الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صوفية اللون في حقول وأشجار فاروق قندقجي

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2021 / 5 / 10
الادب والفن


تمثل تجربة فاروق قندقجي الفنية، تحت ما يمكننا تسميته حقول أو انصهارات أو توحّد، أو لا يمكننا تسميته على الإطلاق، إذ لا يمكننا اختزال شموليات الفن كالعادة؛ خلاصةَ شغله المعروف عن اللون، بكينونة اللون في الطبيعة من جهة، وبكينونة اللون الفنية التي تحاول خلق عالم معادل وموازٍ ومتجاوز في ذات الوقت كما هي طبيعة الفن.
وتتجلّى خلاصة هذا الشغل في استخلاص الأبعاد الصوفية للّون خلل تجليّاته التي تعيدنا إلى طقوسية الاستغراق في حضرة النفس أو حضرة من نهوى حيث "تعبث الأشواق"، وحيث نحدّق كما الفيتوري في أنشودة درويشه المتجول "بلاوجه أو نرقص مثله بلاساق"، وشدّ هذه الأبعاد أو مدّها/ لا فرق عبر الطبيعة التي يشتغل عليها فاروق/ الحقول والأشجار هنا، إلى ما يمكن تسميته ببساطة: عودة النفس إلى النفس في استغراقنا الذي لا مجال إلا لحدوثه أمام اللوحة.
السكينة، في هذا اللحن ذو الإيقاع الواحد في الظاهر/ المتعدّد في الجوهر، وغليان النفس كذلك في تموجات السَّكِينة، هو ما تفعله طقوسية زمن اللوحة التي تشي بالفجر أو ما قبل الغروب أو الغبش كي تلغي في دواخلنا الزمن.

انحلال عقد التفاصيل التي تشكلت في الأعصاب من جراء ركضنا اليومي المتشابك،
فضاء النفس مما شغلت، وانفتاحها اللامحدود لاستيعاب ما تتوق إليه، وجرأتُها المتحررة من الخوف على استيعاب الجمال، وإسكانه أو الاتحاد فيه...
هو ربّما بعض ما ينتابنا أمام ما يمكن تسميته بصوفية اللون في اللوحات.
الأحجام الأقرب إلى التربيع، تحرّر السطح مما يحدّه من إطارات، وحدانية اللون وتعدّده، تكوين كل جزء في اللوحة كلوحة، وقياسات التكوين التي يمكن للناقد تطبيقها بعد الاستفاقة إن أفاق من تأثيرات الاستغراق في جمال التجربة... تأتي بعد ذلك أو لاتأتي مع ذلك، كما يحدث لاتجاهات هذا النص الذي يحاول أن يستقصي لكنّه ولحسن حظه يُجبر على أن يعيش:
خارج أنفسنا وداخلها بآنٍ.
جزءاً من كوننا الذي هو جزء منّا بآنٍ.
لوناً واحداً يتشظّى إلى ما لا ينتهي من الألوان.
نوراً وظلاً ينفصلان ليتّحدان.
نقف أمام الحقل لنكون الحقل، نقف أمام الشجرة لنكون الشجرة.

حقول لامتناهية:

إذا كانت الحقول قد وجدت لكي تمتد أمامنا فنشعر بالانفتاح، فإنها أكثر من ذلك في عين الفنان... الحقول وُجدت لتُدخلنا فيها، أو لتُدخلنا في حقول أنفسنا كي نعيش أبعادها...
حقول فاروق في الظاهر هي كما هي الحقول، شاسعةٌ ممتدة، بلون واحدٍ تقريباً وبدون تفاصيل، لكنها أكثر من ذلك في الجوهر... ففاروق الشهير بثراء ألوان تجاربه السابقة، والذي يبخل هذه المرة بمنحنا اللون، سرعان ما يجعلنا نعيش سرّ بخله الكريم عندما نقف أمام اللوحة ويمتزج لونها السرّي الآسر بألوان أنفسنا، فيدفعنا إلى عيش تجربة امتزاج ألوانها باللون الذي منحنا إياه. حقول فاروق تجعلنا ندرك بعد استفاقتنا من استغراقنا أنها منحتنا خلاصة اللون.
ومثل لون حقل فاروق الذي يتفتق بعيشنا لظلاله وإضاءاته إلى ألوان لا تنتهي، كذلك تفعل التفاصيل؛ ففي دخولنا حقول أنفسنا أمام حقل اللوحة، نحن نشعر أو لا نشعر بقوة انجذاب قاهرة تلاشي التفاصيل وتمدّ أنفسنا وتضغطها في ذات الوقت لتجعلنا نعيش كوننا: "جرماً صغيراً في الكون، ولكنْ، ينطوي داخلنا الكون الأكبر الذي نحن جزء منه".

أشجار لمعانقة الروح

شجرة فاروق، تعبير بسيط ربما يصلح عنواناً لتجربة ثرية في صوفية اللون، خاضها الفنان
لتضيف بعداً آخر لمغامرات الفن؛ فزاوية الشجرة التي تتناولها اللوحات الخاصة بالأشجار القريبة، وذات المقاسات الكبيرة المربّعة تقريباً هي زاويا خاصة تقترب فيها الشجرة من العين في زووم مقرب، لتتجاوز العين إلى محاولة الالتحام بالروح، وإدخال المشاهد ليس في تجربة عيش اللوحة فحسب، بل في عيش داخله الذي انفتح على تجربته الخاصة، في تموّجات نور وظلال أسرار كفاف اللوحة واقتصارها الظاهري الخادع من جهة اللون على لون واحد تقريباً، والمتكشّف بتفاعله الكيميائي مع النفس إلى ما لا نهائية درجات اللون كي ينثر ألوانها.
شجرة فاروق في اللوحة الناريّة التي يجذبنا فيها أولاً اللون الناري الدافئ الخاص بغزارة، ثم اللون الصقيعي الرمادي المزرقّ بصقعة برد، تفصل بين عالمين وتوحّدهما في ذات الوقت، كما لو أنها تلمس تضادّ أنفسنا لتلعب معها لعبة وحدة وصراع الأضداد، وكما لو أنها تجعلنا نلمس صقيع حياتنا لتجعلنا نهرب منها إلى دفء دواخلنا، نلوذ به، ونتّحد فيه.
شجرة فاروق في لوحتين تبدوان متشابهتين لكنهما ليستا أبداً كذلك، هي هيئة شجرة، فقيرة ظاهرياً بالتفاصيل، وربّما فعلت كأي عمل تجريدي تعبيري على إثارة بعض إيحاءاتنا التي نفسرها وفقاً لما يثيره تشكيل الشجرة مع فضائها، مثل كفل المرأة الذي يجعلنا نعيش أسطورة التفاحة لنقول إن هذه الشجرة هي شجرة الحياة، من منظور فاروق، لكنها في الجوهر تفعل أكثر من ذلك؛ فهنا تختفي التفاصيل الظاهرية للتشكيل كي تدفعنا لعيش تفاصيل أشجار أنفسنا الخاصة.
أمام شجرة فاروق نحن داخل شجرته، وداخل شجرة أنفسنا بآن. وتثير تشكيلات ظلال اللون وإضاءاته هواجسنا، مخاوفنا، تعاساتنا، هناءاتنا، تناثر وتلملم شظايا انفعالاتنا.
شجرة فاروق تفتح لنا، ونحن فيها، نافذةً واسعةً مخيفة على أنفسنا، وعلينا أن نمتلك جرأة عيشها لنعيش كثافة سعادة هذه التجربة المدهشة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع