الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيتهوفن، عبقرية متفردة وحياة جسّدت المأساة

حسين علوان علي
(Hussain Alwan)

2021 / 5 / 8
الادب والفن


بعد أن أطبق الصمم على اسماع بيتهوفن، ووصل به اليأس الى قمته، ذيّل احدى رسائله الى معارفه قائلا في لَجهة تراجيدية لكاتب مأساوي :
" مثلما تذبل وتسقط أوراق الخريف، هكذا تصبح حياتي مجدبة، وهي كانت كذلك منذ ولدت. حتى الشجاعة الكبرى التي منحتني إياها أيام صيف جميلة، اختفت الآن وتلاشت."
لكنّ بيتهوفن رغم الصمم شبه التام، فانه استمر بتأليف الموسيقى.
عام 1770 ومن صلب أب سكير، وأم تعمل خادمة في بيوت الموسرين لتعيل ابناءها، ولد لودفيغ فان بيتهوفن في كوخ حقير بمدينة بون الالمانية.عاش طفولة كئيبة وحياة فقر وفاقة تركت ظلّا ثقيلا على عبقريته المتفردة التي أدهشت الإنسانية بأعمال وألحان موسيقية خالدة ، حدت في القرن العشرين وبعد مائتي عام بوكالة ناسا الفضائية عام 1977 ، لأن تبعث الى الفضاء بتسجيلات من موسيقاه ضمن مشروع للتعريف بابداعات الجنس البشري.
طفولة مريرة تحت سلطة اب ادمن الخمرة كان هو بدوره موسيقيا و مغنيا، عمد بعد ان احس بموهبة ابنه لأن يحبسه في غرفة لساعات من اجل ان يتعلم الموسيقى، لكن بيتهوفن لم يتعلم الموسيقى عنوة، بل لأن جمرة الموسيقى كانت تلتهب في دواخله، لأن الطبيعة حبته بتلك الموهبة العجيبة وكأنها تعويض عما يلاقيه من عذاب. وكانت النتيجة أن أصبح يعمل عازفا في فرقة موسيقية وهو بعمر الحادية عشر، وفي سن الثالثة عشر بدأ بتأليف أول ألحانه، فلم يكن بيتهوفن ممن ينتظرون طويلا إدهاش الآخرين والحيازة على اعجابهم و اثارة دهشتهم. كأن الطبيعة عوضته، وكانه هو بنفسه عوض عما فاته من طفولة بائسة ضائعة، بقبوله التحدي للنجاح في عالم الموسيقى الفن الصعب والمعقد، ووسط فطاحل الموسيقيين الذين شهدت اوربا والمانيا بروزهم في ذلك الزمن، ومنهم موزارت الذي كان بمثابة الملهم والمثال له.
لكن الطبيعة المعطاء حينا والبخيلة خذلته بأن جعلته نهبا للامراض والمعاناة الجسدية، نهبا لنوبات الغضب التي كانت تنتابهه بشكل مرضي يجعله يدمر كل شيء حوله.

للإشارة الى طبيعة الغضب الذي كان ينتاب بيتهوفن طوال حياته، نذكرانه كان يعزف الحانا شجية يوما أمام والدته في المنزل، حدث وان نزل عنكبوت بخيطه من السقف قربه فقامت الأم بضرب العنكبوت و كأنه قطع عليها استمتاعها بعزفه، لكن الغضب التهم بيتهوفن فعمد الى تحطيم الالة التي كان يعزف عليها. غضب عارم لا يرحم لا يتناسب بالتأكيد مع شخصية فنان مرهف الاحساس، لكن هل نستطيع القول انه غضب المسالم؟! لان بيتهوفن لم يكن شريرا ابدا، كان فنانا حساسا ذا مزاج سيء سريع الاهتياج، لا يقبل أي تصرف لا يتوافق مع طبيعته الصعبة القاسية، خصوصا حين يتعلق الأمر بفنه، بموسيقاه حين يندمج معها. لكننا ربما سنتفق أن هذا الطبع متطرف حقا، وغير متوقع على الإطلاق من أعظم موسيقي في العالم.
قد يذهب البعض ان العباقرة كانوا دائما غريبي الاطوار، كانوا متطرفين بتصرفاتهم، يندفعون فيها الى اقصى الحدود، إلى آخر المطاف، هل نتذكر ما فعله فان كوخ مثلا.. لقد قطع أذنه وقدمها هدية لحبيبته، فرانز كافكا الكاتب البلجيكي الكبير كان يستحم بماء مثلج، وكثيرا ما كان يقسو على جسده. هناك الكثير والكثير من الأمثلة مما يجعل تصرفات بيتهوفن الغريبة قابلة للاستيعاب حين نعرف أنها شطحات عبقري لم يعد يرى في العالم حوله غير فنه وابداعه.
تحت الضغوط الجسدية والنفسية التي عانى منها بيتهوفن اضطر الى الإقامة في الأرياف مبتعدا عن المدينة ومعزولا عن الناس، ويوما ما كان يتنزه في غابة قريبة مع تلميذ له اسمه رويس، خلال مسيرتها صامتين تناهت لأسماع روس أنغام ناي كانت تنبعث من مكان قريب ويبدو ان مزارعا او راعيا ما كان يعزف في تلك الخلوة، اعجبت الأنغام التلميذ فما كان منه الاّ ان يسأل استاذه متعجلا ان كان يسمع تلك الأنغام العذبة، كان روس يرفع صوته ليسمعه الأستاذ وقد نسي انه لم يكن
بـ مستطاعه ان يسمع أصواتا تأتي من على البعد. دار بيتهوفن براسه صامتا وبدا انه لا يسمع شيئا، أسقط في يد التلميذ و أصابه حرج كبير حين نسي أن بيتهوفن كان قد أصابه صمم شبه كامل، فبادر قائلا ان عازف الناي قد كفّ عن العزف ولم يعد يسمع شيئا، عادا الى المشي معا صامتين، ولم يكن يقطع الصمت غير أنغام الناي العذبة التي كانت تتدفق دون ان تسمعها ارق الاسماع قاطبة، اسماء استاذه بيتهوفن.
في عُمرِ الـ 26 عام 1796 اخذ بيتهوفن يفقد سمعه تدريجيا، كانَ يُعاني من طنين حادٍّ في أذنيه قلب حياته رأسا على عقب، لكن أبلغ الأثر الذي تركه عليه أن جعل الاستماع الى الموسيقى بشكل طبيعي تجربة شبه مستحيلة، فضلا عن الحرج الكبير الذي صار ينتابه كلّما قابل الناس الذين صار يتجنب محادثتهم.
لا يعرف السبب الحقيقي لإصابته بالصمم، ويُرجّح أنّه بسبب الاصابة بالتيفوس الوبائي ، وحين شرّحوا جُثّته وجدوا التهابا في أُذنَه الداخليّة .
بناءً على نَصيحَة طبيبِه، انتَقل بيتهوفِن في عامِ 1802 للعيش في بلدَة هيلنستات التي تقعُ على مَشارِف فيينا، قرر الانتقال للعيش في الأرياف ليبتعد عن الناس ويواجه لوحده صممه الذي ألمّ به وخذله. خِلالَ تِلكَ الفترة أرسَل رسائِل لإخوتِه عبّر فيها عن نيّته في الانتحار ، كيفَ يستمر بالعيش موسيقيّ ولا يستطيع الاستماع لِما يُؤلّفُه؟ ثم يكتب رسائِل أُخرى يُقرّر فيها أن يتعايَش مع وَضعِه الراهن. وذلك يعني انه كان يصارع يأسه، مرة يتغلب عليه ومرّة يغلبه يأسه.
وبمرورِ الوقت تدهوَر سَمعُه حتى أصبح لا يكاد أن يسمع شيئا. قالوا أنه ألّف السيمفونيّة التاسِعة ( أشهر سمفونية أنتجها موسيقىّ في التاريخ) ولمْ يكن يَسمع مِنها شيئاً، وكأن مقطوعة موسيقية بعظمتها لايمكن أن يؤلفها شخص يسمع كباقي البشر، بل خيال جامح وعبقرية متفردة لاتشبه البشر.
خِلالَ العَرضِ الأوّل للسيمفونيّة عام 1824 وإذ كان يقود الفرقة الموسيقية، وقف كل الجمهور لتحيته بالتصفيق مع الوقوف خمس مرات، وكانوا يلقون بقبعاتهم و مناديلهم في الهواء في محاولة للفت انتباه بيتهوفين الأصم ليراهم. لكنه بقي يواجه الجمهور بظهره حيث كان يقود الفرقة مع موسيقار آخر، سرعان ما قفزت إحدى المغنيات المعروفات المشاركات بالغناء لتنقذ الموقف، فحضنته مهنأة وأدارت به الى الجمهور ليرى عاصفة التصفيق، رأى عاصفة التصفيق بعينيه لأنه لم يسمعها.
ولعلّ في ذلك ما كان يعوضه عن جسامة مأساته ولو لبضع دقائق.
توفي بيتهوفن عام 1827 متأثرا بمشاكل في الكبد عن عمر ناهز الستة وخمسين عام، واقيم له موكب جنائزي شارك فيه عشرات الآلاف من المشيعين، دفن على إثره في مدينة فيينا. بعد أكثر من ثلاثين عام استخرجوا جثته لاجراء المزيد من الفحوصات، وتبيّن انه مات مسموما (دون قصد) بالرصاص الذي كان يحتويه دواء وصفه له طبيبه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