الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البقاء في لبنان واجب والهرولة للخروج منه عار

غادا فؤاد السمان

2006 / 8 / 6
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


الوافدون الكثر الذين تحركوا من بيروت للمغادرة الفورية عند إطلاق أول صاروخ إسرائيلي معادي على الجنوب اللبناني، لا أعلم إذا كان تحركهم نتيجة حَدْسٍ قويٍّ داهم، أو أنّ الاتّصالات السرية وجدت كالعادة طريقها الآمن من قِبَلِ القيادات العربية مع قيادات الجهة المُضادة ومنها تمّ تعميم الإيعاز بوجوب التحاق كل سائح خليجي بركبه للعودة إلى الوطن وربما لوجهة بديلة لقضاء إجازة الصيف وخاصّة أنّ وقت الأشقاء العرب لا يتسع لا للتأييد ولا للتضامن ولا حتى لتسديد اللعنات اللائقة بإسرائيل!
وربما أمكن تفهّم نفور السائح الخليجي الانخراط في المغامرة أو الاندماج في المُجازفة ولا سيّما أن الحكام الأفاضل قد آثروا أن يظلّ الوضع على ما هو عليه منذ البعيد وربما حتى البعيد ومن يعلم!
لكن ما لا أفهمه أنّ الشعب الواحد الذي يُقيم في بلدين هما لبنان وسوريا، وأنّ التوأمة بينهما التي تؤكدها الروابط والجذور والأصول والفروع والتاريخ والجغرافيا وعوامل الطقس والعادات والتقاليد واللهجات والأمثال الشعبية قد شهدت حركة مماثلة ولكن بكثافة لا فتة أكثر وذلك بحكم الهجرة الدائمة أو المؤقتة إلى لبنان بلد الحركة والبركة والحرية والدولار والطموح والمصالح والمغانم والعلاقات والسياسة والضغط والحل والربط، ولا أخفي أنني في لحظة هلع وصدمة ورعب حزمت أمري وحقائبي للهرولة مع من هرولوا، واستوقفتني على عجل تساؤلات الجوار المُتعاقبة، .. أ ...مُغادرة إلى سوريا ؟!!
وتسللت إلى نفسي مرارة السؤال والعتب المبهم، فصحوت من خَدَر اللحظة الداهمة، وهول الكارثة التي حلّت دون سابق إنذار على شعب آمن، اجتهد كثيرا ليرمم جراحه التي بالكاد اندملت، وتذكرت أنني شقيقة هذا الشعب، والشقيق في الضراء كما السراء والواجب أكثر، وتذكرت أن لبنان بلد لشعب من دمّ ولحم يستحق المآزرة وليس مربعا للسهر أو مقصفا لشمّ النسيم، وتذكرت أنني من بلد يقدّس شعارات الصمود والتصدّي والتحدّي وما تلاها من معانٍ على امتداد نصف قرن لم يسلم جدار واحد من جدران سوريا وصحفها إلا وكُتِبَ على متنه كلّ العبارات الحادّة والمُؤجِجَةِ، وهاهي اللحظة الحاسمة وقد حقّت المواجهة، والمُقاومة تمهّد الطريق لتسجيل المواقف، فأي موقف سيسجله التاريخ في حال وجّهت وجهي شطر دمشق لأترك ورائي ذاك المشهد المروّع وهؤلاء المنكوبين الذين أعرف البعض منهم، وتعرّفت البقية على امتداد الدمار والرماد والنزوح. مخجل إذن قرار الرحيل، مخجل أن يغسل الشقيق يديه من غبار نكبة شقيقه، مخجل أن يُفرغ حدقتيه من شذرات الدم المُتطاير لأشلاء شقيقه وأبناء شقيقه وأحفاد شقيقه ونساء شقيقه.وحتى اللحظة لا أفهم وأتساءل مع من يواصلوا السؤال لماذا الجبهة السورية مختومة بالهدنة المزمنة واللامُبالاة ؟!!
كل ذلك تزاحم في رأسي وأنا برفقة السائق الذي لم يتحرّك إلا بضعة أمتار وهو يهمّ بتصديري إلى دمشق على غرار من صدّرتهم الكارثة وهو يدمدم سأعود وحدي ومن يعلم إن كنت سأعود فعلا، قلت لماذا أليس من مسافرين معك إلى بيروت لدى العودة من دمشق، قال: أين أنت ؟!! لبنان اليوم قيد الذبح والكل يتابع المؤامرة بشغف على الشاشات كفيلم /آكشن / ونحن فقط من يتوجع لفرط واقعية المشهد، وقبل أن يتابع
تقدمه اتخذت الموقف اللازم دون أي تردد، وبدأت بخطاب تاريخي أمامه كمجمهور أوحد أوجزته على الشكل التالي:" لن اترك بيروت لقضائها وقدرها وحيدة، لن أغضّ الطرف عما يُعانيه، كل من قرر البقاء حبّا وصمودا وتضامنا ومقاومة، لن أغرب بوجهي اليوم، لأعود بعدما تنفضّ الكارثة وكأنّ شيئا لم يكن، وقتها
لا أعلم بأي وجه أعود، لهذا لا بدّ من البقاء في بيروت صمودا مع الصامدين، وتضامنا مع الصابرين، كشاهدة عصر، وشاهدة حقّ أنّ لبنان فعلا هو قربان الحسابات الدقيقة والمراهنات الطائشة وما بينهما، ليس بالسلاح وحده تُدعم المقاومة، وليس لبنان وحده المُطالب بحفظ "ماء الوجه " فالعرب أجمعين قد فقدوا وجوههم منذ أول صفعة تلقوها من إسرائيل وحتى هذه الضربات المدمّرة للبنان الذي يتلقاها بمفرده نيابة عن
الجميع، والغاية اتّعاظ الجميع، الذين لا يملكون إلا أن ينكمشوا، وينكفئوا، وينقلبوا، وينبطحوا، ويواصلوا الزحف سعيا حثيثا لمرضاة إسرائيل إلى ما لا نهاية غير نهايتهم المحتومة دون ريب.
الهواتف والاتصالات والرسائل اليومية تتعاقب بغزارة فائقة ولا متوقعة بمجملها يتَعَزَزُ معنى التضامن في نفسي وقيمته، البعض منها يستنكر عنادي وتشبثي للبقاء في بيروت وخاصّة الأهل والأصدقاء في دمشق وأدين لهم بكل شكر للهفتهم العامرة، وآخرون يتفهمون ويؤيدون وإن على مضض لقناعتهم أننا بلغنا مرحلة مجانيّة المواقف ولا جدواها، ومع كل هاتف يتضاعف خطابي وتتصاعد دراميّته مكبّدة المتّصلين ضراوة الاسترسال حيث أطيل في شرح المشهد وبشاعته، وأدخل تفاصيل بادرة المُقاومة المُحدَّدَة في نطاق أسر الجنديين الإسرائيليين، وصفاقة إسرائيل في همجيّة لا محدودة لتمزيق لبنان، وتأديب القادة العرب بتأكيد الدرس لكل من تسوّل له كرامته باسترجاعها.
لهذا كلّه ثمّة واجب اسمه البقاء للتضامن والمساندة المعنوية، وهكذا يبدأ صوتي بالارتفاع، يباغتني الصراخ
الذي ألجمه فأتلعثم بغصّات خانقة لأنهي المكالمة دون وداع بعدما يغرق صوتي في ملوحة الدمع، بعدها ألوذ من نافذة إلى أخرى أراقب بحذر شديد تحليق الطيران الذي يتحيّن رمي حقده على مواقع حيوية من بيروت وضواحيها، أرتعد لهول الصوت، أجيد الخوف والقلق والوجع والارتباك، كإنسانة كادت أن تصدّق المنادين بالمشترك الانساني مع الآخر وكادت أن تدحض مزاعمها التي دفعت باهظا ثمن قناعاتها، وهي كما سواها تشهد المشترك الإنساني الذي أوصل دُعاته إلى منفذ لم يكن بمقدور أحد مجرد الحلم بها، ألتصق بالشاشة الصغيرة لأدخل دوامة الخبر العاجل والفرضيات المحمومة، أقضم أظافري بين هذا وذاك بانتظار عودة
الهدوء والكهرباء إلى ربوع هذا الوطن الضحيّة.

www.geocities.com/ghada_samman
mail:[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا