ الأسد.
كشابّين يساريين معارضين، وفي بداية العشرينات من العمر، كان معظم حديثنا عن السياسة. تطرقْنا إلى الحديث عن عن الشخصيات القيادية في التنظيم الشيوعي الجديد الذي انشق عن حزب بكداش الكلاسيكي، وأسرَّ لي عصام بأن أكثر من أثار انتباهه وإعجابه من حيث الثقافة والفصاحة والصفات القيادية والكاريزما الشخصية كان كادراً مميَّزاً اسمه ميشيل كيلو، ومنذ ذلك الوقت ظل صاحب هذا الاسم موضع اهتمامي، وخصوصاً في مرحلة "ربيع دمشق" الموؤود عام 2000 على يد بشار الأسد الذي أصبح رئيساً ... بالوراثة بعد وفاة أبيه حافظ، ثم واصلتُ متابعة مسيرته النضالية بعد اندلاع الانتفاضة السورية ضد النظام الاستبدادي في آذار 2011.
إلقاء ضوء سريع على مسيرة ميشيل كيلو الفكرية والسياسية يفيدنا ليس في فهم هذا المناضل القيادي فحسب، بل وفي فهم الثورة السورية التي واكبها منذ البداية كشخصية فاعلة وفي قلب الأحداث، وكانت تحليلاته لظروفها ومراحل تطورها موضع اهتمام الكثيرين من متابعي الشأن السوري.
هل كان كيلو يفتقد إلى الانسجام والثبات في مواقفه وأفكاره؟ هل كان متناقضاً مع ذاته كيساري علماني؟ هل كان مهادناً للإسلام السياسي؟ هل كان مع الثورة المسلحة أم ضدها؟ الإجابة على جميع هذه الأسئلة بما يفيها حقها يتطلب حيّزاً أكبر مما يتيحه مقال رأي موجز كهذا، ولكن الأمر يستحق المحاولة.
الاستقلالية في التفكير هي أول صفة نلحظها في مسيرته الغنية، فمنذ البداية تمكن من التمرد على الدوغماتية الماركسية التي طغت على توجهات وتفكير الكثير من الشيوعيين في العالم العربي وبقية أنحاء العالم، وكان ذلك حين كان طالباً جامعياً في ألمانيا في بداية الستينيات، وهالَه ما رأى من تقدم وحضارة في البلدان الرأسمالية الخارجة قبل عقد ونصف فقط من أتون الحرب العالمية الثانية المدمِّرة. كانت انطباعاته موضوع حوار لاحق عام 1966 مع أستاذه إلياس مرقص المفكر اليساري السوري الكبير، وقد علّق مرقص على ملاحظات تلميذه بقوله: "ليس كل من ينادي بالاشتراكية (والإشارة هنا إلى المنظومة السوفييتية) صار متقدماً على الرأسمالية، والرأسمالية ليست اقتصاداً فقط، فالرأسمالية هي الثقافة، القِيَم، الفكر الفلسفي العظيم ...".
استقلاليته أدّت به إلى مغادرة الحزب الشيوعي، حيث انتقل بفكره إلى موقع ليبرالي يساري علماني وتنويري، وترافقتْ هذه الاستقلالية مع جرأة وأمانة في نقد الظواهر السياسية بما في ذلك الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها المعارضة/المعارضات السورية بعد عام 2011.
منذ عام 2012 كان يحذر من "تسليح الثورة بدون ضوابط ومن الوقوع في مستنقع الطائفية ومن الارتماء في أحضان القوى الخارجية التي لن تَهِبَ الحرية للشعب السوري..."، وكان يشدد على ضرورة "خضوع البندقية للسياسة" وليس العكس، كما حذّر من الاقتتال الداخلي وقبول "المال المسموم"، وكان كلامه هذا بمثابة نبوءة سياسية أضحتْ واقعاً فيما بعد: "عندما دخل العرب وبدأ المال السياسي والتسليح وسُلّمتْ عملية التسليح لأميركا أصبحنا نعمل بدلالة الآخرين. المعارضة بحالتها الراهنة تعمل عند تركيا ..."، وكان دائماً يميّز بين "عسكرة الثورة" وحق الشعب السوري بالدفاع عن نفسه، وهو –بنظره – مقاومة وليس عسكرة، وكان أكثر وضوحاً وجرأة حين قال: "العمل المسلح كان ضد الحرية، ولم يراهن على الحرية، راهن على المشروع الإسلامي ومشروع الدولة الدينية، ولم يؤْمِن أن الشعب السوري واحد، وخرجَ بنظرية أنها ثورة أهل السنة والجماعة، وبقية السوريين للذبح – خونة أم مجرمين أو متعاملين مع الأسد ... إلخ – بمعنى أنه أهدى بشار الأسد ما بين 30 إلى 35% من الشعب السوري".
إلا أن كيلو أيّد الجيش الحروراهن على دوره في هزيمة النظام، ولكن سرعان ما نعى إخراج هذا الجيش من المشهد والقضاء عليه من قِبَل الجهاديين الذين أخرجهم بشار الأسد من سجونه رغم أحكام السَّجن الطويلة التي كانوا يقضونها بسبب انتمائهم للقاعدة والتنظيمات الإرهابية، وكانوا السبب في إنهاء الحراك الشعبي المدني، كما هاجم رفْضَ هذه الفصائل الجهادية (بما فيها جيش الإسلام وأحرار الشام ... إلخ) للقرارات الدولية والحل السياسي.
وحين انضمَّ إلى هيئات المعارضة لم يكن غافلاً عن سلبياتها وقصورها، ولكنه كان ينطلق من إمكانية إصلاحها من الداخل ... إلى أن تبيّنَ له استحالة ذلك، وهكذا انسحب من الائتلاف الوطني في عام 2016، وقال وقتها للعميد أحمد رحّال: "الكتلة المُعَطِّلة في الائتلاف أكبر من الكتلة القادرة على الإصلاح، وبالتالي وجودنا أصبح شهود زور، وعلينا الانسحاب"، وعزا استحالة الإصلاح إلى تبعية الائتلاف وانعدام دوره: " الائتلاف كان دوماً بلا دور، وقد رُكَّبَ لكي يكون بلا دور، وتمَّ تأسيسه كي يخدم أغراضاً خارجية، يخدم تدخلاً خارجياً أو يقدِّم التبريرات ..."، واستمرت قطيعته مع الائتلاف خلال السنوات التي سبقتْ رحيله، وظل يتمسك بتوصيفاته الصريحة عن مآل الائتلاف ومآل الثورة السورية: "الائتلاف لم يعد يمثّل أحداً ولا النظام يمثّل أحداً. الشعب السوري بات في منطقتين: عند المجرم الكبير وشبّيحته وعندنا نحن العاجزين الفاشلين، وبالتالي مصيرنا بأيدي غيرنا".
وقبل وفاته بشهر واحد لخّصَ مأساة الشعب السوري بأن "ما حصلَ كان تمرداً على نظام الاستبداد، وكان يجب تحويله إلى ثورة ... هذا لم يحصل بسبب التيار المتعسكر والمتأسلم"، وقد حمَّلَ هذه الفوضى مسؤولية انفضاض الكثير من دول العالم عن الشعب السوري رغم التعاطف الكبير معه في بدايات الثورة.
لم يكتف بالنقد العنيف والإدانة، بل كان دائماً يحرص على تقديم البديل: "يجب على المعارضة أن ترى تنظيماتها من خلال الشعب الذي قدّمَ مليون شهيد، ويجب ألا ترى الشعب من خلال تنظيماتها"، وبذا كان يؤكد على محورية نبض الشارع السوري كمحور للعمل السياسي وكبوصلة يهتدي بها السياسيون.
من الثوابت في نهج كيلو حرصه الدائم على وحدة سوريا، فمثلاً رغم تعاطفه مع معاناة الأكراد السوريين، إلا أن هذا لم يمنعه من رفض مشروع "الإدارة الذاتية" واعتبره تفيتاً للوحدة السورية: "الإدارة الذاتية ليست حلاً. لن يَقْبل السوريون بحلٍ يُفرض عليهم. الحل للقضية الكردية هو ضمن حل المسألة السورية". وكما شدد على وحدة الأرض، أكّد أيضاً على وحدة الشعب السوري في نضاله من أجل التغيير، وعبّرَ عن ذلك في وصيته الأخيرة: "في وحدتكم خلاصكم".
لا بد من الإشارة إلى أن كيلو لم يكن دائماً منسجماً في مواقفه، ففي السنوات الأولى للثورة رفض المقارنة بين "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش"، واعتبر – لفترة لم تطل – أن التحالف مع "جبهة النصرة" ممكن كونها تتحدث عن "نظام إسلامي انتخابي"، ووقع في خطأ مماثل حين مدحَ "الخطاب الوطني" لفصيل "أحرار الشام".
في مقابل مثل هذه الشطحات الاستثنائية كان كيلو ميالاً – على العموم – إلى الواقعية والحكم على الواقع الملموس كما هو قائم وليس وفق الرغبات والأحلام، فمنذ بدايات الثورة (عام 2012) كان يؤكد على أن أهداف السوريين من أجل الحرية والكرامة والعدالة "لن يقوى على انتزاعها أي حزب، ولن تأتي بها أي جماعة، ولن ينجزها أي مذهب بمفرده، ويتطلب تحقيقها أعلى قدر من الوحدة الوطنية".
واقعيته وقراءته الصحيحة لموازين القوى وللواقع السوري جَعَلَتْه يرفض وَهْم القدرة على إزالة نظام الاستبداد السوري بين عشية وضحاها: "حتى إذا طُبّق قرار الأمم المتحدة رقم 2254 لن يختفي النظام مرة واحدة ... سيزول تدريجياً ... المجلس الوطني صاغ شعاراً سخيفاً قال بإسقاط النظام بكامل رموزه وأركانه ... النظام سوف يتغير تغييراً تدريجياً نحو الديموقراطية ... سقوط النظام بين يوم وليلة يعني سقوط الدولة".
وأخيراً لا بد أن نَذْكُر ميزة مهمة لدى هذه القامة السورية الكبيرة: كان متواضعاً وبعيداً عن الادعاء، "كنتُ في معظم الحالات أقدّم تقديرات قريبة من الواقع، حتى لا أقول صحيحة تماماً".
لقد نعى ميشيل كيلو الكثيرون، بما فيهم أولئك الذين اختلفوا معه في الرأي، والكل أجمع على احترامه والإقرار بمكانته المميزة في المشهد السوري. لقد غادرَنا جسداً ولكن إرثه الفكري والنضالي سوف يعيش طويلاً.

فيصل عباس محمد
أكاديمي سوري-كندي
نُشِرتْ له مقالات في "حوار متمدن" و"العربي الجديد" و TRTworld

@fmohamad2








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة