الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الجبار الفياض شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعر التجديدي (قراءة تأبينية بمناسبة رحيله الى العالم الآخر)

سعد الساعدي

2021 / 5 / 26
الادب والفن


لتناول القصيدة التجديدية لابد من الاستعانة بنماذج منها، فوقع الاختيار على مجموعة من الشعراء الذين يكتبون بهذا الاتساق التجديدي المتناغم كمدخل جديد وفق نظريتنا الجديدة في المدرسة النقدية التجديدية؛ نظرية التحليل والارتقاء التي تبتعد عن قوالب النقد ومدارسها الكلاسيكية التي لا تلبي الطلب التجديدي ونحن في عصـر ما بعد – بعد الحداثة، أو ما أسميناها الحداثة التجديدية، مع عدم نكران الاستفادة من تلك المدارس، لكن ليس كمقياس أصيل بوجود لغتنا العربية ومدياتها البلاغية الواسعة. كان للمرحوم الشاعر عبد الجبار الفياض مكانه الخاص في كتابنا التجديدية في الشعر العراقي الصادر عام 2020 كدراسة موسعة عن مجموعة من الشعراء العراقيين نتناول بعضاً منها هنا عرفاناً منا لما بذله فقيد الشعر العراقي المعاصر وهو يغادرنا سريعاً.
كان للشاعر اشتغالات حقيقية واضحة كقضيته فلسفت الواقع بلا زخارف كلماتية غارقة ببديع لفظي خالي الدلالة لمجرد أنها قصيدة صُنعت، وبذا سعى للوصول الى الخلاصة النهائية في تقديم طروحاته النقدية كشاعر ناقد لواقع، وليس متغزلاً بأنثى، لا يكتب للنخبة فقط، بل للجميع، ضمن العمل الذي خلقه بأدواته الجديدة المغايرة الى حدٍّ كبير لشاعرية شاعر حالم بالأنس والخيال الجامح فوق الثريا؛ بل هو حياة كثيرة الغصص فوق الثرى، كأبنٍ لهذه الأرض الخصبة بخيراتها، المجْدِبة بفاقتها؛ وبذا تكون له (أبستمولوجيا) تطويرية كجزء من أهدافه العامة، أو الهدف الخاص بنتاج ما يريد.
من العوامل المهمة التي دعتنا للخوض في قضية التجديد الشعري العراقي لاسيما شاعرنا الفقيد هو الأسلوبية الكتابية المكتظة بنتاج غزير متسارع كوضوح ضمني مع التاريخ والواقع الجديد خلال العقدين المنصرمين "بعيداً عن كل التعقيدات المصوِّرَة لألوان ما رُسمت به الكثير من القصائد والقصص وبعض الروايات بما نراه يومياً ممن يدّعون أنهم كتّاب يُغرِقون أنفسهم ويُتيهون القارئ بزجّ الكثير من المتاهات التي تحتاج من جديد لمفسّـرٍ لها رغم أن بعضهم يعدّها خلاصةَ فكرهِ، وعمق تجاربه الثقافية بما يطرحه استعراضاً فوق منصة النقد المتناثر بكل الاتجاهات لا يفهما الناقد البصير فكيف بالمتلقي البسيط"1.
إنَّ المتأمّل في مقطع من قصيدة ما للشاعر الفياض مثلاً كشاعر تجديدي اليوم يكتشف أنَّ استمرارية الابتكار اللغوي الانساني المتجدد ستؤدي حتما الى توسعة نقل الالفاظ والمعاني في جو عام تتضمنه الرسالة الاتصالية في التواصل البشري الفني الابداعي، واكتشاف امكانية سهلة في تناقل التراث الانساني بكل يسـر وسلام لاسيما ونحن نعيش في زمن يحاول فيه الجميع لتحويلية عارمة بكل شيء، من حيث يدري أو لا يدري، وهذا ما سار عليه الشاعر في أغلب قصائده في السنوات الأخيرة متراوحاُ بين نقد الحياة وانثروبولوجيا فيها أسماء خلَّدها التاريخ؛ تغذيها روح الفلسفة الناصعة التي اعتنقها كإنسان قبل أن يكون شاعراً يشار إليه بالبنان بما لا يخفى دوره كمربٍ للأجيال، لم يأخذ نصيبه الذي يستحقه كغيره من المغبونين في عالم اليوم.
فيما نكتبه هنا عن المرحوم الفياض نقتبس جزءاً بسيطاً بما تحمله أشعاره من دلالة وهو "العنوان" بعيداً عن تراثه الفكري، وما تركه لنا من مجاميع شعرية، كي نفسح المجال للغير بتناول ذلك تفصيلاً لا تكراراً. عناوين قصائده المختلفة نجد فيها منذ البدء الكثير من الدلالات المُوحية لصورة ألم وحسـرة، وحالة نفسية متضعضعة؛ لا تختص بشاعر فقط، بل بغيره ممن يعيش معه على هذه الأرض، ويعاني كما عانى هو. وثمة من يُلاحِظ ذلك في عناوين الكثير من القصائد اللاحقة في المتون. على سبيل المثال منها ما جاء في مجموعة "عرش امرأة" الصادرة عن مؤسسة يسطرون المصرية عام 2017: أميرة من أوروك، خطوط العشق، امرأة من دخان، وامرأة من سنجار التي يقول في مقطع منها:
" وعاظ
نخرتهم خفايا العتمة
اُتخموا بما فاضَ من سقطِ المتاع
السكوت من ذهب،
والإشارة تكفي
تجرُّ حروفُ الجرِّ جبال القمامة؟" ص97
اللغة الشعرية مما قرأناه واضحة بلا رمزية مبهمة تحتاج لعناء التفكيك أو التأويل، اضافة لقصائد أخرى لا تختلف كثيراً بالمعاني والدلالات. لا تفارقنا الصورة الحزينة أيضاً حين يوحي العنوان بالكثير مع ما في رمزيته من مضمرات تكشفها القصائد، اضافة لقصديَّة بغائيّة حتى وإن استبطنت كثيراً من المعاني، لكنها فاضحة الدلالة. ففي أول قصيدة (شرك) للشاعر الفياض في مجموعته عرش امرأة استهلها بين هلالين بعبارة: (اغفر لي يا عراق فلقد أشركت...) تتجلى هذه المعاني بقوله:
" قفي
لي ما تبقّى...
خيوط عنكبوت
لعلي أصنع بيتاً من وَهْم
أن اُدرك نهاياتٍ
بقامةٍ ما عبرتْ تحت منحنى...
اُرتّق ما تهلهل
اتسعتْ على راقعها الخروق...
أجمعها
ربما تكونُ أنا الذي أحببتِ أنْ أكونه منذ سنين!" ص31
من هنا نستشف أن القصيدة التجديدية بما هي اليوم حالة ابداعية؛ عنوانها له دلالة حضورية واقعية مؤثرة على المتلقي الباحث عن الجديد دائماً، كما التي سار عليها شعراء اليوم، لاسيما العناوين القصيرة، اضافة الى أن العنوان محفز وجداني للشاعر يرصف كلماته بشكلها المنتظم كراوٍ لقصة مختلفة تماماً عن كل ماضٍ سابقٍ.
هنا لابد للناقد من محاولة في معرفة كيف حاول الشاعر ملء بعض فراغ في عنوناته التي من الضـروري الوقف عندها طالما أن مرحلة الكتابة الأدبية تحاوزت فترة ما بعد الحداثة الى المرحلة التجديدية التي يسير معها كل شيء، في ظل انفتاحات فكرية انسانية خالصة، بعيداً عن كل شيء، من أجل سعادة الانسان ليس إلاّ، رغم وصف همومه وتعاسته.
من خلال ما جاءت به تلك العناوين الكثيرة للمجاميع والنصوص الداخلية لها نكتشف هنا جديداً آخر لدى شاعرنا، هو الكشف عن نفسية النص من خلال عنونة ليست طويلة؛ على العكس مما تأتي به القصائد التجديدية المسماة بالقصائد السردية التعبيرية الأفقية بكتلتها، التي هي ليست بالقصص أو الخواطر. بالتأكيد يكون أول الانطلاق من سيكولوجية الشاعر وفلسفته وارهاصاته ودواخل روحه الحالمة، أو المتألمة، أو العاشقة التي نرى الكثير منها في القصائد التجديدية النثرية، أو السـردية الأفقية حيث تميل اليها، وتسير على نهجها، حتى وإن كانت وصفاً لحب مغادرٍ أو يحتضر، أو أملٍ حالم.
في بعض عناوين قصائد عبد الجبار الفياض هناك صوت موسيقي، بسِمةٍ خاصة، تحمل دلالة توحي بالحرمان، التشاؤم، وصف حالة ما به البلد، والكثير من صور البلاء والابتلاء الذي منيت به الجماهير، ما يؤكد حقيقة نصاعة رسالية الشاعر، كشاعر سومري، ينتمي للأصالة، بعيداً عن هجنة مبتذلة لا تبتغي غير تسجيل أسم مغمور في صحيفة خالية من الضياء، وهذا ما رفضه شاعرنا بما عبَرت عنه قصائده. في مثل هذه الحالة حين يأتي الشعر حاملاً التصور الشامل للحياة بواقعها بصورة جديدة يلبس ثوباً مختلفاً عما عُرف سابقاً من أغراض شعرية ذات النمطية الواحدة، أو المقلّدة لغيرها، وبضبابية متشظية لن يكون الأداء التجديدي فيها توظيفاً لعوامل مساعدة تجعل من الناقد يخرج من فضاء سابق الى فضاء تجديدي، متخلصاً من رواسب فرضها على نفسه، أو فُرضت عليه واقعياً، ويخرج بموضوعة نقدية هي أيضاً تجديدية. لأنَّ المطلوب تقديم الجديد كبديل مرحلي؛ هنا يجد المتلقي كيف كتب الفياض والى أية غاية سعى، وماذا أراد بكل وصفياته المتداخلة بقيمٍ لا يعرفها إلاّ من تمعَّن فيها بإخلاص مثلما كتب الشاعر مخلِصاً متواضعاً تبكي كلماته قبل عينيه.
يتضح بشكل جليّ أنَّ فكرة القصيدة (النص)، أو فلسفتها الخاصة بما يريده الشاعر بعد نضوجها التام تحتاج أحياناً لتغليفها واحاطتها بهالة خفيفة تعمل على اشعال التفكير والتصور لدى المتلقي بكناية تارة، أو رمز متقن البيان، بعيداً عن ضوضاء الوصف، كي لا يتعب القارئ بما يراه أمامه من زخرفة لغوية، وتكرار تمتاز بها أحياناً القصيدة التجديدية لدى كثيرين وفق ما يسمى (قصيدة النثر) التي تضعفها، وإشعارِه بمتعة تليق به كمتلقٍ وجهاً لوجه مع نص يمتاز بوصفٍ كثير التفرعات، وجمالٍ لغوي، ومعنى قابل للتأويل أو التأمل، والتفسير وفق الحاجة النفسية والشعورية، والخلفية الثقافية، بما يسعى اليه الشاعر (أي شاعر أو شاعرة بلا فرق ومنهم الفياض) كمرسل لفظي لبيانٍ مكتوبٍ على الورق، يخترق الكيانات الروحية بالصور الجميلة، وهذه كلها أسس وخلفيات اعتمدتها القصيدة التجديدية، ويلاحظ على أشعار فقيدنا ذلك بوضح لا يقبل اللبس، ومع ذلك نجد بعض التكرارات لمفردات بعينها لدى بعض الشعراء مثل: سومر، بابل، آشور، عشتار، كلكامش، أنكيدو، الشمس، الساعات، والحياة... الى غير ذلك؛ هذا التكرار لم يضعف النصوص بقدر ما هو اشارة تفيد التذكير، وترسيخ المعنى في مواقع كثيرة، رغم أننا نميل لغير ذلك عبر توظيف مفردات أكثر اختلافاً لامتناع حصول انطباع سلبي لدى المتلقي بمحدودية ثقافة الشاعر باستناده لمجموعة خاصة من المفردات فقط بعيداً عن غيرها، لكننا لم نقف عند اشعار الفياض بمثل ذلك رغم اعتماده التاريخ بفلسفته ورجالاته كثيراً.
الشعراء العراقيون التجديديون كالمرحوم الفياض مع غيرهم من أدباء ومثقفين مفكرين هم العوامل المساعدة التجديدية في صنع نقد مقبول، وحضور ناقد ناجح، لا تعنية أية مدرسة بقدر ما يؤسس له مدرسة خاصة تواكب متطلبات العصر بكل جديده، ومن هنا تتسع المساحة النقدية للكتابة بحرية أوسع في ظل أرض خصبة مثلما سطّر شاعرنا قصائده. لذا نجد بيانات مميزة في الكثير مما كتبه الشعراء تستحق التأمل والوقوف عندها بما لها من إيحاءات دلالية تعزز من القوة الشعرية التجديدية، والمقدرة الفنية للشاعر.2
رحم الله الشاعر عبد الجبار الفياض، الشاعر الشامخ المتواضع في أدبه وخلقه وسجاياه، المظلوم في دنياه، لأنه لم يرَ ما كان يحلم به.
...........................
1- اقتباس مترجم عن إحدى مقالاتنا المنشورة باللغة الانكليزية في المجلة المحكمة لأكاديمية العلوم التربوية الأمريكية في واشنطن عام 2020
2- المقال عن كتابنا التجديدية في الشعر العراقي الصادر عن دار المتن في بغداد، بتصرف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة