الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية المعرفة في المادية - الماركسية الجدلية

خليل اندراوس

2021 / 5 / 28
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



تعتقد المادية الجدلية الماركسية، وتستند الى الخبرة الغنية للغاية التي جمعتها البشرية والى اكبر انجازات العلم والتطبيق الثوري، ان العالم قابل للمعرفة تماما وان غفل الانسان قادر على ان يكوّن فكرة صحيحة عن الواقع المادي، وهنا نؤكد بان المادية الجدلية الماركسية هي فلسفة العلم والتاريخ والطبيعة والمعرفة التي تطورت في اوروبا واستندت الى كتابات كارل ماركس وفريدريك إنجلز.

من الناحية الفلسفية الماركسية نستطيع ان نعرف المعرفة بانها الانعكاس الفعال الهادف للعالم الموضوعي وقوانينه في ذهن الانسان ومصدر المعرفة هو العالم الخارجي الموضوعي المحيط بالانسان. ويؤكد الجدل الماركسي على اهمية ظروف العالم الواقعي الموضوعي من حيث الطبقة والعمل والتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية، وهذه على عكس الجدل – الديالكتيك الهيغلي المثالي، الذي يؤكد على ملاحظة ان التناقضات في الظواهر المادية يمكن حلها من خلال تحليلها وتوليف حل مع الاحتفاظ بجوهرها.



في حين الماركسية تطرح الحل الاكثر فعالية وثورية للمشاكل التي تسببها الظواهر المتناقضة في المجتمع الانساني هو معالجة واعادة ترتيب الانظمة الاجتماعية من الجذور، فالمادية الجدلية الماركسية تؤكد بان العالم الخارجي الموضوعي يؤثر على الانسان ويثير لديه الاحاسيس والتصورات والمفاهيم المعنية. فالانسان يرى الغابات والحقول والجبال ويشعر بحرارة الشمس وضوئها، ويسمع تغريد الطيور ويشم عبير الزهور. ولو لم تؤثر عليه هذه الاشياء الموضوعية الموجودة خارج وعي الانسان لما كان لديه اقل تصور عنها، ومن المهم الاشارة الى ان الانسان لا يدرك اشياء وظواهر العالم الموضوعية فحسب بل يؤثر عليها بصورة فعالة.

ان الاعتراف بالعالم الموضوعي واشياءه وظواهره باعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة الانسانية هي المسلمة الاساسية لنظرية المعرفة الماركسية الجدلية، وهنا لا بد ان نؤكد بان النظرية العامة عن القوى المحركة للتغيير الاجتماعي وقوانينه – التي وضعت على اساس اكتشافات ماركس – تعرف باسم المفهوم المادي عن التاريخ، ونذكر بان اول من صاغ مصطلح المادية الجدلية الديالكتيكية هو جوزيف ديتزجين عام 1887 وهو اشتراكي روسي توافق مع آراء ماركس اثناء وبعد الثورة الالمانية عام 1848.



وفي سيرة فريدريك إنجلز التي كتبها الفيلسوف كارل كاوتسكي ذُكر مصطلح المادية الديالكتيكية، اما ماركس نفسه فتحدث عن "المفهوم المادي للتاريخ والذي اشار اليه إنجلز لاحقا باسم المادية التاريخية، شرح إنجلز كذلك "الديالكتيك المادي" في كتابه "ديالكتيك الطبيعة" عام 1883، واستخدم جورجي بليخانوف الماركسي الروسي مصطلح "المادية الديالكتيكية" لاول مرة عام 1891 في كتاباته عن هيغل وماركس. وتعرف النظرية العامة عن القوى المحركة للتغيير الاجتماعي وقوانينه التي وضعت على اساس اكتشافات ماركس – باسم المفهوم المادي عن التاريخ، وقد تم التوصل الى هذا المفهوم بتطبيق النظرة المادية الى العالم على حل المشكلات الاجتماعية، ولأن ماركس قام بهذا التطبيق فان المادية معه لم تعد مجرد نظرية تستهدف تفسير العالم وانما مرشد لممارسة تغيير العالم، وبناء مجتمع ليس فيه استغلال انسان لإنسان.

وما يجب ذكره بان الفلسفة المثالية لا تعتبر الواقع الموضوعي مصدرا للمعرفة، فموضوع المعرفة في الفلسفة المثالية هو إما وعي، احاسيس الانسان الفرد (الذات)، وإما وعي غيبي قائم خارج الانسان "الفكرة المطلقة" كما كانت تطرح الفلسفة المثالية لهيغل. ماديو ما قبل ماركس قاموا بتوجيه ضربة شديدة الى المثالية، حين اعتبروا المعرفة انعكاسا للاشياء الخارجية في ذهن الانسان، لكن آراء الماديون ما قبل ماركس عن عملية المعرفة كانت بدورها محدودة، فهم بحكم ميتافيزيقيتهم، (تفترض الميتافيزيقا مقدما ان لكل شيء طبيعته الثابتة، وخصائصه الثابتة وتنظر الى كل شيء على حدة، وتحاول ان تثبت طبيعة كل الاشياء وخصائصها كمواضيع للبحث معطاة ومنفصلة، دون النظر الى الاشياء في علاقاتها المتبادلة وفي تغيرها وتطورها)، لذلك عجزوا عن تطبيق الجدلية على عملية المعرفة، ونظروا الى الانعكاس باعتباره مجرد انطباع سلبي لشيء ما في ذهن الانسان، ولم يضع ماديو ما قبل ماركس في اعتبارهم النشاط الحيوي للذات العارفة، الانسان. زد على ذلك انهم عجزوا عن تقييم دور الممارسة في المعرفة، الامر الذي يشكل السبب الرئيسي لمحدوديتهم.



واذا تغلب ماركس وإنجلز على ضيق الفلسفات المادية الميتافيزيقية السابقة في فهم عملية المعرفة فقد وضعا نظرية معرفة مادية جدلية جديدة كيفيا. وان السمة المميزة الاساسية لنظرية المعرفة الماركسية هي انها وضعت عملية المعرفة على اساس من الممارسة ومن نشاط الناس المادي الانتاجي، ففي مجرى هذا النشاط بالذات يعرف الانسان الاشياء والظواهر، والممارسة في الفلسفة الماركسية هي نقطة انطلاق، اساس عملية المعرفة ومعيار صحة المعارف على حد سواء.

كتب لينين يقول: "ان وجهة نظر الحياة، الممارسة ينبغي ان تكون هي الاولى والاساسية في نظرية المعرفة، وهي تؤدي حتما الى المادية.." (لينين المؤلفات الكاملة، المجلد 18 ص 145). فالمعرفة من خلال الفهم المادي الجدلي التاريخي تسعى الى فهم العالم من اجل تغييره، وكما قال ماركس: "كان كل ما قام به الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة، بيد ان القضية هي تغييره" (ماركس قضايا عن فورباخ رقم – 11).

وقال إنجلز بانه في المادية الجدلية: "اخذت النظرة المادية الى العالم مأخذا جديا حقا للمرة الاولى، وطبقت بشكل متماسك.."، لأنها "عزمت على فهم العالم الحقيقي – الطبيعة والتاريخ – تماما كما يظهر لكل من يقترب منه متحررا من الخيالات المثالية المسبقة، لقد تقرر بلا هوادة التضحية بكل خيال مثالي لا يمكن ان ينسجم مع الوقائع كما تبدو في علاقاتها الحقيقية وليس في علاقاتها المتخيلة، ولا تعني المادية شيئا اكثر من ذلك" (إنجلز: لودفيغ فيورباخ، الفصل الرابع).

وبموجب الفلسفة الماركسية في النشاط العملي للناس والانتاج المادي بالذات تظهر الفعالية الهادفة للمعرفة الانسانية. فالانسان لا يمارس تأثيرا فعالا على العالم المحيط به وحيدا، بل بالتعاون مع غيره من الناس مع المجتمع ككل، وهذا يعني انه اذا كان العالم المادي هو موضوع المعرفة ومصدرها فان المجتمع الانساني هو الذات بالنسبة للمعرفة وحاملها، والاعتراف بالطبيعة الاجتماعية للمعرفة سمة مميزة هامة لنظرية المعرفة الماركسية.



لقد كشف مؤسسا الماركسية – ماركس وإنجلز – جدلية عملية المعرفة، فالمعرفة من وجهة نظر المادية الجدلية هي العملية اللامتناهية لاقتراب التفكير من الموضوع الجارية معرفته، وهي حركة الفكر من الجهل الى المعرفة ومن المعرفة غير الكاملة وغير الدقيقة الى معرفة اكثر كمالا ودقة. وتسير المعرفة الى الامام كاشفة عن جوانب جديدة متزايدة للواقع ومستبدلة النظريات البائدة بنظريات اخرى جديدة، ومضيفة مزيدا من الدقة على النظريات القديمة، والممارسة هي اساس المعرفة، والممارسة هي النشاط الفعال للناس في تحويل الطبيعة والمجتمع، وأساس الممارسة هو العمل، الانتاج المادي.

كما تشمل الممارسة كذلك النضال السياسي، الطبقي وحركة التحرر الوطني والتجارب العلمية، والممارسة اجتماعية من حيث طابعها، فهي ليست نشاط افراد معزولين بل نشاط جماعات كبيرة من الناس، نشاط جميع الشغيلة، أي اولئك الذين ينتجون الخيرات المادية. وفي مجرى الممارسة لا يحول الانسان الاشياء الموجودة في الطبيعة فحسب بل يخلق كذلك اشياء ليست جاهزة متاحة في الطبيعة. فالانسان ينتج كثيرا من المواد الاصطناعية التي تتجاوز احيانا في متانتها وغير ذلك من الخصائص الهامة كل ما هو معروف في الطبيعة، فالممارسة هي نقطة انطلاق المعرفة وأساسها، وهي تضع امام المعرفة مهمات محددة وتسهل انجازها وبذا تدفع المعرفة الى الامام، والمعرفة نفسها ظهرت على اساس الممارسة ولا سيما بتأثير الانتاج المادي.

والممارسة تقدم الادوات والمعدات للمعرفة العلمية، وبذلك تسهم في نجاح وتطور المعرفة، فلولا الادوات العلمية المعقدة التي تنتجها الصناعة الحديثة لما تمكن العلماء من اكتشاف نواة الذرة، ونحن لا نستطيع تصور العلم في يومنا هذا دون الميكروسكوبات الالكترونية والحاسوب والصواريخ الكونية وكثير غيرها من ادوات المعرفة البسيطة والمعقدة. وكل هذه الادوات هي في الواقع، نتاج الممارسة، نتاج لنشاط الناس المادي العملي.



والممارسة ليست اساسا للمعرفة فحسب بل هي كذلك هدف للمعرفة، فان الانسان لا ينكب على معرفة العالم المحيط به وكشف قوانين تطوره الا بغية استخدام نتائج المعرفة هذه في نشاطه العملي. والمعرفة احد اشكال نشاط الناس، انها نشاطهم النظري غير ان النظرية بذاتها عاجزة عن تغيير الواقع، وهذا ما يميزها عن الممارسة.

فالنظرية انما تعكس العالم فحسب تعمم خبرة البشرية العلمية، ولكنها إذ تعمم الممارسة تترك تأثيرا معاكسا جدليا عليها وتسهم في تطورها، فالنظرية دون الممارسة عديمة المعنى، والممارسة دون النظرية عمياء، فالنظرية تهدي الممارسة الى الطريق وتشير الى اكفأ الوسائل لتحقيق الاهداف العملية.

والنظرية الماركسية – اللينينية بالغة الاهمية لتطور المجتمع، فهي باعتبارها انعكاسا سليما عميقا جدا للواقع وتعميما لممارسة نضال الطبقة العاملة الثوري تصلح كمرشد لنضال الطبقة العاملة من اجل الثورة الاجتماعية من اجل الاشتراكية والشيوعية، وانها، أي النظرية الماركسية – اللينينية، بكشفها عن قوانين التطور الاجتماعي الحقيقية تمكن الاحزاب الشيوعية لا من ان تتصرف بشكل سليم في الوقت الحاضر فحسب، بل كذلك من ان تتنبأ بالمستقبل وان تخطط علميا النشاط والنضال الطبقي العملي لسنوات عديدة مقدما، فالوحدة بين النظرية والممارسة هي المبدأ الاعلى للماركسية اللينينية، والمعرفة لا تقف ساكنة بل تتحرك وتتطور على الدوام، ويجد تطور المعرفة تعبيرا عنه في حركتها من التأمل الحي المباشر الى التفكير المجرد، يقول لينين:

"من التأمل الحي الى التفكير المجرد، ومنه الى الممارسة – هذا هو الطريق الجدلي لمعرفة الحقيقة، لمعرفة الواقع الموضوعي" (لينين المؤلفات الكاملة المجلد 29. ص 152 – 153).

وعندما نأخذ بالنظرة المادية الجدلية للممارسة علينا ان نثبت بان الاخذ بفلسفة نقدية ثورية جدلية ماركسية، يجب ان ننزلق الى التوهم المثالي بان فعلنا هو مصدر الواقع الذي نمارس عليه هذا الفعل.

وفي النهاية الماركسية فلسفة للفعل، للعمل، للنضال، فلسفة تجعل من الوعي ومن الممارسة الانسانية التي تولده وتغنيه باستمرار، واقعا حقيقيا، ولكنه باستمرار يتخطى المعطى، وباستمرار يضيف الى الواقع بفعل خلاق. والماركسية وعي الانسان لذاته وعيا ايجابيا مناضلا ثوريا يمارس النظرية بمعرفة من اجل حرية الانسان والانسانية.

فالماركسي لا يرى في الثورة الاجتماعية غاية في ذاتها ولا غاية اخيرة، بل يرى وراء كل اعماله وراء كل معاركه ونضاله ان يجعل من كل انسان انسانا أي خالقا ومركزا للمبادرة التاريخية وللخلق على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، من اجل بناء مجتمع المستقبل مملكة الحرية على الارض، ففي الجماعة وحدها تصبح حرية الشخص ممكنة.



الماركسية تطرح وتتبنى السمة الخلاقة والجدلية حقا لتقدم المعرفة، بما في ذلك المعرفة التاريخية، عن طريق اعادات ترتيب شاملة، وهذا لا يعني ابدا معاودة التشكيك بالمكتسبات النهائية، سواء في علم التاريخ او في أي علم آخر، بل ان هذه المكتسبات النهائية تظل محفوظة في داخل التركيبات الدائمة التجدد، لحظة التخطي الجدلي للنظرية السابقة.

والماركسية تحمل في ذاتها، امكانات غير متناهية للتطور والتجدد، تفسح لها في كل لحظة من التاريخ سبيل وعي ما للفكر والمعرفة والعمل والممارسة في كل ظرف جديد، ولذلك علينا ان لا نقف عند حدود العقل المتكون والمعرفة المتكونة، بل علينا ان نضع انفسنا على مستوى العقلانية الجارية التكون باستمرار، فنكون دائما حيث يولد شيء جديد لم يتبلور بعد في مفهوم.

** مراجعل المقال:

مدخل الى المادية الجدلية – موريس كورنفورت
اسس المعارف الفلسفية - افاناسييف
ماركسية القرن العشرين روجيه غارودي
ماركس – إنجلز – مختارات
لينين – مختارات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نظرية الانعكاس خاطئة
منير كريم ( 2021 / 5 / 28 - 21:16 )
تحية للاستاذ
تستند نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية على نظرية الانعكاس , المعرفة وفق نظرية الانعكاس هي انعكاس العالم الموضوعي في ذهن الانسان
هناك معارف او افكار ليست انعكاسا لواقع مثل فكرة اللانهاية , لا توجد من الناحية العملية فئة لانهائية فمجموع كل حبات الرمل عدد هائل لكنه نهائي
المعرفة هي صورة ذاتية للواقع الموضوعي وفي التجربة العملية يحدث تداخل بين الذات والموضوع
اللانهاية مفهوم ذاتي معبر واللانهاية ليست انعكاسا
شكرا لك


2 - تسئ الى الماركسية اكثر مما يفعله أعداءها!
طلال الربيعي ( 2021 / 5 / 29 - 00:39 )
مع احترامي الكامل للكاتب, الا انه للأسف يردد مقولات الماركسية المبتذلة, الستالينية. ان عقل البشر ليس انعكاسا مرآتيا لما يسمى الواقع! والا, مثلا, كيف تفسر إن تؤمين من بيضة ملقحة واحدة, أي بنفس التركيبة ألجينية ويعيشون بنفس البيئة يصبح احدهما مدمنا على الخمرة والآخر لا يعاقرها مطلقا؟
كيف تفسر تجربة القطة السوداء العقلية لشرودنجر, او ارتباط فوتونين وسلوكهما نفس السلوك, في نظرية الكم, مهما بعدت المسافات؟ وسلوكهما يتحدد بقياسهما. اي ان سلوك الفوتون هو سلوك النرد عند رميه في الهواء وهو يمكن ان يكون 1, 2, 3, 4, 5, 6, وفقط يكتسب قيمة واحدة من هذه القيم عندما يحط على الأرض.
كيف تفسر ان بروليتاريين يتعرضان لنفس الظروف فيصبح احدهما ثوريا والآخر معاديا للثورة؟
إن كتابات كهذه هي تبسيط فاحش ومخل بالماركسية وتسئ إليها اكثر مما يفعله أعداءها وهي النقيض الكامل للديالكتيك!

اخر الافلام

.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ


.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا




.. ما المطلوب لانتزاع قانون أسرة ديموقراطي في المغرب؟


.. سيارة جمال عبد الناصر والسادات تظهر فى شوارع القاهرة وسط أكب




.. احتجاجات جامعة إيموري.. كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة الأم