الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اوجاع الوردة-الفصل الثامن

نبيل ياسين

2006 / 8 / 5
الادب والفن


اوجاع الوردة
سيرة قصيدة .. سيرة راي
الفصل الثامن

طرق لاتنتهي


كأن القدر قد اقام صخرته الهائلة على الطريق ، وكان لابد لنا ان نتوقف لكي نجتاز تلك الصخرة القدرية التي سقطت مثل نيزك هائل في صباح يوم بعيد. كانت الامبراطورية تعد طرقها الاولى : مراسيم جمهورية وقوانين واحكاما ولافتات على الجدران . عام 1969 صدر قانون سوق البشر الى الثكنات : بغداد تتحول الى اسبارطة . رائحة التقدم ومعاداة الامبريالية اضفت على اجحافنا لونا ورديا . واعترف النظام بالمانيا الديمقراطية لكي يسهل عليه استيراد آلات التعذيب وخبراء الامن . كنت في بداية عملي الصحفي في جريدة الثورة حين طلب مني سكرتير التحرير ان اجرب كتابة افتتاحية . كان ودودا وهو يطلب مني ذلك مقدما لي عونا . ولما قلت له انني لست حزبيا ولا انتمي لحزب السلطة قال : لهذا بالضبط . كان يريد رائحةيسارية لافتتاحيته مليئة بمفاهيم اليسار الدولي في تلك الازمان.

وسأتذكر بعد ذلك بسنوات ، المصاعب التي كنت الاقيها الاقيه حين ادخل البلاد التي كتبت افتتاحية الاعتراف بها. كانت عينها ماتزال على ذلك النظام, فما ان عدت من المانيا إلى بيروت في نهاية عام 1980 حتى انهت اقامة زوجتي وابني ذي السنوات الاربع على اراضيها. لكني عرفت فيما بعد ان مسؤول التنظيم الشيوعي العراقي في المانيا هو الذي رحلها محتجا بان الالمان لايحبذون اقامتنا في المانيا, بينما اقام وقبيلته فيها إلى الان.
كان التحول يتطور الى قبضة حديدية . وكانت الشوارع تبدو هادئة نوعا ما بعيدا عن احواض الاسيد الذي كانت اجهزة النظام تقوم بتشييدها في مقراته الامنية . عاشت البلاد آنذاك عالمين متناقضين : العالم المرئي البارز للعيان وهو يتلون بلافتات عيد العمال وقانون العمل وقانون الاصلاح الزراعي وغيرها من قوانين لم تكن حبرا على ورق ، انما كانت مقدمة شاملة لهيبة الدولة وسلطة الحزب . والعالم السري المخفي الذي كان يجري في اقبية اجهزة الامن وترسم حدود مساره المنفلت بحذر شديد كي لايطفو على السطح. ما كان لي في ذلك الوقت سوى الشعر . كنت اواصل كتابته اثناء عملي في الجريدة ، واثناء صعودي الى الطابق الاعلى من الباص الليلي الاخير حيث كنت غالبا ما اجد نفسي وحيدا فيه في رحلة تمتد قرابة الساعة وانا انظر الى الليل الواسع الممتد حتى عبر الانوار الطالعة من نوافذ بيوت بعيدة عن الشارع. الشعر والحب هما ما طبعا ذلك العام تحديدا بطابع الفرح والخيال والالفة والحلم والامل والتحدي والتجدد . كنت اقضي الوقت غارقا في الشعر ، وفي صحبة كتب واحلام من جهات و عصور متباعدة. كنت امثل جيلي، لحد ما، في احلامه وآماله البعيدة . كنت احمل عنه ثقل افكاره وطقوسه التي كانت تتكسر مثل مرآة في حائط . سكنني الشعر حتى ان شوارع بغداد كانت ترن بوقع قصائدي التي كنت أُؤلفها ماشيا على الارصفة . وحين اعود بعد منتصف الليل الى بيت امي وابي تكون اغلفة الاكياس والكتب واطراف الصحف قد امتلأت شعرا.
في الطرف الآخر من الشعر والحب ، كان العالم يجري كما هو : الحروب السياسية السرية والعلنية . المنافسات المشروعة واللامشروعة من اجل امتلاك العالم عبر امتلاك السلطة والدولة والحزب والجيش والايديولوجيا . اما انا فقد كنت زاهدا في كل ذلك ، وستدفعني الاحداث الى قلب المعركة. في صيف ذلك العام كانت قصائد مثل بغداد, ومرثية بغداد وغيرهما قد ولدت في الشوارع وفوق الارصفة وفي المقاهي وفي الطابق العلوي من الباص رقم 45 الذاهب من ساحة الشهداء الى حي البياع .وفي ربيع ذلك العام كانت قد ظهرت في الثقافة الجديدة,الحديثة الصدور بعد انقطاع دام اكثر من عشر سنوات، قصائد مثل مرج الدم وغيرها لتشير الى ولادة روح رمزية جديدة استلهمت رموز التاريخ والصوفيين والشهداء والصعاليك والعيارين في بغداد العباسية والحلاج وصالح بن عبد القدوس وبشار وغيرهم . كنت اعيش في المنطقة الرمادية الفاصلة بين التاريخ والحاضر . ،وعلى الرغم من اني قضيت سنتين في العمل الصحفي حتى ذلك الوقت ، فلم اكن اعنى بالترقية الوظيفية او الانضباظ الرسمي ، وقضيت الوقت وكأني عائم في اثير من الايمان بالشعر والحب والحرية والفوضى والشعر الطويل وبنطلون الشارلستون والحلم الطويل الذي استغرقني مقابل حروب شنت عليّ من كل مكان, كان ملفي الوظيفي, خلالها, يتضخم بعقوبات الفات النظر والتنبيه وقطع الراتب والانذار حتى جاءت سنة 1970 لاكتشف ذات ليلة ، بالصدفة وبعد منتصف الليل ، وفي الطابق الثاني من جريدة الجمهورية، ان خزانة الملفات الشخصية موجودة في الممر المعتم الطويل . كنا انا واحد الزملاء من اصدقائي ننتظر بروفات التصحيح حين خطر بذهنه ، او بذهني ، في غياب الرقباء العديدين ، ان نفتح الخزانة وننظر الى ملفي المتضخم جراء الحرية والشعر والحب والفوضى والحلم الطويل . وبدبوس صغير ، وبضحكة من هول السهولة التي انفتحت بها الخزانة ، انفتحت الخزانة عن الملفات ، وبقبضة واحدة ، استل صديقي حزمة من اوراق العقوبات ناهزت العشرين بين الفات نظر وقطع راتب وتنبيه اضافة إلى صدمة (حداثة ثقافية) وهي تقارير زملاء المهنة, من صحفيين وشعراء وقصاصين, الذين بدأوا ينخرطون ، من اجل ترقياتهم ، باجهزة الامن والرقابة والوشاية . كان صيدا ثمينا في تلك الليلة ، ولكنه صيد حمل معه ، فيما حمل ، صدمة جديدة ، هي اكتشاف الانفاق السرية التي تعشعش فيها الوشاية والتجسس والرقابة ، هذه الانفاق التي تمر من تحت مكاتبنا الصحفية وتعيسش فيها جرذان الاعلام الثوري والثقافة الثورية. مع ذلك ، لم ينكسر الحلم الطويل ولم يقصر الشعر الطويل وازداد الشعر تحديا وقوة . اتسع الحب ودخل في مغامرات ابعد من المألوف في صيف بغداد ذاك العام. كنت ارى ، في ذلك الشرخ اللاهب من الشباب المبكر ، اضواء العالم الشعري والثقافي لاغير . وفي خضم الصراع مع رؤوساء التحرير وزملاء المهنة الذين كانوا في حزب السلطة او انخرطوا فيه ، اتضح لي ، دون ادنى شك ، ان طريق الشعر الطويل هو الذي لا ينتهي ، وهو الذي عليّ ان اسير به دون توقف ، واغمضت عيني عن اي تكريم يمكن ان يأتي عبر الشعر ، وحتى الآن ، كان الشعر ومايزال بالنسبة لي ، النقبض الذي يبعدك عن التألق الوظيفي ويسبب لك المتاعب في عملك ، وليس العكس. كان المناخ الشعري اقوى من ان تشعر بالاستلاب. شعراء انفتحت عنهم بوابات سجون نقرة السلمان وسجن الحلة وغيرها من السجون ، انضموا الى الاجيال العديدة من الشعراء وهرعوا معهم مباشرة الى مقاهي حسن عجمي والبرلمان وعارف آغا والزهاوي في امسيات ولقاءات طوال الاسبوع ، فضلا عن ملتقى الجمعة الذي كان بحد ذاته كرنفالا اسبوعيا للشعر والادب والفن . هناك ، ومن هناك تستمد قوتك في الشعر والادب والفن في مواجهة الادارة والسلطة والتنظيم الحديدي الذي بدأ يفرض نفسه بتمهل وهدوء ، بدل ذلك السحر الذي كان يشع من ازقة بغداد واضواء منائرها وقبابها وطلع نخيلها وعبق زهور الرازقي والشبوي والجوري , وبدل احلام تلك الاجيال التي تمددت على ضفاف دجلة الندية, طوال مقاهي شارع ابي نؤاس, وهي ترسم وتنحت وتقص وتروي وتكتب شعرها الجميل. في مقهى حسن عجمي التقيت لاول مرة بجيل سبقنا الى الشعر والعذاب والسجون . التقيت بالشاعر هاشم صاحب الذي سيرحل في المنفى بعد اكثر من عشر سنوات على ذلك اللقاء . وفي نفس المقهى تعرفت على عبد الستار الدليمي الذي سيرحل الى بلغاريا ويسجن هناك. وكذلك تعرفت عل الناقد محمد مبارك وعلى الكاتب محمد الجزائري اللذين سيصطلحان مع الواقع وينضمان الى السلطة في تغير مصائر درامي جرف كثيرا من الادباء والفنانين دون رحمة، وتعرفت على الشاعر دينار السامرائي الذي سيصمت ويضيع ،وعلى الشاعر يوسف الصائغ الذي صعد معنا ضيفا في امسيات كلية الآداب الشعرية، والاديب هاشم الطعان الذي سيرحل مبكرا، والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي ضاع بين الشعر الحر والديباجة العمودية التي اكتشفتها السلطة فيه فانتهى الى شاعر يمدح الدكتاتور في فرح وسخط داخليين متناقضين. وفي مقهى عارف آغا كان الشاعر عبد الامير الحصيري وبعض الشعراء الشعبيين يجلسون كل مساء فيما كان مقهى الزهاوي المقابل له يقتصر في غالب الاحيان على بعض الادباء والشعراء المحافظين. ومن المقاهي تلك كنا نخرج الى معارض الرسم الضاجة بالجمهور ، وفيها تعرفت على ضياء العزاوي ورافع الناصري واسماعيل فتاح الترك مع حشد من ادباء وفنانين في معارض الرواد وجماعة بغداد وغيرها من تجمعات فنية , كأن قمقم الف ليلة وليلة انكسر عن مارد ثقافي يصعد بدل دخان الجني المحبوس. ربما كانت السنوات الثلاثين من الخمسينات والستينات والسبعينات امتدادا لازدهار بغداد في العصر العباسي . ثلاثون سنة شكلت تلخيصا لتاريخ من الصراع الثقافي من اجل استعادة الهوية وتشخيصها واعطائها ملامح عصرية جديدة ، في الشعر والرسم والمسرح والقصة والنقد . كان العالم يعيد تشكيل نفسه من خلال امتداد الرؤية الذي ضاقت به العبارة, فانفرج الشعر والرسم والغناء والمسرح وهدلت حمامات بغداد بذلك الطراز الغريب والجديد من الشجى الموشى باستلهام التاريخ وتجديد التراث واستعادة الرموز ، و ارتداء ثياب العصر الحديث بروح البلاد الرافدينية التي ابقت معالمها في الوعي والذاكرة والتاريخ . لم يستعر مبدع عراقي حقيقي واحد اقنعة الماضي ولا ديكورات الزمن الغابر ولا انوار الاسلاف التي بدأ بريقها يخبو . ولم يتنكر مبدع عراقي حقيقي واحد برداء الاجداد او يصعد مسرح القرون الغابرة . ومع هذا فان روح التاريخ كانت مشعة ومضيئة ، وتراث البلاد استعاد عافيته ليتمدد على ضفاف دجلة والفرات مرة اخرى تحت انوار العصر الحديث ويسير في شوارع المدينة في المسرح والرسم والنحت والشعر في تمازج مايزال ينتظر من يعيد قراءته وتقييمه بعيدا عن الروح الايديولوجية والحزبية والفئوية. ثلاثون سنة كانت تحاول ان تعوض عصور الانحطاط وازمنة الظلام وتعيد التحاقها بالتاريخ وكان ذلك يحتاج الى زمن آخر لكي يتأصل ويتأسس . ماكان لذلك ان يستمر في وقت بدأت فيه اعشاب الدكتاتورية تنمو بين طبقات الارض الرخوة. انا ايضا كنت ابن ذلك الواقع . وضعت لبناتي مع الآخرين في بناء هذا الهيكل الذي كان كل ساف فيه يحمل بصمات جيل عجن طينه بيديه وفخره بلهب اعصابه وحمله بيدين طريتين عذبتين ووضعه في ذلك الصرح الذي يحمل اسم العراق . ماكان لاحد ان يتصور مدى السرعة الرهيبة التي ستطيح بهذا الصرح وتهد هذا الهيكل . ما كان لاحد ان يتصور ان طوفانا من الناس ، من صنوف شتى ، كانت تحتشد لتسير باتجاه المكان وتكسر تلك الآلهة الرخوة التي لم يجف طينها بعد . لقد كان الغزاة يأتون دائما . ودائما يهدون الهياكل والصروح ويهدمون الآلهة ويقيمون القداس لسفح الخمور والدماء . غزاتنا هذه المرة ، قاموا من بيننا ، ومن بيننا دخلوا الى الهيكل وهدوه فوق رؤوسنا في احتفال صاخب لسفح الدم والخمر.لقد تهدمت البلاد وسفحت دنان العطر والشعر والالوان والصلصال ومازالت تسيل من نهر الى نهر، من الخابور الى الغراف،ومن سفح الى سهل ، من جبل سنجار الى السهل الرسوبي ، ومن مدينة الى مدينة ،من زاخو وعقرة وتلعفر الى القرنة ونقرة السلمان والمجرين الكبير والصغير.هكذا يسيل هذا الصلصال الحار من خليط الشعر والذهب والعطر والحليب والحلم وثمار الجنة، يسيل دون توقف ، معنا حيث سرنا ، في طرق لا تتوقف او تنتهي.
لي بلاد ٌ مسيَّجة ٌ بالحنين ِ
ولي
مدينة ٌ عشق ٍ قديمه
سيحملُها الغيم ُ فوق العراق ْ
ويمطرها ، حائطا ً ، حائطا ً
ولي امرأة ٌ تُشعل ُ الحزن َ فوق الشبابيك ِ ،
لي امرأة ٌ تُشعل َ الحُلْم َ فوق الوسائد ِ،
لي امرأة ٌ عذَّبَتْها الشوارع ُ ،
اذ طاردت زهرة ً من عذابي
وطارَدْتُها في المرافئ ِ والصيف ِ ،
حيث الندى بجع ٌ تائه ٌ
... ولم اشمَّ في العراق ِ غير َ دفلة ٍ
ولم ْ اشمَّ غير َ الـدم ْ
ـ والموت ُ ياصديق ؟
اشمّهُ في رئتي ،
اشمّهُ في حجَر ِ الطريق ْ
ـ والغضبُ الدفين ْ؟
اشمّهُ في جسدي كوردة ٍ ،
اشمّهُ كالوطن ِ الجريح ِ ، كالنسرين ْ
ربّما كنت ِ صيفا ً رأى مَطَرا ً ،
فأراد َ الَلحاق به ِ
وفوق َ الطريق ِ انحنى ، وبكى حين كان الـمطر ْ
يُهِّربُ اسرارَه للحقول ِالسعيده
في بلاد ٍ بعيده
فيما كنت ُ اواصلُ تقبيل الجسد ِ المرميّْ
بحثا ً عن شفتيك ِ الفاتنتين ْ:
كُـنْتُ كَمَنْ .. كانت ْ شفتاك ِ المطر َ الناعم َ ،
صارتْ شفتاك ِ الغابة َ المُلتَهِبه
كان تاريخ ُ الوطن ْ
وَرَقا ً مُلتهبا ً في كلِّ نار ْ
كان ميلاد ُ الوطن ْ
حجرا ً يسقطُ
كالليل ِ ،
ْبأحضان النهار
1971اناشيد البحر-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش


.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان




.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص