الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قلوب تحترق.. قصة قصيرة

حسن الشامي

2021 / 5 / 13
الادب والفن


كانت.. طفلة صغيرة حينما وجدت والدها يبث في أذنها هذه الكلمات التي لا يتغير معناها وإن تغيرت الألفاظ من يوم لأخر : "أمك خائنة.. أمك خائنة"..
ولم تدرك الطفلة حتى سن متأخرة مغزى هذا الكلام.. ولكن كل ما تدريه هو أن والدها عندما كان ينطق هذه الكلمات كانت شفتاه ترتعشان وعيناه تتأرجح عليها العبرات ولسانه يهتز وكأن كل هذه الأعضاء والحواس تكذبه وتفند كلامه.. وتقول له : "أنت كاذب.. أنت مخطئ.. وأنت.. وأنت".
............

كانت الطفلة في حيرة من أمرها.. لا تدري هل تصدق والدها ؟! ولم لا ؟! وهي لم ترى أمها أبدا.. وربما حكم عليها الله ألا تراها طوال عمرها..
وكثيرا ما كانت تسأل نفسها : لماذا لكل هؤلاء الناس سواء الأطفال أو الكبار أمهات وهي ليس لها أم ؟!!
وهذا السؤال كان دائما يدور في رأسها وهي طفلة في الحضانة.. فكل طفلة في مثل عمرها كانت تأتي الحضانة ومعها أمها تمسك بيدها وتحمل عنها الحقيبة وتقدم لها السندوتشات وزجاجة الماء وتؤكد عليها : "اسمعي كلام المدرسة.. وخلي بالك من نفسك !!".. بينما هي ليس معها أمها وكان أبوها يحملها كل يوم على يديه للحضانة ويتركها هناك متوجها لعمله.. ويأتي أخر النهار ليعود بها إلى المنزل..
............

وكانت تدور في ذهنها أسئلة كثيرة :
ـ لماذا في الأعياد والمناسبات يذهب الأطفال إلى الحدائق والمتنزهات مع أمهاتهم وأخواتهم.. وهي تذهب مع أبيها فقط فليس لها أم ولا أخوات..
ـ وكانت تسأل نفس الأسئلة للأطفال في مثل عمرها.. ولا تجد إجابة من أحد..
كل هذه الأسئلة وأمثلتها ارتسمت في مخيلة الصبية وبدا في الأفق وكأن شيئا مبهما لا تعرفه الصبية.. وأصبحت على شئ غير قليل من الإبهام ومن الحيرة وريما الدهشة والعجب من أمرها..
كل الأطفال تنادي أمهاتهم : ماما.. ماما.. وهي لا تعرف حتى مجرد صورة ماما..
............

وعندما كبرت الطفلة كانت تسأل نفسها : ماما أين أنت ؟!! وكانت تحلم بها ولكن لا تذكر ملامحها عندما تستيقظ من النوم.. كل يوم حلم جديد بأم جديدة بملامح جديدة ولكن لا تستطع تحديد ملامح أمها وسط كل هذه الأحلام..
وكانت تصرخ وهي تحلم.. وتردد كلمات غير واضحة.. ولكن كان والدها يستيقظ فزعا على صراخها..
ويردد "أمك خائنة.. أمك خائنة".. حتى ينال منه التعب.. ويأخذه الإجهاد فيرتمي في السرير حتى الصباح..
وتتكرر نفس الأحداث على فترات متكررة.. والصبية تكبر وتكبر معها المأساة والوالد مازال يعاني من أثر صدمته..
............

وتحاول الفتاة أن تعود بالأحداث للوراء وتتخيل أمها ولو مجرد صورتها.. وتخيلتها فتاة جميلة في مقتبل العمر.. ولم لا ؟؟ وهل أبنتها غير جميلة ؟؟ كما أن كل طفلة تتخيل أمها جميلة الجميلات..
وتتخيل الفتاة أمها ذات قوام بديع رشيق.. وكانت الفتاة ذات قوام رشيق.. وكثيرا ما كان الشباب بالطريق يهمسون بكلمات "جميل والله".. "يا سلام على الجمال".. "مفيش أحلى من كده"..
وتخيلت الفتاة والدتها مثل كليوباترا على حظ كبير من الحسن والجمال.. ولم لا ؟!! وهل ترضى الفتاة أن تكون أمها أقل حظا من كليوباترا في الجمال ؟ وهل ترضى الفتاة ابنة السادسة عشر من عمرها أن تكون هناك امرأة أجمل من أمها ؟!
وتخيلت أمها.. ماذا تخيلت أكثر من ذلك ؟ أنها تخيلتها أجمل من الجمال نفسه.. تخيلتها.. ولم تخيلتها ؟! بل هي تيقنت ذلك يقينا.. وأمنت بذلك إيمانا راسخا.. أن أمها أجمل امرأة في العالم !! ولم لا ؟! ولم لا ؟! ليتها كانت موجودة حتى تتحدي كل حسود غيور..
...........

وتمر السنوات وما أسرع ما تمر السنوات.. والفتاة الآن في الثامنة عشرة من عمرها.. وجاءها الخطاب من كل حدب وصوب يطلبونها من والدها.. ووالدها يرفض.. ولا تدري الفتاة لماذا يرفض ؟؟
ولكنها كانت متأكدة أنه بريد مصلحتها ولن يختار لها إلا أفضل عريس.. الشاب المناسب الذي يطمئن له وتعتمد عليه ويجعلها سعيدة.. أليس كل أب يريد لأبنته الخير كل الخير والسعادة كل السعادة ؟!!
وظلت الفتاة على هذا الوهم الجميل والظن اللذيذ حتى تزوجت كل الفتيات حولها وفي مثل عمرها ومع كل واحدة منهن طفل أو طفلان من زوجها إلا هي..
وتبدأ الفتاة في التساؤل :
لماذا كل من حولها لهم أمهات وهي لا ؟ ولماذا كل من حولها لهم أبناء وهي لا ؟ ولم تجد الفتاة الإجابة.. ولم تجد في نفسها الشجاعة لتسأل والدها..
...........

وتزداد حيرة الفتاة أكثر فأكثر.. وتتذكر قول والدها الذي ما فتئ يذكرها به : "أمك مجرمة.. أمك خائنة..".
وتبكي الفتاة بحرقة شديدة لتنفث عما بصدرها منذ عشرة أعوام أو تزيد.. منذ وعت على هذه الحياة.. وهي لا تسمع من أبيها غير "أمك خائنة".. ومنذ أن عرفت أن لكل الأطفال أمهات تعطف عليهم ما عدا هي.. ومنذ أن عرفت أنها جميلة وماذا يفيد الجمال وهي ليس معها أطفال مثل كل الفتيات في مثل عمرها ؟!!
ولم تجد الفتاة في نفسها الشجاعة لتسأل والدها ما يدور بصدرها من من أسئلة حائرة لا تدري لها جوابا..
...........

وذات يوم.. تشجعت وسألت والدها ذات بوم :
ـ حبيبي يا بابا..
ـ نعم يا روح بابا ؟!!
ـ أين أمي ؟ أين هي ؟
فلا يرد الأب.. فقد أصبحت الآن تفهم وتعي.. وتعاود الفتاة السؤال في حيرة واندهاش :
ـ بابا ؟!!!..
فلا يرد الوالد.. ولكنه يعود إلى الصمت..
وتلح الفتاة في السؤال.. ويلح الأب في الصمت والإفراط فيه.. ويبدو على وجه الوالد شئ من الحيرة والاندهاش.. وتمر الحيرة والاندهاش سريعا على وجهه عندما علم أن أبنته أصبحت تفهم المشاعر والأحاسيس.. حتى مجرد العلامات التي تظهر على الوجه.. ويولي الوالد هربا منها إلى دورة المياه يبكي في صمت ويغسل وجهه ويجففه ويسر في أذن أبنته حديثا يظهر بعده السرور على وجهها فتذهب إلى حجرتها وتبدل ثيابها سريعا.. وتصحب والدها من ذراعه وتخرج معه من البيت مسرعة حيث عزما أن يقضيا يومهما..
...........

