الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هبَّة فلسطين الحالية.. فرضٌ لمسيرة جديدة

حلا مرشود

2021 / 5 / 15
القضية الفلسطينية


تشهد فلسطين في الأيام الأخيرة هبَّةً ممتدة، تذكِّرنا بعض مشاهدها بمشاهد الانتفاضتين الأولى والثاني اللواتي تربَّينا على ذكراهما وصورهما. بعض المناطق منحتك الشعور اللحظي بأنك قد تحررت بالفعل، إذ كانت أعلام فلسطين لا تزال ترفرف على شارات المرور، وآثار المواجهة مرئيةً على الشوارع. إن ما بدأ في القدس استمر ليُشعل شرارة المواجهة والنضال في كل فلسطين وليدشِّن مسيرةً جديدة نحو الكرامة. وبالرغم من أن القدس كانت الشعلة الأولى، إلا أن المشهد الذي نراه اليوم هو وليد تراكم الغضب والحقد لدى شعب مسحوق يعاني من التهجير المستمر، والإفقار، والقمع، والفقدان المادي والمعنوي سببه سنوات من الاستعمار.

وقد يكون أعظم ما فيها أنها هبَّةٌ في كل فلسطين، في القدس والضفة والأراضي المحتلة عام 48 وغزة. إن لهذه الوحدة معانٍ سياسية في غاية الأهمية، إذ أن سنوات الاستعمار الطويلة قد شرذمت شعبًا بأكمله، شتتته وقطعت أوصاله، وحرمته من أن يحلم بشكل جماعي، وأن يعيش بشكل جماعي، وأن يواجه بشكل جماعي. لقد توحدت فلسطين بالنضال، وهي وحدة ضرورية لمحاربة الصهيونية ولنزع الاستعمار. بالإضافة، الملفت للانتباه هو أيضًا التحركات العفوية التي شهدتها البلدان، والتي تحركت دون وجود قيادة ولا مشروع سياسي واضح، بل كانت بغالبيتها تحركات فردية أو تحركات لحراكات مختلفة استطاعت أن تحشد الناس واستطاعت كل مشاركة فيها أن يأخذتأخذ دورها.

القدس.. شعلة أولى للمواجهة
بدأت الشعلة الأولى في باب العامود في القدس المحتلة، حينما انتفض شبان وشابات المدينة على نصب قوّات الاحتلال حواجز حديدية في درجات باب العامود، وعلى مسيرات استفزازية للمستوطنين في محيط باب العامود والبلدة القديمة، وهي أكثر منطقة مركزية وتكون عامرة بأهلها خاصةً خلال فترة رمضان، حيث يملأ المكان أهالي المدينة بعد الإفطار.

جرى كل ذلك بينما كانت أربع عائلات من حي الشيخ جرَّاح في القدس ترسل رسالةً إلى فلسطين والعالم بإنقاذ بيوتها من المستوطنين. حي الشيخ جرَّاح هو حيٌّ رئيسي في القدس، حيث أنه يربط بين أجزاء المدينة المختلفة. منذ عام 1967 حتى يومنا هذا، يشهد الحي عمليات تهجير واستيطان عملت على شرذمة الفلسطينيينات، وقطع الارتباط بين شرق المدينة وغربها، وتهويد المنطقة، فقد بنى الكيان الصهيوني على أراضي الحي وحداتٍ وأحياءً استيطانية ومبانٍ لجمعيات استيطانية ومقرًا مركزيًا للشرطة الإسرائيلية. أما عن ما يحدث الآن فهو استمراريةٌ لهذا الواقع، إذ أن العائلات الأربع، سكافي وجاعوني والكرد والقاسم، والتي تقطن في منطقة “كرم الجاعوني” في الحي، تعاني من خطر التهجير القسري على يد شركة خاصة أسسها مستوطنون تدعى “نحلات شمعون“، والمملوكة لرأس مال صهيوني في الولايات المتحدة. ينوي المستوطنون بناء 200 وحدة استيطانية في المنطقة، ولن يقع ضحيتها العائلات الأربع فقط، بل عائلاتٌ أخرى ستكون تحت خطر التهجير في المستقبل القريب، وهم ما يقارب الـ500 شخص. لم تقف العائلات، والتي نجحت بإيصال القضية إلى العالم، لوحدها، فقد انضم إليها يوميًا المئات من جميع أنحاء فلسطين والذين توافدوا إلى الحي لمنع المخطط الاستيطاني، وواجهوا قوات الاحتلال القامعة.

وبينما شهد الشيخ جرَّاح تفاعلًا محليًا وعالميًا غير مسبوق، استمرت القدس بنضالاتها ليشهد المسجد الأقصى في يوم الاثنين العاشر من مايو أشد المواجهات مع قوات الاحتلال والتي استمرت لساعات طويلة، حيث صمد الشبان أمام الرصاص المطاطي وقنابل الغاز والصوت، ومنهم من أُصيب إصاباتٍ دائمة وصعبة في العين والرأس، ومنهم من اعتُقِل. في هذا اليوم، من المعتاد أن يحتفل الصهاينة في ما يُسمّى بـ”يوم توحيد القدس”، أي اليوم الذي احتلت فيه القوات الصهيونية الشق الشرقي من المدينة. وبالعادة، تقوم جماعات المستوطنين بمسيراتٍ كبيرة في محيط البلدة القديمة وتقتحم الأقصى، بينما يُمنَع الفلسطينيونات من التواجد في المنطقة. لكن هذه المرة اختلفت المعادلة، إذ أن صمود ومواجهة القدس طيلة هذه الفترة، وانطلاق مظاهرات في أماكن مختلفة من فلسطين أدَّى الى قرارٍ إسرائيلي رسمي بتغيير مسار مسيرات المستوطنين وبمنع اقتحاماتهم للأقصى، وهو سابقة كبيرة وتُعد انتصارًا لشبان وشابات واجهوا بقوة ليحموا بيوتهمن ومقدساتهمن ورموزهمن.

توسُّع المواجهة والنضال.. صفعة أخرى على وجه الصهيونية
لم تتمكَّن المؤسسة الصهيونية، والتي تتفاخر بقوتها العسكرية أمام العالم، من “السيطرة” على تحركات الجماهير الفلسطينية، إذ استمرت المواجهات في الأقصى وباب العامود، وامتدت إلى كل فلسطين، لينضم إليها عددٌ هائل من البلدان في الضفة وأراضي الـ48، حيث اندلعت مواجهات طويلة، وهي مواجهاتٌ أربكت المؤسسة الصهيونية بأكملها، خاصةً في الأراضي المحتلة عام 48 والتي حاولت المنظومة على مر السنين أن تصهر وعيها وأن تسلخها عن القضية الفلسطينية، إذ وجدت نفسها خاسرةً أمام شبانٍ وشاباتٍ خرجوا إلى الشوارع وبوصلتهمن واضحة.

لقد انتفض الناس بوجه كل عناصر المنظومة الاستعمارية، بوجه الشرطة التي تسعى لضبطنا أمنيًا، وبوجه كاميراتها التي تستهدفنا، وبوجه أصحاب رؤوس الأموال الصهاينة الذين استولوا على بيوتنا ليفتحوا مشاريع ربحية، وبوجه مجتمع المُستَعمِرين بأكمله. بالإضافة، شهدت الأيام الأخيرة اعتداءاتٍ قاسية جدًا من قبل المستوطنين على بيوتنا وأحيائنا داخل المدن المختلفة. وبالرغم من الخوف والقلق الشديدين، إلا أننا استطعنا أن نوفِّر حمايةً جماعية وفورية لبعضنا البعض، وهذا مؤشرٌ مهم على قدرتنا على أن نتنظم عفويًا بشكل شعبي لنساند بعضنا البعض. ومن الجدير بالذكر أن جزءًا مما نراه اليوم هو تراكم لتحركات سابقة استهدفت الشرطة الصهيونية ودورها في استشراء العنف والجريمة في المجتمع الفلسطيني، أي أن المجتمع الفلسطيني في الـ48 بات يعي أكثر شكل علاقته مع هذه منظومة الشرطة الصهيونية ودورها في تفتيت المجتمع وفي خنقه.

وبينما شهدنا ونشهد الآن مواجهاتٍ كثيرة في أراضي الـ48، مع شرطة الاستعمار ومع جميع المستوطنين، في قرى ومدن النقب والجليل وفي عكا وحيفا والناصرة، سنستحضر هنا تجربة اللد كمثال، لأنها حالة توضِّح كيف عاش الفلسطينيونات النكبة، ولا يزالون يعيشونها، بكل تفاصيلها ولماذا انتفضوا بهذا الشكل. لقد شهدت اللد أقسى وأكبر المجازر خلال النكبة في عام 1948، حيث عاشت المدينة قصفًا عنيفًا جدًا سقط فيه العديد من الضحايا خلال عملية “داني” التي هدفت إلى تطهير مدينتي اللد والرملة عرقيًا. أطلقت الوحدات الصهيونية النار على كلِّ من تحرَّك من بيته، وأطلقت النار على آخرين حاولوا أن يحتموا بالمسجد ليسقطوا ضحايا لنيران القوات الصهيونية. لم يبق في اللد إلا 1000 شخص من أصل 50 ألفًا، ونقلتهم “إسرائيل” إلى تجمُّعين مُغلَقين وأحاطتهما بالأسلاك الشائكة، ليعيش أهالي المدينة في جيتوهات تحت ظروف قاهرة جدًا. لم تتغيَّر ظروف الناس مع الوقت، بل استمروا بالعيش في جيتوهات وتحت فقر شديد وشبح التهجير وهدم البيوت المستمر يلاحقهم، بينما يعيش الإسرائيلي في المدينة برفاهية تامة. انتفضت اللد كغيرها في الأيام الأخيرة وقدَّمت شهيدًا، حتى أتت اللحظة التي اعترفت بها “إسرائيل” أنها غير قادرة على السيطرة على الأوضاع وأمرت قوات حرس الحدود الفاعلة في الضفة الغربية بالانتقال إلى المدينة، وأعلنت حالة طوارئ لم تشهدها المدينة منذ عام 1966، وأعلنت حظر التجوّل من الساعة الثامنة مساءً وحتى الساعة الرابعة صباحًا، وقامت بإخلاء السكان اليهود لحمايتهم. إن اللد، التي حوَّلتها “إسرائيل” مع الزمن إلى بؤرةٍ للمخدرات والإجرام، أصبحت من أشد وأقوى البلدان المنتفضة.

وبالإضافة إلى أراضي الـ48، علينا أن نتذكر منظومةً أخرى نواجهها، وهي ليست منفصلة تمامًا عن المنظومة الصهيونية، ألا وهي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، التي قمعت مظاهراتٍ انطلقت في مناطق عدة من الضفة. لم يكن مُستهجنًا الدور الذي تلعبه السلطة، كما ولم يكن مُستهجنًا صمتها الهائل لما يحصل في القدس، لأنها ببساطة مؤسسة قمعية لا تعبِّر عن الرغبات السياسية لعموم الشعب، وتؤدي دور الذراع الأمني للمنظومة الصهيونية في الضفة، والتي تفيد الاحتلال وطبقة رؤوس الأموال الفلسطينية، وهذا ليس مجرد شعار، بل هو حقيقة لا يمكن إنكارها حين تقوم السلطة بالتنسيق أمنيًا مع “إسرائيل” وحين تقمع أيِّ تحركٍ سياسي جذري.

غزة- لن تُترك وحيدة
انطلق أول صاروخ من غزة إلى محيط منطقة القدس يوم الاثنين الساعة السادسة. ومنذ ذلك الحين، قصفت “إسرائيل” بيوتًا عديدة وأطلقت غاراتٍ مكثفة سقط ضحيتها عائلاتٌ بأكملها والعديد من الأطفال، واستمرت بالتهديد أنها ستوسِّع العملية وستكثِّف من عدوانها. لقد دار جدلٌ حول جدوى إطلاق الصواريخ، إذ أن قسمًا يعارض تحت الادِّعاء بأن المقاومة التفت على التحركات الشعبية في القدس، بينما أكَّد آخرون على دعمهم الكامل لقوات المقاومة وقراراتها، وهناك من عبَّر عن قلقٍ تجاه الثمن الذي سيدفعه أهالينا في غزة جرَّاء إطلاق الصواريخ. لن نخوض في تفاصيل هذا النقاش بعمقٍ هنا، لكن يهمنا أن نؤكِّد على أن من يتحمَّل مسئولية ما يحدث في غزة هو الاحتلال، الذي فرض حصارًا طويلًا عليها وعدواناتٍ قاسية أزهقت أرواحًا كثيرة وقضت على أيِّ عنصرٍ من عناصر العيش الكريم أو حتى الطبيعي فيها. بالاضافة، ولأننا نعلم أن أهالينا في غزة يعيشون الآن تحت القصف الإسرائيلي الشديد والعنيف، والذي من المتوقَّع أن يشتد أكثر، فإن ما علينا فعله هو التأكيد على أننا سنحميهمن وسنستمر في نضالنا ومواجهتنا كي نضمن ذلك.

خاتمة
تستشرس “إسرائيل” كل مرة أكثر وأكثر لأن ممكناتها قد ازدادت، ومن العوامل التي تساعدها على ذلك هو تعزيز علاقاتها وتطبيع وجودها في المنطقة وفي العالم. وبينما تتفاخر “إسرائيل” وصديقاتها بقوتها الهائلة، إلا أنها لم تصمد أمام شعبٍ عطش للحرية والكرامة. أثبتت الأحداث الاخيرة أن شعبنا بات يعرف تمامًا أن تحرُّر فلسطين لن يحدث إلا بتجاوزنا للشرذمة وبحماية بعضنا البعض وبخلق نماذج مواجهة قادرة أن تتخيل كل فلسطين حرّة.

نحن لا نعرف كيف سيستمر هذا التحرك، لكن بإمكاننا أن نرى نسجًا لنهجٍ جديد من الممكن أن يتبعه الشعب الفلسطيني في أيِّ مواجهة حالية أو مستقبلية مع الكيان الصهيوني. ونهايةً، ولأننا نرى أنفسنا امتدادًا طبيعيًا للشعوب العربية ونضالاتها ولنضالات كلِّ الشعوب المُستضعفة، نحن نؤمن أن أيَّ محاربة جماعية للتطبيع العربي-الإسرائيلي ستدعم القضية الفلسطينية وستدعم أيضًا جميع شعوب المنطقة التي تطمح للتحرر والعدالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا