الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن الذات الفكرية والهوية البعثية*

جعفر المظفر

2021 / 5 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


وإذا ما إستدعينا من منتصف عقد الستينات بعضا من مشاهد الإحتدام السياسي آنذاك فسنكون حتما أمام واحد من أهمها ألا وهو إستمرار عمليات الشد والجذب مع التنظيم البعثي المحسوب على الجناح (السوري) الذي كان قد إنقلب على قيادة ميشيل عفلق بدعوى الإلتزام بالخطاب اليساري الذي كان قد تسيد الساحة السياسية إبان عقد الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
وبتأثير من الفشل الذي ظل ملازما للحزب بعد إنهيار نظاميه في كل من سوريا والعراق إبان مرحلة الستينات, وإشتداد ساعد النظام في سوريا, المنشق على قيادة عفلق القومية, والذي آل بعد ذلك إلى حافظ أسد, فإن الجناح العراقي الموالي لعفلق في العراق والذي نجح مرة ثانية في عملية الإستيلاء على السلطة نهاية الستينات وذلك بعد الإنقلاب على حكم الرئيس عبدالرحمن عارف, ظل يعاني من تداعيات إتهامه باليمينية, في عصرٍ كانت اليمينية فيه تعني ضمن ما تعنيه الإنحياز والإنتماء لقوى الردة الإجتماعية والسياسية.
إن معركة المواجهة مع الشيوعيين ومع عبدالكريم قاسم لم تترك للحزب أن يعيش طفولة سعيدة وصحية بل جعلت منه مخلوقا بجلد خشن وعضلات متينة, وقد قدر لذلك الجلد والعضلات أن تنمو على حساب عقله ورئتيه, فلا هو إستطاع أن يطور نظريته ويبلورها ولا هو إستطاع أن يتنفس في الهواء الطلق بعيدا عن دخان وثاني أوكسيد الكربون المتصاعد من تلك المعارك.
إن المجموعة السورية بقيادة صلاح جديد التي أفلحت في القضاء على حكم القيادة القومية في سوريا, ثم نصبت لنفسها قيادة قومية جديدة, هذه المجموعة التي كان من بين صفوفها حافظ الأسد, سرعان ما أفلحت بترويج خطابها اليساري مقابل تهمة اليمين التي ظلت ملاصقة بجناح ميشيل عفلق.
إن كثيرا من الذين إلتحقوا بقيادة عفلق فعلوا ذلك مهتمين بقضية الشرعية التي تجاوز عليها (إنقلابيو تشرين), ولو كانت قد توفرت أجواء صحية لحل الإشكاليات الفكرية بدون اللجوء إلى إسلوب الإنقلاب العسكري لصار ممكنا العثور على حل أفضل
ولست أزعم أن الإنقلابيين الجدد الذين أطلقنا عليهم صفة (المنشقين) قد جاءوا بخطابهم الفكري والسياسي من العدم, ذلك أن العقيدة الفكرية للحزب التي جاء بها عفلق والتي إعتمدت أساسا على التنظير للعلاقة التفاعلية ما بين الإسلام والعروبة قد زجت نفسها في موقف صعب, ففي تلك الفترة كان ممكنا للتيارات الوطنية واليسارية أن تحسم كثيرا من الجولات وذلك بالإشارة إلى عجز خطابنا الفكري عن تجاوز محنته الفلسفية النظرية وخاصة حول علاقة العروبة مع الإسلام.
وكان نصف العالم الذي عشنا فيه يتحدث بالماركسية والنصف الآخر قد فصل رسميا وسياسيا ما بين الدين والدولة, وبدا لي أننا نخوض بذلك سباقا بين القارب ذا المحرك البخاري السريع الذي يقوده الماركسيون في النصف الشرقي من العالم ومعهم العلمانيون اللبراليون في أوروبا وأمريكا وبين قاربنا العروبي الإسلامي ذا المجاذيف الخشبية, وما كنا قد فعلناه هو إننا أردنا أن نركب لقاربنا الخشبي مجاذيف بخارية بدلا من أن نختار قاربا بخاريا لحل أصل المشكلة.
ولا يعني ذلك بأية حال أن الأحزاب الأخرى قد وجدت الحل الأكيد والنهائي لمسألة الدين وبالأخص علاقة الإسلام مع المجتمع, إلا أنه يعني أن حزب البعث قد دخل المدخل الفلسفي إلى قضية سياسية فإرتضى لنفسه أن يتحرك في مساحة كانت الحركات السياسية الأخرى قد حاذرت أن تُفَعِّلها سياسيا حتى ولو من خلال التركيز على بعدها الحضاري التاريخي.
لقد كان الأفضل لمؤسسي الحزب لو أنهم قدموا أنفسهم إلى المجتمع كمدرسة فكرية بدلا من أن يتجهوا إلى تأسيس حزب سياسي من خلال موقف لم يكن حاسما وصريحا من قضايا أساسية وفي المقدمة منها موضوعة الدين والعلمانية لينتهي به الأمر هنا لكي يكون (عليمانيا), أي لا هو إسلاموي ولا هو علماني.
ولقد سبق لي وإن ذكرت أن الصراع الحاد مع الشيوعيين قد أدى (مرحليا) إلى البحث عن مزيد من العوامل التي تساعد على دعم صفوف الحزب لجعله أقدر على خوض الصراع ضد خصم متمكن وكفء, وفي تلك الفترة كان كل ما يحتاجه البعثيون هو إعلان إلحاد خصمهم دونما حاجتهم إلى إعلان صريح بشأن موقفهم الذاتي من الدين.
ولقد كان ممكنا للحزب أن يكون بمنأى عن خطر تحول التكتيكي إلى إستراتيجي لو أنه بنى بكفاءة متاريسه الصادة لذلك التحول, ولعل هذه مسألة لم تكن هينة على الإطلاق. وسنرى كيف صار الحزب في مواجهة تلك الأزمة الصعبة والمركبة والمعقدة بعد سقوط الشاه وهيمنة الإسلاميين على الحكم في إيران حيث لم تسعفه متاريسه الواطئة على صد الخطر القادم من الجهتين, الداخلية في مواجهة أخطار الإسلام السياسي الشيعي بقيادة محمد باقر الصدر والخارجية الإيرانية بقيادة روح الله الخميني, وبهذا صار الحزب في مجابهة ظلم السياسة وظلم العقيدة في آن واحد بعد أن صار العدو من أمامه والبحر من ورائه, أما عن قضية الإسلام فكنت من جانبي قد إكتفيت بالقول أن ما كان صالحا وقتها ليس بالضرورة سيكون صالحا في كل الأوقات (وأنا أتحدث هنا عن الإسلام الدولة والفتوحات وليس عن الإسلام الدين لأن تلك قصة أخرى).
وأعتقد ان أن المشهد المفصلي هنا هو أن تنظير عفلق كان طوبائيا بإفتراضه ان العمل السياسي ممكنا أن يخضع لمخيلة التمني والتماثل والتماهي والإنبعاث دون إعطاء العوامل الموضوعية أهمية قصوى على صعيد تحديد المناهج والعقائد وضرورة العثور من خلالها على البدايات الجديدة.
لقد حاول الأستاذ عفلق العثور على البدايات الجديدة في الماضي وليس في الحاضر وذهب إلى حد تخيل إمكانية بعث الروحية والقيمية التي لم يكن ممكنا لها أن تسود أنذاك إلا بإشتراطها حضورا لعوامل أساسية فاعلة وفي المقدمة منها وجود نبي ودين وبواعث ومكاسب تمكنت بحضورها الزمني والمكاني على تفعيل العلاقة بين التاريخي والذاتي من جهة والموضوعي من جهة أخرى.
وفي إعتقادي أن تأشير الخطأ كان ممكنا أن يكون أفضل لو كان قد تم من خلال الوقوف أمام الخطر الذي ينتج حينما يتم فصل الموضوعي عن الذاتي وأيضا محاولة العودة إلى الموضوعي من خلال (إسقاط) ماضي ما كان بالإمكان تشييده لولا القدرة على التعامل مع الواقع الموضوعي لتلك الفترة التاريخية بالذات.
أي أن (المجد) الذي أراد الأستاذ عفلق أن (يبعثه) كان نتاجا للواقع الموضوعي لـ (آنذاك) والذي لم يكن ممكنا إستدعاءه دون تجسيد لمجموعة العوامل الزمنية والمكانية التي كانت سائدة أنذاك والتي ساعدت على تكوينه حينها, وهي عوامل كان بإمكانها أن تنتج ذاتها الخاصة.
في مدينة البصرة حيث ولدت وترعرعت كان يكفي ان تسقط منك نواة تمرة, لكي تنبت في مكانها نخلة. اليوم أعيش في ولاية فرجينيا الأمريكية التي يستحيل زراعة النخيل فيها رغم خصوبة أراضيها وتوفر الأليات والمواد الزراعية والسهولة الإنتاجية والتسويقية, لكن مع ذلك تحتاج النخلة في آنٍ واحد إلى مجموعة من العوامل البيئية والعضوية والمناخية لكي تنمو وتترعرع وتثمر. هذا هو ما قصدته بالعامل الموضوعي المنتج للإفكار المثمرة.
وكما في الطبيعة كذلك في السياسة والفكر فإنه لا يمكن للحلم أن يعطيك نخلة.
ولم يكن بإمكان الحزب الصمود إلى ما نهاية إذ بدأ ماء الفيضان الديني الإسلامي يدخل من بين فتحات متاريسه لكي ينال من صفوفه الداخلية وهنا كان المأزق الثقافي قد بدأ يتسلق إلى سطح المشهد السياسي لدولته ولكي يعكس نفسه من خلال عملية إرتداد وإهتزاز مضحكة مبكية كان أبطالها خمسة من أعضاء القيادة العليا (القطرية) للحزب من بينهم جعفر قاسم حمودي وبرهان التكريتي مضافا إليهم طاهر العاني, حيث تمت معاقبتهم في المؤتمر القطري التاسع للحزب الذي إنعقد في بغداد عام .
1982
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القسم السابع من دراسة بعنوان (البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة