الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع لرواية ( بغداد .. وقد انتصف الليل فيها) للأديبة التونسية حياة الرايس بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2021 / 5 / 19
الادب والفن


التوازي في الدلالات السردية
دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع
في رواية (بغداد .. وقد انتصف الليل فيها)
للأديبة التونسية حياة الرايس
بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
مقدمة:
استراتيجية الاسترجاع : هي استراتيجية سردية ذرائعية جديدة, يكتشف الناقد من خلالها إمكانية أن يقوم النص نفسُه باسترجاع عناصره المفقودة, تحت ضغط إلحاح التكامل في عناصر النص الفنية والجمالية في الكتابة السردية. وهذا النوع من الاستراتيجيات يهتم باكتشاف الإبداع الإيحائي الذي ينتجه النص دون دراية الكاتب, فعندما يُكتَب العمل الأدبي بشكل متقن فنيًّا وأدبيًّا, يفرز هذا الإتقان عواملَ إبداعية جديدة لا يتوقّعها الكاتبُ نفسُه, فتكون تلك العوامل الإبداعية حصّةَ صيدٍ للناقد الذكي, كما تكون اللؤلؤةَ المنزلقة من بين أصابع الكاتب, والتي يبحث عنها الناقد المتبصّر, ويحفر بأظافره جاهدًا لإيجادها, وهذه الاستراتيجية تعيد للنص المفاصل المفقودة, وتؤسس للإبداع النسبي اللامتناهي في الكتابة ككل, فاستراتيجية الاسترجاع تُعنى بإبراز جميع الابتكارات الجديدة التي يصنعها الكاتب, دون أن يدرك أو يفهم مصطلحها النقدي, وحين يستلمها الناقد, يجدّد العهد مع الكاتب, بظهور مصطلح جديد على يديهما, وهذا التقدّم النسبي الذي تُعنى به هذه الاستراتيجية هو عبارة عن مؤشّر يبرز الاختلاف بين الكاتب وأقرانه, ممن سبقوه وعاصروه, في التقدّم بخطوات عنهم, أما الفعل الإجرائي فهو حق للنصّاص الذي يسجل سمة إبداعيّة, حين يكون النص مكتوبًا بنسبية إبداعية وابتكارية تختلف من نصّاص إلى آخر, وهذه السمة, النسبية والتفاضلية في تقنيات الكتّاب, من حيث الدرجة الإبداعية, هي التي تحدّدُها الذرائعية على سلّم المقياس الرقمي الذرائعي, تحت مصطلح درجة أدبيّة الأديب أو تجربته الإبداعية.
الترجمة الذاتية أو الرواية السيرية :
يرى إبراهيم عبد الدايم أن :" الترجمة الذاتية الفنية ليست هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل( مذكّرات) يُعنى فيها بتصوير الأحداث التاريخية أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي, وليست المكتوبة على شكل ( يوميّات) تبدو فيها الأحداث على نحو متقطّع غير رتيب, وليست في آخر الأمر ( اعترافات) يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح, وليست هي الرواية الفنية التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها, فكل هذه الأشكال فيها ملامح من الترجمة الذاتية, وليست هي لأنها تفتقر إلى الكثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية" .
وهذا القول ينبغي أن يقبلَ العكس, بمعنى أن الترجمة الذاتية يمكن أن يكون فيها ملامح من كلّ ما ذُكر, وهذه الحيرة التي تنتاب الكثير من النقّاد والدارسين حِيال تجنيس عمل أدبي ما إنما يعود إلى : إمّا إلى قصور معرفي بالحدود الجنسية للأجناس الأدبية, أو التباس بتحديد وتمييز الملامح الفنية للجنس الأدبي, وأحيانًا للنوع الأدبي من ذات الجنس, حينما يكون العمل جنس بيني هجين .
في هذه الرواية بالذات, فرضتْ ( البينية) نفسها كدليل للتزواج بين عنصرين أو أكثر من العناصر السردية لبناء عنصر واحد هجين فنيًّا يعطي تقدّمًا بخطوات بالتفاضل السردي بين الكتّاب, لأن الكاتبة استطاعت أن تمزج عدّة أجناس أدبية سردية, وبعضها لم نألفْه سابقًا في السيرة الروائية, مثل ( أدب الديموغرافية – وملامح من الأدب السياسي_ والصحافة). لذلك, نقديًّا, الترجمة الذاتية أو الرواية السيريّة ليست جنسًا نقيًّا, بل جنس بينيّ هجين متداخل بين جنسين أو أكثر.
تجنيس العمل:
هل يمكن أن تكون الرواية جنسًا بينيًّا؟
استطاعت الذرائعية أن تكتشف حالة تجنيسية جديدة بعد أن أقرّ عالميّا اكتمال الأجناس, إلا من البينيّة, ونعني بالبينية المزج بين جنسين في جنس واحد, واتحاد البناء الفني للجنسين ببناء واحد كالقص المقالي والمقطوعة السردية والحوارية السردية في القصّ القصير, فلا ضير أن نجد هذه العملية البينيّة في القص الطويل ( الرواية) ولنفس الأسباب, وهذا مثال حيّ يبرز في دراستنا لهذه الرواية ( بغداد .. وقد انتصف الليل فيها) فهي اتحاد بين الرواية الواقعية والسيرة الذاتية, فحين نجنّسها نقول ( سيرة ذاتية واقعية).
ولعل أبرز الملامح الفنية للأجناس الأدبية التي رصدتها في هذا العمل البيني هي : ( الرواية - التاريخ- والمذكرات - أدب الرحلة الديموغرافية- الأدب السياسي- السيرة الغيرية- وأدب الحرب).
تقول الكاتبة عن ظروف كتابة هذا العمل :
".....وفي هدوء وتركيز عميق كانت تأتيني تفاصيل التفاصيل عن حياتي ببغداد بأدق الجزئيات. كان ابني يستغرب أمري بنوع من الدهشة و الإشفاق عليّ :" ماما كيف تتذكرين أحداثًا وجزئيات أكثر من 30 سنة ؟ أقول له أتذكّر أتذكّر... كأنّها البارحة واضحة أمامي ... و كأن شيئًا يشبه المعجزة أو الصلاة في الماضي والتاريخ .. انطلقت من كثير من الأحداث الواقعية ربما أغلبها وبنفس الأسماء تقريبًا والأماكن ... . و لكن هناك تخييل بطبيعة الحال لأني أقوم بعمل روائي و لم أر أحدًا من القرّاء أو النقاد قد فرّق كثيرًا بين الواقع والتخييل ..."
ســــــــــيرة ذاتــــــــــــيّة أدبيـــــّـــــــة
الاسم : حياة الرّايس
الجنسيّة : تــــونسيّة . مقيمة بين تونس و فرنسا
رئيسة رابطة الكاتبات التونسيات
* روائية،قاصّه،شاعرة، كاتبة مسرحيّه، باحثة و إعلامية
* أستاذة فلسفة
مؤسسة و رئيسة رابـطة الكـاتبـات التونسيات 1994
مؤسسة منتدى القصاصين بإتحاد الكتاب التونسيين 1984
معدة و مقدمة برنامج " حوار الحضارات " للتلفزيون التونسي سابقا ( 1985 __1986 )
المؤهلات : بكالوريوس فلسفة :جامعة بغداد كلية الآداب 1981
شهادة في اللغة و الآداب الفرنسية من جامعة السوربون 2000
المؤلفات :
- "ليت هندا... " مجموعة قصصية عن دار صامد للنشر (تونس 1991 ) جائزة اتحاد الكتّاب التونسيّين ( فرع منزل تميم )
- "المرأة ،الحرية ،الإبداع " بحث مشترك (عن مركز الدراسات و البحوث و الإعلام حول المرأة تونس 1992 )
- "جسد المرأة :من سلطة الإنس إلى سلطة الجن " : بحث ( القاهره 1995 عن دار سينا )
- "سيّدة الأسرار ـ عشتار “ مسرحية روائية شعرية ميثولوجية (8 طبعات مابين تونس و القاهرة و اسكندرية وبغداد ) (جائزة أحسن نص مسرحي لكاتبات المتوسط 2010)
- مسرحية ميثولوجية قصيرة " أثينـــــا " نشرت في مجلة الحياة الثقافية في عدد خاص بالمسرح نوفمبر 2016
- أنا و فرنسوا ....و جسدي المبعثر على العتبة "قصص . : 2009 عن دار " كتابنا " ببيروت
- " أنثى الريح " ديوان شعر : الدار التونسية للنشر و التوزيع تونس 2012

-" حكايات فاطمة " : سلسلة قصص للأطفال عن المركز المغاربي للنشر و التوزيع تونس 2013

- " طقوس سريّة و جحيم " مختارات قصصية عن سلسلة أفاق عربية بالقاهرة 2015 هيئة قصور الثقافة
- ثلاثيّة "بغداد و قد انتصف الليل فيها " رواية سيرة ذاتية
صدر الجزء الأول في تونس " دار ميّارة للنشر و التوزيع .تونس 2018
الجزء الثاني صدر في " الهيئة العامة للكتاب" بالقاهرة 2021


المستويات التحليل الذرائعي

أولًا- المستوى الأخلاقي Moral Level :
1- البؤرة الفكرية Static core :
كثيرة هي الأفكار والقضايا والموضوعات التي طرحتها الكاتبة في هذا العمل, وكأنّها أتت بالعديد من الخيوط وقامت بربطها من طرف واحد بعقدة واحدة أسمتها (سيرة حياة )وأرخت الطرف الآخر حرًّا طليقًا, لنقوم بإحصاء خيوط القضايا الفكرية, فنقول: (سيرة بغداد), ( سيرة تونس), لتدخلنا في سفر في الفضاء العمراني والسكاني لمدينتين حضاريتين, إحداهما في الشرق والثانية في الغرب, أي سفر في (أدب الديموغرافية) التي أقرتها الذرائعية نوعًا من أنواع أدب الرحلات المعاصرة , يتسّرب خيط (التاريخ) مفتولًا بقوة, مصحوبًا بأصوات تأتي عبر أزمان عديدة متفاوتة بالقدم, أحدثها ما عبق في صدر (الطفلة حياة) من أنفاس الأحياء القديمة في تونس العاصمة وما حولها, تونس التي كانت حديثة العهد بالحرية من الاحتلال الفرنسي, تحاول إعادة غرس جذورها العربية والإسلامية في تربتها التي ترك فيها الاستعمار لغته وثقافته المنفتحة على حداثة تحارب كل موروث. وأقدم تلك الأصوات ما خّطه حمورابي في شريعته, في عراق سلّم كتابَ تاريخه ليستكمل فيه المنتصر الجديد تحبير ما يخصّه من صفحات حاضر فترة السبعينيات من القرن المنصرم, ليتوتذر خيط (السياسة) مشدودًا بسيادة حزب البعث العراقي المنشطر عن حزب البعث المؤسَّس في سورية, والصراع الدامي بين أعضاء الشطرين, وصراع الأيديولوجيات الحزبية الأخرى, بتكافؤٍ يكاد يكون منعدمًا أمام هيمنة الحزب الحاكم, و(الحرب)الإيرانية العراقية التي جرّ نظام صدّام حسين البلاد إليها. وهناك خيط (ثقافي) يبدو زاهيًا وسط قتامة الخيوط الأخرى, لمحناه في الحديث عن البعثات الدراسية بين بعض البلدان العربية, حين فتحت بغداد جامعاتها للعديد من الطلاب العرب من جنسيات مختلفة, حتى السوريين, لكن حصرًا السوريون المنشقون أو المعادون لحزب البعث الحاكم في سورية, في العام 1977 كانت فرصة مواتية ل(الشابة حياة) التونسية لتحقيق حلمها بالسفر خارج تونس,إلى باريس, ولتكن بغداد أول محطات الرحلة,حيث ستنال فيها شهادة البكالوريوس في الفلسفة. إضافة إلى إطلاعنا على شخصيات وأدمغة كانت نابغة علميًّا وأدبيًّا, كالفيلسوف مدني صالح, والأديبين جبرا إبراهيم جبرا, وعبد الرحمن منيف, وهنا نحت بنا الكاتبة باتجاه ملامح (السيرة الغيرية), حيث أفردت لهم عدّة فصول, أيضًا تناولت الكاتبة ثقافات حياتية (مجتمعية), وآراء (فكرية عقائدية) متباينة بين العلمانية والقومية والدينية..., عبر شخصيات من مجتمعات عربية متعدّدة, من لبنان وفلسطين وسورية والكويت والعراق وتونس... ولعل من أهمّ القضايا المطروحة هي قضية الإصرار على (المؤازرة والعيش المشترك), والحرص على لمّ العوامل التي تجمع العرب في إطار (القومية العربية), وهي قضية (إنسانية وجدانية) بالدرجة الأولى, و(أخلاقية عربية )بالدرجة الثانية, تجلّت بأبرز معانيها بعودة حياة التونسية إلى بغداد رغم اشتداد أوار الحرب العراقية الإيرانية التي خلعت قلوب العراقيين أنفسهم خوفًا وهلعًا, والتي كادت أن تحطّم مصير الكاتبة ومستقبلها الدراسي, لكنها ما عادت لأجل هذا المستقبل, وإنما عادت بدافع الشعور القومي العربي بالمؤازرة لأخوانها في وطن عاشت فيه وسطهم, وذاقت عندهم كرم الضيافة, وحلو الحياة, فكيف لا تشاطرهم مرّها؟
إلّا أنّ أبهى الخيوط وأكثرها توهجًا وبريقًا على الإطلاق, كان خيط اللغة, (اللغة العربية الفصحى) التي مازالت تجمع الشرق والغرب على كل اختلافات بينهما, واللهجات التي رصّعت سمائها, بعد أن عصفت بالوطن العربي رياح الخلافات والفرقة, وتراخى عضدُ الوحدة, بقيتْ فقط اللغة العربية الفصحى, العضد القوي المفتول, والجبل الراسخ الذي تكسّرت على سفحه كل لغات الاستعمار ومعاول التخريب, وما زاده معول الحداثة إلّا صلابة وأنفة.
2- الخلفية الأخلاقية Moral Background :
إن المطلع على هذا العمل, لن يغفل عن لمس الرسالة الوجدانية والإنسانية والقومية التي توجّهها الكاتبة للمتلقي, كما أنه لن يتوانى عن تحسّس الأرضية الأخلاقية التي قامت عليها الرواية, فالكاتبة :
تدين كلّ أنواع العنف, حتى العنف اللفظي, ولو كان عند بني قومها, تبرّر هذا العنف, وتتأسّف على تواجده, وتستقبح انعكاساته السلوكية والحياتية :
مأخوذة بغواية الكلمات الرنانة, الطربية, الحلوة, التي عُرف بها المشرق دون المغرب العربي الذي كانت لهجاته على اختلافها محمّلة بنوع من العنف كما أسلفت, وكما نعاني نحن في تونس من العنف اللفظي وبذاءة القول للأسف, ومن الطبع العصبي والتوتر اليومي في إيقاع الحياة وفي السلوك وفي الخطاب, في حين مازال إيقاع الحياة في المشرق يسير بهدوء ورنّة ونغمة تختلف عنّا.
وتشير بإشارات دلالية حينًا, ومباشرة حينًا آخر بإدانة واضحة إلى فظاعة الأنظمة القمعية, وبشاعة الاستبداد, فها هي تورد اقتباسًا دلاليًا من رواية " شرق المتوسط" لعبد الرحمان منيف, تقول:
... وكانت رواية : شرق المتوسط" لعبد الرحمان منيف أسطورة العصر في النضال, كأكبر شاهد على تناقضات المرحلة التي كانت في أوج المدّ القومي, وأوج الأنظمة القمعية في ذات الوقت ... وكانت حديث الشباب كأكبر مثال على فظاعات عذاب السجن السياسي ومآسيه التي تفوق كلّ احتمال.....
دلاليًّا, أيضًا هناك دعوة لضرورة ارتباط الفكر والأدب بالواقع, ودعوة للتفكّر وطلب العلم, والبحث عن القيم الخيّرة والجمالية, تتحدّث عن الفيلسوف مدني صالح فتقول::
علّمنا ما معنى أن نعيش وأن نفكر شيئًا فشيئًا في غير قطيعة مع العالم, وصالح بين فكرنا وبين الحياة, درّبنا على منهج السخرية وعلّمنا أن علامات الاستفهام أهم من علامات التعجب.... لأنه يعرف أنّنا نعلم أنّ السؤال في الفلسفة أهمّ من الجواب .
حرّر عقولنا وعلّمنا أن لا نخاف من تفكيرنا ومن الأسئلة, حثًا على القيمة والمعنى والمعدن والجوهر في حياة الإنسان, وحواره المتصل مع الكون والحياة والخير والجمال.
أيضًا, دلاليًّا : كان هناك دعوة محرّضة على الوحدة, عبر الحديث عن معلم عمراني "دار شعبان الفهري":
والذي كنت أسمعه من صغري أن معارك صغيرة وحزازيات كبيرة كانت تدور بين الفهوره والشعابنية رغم أن المراجع الرسمية التاريخية تقول:
إثر الاستقلال وبتاريخ 9 جانفي 1957 وعند تأسيس أول بلدية بهذه الربوع توفق أهل البلدتين إلى توحيدها ضمن اسم واحد يشملهما معًا وهو " دار شعبان الفهري", عملًا بمبادئ الإسلام المحرّضة على تمتين صلة الرحم ومن منطلق موقف حضاري يمقت التفرّق ويدعو إلى الوحدة.
في الرواية موقف ضد العنصرية والكراهية والطائفية الدينية :
تردّ فيه الكاتبة بالمنطق والحقائق على نعرة طائفية تثيرها إحدى الطالبات, وكانت مسيحية عراقية من الموصل تعلن كراهيتها لزميلاتها المقيمات معها بالسكن, وكنّ من كرديات السليمانية, تقول بنخوة استفزازية :
"أن المسيحية سابقة على الإسلام في بلاد الرافدين بآلاف السنين, وأن العرب المسلمين عندما قدموا من الصحراء طمسوا في " غزواتهم" التي يسمونها فتوحات كثيرًا من آثار المسيحيين من كنائس ومعالم أثرية قيمة"... و كثيرًا كانت تنعتهم بالبدو الأجلاف...... أسرت لي بحسرة كبيرة : أن قصور النظام الحالي البعثي مشيدة على أنقاض عدّة كنائس قديمة يعرفها أجدادنا جيدًا في تكريت خاصة, فهل هناك دوس على تاريخنا وديانتنا وحضارتنا في تحد سافر أكثر من ها؟
قلت لها: لكن الذي أعرفه من تاريخ العراق قبل مجيئي من كتب التاريخ أن المسيحية منتشرة, وكانت مزدهرة في أطراف العراق كما في شماله وآثار كنائسها ما زالت موجودة إلى الآن مثل كنيسة ( كوخيه) ....... وحسب علمي أيضًا أن المسيحية تعتبر ثاني أكبر الديانات بعد الإسلام في العراق من حيث عدد الأتباع , وهي ديانة معترف بها حسب الدستور العراقي, كما يعترف بأربعة عشر طائفة مسيحية مسموح التعبّد بها في العراق.
ثم تطرح الكاتبة عدد من الأسماء لشخصيات مسيحية عربية, يفتخر أصحابها بما قدّموه وما ساهموا به في نهضة أوطانهم العربية, يكتبون بالعربية ويبدعون فيها ويستشهدون بالقرآن ويدافعون عن القومية العربية, وتنهي الكلام بجملة رائعة وحاسمة:
وكنا كل يوم نصحو على صوت فيروز.. ولا أحد يجول في باله أن يتساءل إن كانت فيروز مسيحية أم مسلمة؟ بل هي فيروز : إيقاع الصباح في حياتنا والوجدان المشترك والذاكرة التي تجمعنا.
من هذه البؤر الفكرية المتعدّدة, والمعقودة بالبؤرة الستاتيكية(الرواية السيرية), وبعد المرور على الخلفية الأخلاقية, ننطلق إلى المستويات الذرائعية الديناميكية.
ثانيًا- المستوى البصري واللساني الجمالي External and Linguistic Level:
1- المدخل البصري External Trend:
العمل وصلني pdf بلا غلاف, وكل ما سأدرسه في هذا المستوى سيكون على هذا الملف, الصفحة الأولى, في منتصفها اسم الكاتبة ( حياة الرّايس) تحته العنوان: بغداد وقد انتصف الليل فيها, ولي مع عتبة العنوان كمكوّن نصي دلالي وقفة في المستوى المتحرّك, وإلى يمين الصفحة من الأسفل تجنيس العمل ( رواية سيريّة).
في الصفحة الثانية: قولان, الأول ل إيزابيل اللندي, والثاني لحياة الرايس, كلاهما حول موضوع تدوين الذاكرة عبر مدارات الزمن والذات, وهي عتبة سردية يلجأ إليها بعض الكتّاب لتحديد بؤر نصوصهم كما يريدون تقديمها للقارئ :
" إن حياتي تتجسّد حين أرويها وذاكرتي تثبت بالكتابة, وما لا أصوغه في الكلمات وأدوّنه على الورق, سيمحوه الزمن حتمًا"
إيزابيل اللندي
" لا أستطيع أن أدوّن جملة في أي نص إلا إذا شعرت أن روحي استقرّت بها واتّخذتها مسكنًا... لأطمئن أن القارئ يمكن أن يطيب مقامه بها. النص الذي لا يستطيع أن يتخلّص من روح صاحبه أبدًا"
ح. الرايس
الإهداء:
وقد قسّمته الكاتبة إلى خاص وعام, الخاص جعلته للذات الكاتبة المتجسّدة بامرأة تسكنها, وهي التي أباحت لها التخييل:
إلى تلك المرأة التي تسلّلت بتواطؤ مني, لتكتبني كما تشتهي وتريد...
لأن حياة واحدة لا تكفي لنعيشها كما تريد...
فليست الكتابة غير حياة ثانية تشتهي أن تكتبنا كما تريد...
أما الإهداء العام فكان للشخصيات العائلية التي صنعت زرعت ورعت تلك الحياة:
إلى تلك الأرواح التي فارقت وما غابت وما نُسيَت. أراها ترعاني مثل النجوم في عليائها, وأظنها ترنو إليّ بعين الرضا أيضًا:
أبي الذي خالف تقاليد كل القبيلة ليتركني أسافر وأواصل تعليمي بالخارج.
نساء( العيلة) اللاتي أودعنني حلمهن بالسفر والدراسة والمغامرة والحياة الطليقة... التي حرمن منها, بفعل ثقافة الكبت والممنوع والحرام لكل ما يجوز للرجال ولا يجوز حينها:
فطوم والدتي ؟ " أمّي بيّة"/ عمتي دوجة: شخوص روايتي .
الرحمة لأرواحهم جميعًا.
أما متن الرواية :
فهو يحتل حوالي 200 صفحة من الحجم المألوف للرواية, ومقسّم على 26 فصل, متباينة في عدد الصفحات, بين صفحتين, وحوالي 20 صفحة: اختارت الكاتبة للفصل الأول عنوان الرواية الرئيسي, وجعلته كلازمة تتكرّر وتتقدّم كلّ فقرة سردية مشهدية في الفصل, أما عناوين باقي الفصول فقد حرصت الكاتبة على أن تكون مكوّنات نصية مكثّفة كبؤر لموضوع الفصل وأحداثه, خلا بعض الفصول التي كانت باسم شخصيات مؤثّرة أو شهيرة كان لها دور في مسيرة حياتها, أو مواقع وأماكن لعبت دورها أو شهدت أحداثًا هامة في حياتها في زمانية معينة, هذه العناوين كانت مرافقة لتقسيمات فصلية مرقمة, على الترتيب التالي:
"بغداد وقد انتصف الليل فيها"- ساعة الوداع الحارقة -...تلك "الأم الأسطورية" -غربة الليلة الأولى- باريس الحلم...-بين الفلسفة والأدب-"... ن والقلم وما يسطرون-البحث عن عشبة الخلود-أول تونسية ...-كلية الآداب -عمار القسم الدّاخلي-خلية النحل ...-"سنة أولى بعث"- "سقراط بغداد" - الدكتور ياسين خليل -"... حبّ أفلاطون للحقيقة"- فوبيا جهاز المخابرات العراقي- ليلة اختفاء صباح -مجلة " ألف باء" التي أدين لها ببداياتي - جبرا المقدسي / البغدادي -مع الدكتور عبد الرحمان منيف -شبهة التقارير- عراق الحب والحرب- موكب سريالي للحب والحرب والحرّ- عروس المربد.
راعت الكاتبة في كتابتها الشكل العام للصفحة من هوامش, وتوزيع جيد للفقرات بالشكل, واستخدام يحتاج مراجعة أفضل لأدوات الرقيم, وتنسيق مطبعي جيد أيضًا, هناك بعض الأخطاء الإملائية, لكن لا يعول عليها كونها في ملف نتوقّع أن يكون الكتاب المطبوع مُراجع إملائيًا ونحويًا, الحوارات على قلّتها إلّا أنها كانت باللّهجة العاميّة للمتكلّمين بها, نقديًا لا يُحبّذ إلا الفصحى, لكن كان هناك ضرورة لأن تكون الحوارات بلهجة المتكلّمين بها, لأن الكاتبة تنقل ثقافة حياتية لشعوب ومجتمعات تجمعها اللغة الفصحى, وتميّزها لهجاتها العاميّة, لتكون اللغة أبرز عنوان من عناوين العيش المشترك, رغم الاختلاف.
2- المدخل اللساني Linguistic Trend:
• ثقافة الأديب :
وظّفت الأديبة دراستها الجامعية في علم الفلسفة, مع موهبتها الإبداعية في الأدب, مع خبرتها في عملها الصحفي, في حديثها عن أستاذها الفيلسوف الشهير مدني صالح تقول:
.... أحببت طريقته الخاصة في تركيب الجمل التي تمزج بين النقد الأدبي والمضمون الفلسفي والحسّ الصحفي الذي يلتقط فيه بذكاء فائق صوت الناس ويحوّله إلى كلمات نابضة, صارخة بالحياة. ...
اخترتُ الفلسفة أيضًا للمصالحة بين لغة الفلسفة ولغة الأدب: بين لغة العقل والتحليل المنطقي ولغة الوجدان والعاطفة الإنسانية. وربما لمقاربة" الحقيقة" بلغة السرد الأدبي من رواية ومسرح وقصّ وشعر... تخفيفًا من صرامة اللغة المنطقية , العقلانية, الجافة, التي لا تسمح حدودها من ملامسة نبضات وأشواق وكشوفات الروح, التي تتجاوز العقل. كما يقول نيتشه الذي قدّم فلسفته بصورة سرد روائي في عمله الشهير " هكذا تكلّم زارادشت" وكما فعل غيره من الفلاسفة, الذين صاغوا فلسفتهم وأفكارهم, بواسطة الرواية والمسرح ك" جان بول سارتر" و" ميلان كونديرا" و " ألبير كامو" وغيرهم... وربما كتحدّ لأفلاطون, الذي طرد الأدباء والشعراء خاصة, من جمهوريته.
وظّفت المعلوماتية في خدمة المواضيع التي تناولتها : ضمن الملامح الفنية لأدب الرحلة الديموغرافية:
- معلوماتية عمرانية تراثية : في وصف الأحياء والمعالم والحاضرات العمرانية التونسية القديمة والحديثة,:
أصل " باب البحر" وهو أحد أبواب المدينة العتيقة الذي بقي من السور الشرقي القديم الذي بناه الأغالبة سنة 1860, والذي يحيط بمدينة تونس, والذي تهدّم بمرور الزمن .... يسميه البعض ب ( باب فرنسا) لأن تلك تسميته الأولى خلال الاستعمار الفرنسي , ولأنه يفتح على شارع فرنسا .....
كتدرائية "القديس فنسنت دي باو" المقابلة لسفارة فرنسا ... أتأمل معمارها الهندسي, الذي يمتاز بدمج الأساليب المتنوعة في بنائها: البناء المغربي , والنمط القوطي, إضافة غلى أساليب البناء النيوبيزنطية, لتصبح من المعالم الأثرية والفنية المتميزة, في العاصمة التونسية
- معلوماتية عن القوميات العراقية:
.... إضافة إلى أن أرض العراق التي تعتبر واحدة من أكثر البلدان المتعدّدة الأعراق والديانات في الشرق الأدنى, تشتمل على أقليات قومية وعرقية وديانات لم نكن نعرفها في بلادنا وفي منطقة المغرب العربي عمومًا, مثل الأكراد والآشوريين المعروفين باسم " الكلدان الاشوريين" أيضًا, والتركمان , وهؤلاء يمثّلون أعلى نسبة قوميات غير عربية, يليهم الأرمن والشركس والغجر والفرس... وهناك أيضًا الشبك واليزيدية والصابئة وأعداد صغيرة من البدو الإيرانيين واليهود والأذربيجانيين والجورجيين... وتشمل الجماعات الدينية من العرب السنة والشيعة والصابئة والمسيحيين واليهود والزرادشتيين والبهائيين واليزيديين.
وظّفت ثقافة شعبية تراثية: من مجالات عديدة:
- أهازيج شعبية تراثية أو ترنيمات تُقال للأطفال البنات بتونس:
سَعدي سَعْدْ وسعدي سْعَدْ
وعندي بنتي خيرلي من ألف ولدْ
الولد أش نعمل به حتى للعسكر ندّيه
زين بنتي ما كيفو حد
سعدي بها وسعدي بها تكبر بنتي ونقريها
ويخطبوني ما نعطيها
ما نعطيك وم نعطيك كان يعطوني تونس فيك
ما نعطيها وما نعطيها ذهب البركة ما يرضيها
زيت الساحل لقطاطيها وقمح فريقة عولة ليها
وحنّة قابي في رجليها حجبة وزغاريط عليها".
- أكلات شعبية :
ذكرت أكلات تونسية :
العصبان والمدموجة والرفيسة وعداد العولة والبسيسة, مثرد الكسكسي باللحم,
طبخت لهم الكسكسي والمحمّص والروز الجربي, وعلّمتهن طبخ الطواجن على أنواعها... والملوخية, والبريك المقلي, وكم أحببن العجّة والشكشوكة التونسية بل النابليّة ( المحرحره) التي أختصّ بها باعتبار أصولي النابليّة.
مثل أمّي صرت ( نركّب) البرغل بالقدّيد ( الذي تزوّدني به رحمها الله مع بقية التوابل غير الموجودة في العراق) .
والدبابش وهي: الحمص والفول المصري واللّوبيا الشايحة والفول الأخضر والجلبانه والجزر واللّفت والبطاطاوالكلافس والمعدنوس والبصل والكرمب وكل أنواع التوابل... والهريسة النابلية الفوّاحة بالتّابل والثوم ... اضعه على نار هادئة , ليطبخ سلّه سلّة....
وأكلات عراقية :
دولما( الأكلة العراقية الأشهر).
... رائحة السمك المسكوف تملأ المكان, وأفضل الأسماك النهرية التي اشتهرت بها بغداد كالشبوط والكطان والبني, الذي يتم صيده مباشرة من قبل صيادي منطقة الكرادة القريبة من شارع ابو نؤاس, والكباب العراقي, والذي يقدّم ساخنًا مع الخبز البغدادي الخارج من التنور توًّا.
- تركيبات عطرية شعبية:
تقطير الزهر ( زهر النارنج : القداح) والعطرشية وانسري وفليو والورد , توضع في فاشكات( الفاشكة: زجاجة طويلة العنق مدورة البطن)
- ألعاب شعبية :
الدمى القماشية المصنوعة من القماش وأعواد الخشب, تحشوها بالصوف أو القطن وتكسوها بالثياب الداخلية والتنانير القصيرة والقمصان الملونة وتصبغ وجوهها بالكحل وقلم الشفة وتعطيها أسماء من عندها: ( أمك طنغو وهلالة كشكش) وهي شخصيات شعبية.
" عرائس السكر" نزين بها مثرد الكسكسي في رأس السنة الهجرية, نختار ديكة للصبيان وعرائس للبنات.
- شخصيات شعبية:
شخصية شيخ الكتّاب: " سيدي المدّب الدزيري" الذي كانت عصاه الغليظة لا ترحم ولا تتسامح مع من يتهاون في حفظ القرآن أو يخطئ بقواعد اللغة العربية المقدّسة, تلك العصا التي ترتفع في وجوهنا مع إيقاع صوته الجهوري الذي يصل حتى الشارع ونحن نعيد وراءه ونكرر في شبه تخميرة إيقاعية :" ألف لاشئ عليه... الباء نقطة من أسفل.. التاء اثنين من فوق والثاء ثلاثة من فوق.... كرروا ... يلا كرروا واعلاش وراكم ما تكرّروا؟! ..... والفلقة المعلقة بالحائط المتكلّس المتشقّق ترقبنا وتتوعّدنا...
يكتب الحروز والتعويذات ويتأنّق في كتابة الآيات والسور... يخلط الزيوت والعقاقير في الزجاجات والقراطيس لنساء الحي. .... المتعبات من عصيان أبنائهن وتخلّفهم المدرسي ورسوبهم, وخيانة رجالهن أو حسد السلفات والجارات أو فك عقدة المعرقلة والعانس وفك المربوط والمجنون والمعتوه, وتقريب القلوب .....
.... زنقة " بوسعيدة" ( الشخصية المشهورة للرجل الزنجي الذي يخفي وجهه بقناع ويلبس جلود الحيوانات ويؤقص عازفًا على آلة حديدية, وأتذكّر كيف نرقص معه, عندما كنّا صغارًا , عندما يمرّ بحينا في الأعياد الإسلامية ...)
- رقية شعبية :
" باسم الله الدي لا يضر ولا يؤدي مع اسمه شيء, اللهم صلي على النبي حاضر محمد وعلى فاطمة بنت النبي....
كانك من البنات إطلع ما تبات. كانك من الذكور إطلع ما تبور. كانك من الرجال إطلع بلا هبال. كانك من النساء اطلع واتنسى ... العين الزرقاء , العين البرقاءاللي شقت البحر فرد شقه... اللهم صلي على الرسول يعطيني ربي ما نقول ... رقيتك مثلما رقات فاطمة بنت النبي . رقات جمل بوها بات ينين صبح يسير ببركة ربي العالمين . اللهم صلي على النبي وفاطمة بنت النبي , يا نفس يا نجيسة اخرجي من هالفريسة" .
- أزياء شعبية:
السفساري ( العباءة التقليدية التونسية البيضاء) , الميني جيب ( القصير)
عادات شعبية :
- العروس لا تبدأ الحنّة إلا بعد أن تحمل الشموع لسيدي الفهري وتتبرك به, والعرسان كلك يزورون الزاوية ويغتسلون بمائها ليلة دخلتهم قبل أن يرتدوا كسوة العرس.
- يوم ولدت أمي الذكر لدار الرايس سموه" محمد الفهري" وأوفوا بالنر, وقدموا مثرد الكسكسي باللحم, وجابوا "وجق الفهري" ل " السابع" ( اليوم السابع بعد النفاس) في الدار الكبيرة . وكدلك فعلوا يوم ختانه.... تبرع بختان أبناء الفقراء والمحتاجين بالزاوية على عادة أهل دار شعبان الفهري.
- كانت عادة عنا في نابل ألا نكب ماء الميت الذي يرجعه من فمه, ونسقي به شجرة نسميها على اسمه.
وظّفت أيضًا مفردات عامية من لهجات عربية عديدة :
وكان لبعض هذه المفردات خارج اللهجة الأصل معانٍ مغايرة تمامًا لمعناها :
"إنّجم" بالتونسي تعني أستطيع و" ما إنّجمش" تعني لا أستطيع, يعني" فيّ وما فيّ" بلهجتكن( اللبنانية) وأن أصلها من اللغة الأمازيغية مثل " أنقز" يعني أقفز, و"كرومتي" يعني عنقي, و"فرطاس " يعني أصلع, و" سفنارية" يعني جزر, "فكرون " التي تعني سلحفاة, و"ببوش" بمعنى حلزون, و"ممّي" بمعنى رضيع, و" دشرة" بمعنى قرية... وكلها مفردات باقية من اللغة الأمازيغية ....
" أزعر" بالتونسي تعني شاب أشقر, وعند أهل الشام تعني شاب طائش
" بلشنا" بالشامي تعني " بدأنا" , و" الزلمي" ( الشاب أو الرجل) , "اصطفل "( دبّر راسك أو أنت حر)
" تفنيص وفنّاصة" كلمة جاءت من فعل تفحس بمعنى تكبر وتعظم
" شنب وأبو شنب" تتردد كثيرًا في الشرق, وتستخدم مرادفة لكلمة شارب وشوارب, بينما معناها الأصلي في العربية بريق الأسنان.
والبندورة ( الطماطم) التي يشترك في استعمالها بلدان المشرق وراثة من التسمية الفرنسية عن الإيطالية والاسبانية pommedor والتي تعني " التفاحة الذهبية"
" شرميطة" بالتونسي تعني خرقة ممزقة, وهي كلمة فصيحة جاءت من فعل شَرَط وشرمط الورق, وهي غير " شرموطة" التي تعني عاهرة في بلاد الشرق.
يعيشك : بالتونسي , تدللي : بالعراقي, تقبرني : بالسوري
هلكاني : باللبناني, باش نموت من التعب: بالتونسي
اشلونش عيني : بالعراقي
شاكو ماكو : من بقايا اللغة السومرية القديمة, ماكو : لا يوجد شيء, أكو : يوجد شيء
وظفت ثقافتها المعرفية في علم الأصوات:
فعن اللهجة المصرية تقول:
" وأنا لولا كثرة الأفلام التي شاهدتها من صغري ما كنت لأفهمهم بسبب ظاهرة الميل إلى الاستفال في اللغة المصرية, وهو انخفاض اللسان إلى قاع الفم عند النطق بحروف الكلام, ويقل التجويف الفمي, ولا يصعد الصوت إلى الجزء العلوي من الفم, بل ينحدر إلى خارج الفم, ويكون صوتًا نحيلًا؛ فتنطق " الصاد" " سينًا", و"الطاء " " تاءً", و" الضاد" " دال", و "الظاء" " زاي" مخففة .
كذلك تتبّعتْ المفردات على اختلافها وتنوّع الناطقين بها :
كنت أتابع المفردات في اختلافها الذي يحيل على تنوّع شعوبها... فكلمة هؤلاء أو ذولا, في مصر " دول, دولا ", وفي اليمن" هاذول" , وفي السودان " ديل ", وفي تونس" هذوما أو هاذوكم" .. في نغمات مختلفة .
تحدّثت عن تاريخ اللغة العربية وانتصارها على اللغات الأم في البلدان التي فتحها العرب :
... فطغت اللغة العربية على الآرامية في العراق والشام, وعلى القبطية في مصر, وعلى البربرية في بلاد المغرب, وعلى الفارسية في بقاع مملكة فارس القديمة, عند نشر العرب ثقافتهم وتوسّعهم الحضاري.
وأحزن لمّا أرى لغات أخرى ليست بمستوى ثراء اللغة العربية تكتسح العالم مثل الإنجليزية التي ليست بمستوى ثرائها أو الأسبانية أو الإيطالية...
وظّفت الكاتبة أيضًا ثقافة فنية :
حينما تحدّثت عن مسلسلات لبنانية كانت رائجة السبعينات, مسلسل (عازف الليل), لكنها أخطأت في الاسم الحقيقي لبطلة المسلسل ( نجمة), فقالت أنها (نهاد طربيّه), وهذا اسم مطرب لبناني معروف, والحقيقة أنها الممثلة اللبنانية الأميرة (هند أبي اللمع), والنقد الذرائعي لا يولي عظيم الأهمية والإشارة للأخطاء المطبعية أو حتى الإملائية, بل يحمّل دار النشر مهمة التدقيق الإملائي والنحوي, لكن يشير إلى الأخطاء التي تدخل في نطاق الحقائق الواقعية:
كانت نوال تشبه ممثلة لبنانية .....تميّزت بدور نجمة في مسلسل "عازف الليل " الذي أحببناه كثيرًا في تونس عندما بثته التلفزة التونسية كثاني مسلسل لبناني بعد " ابن الحرامي وبنت الشاويش " بطولة " سميرة البارودي " و" إحسان صادق".....كأول عهدنا في منتصف السبعينات... أحببت نوال لأن أمي كانت تحب كثيرًا " نجمة" بطلة المسلسل.... وكنت تعبت من تذكر اسمها الحقيقي كممثلة, أصفها وأعيد للبنات حتى عرفن أنها " نهاد طربيه" .
وظّفت الكاتبة معلومات فنية سينمائية فرنسية عرفتها تونس في سبعينيات القرن الماضي:
.... عرفت " أني جيراردو" و" الان دولن" و" شايلا" و " بريجيت باردو" نجوم السبعينات, وشدّني وجه " أني جيراردو" لما فيه من فيض أمومة آسرة وصرت أحضر كل أفلامها, حتى جاء فيلمها الشهير الذي أثار زوبعة في عقولنا حينها, وفي عالم السينما والواقع المسكوت عنه" الموت حبًا" : قصة التلميذ الذي وقع في حب أستاذته : أستاذة الفلسفة التي بادلته نفس الحب واشا حبًّا مجنونًا عاصفًا بعثر كل أقنعة المجتمع الزائفة.
• معرفة الأديبة بالأجناس الأدبية :
عندما طلبت من الكاتبة سيرة ذاتية أدبية مختصرة, أرسلت لي معها ملف عنوانه( الظروف التي كتبت بها الرواية), فتأكّد عندي أن الكاتبة محترفة وعميقة المعرفة بالأجناس الأدبية, إذ أن ذكر ووجود الدوافع الفنية من أهم المطلوبات في كتابة الترجمة الذاتية, عدا عن تضمينها في الملف عن الأجناس الأدبية التي تطرّقت إليها في هذا العمل, والتي شكّلت منها هذا الجنس البيني, تقول :
كنت أحمل دائمًا هذا المشروع, مشروع كتابة رواية عن بغداد, و كنت أتهيّب ذلك و أخشاه و أخاف منه, إذ أن بغداد ليست مجرد مدينة زرتها و أحببتها و كتبت عنها ... إنها تاريخي و ذاكرتي ووجداني المتعلق بأرضها و جزء مهم وعميق من تجربتي الحياتية, و أنا في أوج شبابي و بداياتي أتلمس طريقي طالبة في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة بغداد ...و كانت بغداد عصيّة لا تحب أن ألامسها بقلم مثل بقية كتاباتي عن المدن ضمن أدب الرحلات الذي كنت أحبه و كتبت فيه الكثير ...
في مدينة " لافال " بفرنسا مقر إقامتي في فصلي الشتاء و الخريف بينما أحتفظ بالربيع و الصيف لتونس وبحرها الذي لا أستبدل به شيئًا ." لافال " عاصمة إقليم لامايان بالشمال الغربي الفرنسي على مشارف النورموندي و بلاد لالوار . مدينة هادئة جدًّا نظيفة جدًّا قليلة الجاليات العربية و الإفريقية, موطن الأرستقراطية الفرنسية و منتجع ملوك فرنسا سابقًا, و لا زالت قصورهم شاهدة عليهم إلى الآن من المعالم الأثرية والجسور و الكنائس القديمة التي تعود إلى القرون الوسطى. منطقة خضراء كلها أنهار و حدائق تتفرع من نهر " لامايان" الكبير الذي يفيض عليها خضرة و خصوبة ...
كانت منتجعًا رائعًا للكتابة بعيدًا عن ضوضاء باريس و العواصم المزدحمة الأخرى, خاصة أني لا أعرف بها أحدًا و لا يعرفني أحد .و هذا أروع ما تنشده الكتابة. خاصة كتابة الذاكرة, و من المفارقات أنني أكتب عن بغداد العراقية في مدينة "لافال " الفرنسية ...كان بيتنا يشرف على نهر " لامايان " أكبر نهر بالمدينة . وضعت مكتبي مقابل الشرفة مقابل النهر و صرت أكتب و أنا أتخيّل نهر دجلة أمامي ....
حياة الرايس
تلك كانت حياة الرايس, الأديبة, والتي تحمل شهادة بكالوريوس في الفلسفة, أما حياة الرايس الصحفية, فنجدها في المقالات الصحفيّة التي ضمّنتها في عملها الروائي هذا, منطلقة من ذاتها, ومتناصة وتجربتها المهنية, مقالات تقريرية متنوعة المواضيع, علمية, سياسية, اقتصادية, تنموية, عمرانية, مسهبة بأسلوب إخباري مدعّم بإحصائيات علمية, مقالات تنقل حقائق من واقعها, و أيضًا تحمل رأي كاتبها:
يرجع تطوّر الحركة العلمية في ذلك الوقت إلى سياسة الحكومة التي كان دورها كبيرًا في الدعم المالي وفي طريقة معالجة القضية العلمية وخلق الكادر العلمي, والتي أسهمت بإيفاد عدد كبير من الاختصاصات إلى مختلف دول العالم لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه, ... بما يشهد على فترة العصر الذهبي للجامعات العراقية التي كان فيها تعليم حقيقي وجاد واستقرار في التربية والتعليم العالي, حيث كان وضع العراق جيدًا قبل أن يحلّ بها الحصار الاقتصادي, والحرب العراقية الإيرانية, وأخيرًا الاحتلال الأمريكي, كانت كلها عوامل لتراجع أو تدهور الحركة العلمية في العراق. فمنذ 2003 خرج حوالي ثمانية آلاف عالمًا عراقيًّا من البلاد, نسبة عالية جدًّا منهم من الأساتذة المتميّزين , وتمّت تصفية علماء بارزين جدًّا حيث قتل أكثر من 500 عالم , وكانت هناك عمليات مبرمجة لتهجير العقول العراقية باتجاه الغرب .
• البنية اللغوية :
الجملة عندها سليمة من ناحية النظم, وفق الترتيب السحري للجملة العربية الفعلية : فعل- وفاعل- ومفعول به
• البنية الإيحائية الذرائعية:
عند تحليل جملة, يكون التحليل محصورًا بين ثلاث نظريات أو مناهج:
المنهج الأول منهج بنيوي : فعل حرّك الفاعل باتجاه المفعول, وكل كينونة من هذه الكينونات الثلاث ( الفعل – الفاعل – المفعول) هي بنية يتمّ تحليلها عبر وسيط هو القاموس أو المعجم ( سيمانتيك = دلالي).
المنهج الثاني هو المنهج الإشاري: يقسم الجملة بالتحليل إلى ثلاث إشارات,و كل إشارة تشير إلى شيء معين( تدل على دلالة معيّنة) .
أما المنهج الذرائعي( وهو المنهج الذي أعتمده في دراساتي النقدية): فينظر للجملة نظرة شاملة, تجمع المنهجين السابقين, وتخرج عنهما باتجاه المجهول, لتقود المدلولات نحو معانٍ إيحائية تقع بين العالمَين, الداخلي ( الإدراك ), والخارجي( الواقع), وفي تلك المرحلة تأخذ الذرائعية حريتها بالتحليل داخل الهوّة الإيحائية التي يسكنها التضمين والتأويل والتطابق بين المعاني والإيحاء, وفي تلك الهوّة ستتوالد مدلولات لا حصر لها لدلالة واحدة, قد تختلف فيما بينها وتتعارض كما قال داريدا وتنتج ( اختلاف), باللغة العربية يمكن أن تكون المدلولات لا حصر لها, ومراوغة, لكن لا تكون ( اختلافًا) أبدًا.
ماذا فعل منظّر الذرائعية الأستاذ العراقي (عبد الرزاق عوده الغالبي) الذي اكتشف الهوّة الإيحائية وقوّض تفكيكية داريدا وتمركزه واختلافه, لتخطّي مراوغة المدلولات؟ ثبّتَ المفهومConcept بدلًا من المدلول, وبرّر ذلك بأن المدلول متعدّد المعاني, والمفهوم يُعنى بالدقّة بين الدلالة ( في العالم الخارجي) وصورتها في مرآة العالم الداخلي( عالم الإدراك), ويقول : إن الدلالة هي كينونة شاخصة حاضرة تقود إلى مجهول مدار بحث .
ولقد كتبت الكاتبة عملها هذا بالدلالات المتوازية, وهو ما سيسجّل لها كإبداع فاقت به من سبقها ممن كتب بذات الجنس البيني, فلم تكن مباشرة في طرح أفكارها, مع أن مواضيع الرواية تقبل وتحتمل المباشرة أكثر من الانزياح الدلالي, لكنها, وبسبب سعة أفاقها وعلومها الفلسفية, إضافة إلى براعتها الإبداعية الأدبية, كتبت بالدلالة, وتركت للمتلقي مهمة البحث عن المعاني الإيحائية, مثال :
" أنا مدني صالح : ثور..."
قلت له : "أستاذ, هل تقصد بالثور البطل الأسطوري ماينوتور الإغريقي ؟
مال برأسه المدوّر على كتفه برهة ثم قال لي: " يا ما ألهمت الميثولوجيا الإغريقية وألهبت خيال المؤلفين والشعراء والكتّاب والروائيين... الذين قاموا بإخراج روائع عن تلك الأسطورة الشيقة التي أوجدت لنفسها مكانًا خاصًّا بين جميع الأساطير الأغريقية ". ثم أضاف: " إن الماينوتور هو امتزاج للبهيمة والقوة والنبل معًا في النفس البشرية, تعرفين أن الإنسان ليس ببشر كله, ولا بحيوان كلّه بل هو مزيج بين هذا وذاك" . تركني وذهب, شيّعته بابتسامة واعدة : " قد وصلت الرسالة أستاذ" . وتركني وذهب وأنا أحفر في الميثولوجيا الإغريقية والسومرية والبابلية والفرعونية وأثري بها نصّي الأدبي.
الدلالة: كل ما تحته خط, وهو غائب حضر بالإشارة والذكر , وجب البحث عن مدلولاته( معانيه), ثم مفهومه.
المدلولات: لا حصر لها, منها: مدني صالح اسم لشخص, له اهتمام ومعرفة عميقة بالميثولوجيا, واهتمام بالأدب, وله رؤية فلسفية في كينونة الإنسان, تستلزم الإلمام بصفات مكوناته ( البشرية والحيوانية), وله دعوة لتوظيف الأسطورة والفلسفة بالعمل الأدبي, وهذه المدلولات كلها بعلومها ومعانيها يمكننا أن نؤطرها في مفهوم (علم الفلسفة ), ف ( مدني صالح) لمن لا يعرفه, وبحسب هذه المدلولات الأولية هو أستاذ فيلسوف, هذا المفهوم سيساعد المتلقي على البحث عن سيرته الكاملة في المصادر المعرفية ليغني ويثري ويوازي المدلولات العديدة التي ألقتها الكاتبة عن دلالة واحدة ذكرتها كظاهرة أثّرت في حياتها. فجعلتها تتّخذ مسارًا في كل أعمالها الأدبية(توظّف الميثولوجيا و علوم الفلسفة في نصّها الأدبي). ثم تركت لقلمها العنان بإلقاء دلالات كثيرة عن تلك الشخصية عبر تجربتها الشخصية معها.


• البنية البلاغية والجمالية :
هي كاتبة مفتونة باللغة العربية, ممسوسة بسحر البيان و البلاغة, يناوب بيانها بين الاستعارة والتشبيه:
- تتأرجح الجملة, كفاتحة الأشياء المغلقة, ناضجة كفاكهة المواسم, كالمبتدأ مبشرًا بالخبر, خاشعة كصوت أذان يفصل بين أوقات الزمن, كناقوس كنيسة عتيدة في لحظة رهبة, ثم تستقر واثقة على كتف الليل وهو يبسط يدًا كريمة لدخول بغداد آمنين.
- أسكن بين الحرف والمفردة, وأتوسّد الجملة, وأتبسّط وسع الفواصل والنقط...؟
- مفتونة بسحر اللغة, يرجمني شيطان الإبداع الكامن بين الحرف والمعنى, بشهاب يضيء السمع قبل البصر, ها أنني أدخل بغداد من باب اللغة الواسع.
- لماذا أخذ الشرق السحر كله؟ أمن أجل هذا السحر أنا هنا؟ ولماذا لا تكون اللغة في أوج فتنتها وغنجها, في منتصف ليلنا؟
- وأنا أشقُّ الليل, والمدينة واللغةُ روحٌ ساحرة تسكن الأشياء.
- كدودة العنكبوت, عشّشت ما بين الحرف والحرف, الذي علق بي وبدا مغريًا, جميلًا, لألاءً, شاقًّا, ثقيلًا, طويلًا عميقًا كالدّهر.
- تهتُ في متاهات النسيج وصار الحرف عمقي وبُعدي, حياتي وموتي, بدايتي ونهايتي, دافعًا عني فجيعة العمر ورادًّا عني نكبة الأقدار, تعويذة أتّقي بها من شرور الحياة, وأقاوم بها هلع الفناء وفجيعة الاندثار.
- مسكتُ بيدي على الحرف كالماسك على جمرة في زمن تزاحمني فيه بنات جنسي, وتتحدّينني في مواجهة الموت بما يتدفّق من أرحامهن.
- وكما تحمل الأمهات أطفالهن, وكما حمل " جلجامش" عشبة الخلود, حملتُ الحرفَ ليكون الشاهد الوحيد على الحضور بعد الغياب.
- يهزّني طرب الشرق كلّه, وتعظم في عيني لغتنا العربية التي تهتزّ وتتمايل بأكثر من نغم, لأكثر من بلد, لكل هذه اللهجات المنبثقة, كالينابيع منحدرة منها, المتفتّقة عنها, والمطعّمة والمرصّعة بلغات الحضارات السابقة عنها...
- في هذا الحفل الصوتي, الراقص, على إيقاع النغمات المختلفة ...
- انسحر لساني وانخرط في لولب الحلبة, ليضعني في قلب الشرق الساحر, مأخوذة بغواية الكلمات الرنانة, الطربيّة, الحلوة التي عُرف بها المشرق.....
- وليس صدفة أن تظهر شهرزاد في الشرق, وأن يكون الشرق القديم مهد كل الأنبياء, حيث تجاوزت الكلمة السحر والسلطة وبلغت المقدس: وفي البدء كانت الكلمة ...
- كنت مؤمنة بالله واليوم الآخر, ولكنني أحب " اليوم الحاضر" أكثر. وأتوق إلى أن أعيش بمدينتي كحمامة, غير موثوقة الساق إلى خيط, يرجعها إلى قفصها, كلما همّت بها أجنحتها

ثالثًا – المستوى الحركي Dynamic Level :
و يمكن إجمال الملامح الرئيسية للسيرة الذاتية بما يلي:
1- وجود بناء مرسوم ضمن صياغة أدبية ( بناء جمالي )
2- توافر عناصر الصراع( بناء فني)
3- محاولة الصدق والصراحة والأمانة والتجرّد في تصوير الماضي ( وهي نسبية )
4- وجود دوافع فنية ( التبرير , الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة والرغبة في استرجاع الذكريات...)و قد يصرّح الكاتب بهذه الدوافع وقد لا يصرّح : وقد صرّحت الكاتبة بذلك, حينما طلبتُ منها السيرة الأدبية, وجدتها ترسل معها ملف عنوانه ( ظروف كتابة الرواية), فيه مبررات وذريعة كتابة هذه السيرة.
5- تميز صاحب السيرة الذاتية( من الناحية الأدبية او الفكرية ), أرفقت مع الدراسة السيرة الأدبية للأديبة, وهي سيرة غنية ومميزة .
6- عدم الالتزام بسن معين عند الكتابة عن الذات, مع ملاحظة أن كتابة الترجمة الذاتية في سن مبكرة يفوّت على صاحبها إمكانية الإفادة من سيرته في بناء العديد من القصص, وخلق العديد من الشخصيات,حينما يجمّد تجاربه دفعة واحدة, كما فعل الدكتور طه حسين في " الأيام" , بالإضافة إلى أنه يقدّم للقارئ مبادئه قبل أن تنضج, وقبل أن تصقلها تجارب الحياة, فتكون عرضة للتغير والتبدل بعد تقديم العمل. وأديبتنا كانت نبيهة ومتيقظة ومدركة لهذه الحيثية, فلم تكتب عملها إلا بعد مضي زمن ليس بالقليل, وواضح جدًّا أنها لم تضع كل محصولها الحياتي في عمل واحد, بل وعدت بأعمال عديدة قادمة, وبالمقابل نوّعت وكتبت إصدارات عديدة.

 البناء الفني
يحاول إبراهيم عبد الدايم عرض تعريف فني للسيرة الذاتية قائلًا: " والترجمة الذاتية الفنية, هي التي يصوغها صاجبها في صورة مترابطة, على أساس من الوحدة والاتساق في البناء والروح كما سلف, وفي أسلوب أدبي قادر على أن ينقل إلينا محتوى وافيًا كاملًا, عن تاريخه الشخصي على نحو موجز, حافل بالتجارب والخبرات المنوعة الخصبة, هذا الأسلوب يقوم على جمال العرض, وحسن التقسيم, وعذوبة العبارة, وحلاوة النص الأدبي, وبثّ الحياة والحركة في تصوير الوقائع والشخصيات, وفيما يقوم بتمثله من حواره مستعينًا بعناصر ضئيلة من الخيال لربط أجزاء عمله, حتى تبدو ترجمته الذاتية في صورة متماسكة محكمة, على ألا يسترسل مع التخيل والتصوّر حتى لا ينأى عن الترجمة الذاتية, خاصة إذا كان يكتب ترجمته في قالب روائي" .
وهذا التعريف يولي الأهمية للأسلوب الأدبي الذي تُكتب فيه الترجمة الذاتية, ولنا عنده وقفة ذرائعية معترضة قليلًا, لأن الترجمة الذاتية تحتمل الأسلوب التقريري أكثر من الأسلوب الأدبي, كونها تسجّل حقائق, وهذا التعريف, كما ورد, لا يقدّم أي ملمح من ملامح البناء الفني, لذلك وجب البحث عن تعريف أكثر دقّة للترجمة الذاتية فنيًّا, ولم يتمكّن النقاد والدارسون من فعل ذلك إلا من خلال مقارنتها بغيرها من الأنواع الأدبية القريبة منها, كالسيرة الغيرية, والتاريخ, والمذكرات واليوميات, والرواية, وغيرها من الأنواع الأدبية التي تتداخل معها الترجمة الذاتية, ولن نعرف الملامح الفنبة للترجمة الذاتية إلا من خلال إبراز الفروقات بينها وبين الأنواع المذكورة:
- فالترجمة الذاتية تختلف عن السيرة الغيرية, فهي غارقة في الأنا,تغرف من الذاكرة والذكريات, وتنقل نقلًا مباشرًا من داخل الذات, لذلك يكون كاتبها أكثر مقدرة على سبر أغوار ذات الشخصية البطلة وانفعالاتها, بينما السيرة الغيرية تنقل من الخارج, من وثائق ومدوّنات ومشاهدات, بصورة موضوعية بعيدة عن ذات الكاتب كما هي أنها غير قادرة على وصف أحاسيس الشخصية البطلة من الداخل, فكاتب السيرة الذاتية يقدّم الشخصية البطلة من الداخل إلى الخارج, أما كاتب السيرة الغيرية فيحاول تقديم الشخصية البطلة من الخارج إلى الداخل, في السيرة الذاتية هناك تطابق بين السارد والشخصية الرئيسية, بينما ينتفي هذا التطابق في السيرة الغيرية.
- وكلاهما,السيرة الذاتية والغيرية, تقتربان من التاريخ, لأنهما نشأتا في حضنه, لكن السيرة الغيرية أكثر التصاقًا بالتاريخ, لأنها تستمد موادها الوثائقية منه, "بينما السيرة الذاتية تبتعدعن التاريخ لأن الراوي يعتمد على الذاكرة لخلق الأحداث, وإن ظل عاجزًا عن استرجاع الذكريات يلجأ إلى الخيال الذي يُعدّ تشويهًا للتاريخ وتزويرًا له" , إلا إذا قصد الكاتب استخدام المعلوماتية التاريخية, وهذا ما فعلته الكاتبة في هذا العمل, إذ استعانت بمعلومات موثّقة تاريخيًّا دعمت بها حديثها عن المدن والأحياء التونسية والعراقية, والتراث العمراني فيها,
- المذكرات تختلف عن السيرة الذاتية لأن مادة الثانية أوسع مدى منها, إذ تركز المذكرات على سرد الأحداث العامة والتاريخية دون التعليق على الحياة الشخصية لكاتب المذكرات. لكن الكاتبة أتت بملامح منها في أكثر من موضع.
- اليوميات مع أنها أكثر قربًا من السيرة الذاتية, ولكنها تختلف عنها باعتبار أحداثها متقطعة غير رتيبة , وافتقارها إلى المنظور الاستعادي في القص, وهناك مسافة زمنية بين لحظة الكتابة ولحظة الحدث بين الجنسين, إذ المسافة الزمنية التي تفصل بين زمن الكتابة وزمن التجربة تكون في السيرة الذاتية أوسع منها في اليوميات, كما أن الإحالة المرجعية في اليوميات تمتاز بالدّقة نظرًا لقرب لحظة التدوين من لحظة التجربة"
- أما الرواية فهي أقرب الأنواع الأدبية التي تتداخل معها الترجمة الذاتية, وتتقولب ببنائها الفني لتخلق جنسًا أدبيًّا بينيًّا جديدًا يسمى ( رواية السيرة الذاتية ) أو ( السيرة الذاتية الروائية), وهذا الأمر جعل الرواية " أكثر الأشكال الفنية قربًا من السيرة الذاتية " . فهما يشتركان بتداخل البناء الفني لكل منهما, وتوفر عنصري المتعة والتشويق, مع وجود الفروقات التالية :
1- الرواية تنزاح نحو الخيال المطلق, بينما تلتزم السيرة الذاتية بالوقائع والأحداث الماضية, وإذا انزاحت للخيال فتنزاح نحو الخيال المقيّد.
2- كاتب السيرة الذاتية يلتزم بدقة الزمان والمكان, بينما كاتب الرواية حر بتناول الزمان والمكان بشكل مطلق
3- النهاية بالسيرة الذاتية معلومة لدى القارئ, سيما إذا كان صاحب السيرة الذاتية معروفًا, بينما النهاية في الرواية تكون مجهولة للقارئ وغير محسومة إذا شاء الكاتب أن يجعلها مفتوحة.

عناصر البناء الفني:
1- العنوان :
تنظر الذرائعية إلى العنوان من المنظور النفسي للغة والتشابك السردي العفوي, على أنه ( العنوان) يكاد يكون المفصل السردي الوحيد الذي يضعه الكاتب بدقة ودراسة عميقة بعيدًا عن العفوية, على اعتبار أن "الهيكلية السردية عبارة عن غريزة أو مهارة أو مقدرة متجذّرة في الأصل, وتكون نابعة عن عفوية ومنطقية اللغة في عقل الإنسان, وهو نوع من الاكتمال أو النضوج العقلي في المخ الإنساني"
والكاتبة قدّمت عملها هذا كله كدلالة, وكتبت كل ما فيه بطريقة الدلالات المتوازية, فهي تلقي دلالات متدرجة إجرائيًّا, وكان العنوان واحد من تلك الدلالات, التي تحيل إلى دلالة مكانية ( بغداد), وأخرى زمانية ( انتصف الليل), وكلا الدلالتين تحيلان إلى مدلولات لا حصر لها, ولكن الكاتبة حصرتها في مفهوم ذكرته في الصفحة 12 بعد أن درّجت لنا دلالات متوازية إجرائيًّا, عدّدتها, وحلّلتها على اعتبارها تحتمل المعنى المضمر والمراد في ذاتها, كيف؟ كانت تطرح احتمالات تسارع إلى نفيها, على مبدأ فلسفي ( نفي الاحتمال), طرحت الاحتمال الثقافي, الاحتمال التاريخي, الاحتمال الحضاري, الاحتمال الميثولوجي, الاحتمال السياسي, وكانت احتمالات, لكنها لم تكن القصد الحسم والمعنى المراد, كان المعنى المراد هو المفهوم الذي يحمل كل تلك الاحتمالات أو الدلالات التي توازت حتى قادتنا إلى الحامل الأنثروبولوجي... الإنسان, الإنسان الغائب الذي لم تذكره, لكنه يتحرّك في المكان والزمان المعلومَين, متجرّدًا أو متخفّفًا من كل القيود والأعباء الحياتية التي تثقل كاهله, تقول:
ولكن بغداد التي دخلتها " وقد انتصف الليل فيها" ستكشف لي عن وجهها الآخر الذي يبتدئ بعد منتصف الليل..... حتى أن هذه "الجملة الأثيرية" قد تحوّلت إلى لازمة حميمية عند العراقيين, وتعني حياتهم الأخرى التي تبتدئ بعد منتصف الليل , الذي يحتضنها ويلفّها وربما يتستّر عليها أيضًا...
ولكنه كان مفهومًا مخاتلًا, فالكاتبة قدّمت لنا إنسان بغداد الذي يتحرّك في دوامة الحياة المتعاقبة في نهاراتها ولياليها. وليس في منتصف ليلها فقط. تلخّص ذلك في الصفحة 132, وهي صفحة بعيدة نسبيًّا بعدد صفحات كثيرة, عن العنوان كعتبة, وعن مفهومه بتدرّج وتوازي الدلالات, وهنا انتقلت إلى المباشرة, حيث عكست مرآة الإدراك الداخلية صورة الدلالة ( الإنسان العراقي) إلى العالم الواقعي الخارجي كما يلي:
غني عن القول أن الحياة في بغداد كانت في الفترة التي كنت طالبة فيها بكلية الآداب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مسيّسة إلى أبعد الحدود, لا حياد فيها حتى في العلاقات العاطفية وفي أشدّ المواقف حميمية. كل شيء يوظّف لفائدة حزب البعث سياسيًّا....
2- الاستهلال:
مقدمة مشهدية زمكانية تفتتح به الساردة سيرتها, ليكون المكان متدرجًا بالعمومية والكتلة الأصغر إلى الخصوصية والكتلة الأكبر ( راديو – سيارة مرسيدس- مطار – بغداد – منطقة الوزيرية- الأقسام الداخلية ).
والزمان صريح ودقيق: الليلة الفاصلة بين 6 و 7 سبتمبر (أيلول) من سنة 1977
هكذا جاء صوت المذيع من راديو سيارة المرسيدس التي جاءت لتقلّنا من المطار إلى " أقسامنا الداخلية" بمنطقة "الوزيرية" ببغداد. كنا أربعة طلبة: ثلاثة شبّان وأنا البنت الوحيدة بينهم. كان ذلك في الليلة الفاصلة بين 6 و 7 سبتمبر (أيلول ) من سنة 1977.
3- الزمكانية:
زمن الأحداث من عام 1977- 1982- العراق – بغداد, أما زمن كتابة الرواية فهو بالعام 2018, بفاصل زمني حوالي 40 عامًا, وهي فترة كافية لأن تكون الآراء التي أطلقتها الكاتبة في هذا العمل الروائي السيري آراء ثابتة غير متقلقلة بل مصقولة بمرور الزمن, وتتالي الأحداث, وتنوّع الأماكن ( بين تونس والعراق وفرنسا), بمعنى أن الكاتبة تكتب تجربة حياتية ناضجة.
لقد اعتنت الكاتبة عناية خاصة جدًا في وصف المكان, بل أنها جعلته كائنًا حيًّا له اسم موثّق توثيقًا رسميًّا وتاريخيًّا, و تاريخ ميلاد وسيرة حياة لا تقلّ أهمية عن الناس الذين عاشوا فيه, تقول في حديثها عن (دار شعبان الفهري) :
.... وقد اقترن من حينها اسم " دار شعبان الفهري" بهذين الشخصين والعلمين التاريخيين اللذين ربطت بينهما علاقة وشيجة: شعبان مشماش, وإليه تنسب بلدة دار شعبان, حيث كان ممثلًا للدولة الإسلامية بمنطقة الوطن القبلي المطلة على ساحل البحر المتوسط, وأحمد الفهري الأنصاري الذي يعود نسبه إلى جده رسول الله ( صلعم) الذي قدم من الساقية الحمراء.... تقدّمت السن بالشيخ حتى توفي سنة ( 389ه) بعد أن قضى بدار شعبان الفهري ما يقارب عن الثلاثين سنة, ودُفن هناك ولا يزال قبره إلى الآن حيث أقيمت عليه زاوية.....

4- التشابك السردي:
التشابك السردي في هذا العمل لا يخضع بشكل حَرْفي لمخطط التشابك السردي, فليس هناك محور معارضة يحمل شخصيات تتصارع مع محور التكوين الذي يحمل الشخصية البطلة, ولا نلمح صراعًا بين أشخاص, وإنما صراع بين الإنسان بهويته كمواطن عربي, أو بقوميته, مع الأنظمة القيادية, سواء أكان احتلال أو بقايا احتلال ( كما كان في تونس) أو مع نظام قمعي هو نظام الحزب الواحد ( كنظام صدام حسين البعثي العراقي- أو البعثي السوري), والبداية من قدوم الشابة التونسية حياة إلى بغداد حاملة شهادة البكالوريا آداب, مصحوبة بأول مجابهة مع رغبتها بدخول قسم الأدب العربي, فكان المتاح فقط قسم الأدب الفرنسي, فكان الحل القدري أن تسافر مع أول بعثة دراسية تونسية تستقبلها العراق في العام 1977,بعدأن كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة لسنوات بسبب حزب البعث العربي الاشتراكي, الممنوع في تونس حينها, حتى جاء الوزير " محمد مزالي" وكان اتجاهه " عروبي " فأعاد العلاقات وفُتحت السفارات, والمدهش أنها لم تدخل قسم الأدب العربي, وإنما اختارت قسم الفلسفة, وكانت بغداد المصير القدري الذي آلت إليه, ضد الرغبة الحقيقية, وهي السفر والدراسة والعيش في باريس:
كان سفري حدثًا في أواخر سبعينيات القرن الماضي, في عائلة محافظة لم تعرف فيها بنت من بنات خالاتي أو عمّاتي مواصلة الثانوي , فما بالك بالجامعي وبالسفر للدراسة بالخارج. ..... وسط دهشة الجميع سمح لي أبي بالسفر, لمواصلة تعليمي الجامعي بالعراق, بل بتشجيع منه خرجت وسافرت ودرست.
بداية الأحداث كانت بالوصول إلى بغداد, ثمّ, وعبر تقنيات سردية عديدة, منها الخطف خلفًا flashbackوتدفق تيار الوعي Stream of consciousness المثار بعتبة واقعية, والذكرياتMemories , حملتنا الكاتبة إلى تونس لنشهد طفولتها كاملة, بل لنقف أيضًا على كل معالم مدينتها تونس العاصمة القديمة التراثية والحديثة العصرية التي خلّفها الاستعمار الفرنسي, تاركًا ثقافته عمدًا, ومع هذه التركة كان الصراع, يقوده أب ممتلئ بالعروبة, مع أنه لا يتقن كتابة اللغة العربية, ويكتب الفرنسية, مترع بالقيم الأخلاقية الإسلامية, يستعيذ بالله من شر أدب " الكفار":
لم يكن أبي يحب الفرنسية ولا أدب "الكفار" ويحقد على فرنسا الاستعمارية التي علمته الفرنسية دون العربية, وقد تشفّى منها قبل ذلك, عندما أدخلني " الكتّاب " منذ صغري لكي أتعلّم القرآن والعربية وأصول ديني قبل أن أدخل المدرسة, والآلآن ها هو يبعثني مطمئنًا إلى بغداد, إلى الشرق الإسلامي الذي ما زال متمسكًا بدينه كما يظن, ربما لينقذني من الجامعة التونسية التي يسيطر عليها الشيوعيون وأصحاب الفكر الماركسي( اللي ما يعرفوش ربّي), ومن تونس البورقيبية التي تتفسخ وتنحل أخلاقيًّا بفعل مجلة الأحوال الشخصية وتحرير المرأة حسب رأيه.
من خلال تقنيات سرد الماضي, أطلعتنا الكاتبة على حياتها الأسرية والاجتماعية, بمكوناتها من أفراد العائلة والأقارب, وطبيعة العلائق الحميمية بينهم, كما أطلعتنا على الأعمدة الثقافية والتراثية والعمرانية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والدينية و الاقتصادية وسائر النشاط البشري, وقد سطرت ما تقدّم بفنيات أدب الرحلة الديموغرافية, سيما بعد أن قارنت هذه الأعمدة بين تونس والعراق, بين الغرب والشرق.
أما جوهر المعنى الذي أرادته من عملها هذا فكان من حصّة ما شهدته في بغداد, ولم يكن ما شهدته يخرج عن المعنى العام للصراع كما أشرنا إليه في البداية, وقد نقلته إلينا بأمانة, صراع الشعوب مع الأوضاع المعيشية القاسية التي فرضتها سياسات النظام القائد:
... كان يحدّثني ويطنب في الحديث عن الاشتراكية في العراق... وأنا استعرض بذهني طوابير الناس المزدحمين على البقالين من أجل تحصيل طبقة بيض تحوي ثلاثين بيضة, أو علبة حليب الأطفال الذي شكّل أزمة حقيقية حينها. وجالت بذهني كل المواد الناقصة التي لم نكن نجدها بالعراق.
صراع بين الطلاب على اختلاف جنسياتهم وبلدانهم لاستقطابهم في تنظيم حزب البعث العراقي, بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى, وتسوق لنا الكاتبة قصصًا فرعية لتصبّها في هذا المجرى العام, منها قصة صباح السورية التي اختفت ذات ليلة, وصباح طالبة شابة سورية فرّت مع أهلها إلى الكويت بسبب الملاحقات الأمنية التي تعرض لها أفراد من عائلتها, ومنهم أخيها, من قبل الحزب البعثي الحاكم في سورية, صباح مصابة ب( فوبيا جهاز المخابرات) العراقي والسوري على حدّ سواء, حالها حال كل الشعب العراقي حين جعل ( برزان التكريتي) من (المخابرات العراقية جهازًا إرهابيًّا رهيبًا, وقد دخل الشعب العراقي في هوس جماعي, بسبب الخوف من هذا الجهاز الجبار الذي يمكن أن يوقعك في شراكه, في كل مكان وفي كل زمان, ويدخل معك حتى في غرفة نومك...), فكانت صباح تنقل فرشتها الثقيلة لتنام في الشرفة هروبًا من الغرفة الملغمة بأجهزة التنصّت, بعد تنبيه غير مؤكد من الشباب في الكلية بأن الغرف في القسم الداخلي مراقب, لكنها وقعت في حب ملازم عراقي بعثي! واختفت ذات ليلة, وبعد البحث عنها وُجدت معه في بيت صديق سوري, أخفاها عنده عندما علم بنية خطيبها ( محمد ابن خالها) بالقدوم من الكويت لقتلها وقتل الملازم معًا, تنهي الكاتبة تلك القصة بدلالة إشارية :
في الصباح جاءنا الخبر: أن " محمد" حمل إلى مستشفى البصرة إثر حادث سير على الطريق, لم يحقق أحد في أسبابه إلى الآن؟.
ثم تفصلنا الكاتبة عن الأحداث الروائية الفنية, بإخبار سردي واقعي عن حياة الأديبة, حياة الصحفية وبداياتها الأدبية, وعملها الصحفي والتحاقها بمجلة " ألف باء" التي منها كانت البدايات والانطلاقة, وتسرد وقائع تجربة شخصية مهنية في هذا المجال, تذكر فيها كل الشخصيات الواقعية التي كان لها الأثر الكبير في ظهور نبوغها وتطوّرها في هذا المجال, وانتقالها عبره إلى المجال الأدبي ونشر قصصها في جريدة "القبس "الكويتية والتقائها بالعديد من مديري التحرير والصحفيين منهم الدكتور " نواف عدوان", بعثي من أصل سوري, لاجئ سياسي في العراق, ومشرف على مركز اتحاد إذاعات الدول العربية, وتذكر قصة طريفة ورهيبة بذات الوقت, وهي قصة ( شبهة التقرير) حينما وجدت نفسها متهمة ببعث تقارير عن حياة الريّس, يعني عن حياة الرئيس, والحقيقة أنها كانت منتدبة كمراسلة إخبارية لإذاعة عمّان من بغداد: توافيهم بتقارير صوتية وكتابية عن أهم الأحداث السياسية التي تجري في العراق, وتوقّع تحت كل نص اسمها" حياة الريّس"!
التقت أيضًا بالأدباء المشهورين, أمثال جبرا ابراهيم جبرا, وعبد الرحمان منيف, اللذان أثّرا أثرًا بالغًا في مسيرتها الأدبية, وقدّمتهما ضمن إطار التراجم والسيرة الغيرية.
لنأتي إلى ما يمكن أن ندعوه بالعقدة, وكانت حياة في السنة الأخيرة من دراستها الجامعية, سنة التخرج, واندلعت الحرب العراقية الإيرانية, في شهر سبتمبر, شهر بداية السنة الدراسية. تم إغلاق مطار صدام حسين الدولي وتعطلت الحركة الجوية, وتعطّل معه سفرها إلى الجامعة, فماذا ستفعل؟
لنقف على ذروة صراعها الداخلي أمام هذا الحدث الطارئ الذي أخرج حياتها الدراسية عن مسارها:
حيّرتني العودة إلى بغداد, كيف ستكون؟ واحترت ماذا أفعل؟ هل أنتظر أن يفتح المطار ؟ أن تنتهي الحرب؟ هل أقبل بسنة بيضاء؟ هل أغيّر الجامعة وبلد الدراسة؟ وذلك يعني تغيير حياتي كلها .
لم أكن مهيّاة نفسيًّا لأي تغيير, سيّما وأني شعرت بأن أي تغيير أتّخذه سيكون تنكّرًا وخيانة أمام نفسي للبلد الذي درّسني وفتح لي جامعاته, أن أتولّى وأتحوّل عنه بمجرد أنه دخل في محنة .
هذا كان الشعور, فماذا كان السلوك, السلوك الذي هو فنّيًّا الانفراج في التشابك السردي:
حملتُ حقائبي وقصدت المطار: مطار تونس قرطاج الدولي ومنه إلى مطار عمّان الدولي, بعدما عرفت أن الناس يدخلون إلى العراق من عمّان عن طريق البرّ .
في مثلث الانفراج هذا, ستأخذنا الكاتبة عبر السرد إلى أدب الحرب, عبر قصّة حبّ تصبّ في نهايات مجرى الحبكة الرئيسة التي كوّنت محور التوليد في مثلث الصراع, المحور الذي سينقلب بعد العقدة إلى مجرى رئيسي آخر سيستمر إلى النهاية بثيمة أخرى موجودة في المثلث الأول, لكنها ستقوى بمثلث الانفراج لتغدو مجرى رئيسًا, هو العيش المشترك, وحياة الشعوب المحكومة بديمومة الحياة مهما اشتدت عليها الطارئات, فلا حرب ولا حدود ولا جنسية تحول بين قلبين جمعهما الحب, ووحّدهما العيش معًا لإنجاب حياة جديدة, لم يكن الحب طارئًا في الرواية, بل كان عنصرًا رئيسيًّا من عناصر بناء الحدث السردي فيها إلى جانب عناصر البناء الأخرى ( التشويق والزمكانية والموضوع) أما (التعبير )فقد احتكرته الكاتبة بنفسها, وهذا أمر طبيعي لأن الرواية سيرتها الذاتية, و الشخصية الوحيدة التي سمحت لها الكاتبة بالتعبير عن نفسها هي شخصية ( مدني صالح).
وأثناء الرحلة, في الطريق, لطلب يد ( سمر ) الطالبة العراقية ل( أحمد) الطالب التونسي, تحدث غارة إيرانية, تسرد الكاتبة أحداثها المروّعة بإسهاب , بشهادة العين وكل الحواس, وتستشرف الكاتبة بعدها بضع سنين لتحكي عن مصير سمر وأحمد اللذان تزوّجا وسافرا إلى تونس, نجيا من الحرب, ثم عاد أحمد بعد سنة إلى بغداد حاملًا معه طفلته تمارى لتكون في حضانة خالتها سعاد بعد أن ماتت سمر بأزمة قلبية فجائية :
كأن ما سرنا إليه زمن الحرب لم تكن نهايته سوى الموت.
لا يوجد في هذا العمل نهاية محسومة, وإنما هي نهاية موصولة ببداية جديدة, تبدأ في أجزاء أخرى وعدتْ بها الكاتبة, وضعتْ للبداية القادمة بذورًا في نهاية هذا العمل, التي تتلخّص بزواجها من الصحفي التونسي ( هشام القروي) الذي لم يُخفِ أنانيته ولا غيرته منها, كما لم يُخفِ حقيقته المحبّة للتسلّق على أكتافها, خيبة عاطفية, وبقي حلم السفر إلى باريس, وتحقق, فكيف حدث ذلك؟ وكيف كانت باريس؟ موعودون بأخبارها في الجزء الثاني .
 البناء الجمالي :
1- السرد:
على لسان الكاتبة شخصيًّا, فهي السارد بضمير الأنا, باستخدام كل التقنيات السردية المعاصرة,
2- الأسلوب :
ناوبت الكاتبة بين الأسلوب الأدبي الإنشائي والأسلوب الإخباري التقريري, فكانت بالأسلوب الأول تنزاح نحو الجمال والرمز الدلالي.
استخدمت الأسلوب التقريري الصحفي, بتنوع المواضيع التي تناولتها بإسهاب, واستخدمت التقارير العلمية التي لم تخلُ من الإحصاءات.
3- الحوار:
كان هناك حوارات تحمل النبرة الخطابية التي يعرفها جيدًا كل من تعامل مع البعثيين العراقيين والسوريين :
بدا ( فارس ) متحمسًا وهو يتحدّث عن أهداف الحزب: "وحدة حرية اشتراكية " التي تجسّد الوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والامبريالية العالمية وغقامة النظام الاشتراكي العربي.
سألته: هل تقصد بالاشتراكية تبنّي النظام الاقتصادي السوفياتي؟
هنا اغتاظ وقال لي: نحن لنا اشتراكيتنا الخاصة والتي نسميها الاشتراكية العلمية وهي نابعة من خصوصيتنا العربية .
قلت له: لكن ليست هناك خصوصية عربية واحدة, بل هناك خصوصيات ...حسب منوال التنمية في كل بلد, اعتمادًا على موارده الاقتصادية وأولوياته السياسية والاجتماعية ...
قلت له: ولكن هذه الاشتراكية العلمية لم تحقق للعراقيين ضروريات الحياة, فما بالك بأسباب الرخاء.
قال لي: صحيح أن هناك أزمة مواد أساسية لأننا نستوردها بالعملة الصعبة, وهناك مؤامرة كبيرة على الثورة في العراق من طرف قوى خارجية .
وكان هناك حوارات مقصودة باللهجات العامية للتدليل على موضوع اللغة واللهجات الذي أثارته على مدار العمل .

4- الوصف والجمال :
هناك صور استقتها الكاتبة من علم الجمال, فيما خلا علم البيان والبلاغة, لوحات رسمتها بالكلمات الملونة الراقصة على أنغام الموسيقى :
- في قلبي ينبت جناحان أكبر من عمري ومن حدود بلدي. من صغري أشعر أنني أعيش بقلب طائر لا يخفق ولا يرفرف إلا للرحيل والسفر .
- أنا المعلقة بين فضائين.. أتأرجح على حافة الزمن, أحاول أن أتماسك, لكي لا أسقط في مفارقة اللحظة, وأن أستجمع طرفَي الزمن في كفّي مأخوذة بشهوة الأجنحة.
- نجمة مغامرة في هذا الليل التائه, أفتح خطًّا في الأفق وأعد نفسي بأجمل صبح ينتظرني..
- في ليل الوجد الحائر ...وكل من أسقطهم النهار أو نسيهم في ركضه المجنون وراء عربات الموت العمياء. يلتقطهم الليل ويحتضنهم ويلعق جراحهم, ويبعثهم بشرًا قد يشبهون أو لا يشبهون أنفسهم.
- وقد يعانق " أبو النؤاس" "عمر الخيام" في كؤوسهم المترعة بالحب والعشق والتصوّف والزهد والجنون والمجون والخمرة حين تلتمع ذءاباتها وتتجمّع في كأس واحدة وفي يد واحدة وفي نفس واحدة تريد أن تبتلع الحياة كلها في رشفة واحدة تشرق بها الروح العطشة , الوالهة.
- ولشد ما كانت عبارة " وراء كل رجل عظيم امرأة " تزعجني وتربكني ولا تضعني في مكاني الصحيح. كما أنها لا تنصفني فلا تقنعني. كنت أشعر أنها تهمّشني وتقصيني وتبعدني عن مدار العظمة . تركلني للوراء وتحجبني في الكواليس.
- أمسح دموعي وأكتم حرقة مكابرة تأبى أن تنكتم, وصوت صامت يعاود العواء بداخلي, ما ينفك يزعزع دواخلي المبعثرة.
- نشأت طفلة بلا طفولة, فقد غرّبتني أحلامي مبكرًا عن أترابي ولعبهن.
- مقصية عن أصحابي وعن طفولتي, مبلية بأحلام شاهقة, كبيرة وثقيلة على كاهل طفلة لم تتجاوز الرابعة أو الخامسة من عمرها, ولم تدخل المدرسة بعد, أحلام تباعد بيني وبينهن, ولكن تفتح لي طريقًا نحو السماء...
- مقصيّة مرّة أخرى من عالم النساء, بعد ما أُقصيتُ من عالم الأطفال ووجدتني وحيدة متوحدة بذاتي في مواجهة الزمن والموت, مثل كوكب حائر, طاش عن مداره وبقي دون محور استنادي.
- كان علي أن أوقف هذه الصيرورة, الهابطة, وأخلّص نفسي من الإقامة الجبرية في الآخر , والاستغراق في ذاته والتمحور حوله, زوجة أو أمًّا أو عاشقة.
- وأن أخلع رداء التبعية وأخرج من دائرة القوالب الجاهزة والصورة المرسومة مسبقًا, والأنموذج المقرر سلفًا, والتاريخية الجاهزة التي تنتظرني كالقدر, منذ الولادة.
- كنت أريد أن أنجب ذاتي باستمرار, كما أنجب الأولاد... مشروع يخرجني من محدودية الوظيفة الجنسية إلى أفق الإنسان... به أنجب امتدادي الزماني والمكاني, وأعطي لمراميَ وأحلامي جسدًا لا يشيخ.
رابعًا- المستوى النفسي Psychological Level:
1- المدخل السلوكي Behaviorism Theory:
تساؤل احتمالي بقصد التناص مع شخصية عَلَم :
هل أورثتني " توحيدة بن الشيخ" حبّ السفر والمغامرة والتحدّي وحبّ باريس والدراسة في الخارج؟
والجواب كان سابقًا لسؤال:
و" توحيدة بن الشيخ" هي أول طبيبة, نسائية, تونسية, تخرّجت من جامعة باريس, هرّبتها أمها خفية من الباب الخلفي لفيلا الدار بعدما جاء كبار رجال العائلة, يوم سفرها لمنعها من الخروج,بوصفهم أولياء أمرها, بعد وفاة والدها , المحافظ, شيخ جامع الزيتونة, معترضون على سفر بنت من بنات عائلة " بن الشيخ" العريقة, والعيش بمفردها في باريس....
تساؤل تقمّصي: طرحت الكاتبة السؤال الذي يعتري كل من يدخل في صدمة وضع الغربة لأول مرّة, وهو سؤال مكرور
- ما الذي جاء بي إلى هذا البلد الغريب؟ وكيف تركتُ ورائي بيتًا دافئًا وأخوة يحبونني وأمي وأبي؟ لم نفترق يومًا ولم نغترب عن بعضنا أبدًا, ما الذي حدث معي؟ ومن أغواني أنا كبيرة أخوتي بالهجرة؟ وكيف تلبّسني شيطان السفر ؟؟؟
- ما الذي جاء بي إلى هذا البلد الغريب, البعيد؟ تذكّرت أهلي, والتفافنا حول الموقد في الليالي الباردة ودفء أمي وأبي وأخوتي... تذكّرت بكاء أمي المرّ وهي تودّعني... كيف رميت نفسي بهذا الصقيع الموحش؟
تساؤل اجتماعي مشكّك, يصبّ في حوض اختيارات الأنثى العربية بشكل عام, هل تختار أم يختار لها ولي أمرها:
- هل أنا التي اخترت فعلًا, الدراسة في بغداد؟ أم أن أبي هو الذي يواصل اختياراته لي؟ من الكُتّاب, إلى المدرسة الابتدائية إلى معهد: " نهج الباشا للفتيات", إلى بغداد؟
تساؤلات ثقافية:
تساؤلات محمولة على التشكيك بمصداقية زوال الاحتلال الفرنسي ثقافيًا :
- هل فسح " القديس هنري" المجال للشيخ مسعود, مؤدّب الحي, ليعلّمنا القرآن ولغتنا العربية, التي حاول المستعمر الفرنسي محوها؟ هل رحل القديس مع فرنسا حقًّا؟ أم أنها خرجت وتركته مع لغته وديانته وثقافته؟
تساؤلات عن الكتابة:
ما الذي يدفع الإنسان للكتابة, وماذا تشبه من الأفعال, وهل هي حكر على جنس الرجال, ولماذا نكتب؟ وهل لها عمر ؟ وهل تموت, كل هذه الأسئلة كانت مثارة بقول للأديب الكبير محمود المسعدي الذي قال:
" إن الرجل يكتب تعويضًا عن حرمانه من تجربة الولادة عند المرأة"
إذًا, الكتابة تشبه الولادة كما قال, هذا القول, حمل الكاتبة على إنشاء محاكمة عقلية مسنودة بالمنطق التسلسلي, وبالجحة والبرهان التجريبي والواقعي, للوصول إلى نتيجة تدحض هذا القول جملة وتفصيلًا :
- ولكن لماذا تكتب المرأة؟ إذا كانت قد حبتها الطبيعة بهذه النعمة؟ وكيف استبدلتُ أنا فعل الولادة بفعل الكتابة؟ كيف استبدلت الرحم بالكلمة؟ من الذي أوهمني أن الخلود مع القلم وليس مع الولد؟ ومن أطول عمرًا الكتاب أم الولد؟ ولماذا يموت كل أبنائنا ويبقى المتنبي حيًّا لا يموت والمعري وابن خلدون, ولماذا قالت صاحبة الحانة " سدروي" لجلجامش مشفقة عليه بعدما أنهكته رحلة البحث عن عشبة الخلود :
" تمتّع بهناءاتك وما يولد لك من أطفال . الآلهة أعطت الموت للإنسان واحتفظت هي بالخلود. وهو ما نحن عليه ولا محيد لنا عنه".
وهذا الاستنتاج الذي وصلت له الكاتبة تؤكده الذرائعية داحضة تفكيكية داريدا الذي رأى أن الكتابة هي الجزء المتدني من اللغة, وموت الإله( الكاتب).

- ولكن هل عمل جلجامش بنصيحتها؟ وهل هناك كاتب يستطيع أن يتمتّع بهناءاته وما يولد له من أطفال دون أن يرمي بنفسه في متاهة مغامرة البحث عن عشبة الخلود؟
- وكيف تركتُ أنا ورائي خطيبًا يستعد للعرس ويحلم بالزواج والأطفال وألغيت كل شيء ورميته وراء ظهري وسافرتُ إلى بلاد جلجامش للبحث عن عشبة الخلود؟
الكتابة ليست حكرًا على جنس الرجال,
تساؤلات عن اللغة والبلد والإنسان:
- هل يا ترى نحن نسكن بلدًا أم لغة تسكننا وتحل فينا حيثما حللنا؟
- بعد أربع سنوات عشتها مع بنات القسم الداخلي, صرت أرطن بكل اللهجات وبطلاقة أيضًا وحُلّت عقدة لساني, وتشتّت قاموسي التونسي وغاب عني... ولما عدت إلى بعد كل تلك السنين عاد حديثي مطعّمًا بكثير من المفردات التي لم تسقط منه إلى الآن.
تساؤلات نسائية في جوهر كيان المرأة بيولوجيًّا وأيديولوجيًّا :
مع سبع علامات استفهام دلالية لا بدّ نقف طويلًا
- و" هي" أين هي؟؟؟؟؟؟؟ كنت أبحث في صمت وهلع عنها, فلا أجدها... تلك الطفلة التي كانت تحلم بالزواج والأولاد.... ها هي قد تزوجت وأنجبت ! فبماذا تراها تتحلم الآن؟ هل انتهى الحلم؟ هل سقطت في الفراغ؟
تجيب الكاتبة بنفسها عن هاته الأسئلة, بنتيجة هي أن الحلم لا ينتهي وإنما يتكرّر:
- لا ! لم ينته الحلم . إنه يتكرّر ... إنها تحلم الآن بأن يكبر الأولاد ... وتحلم بتزويجهم.... وأقصى أمانيها أن تعيش حتى ترى أولادهم .
تساؤلات قيَمية: الهدف منها إثارة قضايا نسوية, مفادها هل هناك قيَم تخص الرجال وحدهم دونًا عن النساء:
- ألا يمكن أن أكون عظيمة أنا أيضًا؟ هل العظمة خاصية رجالية؟ هل قدري أن أكون – وراء العظماء- لا مكانهم؟
- هل العمل الحقيقي عار يجب أن نخفيه ونكتفي بالتستر عليه في الخفاء مثل التنظيمات السرية أو الأعمال الشائنة؟
- هل العمل نوع من الحشيش يجب تناوله سرًّا؟ لم أفهم لماذا لا يمكنني أن أكون كائنة بذاتي, لا بغيري!
تساؤلات قدرية :
- هل كان القدر مستعجلًا جدًا عندما رمى بي في بغداد بينما كنت أريد باريس؟
ما أصعب أن تعيش في بلد وتحلم ببلد آخر... وهذه ليست المرة الأولى التي يغريني فيها قدري عن حلمي.
تساؤلات وجدانية عن فلسفة الفرح والحب والحرب : والإجابة عن السؤال بسؤال:
- هل مازال هناك وقت للفرح؟ أم أن الحرب تجرف كل شيء معها؟ وتقضي على الأعياد والزينة...
- ترى هل الحرب هي زلزلة كيان الإنسان من الداخل؟ وتدمير إحساسه فعلًا؟
- هل تمنع الحرب النديم من شرب كأس مع نديمه؟ وتمنع الخليل من البوح لخليله؟
- هل تستطيع الحرب القضاء على الحب؟ أم أن الحب يتأجّج زمن الحرب؟
- هل يتزوّج الناس وقت الحرب؟
- والجنود في الجبهة هل يبعثون ( كما في الأفلام ) برسائل حب لحبيباتهم وأمهاتهم وزوجاتهم... ترى ترى ترى؟
كاتبة تلقي الدلالات, وتوازيها, وتشرك المتلقي بها ليجيبها, نعم, الحياة محكومة بالديمومة إلى أن يشاء الله, والإنسان فيها وقود لديمومتها.

2- المدخل التقمصي:
الحكم والمواعظ, والنتائج والآراء التي خرجت بها الكاتبة من تجربتها الحياتية والأدبية :
- ....أبقى مدينة لكل واحد من هؤلاء الفلاسفة, الذين تعلّمت عليهم بأن الاحتكام للعقل يجنبنا في مغبة (القبليات), وأنّ إعمال الفكر بداية طريق الحكمة, وأن الشك المنظّم أول درجات البحث عن الحقيقة, وأن لا أخاف من عقلي ومن الأسئلة, بهذه المخرجات المدرسية والوصايا المنهجية تتبدّى القيمة التنويرية لفلاسفة بغداد...
- الكفر الكبير هو الاستعمار يا أبي, وقد أخرجناها من وطننا قهرًا: من هذه المدينة التي هي أرضنا وبناياتها تُعدّ من غنائم الحرب . فلماذا نحرم أنفسنا منها؟ فلا تخشى علي الكفر يا أبي".
تربط الكاتبة بين هذا الحلم المكرور للمرأة وبين الاغتراب عن الذات بمنطق عقلي راحج جدًّا :
- وأنا أتابع في هلع, كيف تتحوّل المرأة إلى "كائن غيري " لم يعد يعيش لنفسه, بل يعيش للآخر : من أجله ومن خلاله... وهذا أخطر أنواع الاغتراب عن الذات, في عيني.
3- المدخل العقلاني Mentalism Theory :
تناصت الكاتبة مع ثلاثية التناص التي أقرّتها الذرائعية وهي :
- الحياة : جلّ الأحداث في الحياة مكرورة, فالحياة أوسع من الأحداث المعدودة , فلا بد أن تتكرّر أحداثها.
- وتجربة الكاتب الشخصية: نقلتها لنا الكاتبة كما رأتها ( أو تصوّرتها).
- وتجارب الآخرين: حين قرأت هذه الرواية, وجدت أن فيها أحداثًا وحيثيات تشبه ما شهدته في مرحلتي الجامعية في جامعة دمشق, وهذا تناص واقعي, كماتتناص الكاتبة مع كل الكتّاب الذين كتبوا سيرهم الذاتية, وتتفوّق على بعضهم بنسبية الإبداع .
التجربة الإبداعية للكاتبة:
نقديًّا, استوقفني أن الكاتبة كتبت عملها الأدبي السردي هذا بطريقة الدلالات المتوازية:
فهي تذكر دلالة ما, وتترك للناقد والمتلقي البحث عن مدلولاتها الغائبة, ثم عن المفهوم المضمر في ذهن الكاتبة, فمثلًا عندما ذكرت (مدني صالح ), وذكرها له معناه زجّ في خصوصيّاته, ف(مدني صالح) بنية دلالية, كانت غائبة بالنسبة للمتلقي, وحضرت بمجرد الإشارة إليها, فوجب على الناقد والمتلقي استحضارها, من هو مدني صالح؟ وما هي صفاته وما هي أعماله, وفي أي حقل اشتهر؟, والوقوف على المدلولات الغائبة يتطلب من الناقد العودة إلى المخزون المعرفي عن (مدني صالح) باستراتيجية الاسترجاع الذرائعية التي تعمل على البحث عن المفاصل الساقطة سهوًا, فيكون الناتج إبداعًا لا يستطيع الكاتب أن يرتبه في مفاصله, بطريقة نقدية إبداعية, لتجبر الناقد الفطن على إحضار المدلولات للدلالة الشاخصة بالإغناء الموازي, بالاعتماد على المخزون المعرفي الداخلي الكائن في العالم الداخلي,أو بالبحث عبر المراجع المعلوماتية, إن كان مجهولًا في إدارك المتلقي. فالكاتبة تكتب وتلقي دلالات في دروب الكتابة, ترفقها ببعض المدلولات, وتترك للمتلقي مهمة البحث عن مفاهيمها, ثم الاجتهاد لتأطير المدلولات في مفهومها, الكاتبة كانت محترفة, وقد تعمّدت استخدام هذه التقنية السردية النقدية ( الدلالات المتوازية ), فكانت استراتيجية الاسترجاع النقدية إضافة قيّمة إلى رصيدها الأدبي في هذه الدراسة النقدية.

#دعبيرخالديحيي الإسكندرية الأربعاء 19 مايو 2021









المصادر والمراجع

1- إبراهيم عبد الدايم, يحيى, 1971م: الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث – بيروت – دار إحياء التراث الأدبي : 3
2- أدب الرحلات المعاصر بمنظور ذرائعي- د عبير خالد يحيي – القاهرة : دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع, ط1 – الطبعة الأولى 2021 – أدب الديموغرافية ص 20
3- إبراهيم عبد الدايم, يحيى, 1971م: الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث – بيروت – دار إحياء التراث الأدبي : 3
4- عبد الفتاح شاكر,تهاني – 2002م – السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث الطبعة الأولى – بيروت – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – 18
5- إبراهيم عبد الدايم 1971م:3
6- عبد الفتاح شاكر 2002م20
7- الباردي, محمد2005 م عندما تتكلّم الذات : السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث. دمشق. منشورات اتحاد الكتاب العرب :8
8- عبد الفتاح شاكر 2002م:21
9- الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي – تأليف / عبد الرزاق عودة الغالبي – تطبيق / د. عبير خالد يحيي- دار النابغة للنشر والتوزيع- الطبعة الأولى 2019= صفحة 172








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى