الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درس (15) الإضراب؛ استعادة الحيوية الثقافية

بلال عوض سلامة
محاضر وباحث اجتماعي

(Bilal Awad Salameh)

2021 / 5 / 19
القضية الفلسطينية


سيشكل اليوم الثلاثاء الموافق (18/5/2021) مفصل تاريخي في الوعي الشعبي الفلسطيني وسلوكه النضالي في استعادة اكتشاف الفلسطيني لذاته الفاعلة والمناضلة والمشتبكة والمتمسكة بقضيته الرئيسية حتى بعد 73 عام للنكبة، حينما تمددت دائرة المواجهة والاشتباك في فلسطين من النهر إلى البحر، بمبادرة مجموعة شبابية من فلسطينيي 48 بالإعلان عن الإضراب الشامل من رأس الناقورة إلى أم الرشراش، سرعان ما تم تبنيه من كافة الأماكن في فلسطين؛ كاحتجاج على الممارسات الإستعمارية بحق المقدسيين في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح والعدوان على غزة، ويكاد يكون هذا الحدث التاريخي التأسيسي موازي في المعنى والدلالة للإضراب الكبير في ثورة عام 1936 من حيث تشكيل الهوية والموقف والفعل والأمل.
تأطير هذه الهوية والموقف والحدث التأسيسي من حيث نوعية الشعارات والخطابات التي ترددت، فسُمعت الهتافات في رام الله : "يافدائي دوس دوس على الخاين والجاسوس... يافدائي دوس دوس ع المطبع والجاسوس" وفي حيفا "من حيفا الى إم النسناس نحمي الثورة نحمي الناس، من حيفا إلى جنين شعب واحد لن يلين" وفي القدس "وحدة وحدة وطنية، فتح وحماس وشعبية"، وفي يافطة رفعت في مجد الكروم بالعامية الفلسطينية، تقول: "عشان يجي اليوم وأولاد مجد الكروم يلعبوا مع أولاد غزة في القدس"، تزامن مع تمدد العمليات الفدائية والنوعية في محافظة رام الله ومحيطها، واطلاق رشقات صاروخية على مستعمرة تل أبيب بفعالية تفجيرية عالية ونوعية، في تكاملية وظيفية مشتبكة، ومتعددة الأدوات النضالية.
تلعب هذه الشعارات والأفعال النضالية دوراً هاماً في شحذ الهمم ورفعها كما تساهم في بلورة المشروع الوطني والثقافي الذي يطمح إليه الحضور المشتبك في جميع الأمكنة، بل بفلسطين عامة، وكمرجعية في التجربة، لينتقل الوعي والاشتباك من باب العامود وحي الشيخ جراح إلى منظومة ثقافية ووطنية شاملة تعبر عن توجهات لنهج وطني صلب واضح لا التباس فيه، مقابل لنهج التطبيع ووهم التسوية السياسية، لنهج المقاومة بكافة أشكالها، مقابل اختزال سلوك ووعي الجماهير في أحادية ذو بعد واحد في ارتهان الفلسطيني لسيطرة الإستعمار أو المؤسسات الدولية والانسانية، التي استنزفت الفلسطيني وطنياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.
لم يكن بالإمكان أن تتبلور ملامح هذا المشروع الوطني والثقافي لولا استمرارية الحضور وتدفق الجماهير الفلسطينية بشكل متناغم ومتزايد في الشوارع وجميع الأمكنة، حيث بالإشتباك يتبلور وعي مشتبك ونضالي فاعل ورؤية سياسية واضحة، سرع من تبلوره الأعمال العدوانية والممارسات الاستعمارية في حي الشيخ جراح أو في اللد أو بالاستدمار الشامل والحربي ضد الفلسطينين المدنيين في قطاع غزة.
فمن حيث كان يهدف الاستعمار الصهيوني إلى اخماد الثورة والاحتجاجات والنضال وتحطيم معنويات المحتجين والمتظاهرين والمنتفضين، والمقاومة بغوة، كان يعمل بصورة لا واعية بتعجيل اعادة احياء الهوية الثقافيه والوطنية، فمن هنا يفهم غباء القوة المفرطة التي يؤمن بها الاستعمار الصهيوني، ويصبح استخدام القوة الفلسطينية في الرد على ممارسات الإستعمار ضرورة ومطلب جماهيري وشعبي رغم الدماء والألم والدمار والمعاناة التي يحدثه في عداونه، ويفهم شعار "الانتقام الانتقام يا كتائب القسام" الذي رفع من قبل الفلسطينيين غير المسييسين والمأطرين حزبياً في هذا السياق، في مقابل ذلك، هتاف حضور فتحاوي اليوم: "ياللي بتدعو للانقسام ابن فتح بيهتف للقسام"، هذا الحضور وهذه الشعارات والمقاومة والدماء والتضحية، تقوم بدورها في تعبئة الجماهير وتبث روح القضية من جديد، والمصير المشترك والتاريخي والوطني الواحد والجامع للإنسان الفلسطيني، وكما وأن اتصال الجماهير بالرواية التاريخية وبحضوره المشتبك يكتشف الفلسطيني نفسه بنموذج انسان جديد وكمقاوم، بصورة مغايرة لما كان يروج ويتم العمل عليه، في إنتاج فلسطيني لا يدرك واقعه بارتباطه بالاستعمار وبإغراقه في التطبيع المجتمعي.
لم يعد في خضم الواقع المشتبك في كل الأمكنة معنى للفلسطيني لهويته عبر المؤسسات الدولية وحقوق الانسان فقط، وإنما عبر استخدام القوة والفعل المتعددين واصبحت المقاومة المسلحة كسند وحماية، ولم يعد البيت كمكان أو الحي أو درجات باب العامود في القدس كمساحة شخصية يسعى للدفاع عنها وحمايتها، بل أصبحت فلسطين كلها حدود الفلسطيني الجديدة، الذي اكتشفها ووسعها عبر النضال المشترك متجاوزاً الحدود الوهمية التي تم تشييدها واصطناعها في الجغرافيا الاستعمارية.
في الثورة والنضال يتم إعادة الحياة للفلسطيني، هذه الحياة لن تكون طالما الاستعمار يربض على صدر ومكان الفلسطيني، في خضم الاشتباك يتم اعادة الحياة الثقافية للفلسطيني، والتي اصابها الهزل والموت والتكلس، وتحولت إلى مجموعة من العادات والتقاليد الصماء والميتة بمفهوم فرانتز فانون(65)(ص.51)، فقد أدرك الفلسطيني أنه يستعيد ذاته من جديد، وعليه أن لا يلتزم بمكان واحد ومحدد له، لأن الالتزام به يعني بالضرورة يعني الموت الاستعماري، فالحياة تستدعي تكسير هذه القاعدة، عبر ادراك وطنه وثقافته بتعددية مكانية ومتنوعة، هذه الوفرة المكانية والإرادة في المواجهة تستدعي استئناف الحياة الثقافية بتعدديتها.
إن الوعي الجمعي المتشكل يتطلب أدوات جماعية، -كما كان للوعي الفردي/الجمعي أدواته-، وبالضرورة الاعتراف بها وإقرارها، فتعد الكتابة، والاحتجاج الكلامي بالهتاف أو بالمسبة حتى بالكلمات البذيئة على الاستعمار، بجانب التحريض والاشتباك مع الجنود عبر الحضور في الأماكن، أو بالحجر، والبندقية، والقذيفة تصبح سواء، بل ومتطلب وضرورة وملحة قائمة على التنوع والاختلاف، إن التعدد في الأدوات النضالية والإقرار بها شعبياً ونخبوياً تسهم في تعددية ثقافية وطنية واسعة ومتأثرة بتعدد الفلسطيني بمرجعياته، يقف الشيخ بجانب الجدع وغير المتدين، تقف المتدينة بجانب "الدوديم" وتدافع عنه، يقف مجاهد قسامي بجانب مقاتل من كتائب أبو علي مصطفى وفدائي من ألوية العامودي أو سرايا القدس، فإقرار الإختلاف بالأداة لا يتوقف عند القدرة والإمكانية والإستعمالية فقط، بل أيضاً يتمدد كما المكان إلى الوعي الذي يحتضنه ويؤمن به، وهي بحق، ثقافة متعددة وقابلة للإختلاف، يفترض العمل عليها وتكريسها كجزء من الشخصية والممارسة الفلسطينية.
فلم يعد الحضور في جميع الأمكنة ضرورة لإقناع أي فلسطيني آخر بالطريقة أو الأداة النضالية التي يقتنع بها، فالأهم هو الحضور والتدفق في الأمكنة، بل ويدرك الفلسطيني أن تنوع الحضور في جميع الأماكن كمتطلب مهم لإنجاح حرب الأمكنة والإرباك، فيصبح الإستعمار غير قادر على تبني ممارسة عدوانية واحدة، بل يتم اخضاعه ضمن قواعد اللعبة في المكان الذي أصبح يديره الفلسطيني ويستعيده بقواعده، لا بقواعد الاستعمار الصهيوني.
ففي عكس الموات والوهن والإفقار الثقافي التي سادت، بإعتبار أن المجتمع أصبح في حيوية وحياة جديدة، تستدعي هذه الحالة المتشكلة إلى تجديد الثقافة من الثقافة الوطنية والأدب والأغاني، وقبولها كمكون فلسطين، حتى لو لم تتوافق مع الرأي العام كأغنية جديدة للمغني "الشاب ضبور"، فلم تستدعي الاستهجان أو الرفض رغم عدم ملاءمتها الحس والذوق المجتمعي العام، ولم يعد الرقص والدبكة المختلطة بين الشباب والصبايا في باب العامود مدعاة للإستهجان، وعلو أصوات محافظة أو متدينة لحزب التحرير الاسلامي، أو حتى مسموعة إن كانت موجودة، في الثورة التي تعني الحياة والنهوض من الموت الاستعماري، لم تعد الحاجة أن تفرغ غضبك أو تورتك الوجودي بسحب سكينة او مسدس واشهارها بوجه الفلسطيني، ألم نلاحظ ان حجم الجريمة والقتل في فلسطين جميعها قد أختفت، فماذا لو يتم توظيفها في الدفاع عن الحضور المشتبك، في الاشتباك اليومي يعيد الفلسطيني بناء إدراكه بنفسه وبالعالم وبالعدو من جديد، فتجديد الشعر والبطولة والرواية يساهم في نضح الوعي الفردي والجمعي في السياق الاستعماري (66) (192-196).
ولأنه لا يوجد قضية بدون ثقافة، فيستدعي تجديدها كسؤال مصيري لإستمراية العطاء والتنوع، كما أشكال التعبيرات الاحتجاجية، ينخرط فيها كل حسب جبهته، التي تصب في المعركة الكلية، من مثقف، وفلاح، ولاجئ، وعاملة، وطبيبة، وفصائل، وشرائح شعبية وجماهيرية، وطنية او قومية او دينية، تقوم على علاقة متوازنة ومتكافئة، لا استعلائية ولا شعبية، بل بهجين ثقافاتي مساواتي يكملان ويغذيان بعضهم البعض، هذه التكاملية الوظيفية نستطيع استدعائها من روح الانتفاضة الشعبية التي هدمت التراتبية والفروقات الطبقية والاجتماعية في ثقافة قائمة على التضامن والمنعة والصمود المجتمعي، فكما نحتاج في حين إلى الفزعة لضرورة الاشتباك والحماية المجتمعية، نحتاج القلم لتوجيه وارشاد الحالة الثقافية والنضالية، ولا تقل عن ذلك اهمية البندقية، وحتى لا نقع مرة أخرى في ديمقراطية غابة البنادق مرة أخرى، إلى ديموقراطية الأمكنة بحضورها المتعدد والمتنوع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل