الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التشرذم السياسي العراقي

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2021 / 5 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


رغم أن حالة التشرذم السياسي، وما يترتب عليها من انقسام حزبي، قديمة في العراق وتعود إلى بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، إلا أنها حالة لافتة للنظر وتمثل حالة (ثقافية) استثنائية.
وإذا ما حاولنا تأصيل هذه الحالة أو تجذيرها فإننا سنجد أنها لا تعكس وضعاً ثقافياً تفرضه بنى ومرتكزات وعي ناضج، بقدر ما تعكس حالة تشرذم اجتماعي مبعثه الانقسام والتفكك تحت سقوف الهويات الفرعية المضادة (كي لا أقول المعادية) للهوية الوطنية الجامعة.
كما أشرنا في البداية، فإن هذه المعضلة قديمة وأول من شخصها في حياة المجتمع العراقي هو الملك فيصل الأول، مؤسس الدولة العراقية الحديثة (وهو ما أكده العلامة علي الوردي في أغلب بحوثه حول طبيعة المجتمع العراقي)، عام 1921 بقوله (في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية؛ لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى؛ مستعدون دائماً للانتقاص من أي حكومة)، والحقيقة، وبعد مرور مئة عام كاملة على هذا التشخيص الدقيق نجده – إذا ما أردنا أن نكون أمناء مع أنفسنا – كان بمنتهى الدقة، وإن مئة العام الماضية من عمر الدولة، قد زادتنا انقساماً وتشرذماً وفوضى وليس العكس.
من أين جاءت هذه الحالة في حياة العراق العربي، أي منذ عهد الفتح الإسلامي وما تلاه من حروب، سعت كل فئة عبرها إلى بسط نفوذها وتأسيس دولتها وحكمها على أرض العراق؟ جاءت وتولدت من خليط أعراق المقاتلين الذين رافقوا وقاتلوا في تلك الحروب. وطبعاً استوطنت بقاياهم أرض العراق، بعد نهاية تلك الحروب؛ وهم كانوا من مئات الأعراق والشعوب التي دخلت الإسلام وليس أغلبهم عرباً أنقياء العنصر، كما ادعوا ونظن نحن أيضاً. فكيف يمكن أن تجمع عشرات الأعراق والبنى الاجتماعية والثقافات تحت هوية واحدة جامعة، مثل الهوية الوطنية مثلاً، وخاصة أن نظام الدولة لم يعمل على تأسيس أرضية ثقافية جدية لمثل هذا، بسبب الظروف التاريخية والموضوعية، من مثل عدم توفر إرادة الدولة الفاعلة بهذا الاتجاه والتعليم المدني والظرف الاقتصادي حينها، بالدرجة الأولى؟ وهذا الأمر لا يتعلق بعمر دولة العراق الحديثة فقط، بل يتعلق بالعهود السابقة، ومنذ قيام الدولة العباسية، على أقل تقدير.
طبعاً اليوم يعتبر أغلب سكان العراق أنهم من أصول عربية لا يرقى إليها شك، بل وعرب أقحاح مؤصلين؛ والسؤال هو: مادامت هذه الغالبية من أصل عرقي واحد فلم اختلافها وتشرذمها تحت عشرات الهويات الفرعية، ولماذا تقديمها لهوياتها الفرعية على هويتها الوطنية؟ وبصياغة أكثر مباشرة: لماذا لا يجتمع العراقيون تحت هويتهم ((العرقية أو القومية)) أو الوطنية، كما هو حاصل في باقي المجتمعات العربية في السعودية وقطر والامارات والأردن، على سبيل المثال فقط؟
في بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، عام 1921 ، لم يكن يزيد عدد سكان العراق على خمسة ملايين فرد، ولكن ومع ذلك، نراهم قد استغلوا حالة النهج المدني والعلماني للملك فيصل الأول ليمارسوا كل أشكال انقسامهم الديني والايديولوجي والسياسي، بعد فترة الكبت والاضطهاد العثمانية، ليشكلوا عشرات الأحزاب والتجمعات السياسية والأيديولوجية، بين صفوف شعب أمي متخلف لا يزيد عدد نفوسه على خمسة ملايين، كما أسلفنا.
فلماذا يكون عدد الأحزاب السياسية في بريطانيا – دولة احتلال العراق زمن تأسيس دولته الحديثة – لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، نظير عدد سكانها الذي يبلغ عشرة أضعاف عدد سكان العراق حينها، في حين يكون للعراقيين عشرات الأحزاب مقابل عدد نفوسهم الذي يمثل عشر من عدد سكان بريطانيا؟ أليس هذا دليل انقسام وتشرذم وعدم وجود هوية جامعة، الهوية الوطنية؟
بل إن حتى حقبة عهدنا الجمهوري، التي تميزت بالتضيق وحل الأحزاب، لم تخلوا من عدد كبير من الأحزاب السرية (الداخلية) وأحزاب المنافي، التي تسمي نفسها أحزاب معارضة.
وطبعاً الانفجار الأكبر والأوسع هو الذي رافق عهد احتلالنا الجديد، في التاسع من نيسان 2003 ، والذي شهد حالة الانفلات الكبرى، ليسجل العراق أعلى حصيلة للأحزاب والكيانات السياسية والأيديولوجية، والتي زاد عددها على 400 مقابل عدد سكان 30 أو 32 مليون نسمة، في أرجح التوقعات.
وها هي مفوضية انتخاباتنا الجديدة، التي ستجرى بعد خمسة شهور، تسجل تقدم 438 حزباً وكياناً سياسياً لخوض هذه الانتخابات، فماذا يعني هذا وعلى ماذا يدلل، إذا ما قارناه بوضع الدول الديمقراطية الكبرى، من مثل بريطانيا والولايات المتحدة، التي لا تترشح لانتخاباتها أكثر من حزبين رئيسيين، تتصدر المنافسة الحقيقية (حزبيّ العمال والمحافظين في بريطانيا، والحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة) مع بضعة أحزاب هامشية لا تكاد تذكرها حتى وسائل الإعلام، لضآلة أثرها، في الحياة السياسية وفي نتائج الانتخابات، على حد سواء؟
438 حزب سياسي لـتمثيل 32 مليون إنسان!!، في حين أن دولة الهند البالغ عدد سكانها مليار ومئتي مليون نسمة، يبلغ عدد أحزابها المسجلة 1851 ، بينما الفاعل منها في العملية الانتخابية هي سبعة أحزاب فقط، فماذا يدلل هذا - في حالة العراق - على غير الانقسام والاختلاف والتشرذم والتقوقع داخل الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة؟
وأخيراً فهل أفضل من حالة التشرذم والاختلاف هذه، لأعداء العراق ووحدتنا الوطنية من الاستثمار فيها؟ أكثر من أربعمئة توجه عقائدي وطائفي وقومي وايديولوجي وسياسي، وكل توجه سيجد له طرفاً خارجياً، يضخم له رؤية اختلافه ويعمقها، بل يدعمه بالمال والسلاح من أجل تفعيل أثرها النفسي وقوتها المادية في الساحة السياسية وبنية النسيج الاجتماعي.. وللأسف الشديد فإن أغلب هذه الأحزاب والكيانات مستسلمة لهذا الوضع وتعتبره هو الوضع المثالي من أجل صيانة وحدتها الكيانية أو الفئوية والدفاع عن مصالحها وحمايتها من أطماع ووقيعة الآخر المختلف (وطبعاً هذا الآخر، لكل حزب وجهة وفئة، حاقد ويتحين فرصة الانقضاض عليه). وللأسف فإن هذا الآخر يبلغ عدده، في عراق عام 2021 ، من بين المسجلين بصورة رسمية 438 آخراً، وألله أعلم بعدد غير المسجل منها ويعمل بصمت وحقد نملة!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقطاب طلابي في الجامعات الأمريكية بين مؤيد لغزة ومناهض لمع


.. العملية البرية الإسرائيلية في رفح قد تستغرق 6 أسابيع ومسؤولو




.. حزب الله اللبناني استهداف مبنى يتواجد فيه جنود إسرائيليون في


.. مجلس الجامعة العربية يبحث الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والض




.. أوكرانيا.. انفراجة في الدعم الغربي | #الظهيرة