كان يوم الجمعة الثانية من شهر مارس.. وفصل الربيع على الأبواب.. واليوم مشمس وجميل.. ويتجول الوالد مع فتاته في الحديقة بين الزهور اليانعة.. والأشجار الوارفة.. وشمس الربيع الدافئة..
ما أروع التنزه مع أجمل ابنة في العالم.. هكذا كان والدها يفكر وهو يسير بجوار ابنته واضعا يده فوق كتفها.. وكانت تفكر "ما أجمل الأيام معك يا والدي".. ثم أشارت إلى زهرة بنفسج جميلة ذات الرائحة العطرة.. فأومأ والدها بحنان.. فتسرع الفتاة نحو الزهرة فتقطفها بحنان ودلال وتشمها بسرعة وتقدمها لوالدها في رقة بالغة وأناقة شديدة..
...........

ويقترب الوالد من الفتاة ويشم الزهرة وتراجع إلى الخلف قليلا وكأنه تذكر شيئا ما.. ويظهر على وجهه الفزع.. ويظهر على وجه الفتاة الدهشة فتسأل والدها :
ـ ما لك يا بابا ؟؟.. فيه أيه ؟!!
فيجيب الوالد وهو يتحاشى النظر إليها :
ـ أبدا.. لا شئ..
ثم يسيطر على شعوره ويكبت ما في نفسه.. كبت ما كان يشعر به.. وما كان يعاني منه..
هكذا هو دائما يسيطر على مشاعره ولا يبوح بها.. وكان ذلك سببا كافيا أدى إلى انتشار خصلات الشعر الأبيض في رأسه على الرغم من أن سنه لم يتجاوز الأربعين عاما..
وربما كان ذلك سببا في انتشار التجاعيد في وجهه بوضوح ظاهر تجعل عينيه غائرتين ويحيط بهما هالات سوداء.. ونظرات عينيه تبدو فيها الحزن رغم ما يشع منهما من ذكاء وفطنة..
ولم تقتنع الفتاة برد والدها.. فاقتربت منه واقتربت حتى لامست وجهه بوجهها.. ثم طلبت منه وألحت عليه كثيرا ليقول لها السبب.. ولكنه تمالك نفسه وظهر الحزن واضحا عليه.. فلم تشأ أن تكدر عليه صفاء هذه النزهة.. فصمتت ولاذت بالسكوت !!!
...........

وحينما عادت الفتاة إلى البيت مع والدها.. لم تشأ أن تناقشه فيما حدث.. وأحست أن والدها معذور ولديه أسبابه الخاصة لما يفعله معها..
وفي الصباح بعدما تركها والدها وتوجه لعمله وأصبحت وحدها.. قررت أن تدخل حجرته وتبحث عن أشياء لا تعرفها..
فوجدت فوق مكتبه مفكرة مفتوحة وبداخلها قلم.. ولم تذكر مرة أن والدها كان يتركها هكذا.. فلقد كان حريصا على ألا ينسى شيئا ـ وخصوصا هذه المفكرة ـ خارج الدرج..
وسألت نفسها : لماذا ؟؟ ما الذي حدث بالأمس ؟؟
كما لاحظت أن والدها كان يسهر كل يوم لساعة متأخرة من الليل في حجرة مكتبه.. ثم يجئ إلى حجرة النوم فيغطي أبنته.. وينام بجوارها.. ولكن بالأمس لم يحضر لغرفتها.. ولم يوقظها كعادته مثلما يفعل كل يوم.. ولم تجد ملابسه ملقاة على السرير لترفعها على الشماعة مثلما تفعل كل يوم..
..........

وفتحت الفتاة مفكرة والدها.. ووجدت في الصفحات الأولى مجموعة من الأرقام ـ مجرد أرقام ـ متناثرة ليس لها معنى أو دليل.. وبدأت الفتاة تتصفح المفكرة ورقة.. ورقة..
ولكن مع استمرارها في تقليب صفحات المفكرة وجدت كلاما كثيرا منمقا وبخط جميل.. وكلمات عديدة مثل : ذكرى.. لماذا.. أحزان.. احتراق.. تحيات.. أشواك.. حدائق.. عبير.. وكلمات كثيرة مثلها ولكن لم تفهم مغزاها..
ظنت أول الأمر أن هذه الكلمات كتبها والدها تمهيدا لكتاب سوف يكتبه قريبا.. وهي تعرف أن والدها يحب كتابة بعض الجمل التي تصادف هوى وميولا في نفسه فيدونها.. ويحتفظ بها.. ولكن لم تستطع أن تذهب بفكرها إلى أكثر من ذلك.. وكيف لها ذلك ؟
..........

ثم أخذت تقلب صفحات المفكرة المتشابهة بقلة اكتراث.. ولم تشأ أن تتعب نظرها في قراءة كلمات لا تفهم معناها.. وأخذت تقلب الصفحات دون اهتمام حتى وصلت إلى نهاية المفكرة فوجدت ورقة من زهرة البنفسج جافة وبين صفحتين وبنفس الخط المنمق والكلام الدقيق.. ولكن الذي لفت انتباهها هو هذه السطور التي انمحت كلماتها فلم تظهر إلا أثار الحبر الذي كتبت به.. وكأن قد سقط على هذه السطور ماء منذ زمن غير بعيد.. وربما يكون بالأمس.
وأمسكت الفتاة بزهرة البنفسج الجافة التي سرعان ما تكسرت بين يديها.. فأحمر وجه الفتاة خجلا وخوفا.. فوضعت بقايا الزهرة برفق وتأن وكأنها تكفن ميتا..
ثم أغلقت المفكرة في رفق.. ولم تشأ أن تتصفحها بعد ذلك.. أن البكاء كان قد غلبها والدموع بدأت تسيل على خديها بغزارة..
..........

وجاء والدها كعادته صامتا ولكن في عينيه شئ لم تعهده الفتاة من قبل.. وربما في قلبه شئ لا تعلمه.. واستقبلته الفتاة بشئ من التكلف على غير عاداتها من قبل.. ولم يلحظ الوالد ذلك لشدة ما هو فيه.. وإن لحظ ذلك فلن يعلق عليه أدنى تعليق.. لأنه سيقابل ذلك بالصمت والسكوت كعادته..
وأحست الفتاة بالرضا والسخط في أن واحد.. بالرضا لأن والدها لن يلحظ ولم يقل شيئا.. وبالسخط لأنه لم يظهر بعضا مما يخفيه.. ولم يقل شيئا مما تود أن تعرفه منه..
وتحملت الفتاة هذه الحياة بالحلو والمر معا.. ولم يكن هناك حلو.. وما أشد ما كان من مرارة.. وتمر الأيام بطيئة جدا ولا تدري لماذا تمر هكذا ؟؟ لقد عهدت الأيام دائما تمر سريعة.. فلم هي لا تسرع الآن.. وكأنها قد تعمدت الإبطاء!!!
وخرجت الفتاة من منزلها مسرعة إثر محادثة تليفونية من والدها يطلب منها الحضور لمقر عمله لأنه يريدها لأنر هام..
وتساءل الفتاة وتستفسر من والدها في التليفون.. ولكن والدها يقول لها :
ـ لا تضيعي الوقت.. وأحضري بسرعة..
فلم تجد الفتاة مناصا من الرضوخ لأنر والدها.. وتنهي المكالمة وتغير ملابسها مسرعة.. وتندفع نحو الشارع مسرعة.. وتتجه إلى موقف السيارات.. وتستقل السيارة التي كانت منتظر راكبا واحدا.. والتي سرعان ما تحركت بالركاب.. وتقف السيارة في نهاية خط السير وينزل جميع الركاب مسرعين مثلها.. واندفعت الفتاة مسرعة لتلحق بسيارة أخرى على الجانب الأخر من الشارع.. ولكن ما أسرع القضاء.. فلم تلحظ السيارات المسرعة التي صدمتها قبل وصولها وهي في قلب الطريق.. وتلفت المارة حولهم عندما سمعوا صرخة مدوية من الفتاة الملقاة وسط الطريق.. ونظروا إلى الجسد المقطع أمامهم.. ثم تمتم كل منهم بكلمات غير مفهومة.. ومضى كل منهم في طريقه.. وهو ينفض يديه أسفا وحزنا وإشفاقا وعطفا..
..........

وفي مقر العمل.. كان والدها هناك يصارع سكرات الموت إثر حادثة حدثت له أثناء العمل.. وكان عدد من زملاءه ملتفين حوله وبجوارهم مظروف أصفر كبير مغبر به أوراق أوصى الرجل بإعطائه لأبنته عندما تحضر!!!
..........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية