الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العتابي وتحولات المكان -هل الفُل عراقي-؟ نعم (الحزن) عراقي وضارب الجذور.

هاشم مطر

2021 / 5 / 30
الادب والفن


العتابي وتحولات المكان
"هل الفُل عراقي"؟ نعم (الحزن) عراقي وضارب الجذور.
لعل اول ما يفاجئك في كتاب العتابي (داخل المكان) وبعنوان فرعي آخر (المدن روح ومعنى) الصادر عن مطبعة الكتاب/بغداد2021، ما سأقوله على نحو لا أبعد فيه عن سهولة تناوله لما اراد ايصاله، هو السهل المبني على الأدب الساخر. والأدب الساخر هو من الأنظمة الكتابية التي نادرا ما نصادفها ذلك لسهولة مبناها فالسهولة الظاهره هي في حقيقتها من اصعب الفنون واعقدها، وينطوي نجاحها على اقتناص المفارقة. بحيث يترك الكاتب فيها فسحة تأملية تصل احيانا لحد الصدمة ذلك لعمق التساؤل الذي يبقى نابضا في مبنى النص. يحتاج هذا النوع من الأدب الى عمق وتصوير ومقارنة ومقاربة قد تنفلت لسبب نحافة خيطها الموصل، فيتوجب على الكاتب عدم الامتثال الى تحليلية معمقة فيما يبقي على التأشير البياني لكي يضمن سحر ومضة البرق من حيث السرعة والالتماع والتأثير الممغنط او الكهربي كموجات موصلة.
اختار الكاتب حقل ذكرياته مسرحا لحكاياته، فأصبحت المكان المعلن، لتكون شاهد المفارقة في زمن محدد، وهو الغالب في اكثر النصوص التي يصلح بعضها الى ثيمة اوسع كعمل ادبي، انما وضعها العتابي على وفق تأثيرها الزمني آنذاك ليمنح سحرها عن كل من غادر المكان ثم الى كل من اهتم به، ليس كجغرافيا او تاريخ، انما كنسيج مجتمعي يلتمع كما الطبيعة والمنظر. فالمظهر الشعبي بفلكلوريته وتأثيثه الريفي الضارب للتناقض اللوني، هو فاتن ايضا بذات التفصيل الذي يطل علينا بعهود متقدمة كموضة ولون بهيج. أما عن ضجة المضاربات التفسيرية وحتى الدراسية المعرفية للباحثين فأن الحكايات لها منجمها الرابض في سياق سلوك البشر العاديين الذين يشكلون معالم المكان الذي من دونهم لا يعني شيئا.
من هذا المنطلق وهذا الجو ينحو الكاتب او يسير كما على (صراط مستقيم ) تكفيه زلة واحدة ليضيع، فيما حسن تدبيره ينقله ليس للأمان حسب، انما ليراكم مدلولات الحدث المكاني فتصبح شواهد طريق كادت تختفي، حتى على سبيل الذكرى، فتمنحها المفارقة حقها وهيبتها. وان شئنا ان نقول شيئا آخر عن التوثيق او التحقيق فأنه لا يستقيم من دونها. وبهذا يعطي العتابي بمنتجه فرصة تأمل حياة غائبة، لكن مفرداتها التوثيقية كأحداث وشخصيات مازالت نابضة بضمير المكان مهما اختلفت صورته بعد عقود. وقد تختلف امكنة العتابي بين ثابتة ومرتحلة، بين غائبة وحاضرة لكنها محتشدة بوجدانها بل بوفائها، وعلى هذا النحو ايضا يقوم بمقاضاة نفسه امام صحبه كذلك، ممن قضوا او هاجروا، فهل انصفهم فعلا؟

انتقل الى مفصل آخر هو فرق الحكائي اليومي عن نفسه وقت اخضاعه الى مشغل الكاتب. ولماذا نعيد اصلا رواية الأقاصيص في وقت يتم تناقلها لسانيا كتندر او ذكرى او حِكَم، وحتى كنشر في صورة من الصور. يذهب النقاد لكشف سر السرد المبني على التجربة الشخصية، للقدر الذي يفضلوه على التخيلية الصرفة! لماذا؟
في مشغلك الأدبي هناك عناصر جاهزة او قد جهزت نفسها بنفسها، وهي اذا ما احسنت التعامل معها فهي التي ستستدعي عناصر المخيال بذاتها، وبذلك تكون وقفة الكاتب واثقة الى حد بعيد وقد ضمن نجاح منتجه. أما أن يكون متألقا فهنا تدخل عناصر اخرى يفسرها خروج او ابتعاد الكاتب عن مناخ الاكتئاب الكتابي الى رحابة النص. فالمادة المعاشة تتيح له جو التنقلات بحركية ومناورة تجعله يمسك بتجليات الصورة المظهّرة بأكثر من زاوية، وبهذا قدرة تخيلية تخلق ذاتها بانسيابية عالية ومهارة تروم او تستدعي اجرائية الناقد.
بهذه الروحية جهز الكاتب العتابي مادته، التي هي حكايات مضى عليها الزمن فانتشلها من سباتها ليطلق طاقتها ويحرر زمنها من قيده الوجودي، فتبقى اسماء القرى والمدن والانهار رمزية بمحصلتها النهائية، بما في ذلك الشخصيات التي اتى على ذكرها تحديدا، حتى وان خاطبها على نحو شخصي.

في حكايته الأولى عن قرية نائية اسمها (الغازية) يمكن احالة وجودها الى ازمنة مشابهة وامكنة حاضنة اخرى، كذلك يكون الافتراق الزمني محض لعبة للكاتب لا يأتي على نحو انطباعات تأشيرية، وانما كأحالة رمزية ايضا، لزمن متحول، قد يختلف بشكله، انما توهجه يبلغ مداه بعدة اشكال، منها فن الكتابة واللغة وتفكيك الفكرة، بما فيها الإحالة والإسقاط. فمع المتناقضات الصادمة لقرية ترزح تحت الفقر والأمية يكون الحماس للانتماء المتصاعد في جو المتغيرات السياسية يأخذ صفتة الشكلية برفع شعار «مير دروشبا » سلام، صداقة «إزدرازدي سواريششش » أي ( إزدارازدي تفاريش ) أهلا بالرفيق. لا يفهمها المتورط بقولها سوى انها مناسباتية، تأتي كأوامر عبر الهاتف اليتيم في القرية، للترحيب بضيفين روسيين من الخبراء عائدين الى بغداد بعد مهمة استطلاعية او تنفيذية لمعاهدة التعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفياتي التي وقعها النظام الحاكم بعدما عارضها الحزب ذاته في زمن سابق!
يرسم الكاتب مشهده المفارق بحبكة ساخرة ضمنية لتلاميذ يجري تجميعهم بدشاديش قصيرة واقدام عارية يلهبها «حديد الطبكة »، المكان الذي يتدربون فيه، على عبارات الترحيب بلغة روسية في وقت لم يفكوا فيه الحرف العربي بعد!
وفي ذات غرائبية التناقض يكون لحكاية الكاتب الثانية (البحث عن رشيد عالي ) دلالة مكثفة لجانبين الأول استمرار للحالة المزرية لقرى الجنوب يرافقها قناعة اهاليها بكل صنوف القهر، والثاني هو وجه سلطوي سياسي يبحث عن مناوئيه. يجمع الكاتب الحالين بحادثة تكشف برحلة باص يتعطل في جو عاصف ممطر، ينطلق نحو المدينة، من ضمن ركابه تلميذ يذهب لمدرسته كل اسبوع، والمفارقة ان تنقذ مفرزة الشرطة مصادفة راكبي الباص المتورطين، في بحثهم عن رشيد عالي، حتى يكتشف التلميذ في عودته ان ابيه كان يبحث هو الآخر في تلك الليلة عن رشيد عالي!

وهكذا تختلف المفارقات من قصة الى قصة حسب تعلقها بالمكان والحادثة التي يرويها الكاتب بتفصيلات مكانها الذي هو زمنها ايضا، وهو زمن العتابي ذاته، فهي مادته الأولى التي اطلقت فيه ميله للثقافة كأن تكون (مكتبة الغراف في الشطرة ) التي تنتهي سيرتها مع رحيل صاحبها فيكون المشهد صامتا ومحزنا. يكمل الكاتب سيرة المكتبات في الشطرة بنص آخر ماتع وتغريب (لطيف) كما اسم صاحبها الذي يتحور الى (لتيف) توددا وتخفيفا للغة اجنبية وهو يروي حكاياته عن زياراته لبغداد ليتحف مكتبته (مكتبة الشعب ) بالجديد. يروي صاحب المكتبة مشاهداته بطرافة وتضخيم، وربما متخيل تماما، ليصل بمشقة في وسط تظاهرة عظيمة ترحب بضيف العراق، رئيس الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية (انستاس ميكويان ) بصحبة الزعيم في سيارة غير مكشوفة. نقر لطيف مرتين على زجاجها ليحي الضيف فيجيبه الزائر وكأنه يعرفه حق المعرفة كصديق «هلو رفيك لتيف »!
فيما تكون حيرة المدير في قصة (فقدان سلسلة ) على وجه من الصعوبة ليكتب الى مدير المعارف عن فقدان سلسلة الزورق الذي يقل التلاميذ الى مدرستهم من الضفة الأخرى للنهر فيكتب بعد حصار الافكار المضنيه لتوضيح الأمر: «علما ان السلسلة لها منزلتها بين السلاسل ».

وفي احوال اخرى تكون مشاهداته ومعايشاته للحكايا اسبابا للتساؤل عن تاريخ وجغرافيا فتأتي حكاية (عزف على ضفاف نهر الغراف ) عزفا حلميا لعدد من الغيابات بين انسان وارض، بين ماض سحيق وواقع حال لا يشبه ماضيه. بل حملت سطور الكاتب حسرتها لأن مع كل تقدم (جديد) تقهقر صادم فتُبقي الذاكرة على وهج تأثرها بشقيها: تلك التي مر عليها النص كحضارة قديمة، واخرى لها نفس اريجي لألحان عذبة تُنازعها وصفية المكان من انهار وطبيعة حتى غيابهما الاثنان معا. وكأن الكاتب يأبى الا أن يكمل نشيجه المثخن بجراح الذاكرة فيسوح مجددا في حكايته (البدعة…) بقدرة تحويلية فأي من مدن العراق لم يلحقها الأذى وأي من انهاره لم يجف واي من نغمات صوتها لم يشرخها ضجيج (الانسان) الغالب في سلطته على العالمين والأرض؟
تغنى العتابي، كأنه يستعير من لقبه الشخصي فكرة العتاب، فعلى اي منها يعتب؟ لأنهار تيبست وطبيعة فارقتها الطيور وانسان يولد فلا يعرف ماضي ارضه الغناء «لم يعد الماضي يسكنها بعد ان لملم زمانه الشائخ ». صوت الكاتب المتهدج يصدح بموروثه الأخضر من بنى المكان وكأنه يناغم بانسيابيته الغراف حتى ينتهي نفسه بالسؤال: بم تحلمين؟ فالغراف استسلم للتشعب والانشطار فيما «تبقى الأيام في دورانها طاحونة ابدية »! حتى يأتي بعد تأبينه الفني لحضيري ابو عزيز مستذكرا صورة الزمن الأعزل المغدور فيبدو كمن يعاتب غيابه: من يغني سواك عن الورد (…) فالأرض ما عادت مرتعا للحمام! بل يسكنها الشوك والحزن، والحكومات ضيعت الاوطان (…) ومحت فتنة الورد.

كيف تعامل العتابي مع الحكاية؟
لعل في قصته او حكايته التي تحمل عنوان (ابي مقيما فينا ) نجد ضالة لسؤالنا! من الظاهر ان مخزون العتابي مثقل للحد الذي يجعله ان يفوّت على نفسه فرصة نجاح نصه الى اكثر ما يبهرنا به الآن في حالته المركزة. اقول بكل امانة لحرفة النقد، ان هذه القصة هي ثيمة تحمل تمدداتها الأفقية والعمودية لتصبح رواية بجزء او اكثر، ولا اعرف لماذا لم يفعلها الكاتب؟ ومع ذلك وجدت سببا واحدا لذلك، هو ان العتابي صاحب حرفة إئتمن عليها زمنا على نقل الصورة المركزة بتعشيق لغوي مفعم بالحميمية والايجاز. الحكاية منصفة الى حد بعيد لمراحل حملت نجاحاتها وضغاءنها، بريقها وافولها، رضاها وكآبتها. حتى جميع تحولات العراق تجدها في تعشيق مبهر لمكنة الكاتب بالقدرة على صناعة نص لا يفقد تألقه برغم تنقلاته السريعة. ومن جهة اخرى يرسم العتابي صورة الحياة وتحولاتها من دون اخلال في السياق، او خدش حياء صبية او رضى شباب. وطريقة حياة يكون فيها العلم والمعرفة سببا لانزياح معقد، يأتي عليه من خلال المكتبات والمدارس وجيل تربوي همه مهنته حسب. ثم تحولات سياسية كتأشير للعبث في صورة المكان الذي تقصده الكاتب على نحو رمزي، بنظرنا، فما يحصل في الشطرة والغازية يحصل كذلك في كل مكان في البلاد. وإذ تحمل القصة اسم الأب فأنها تحمله مجازا كذلك، لحال الشاهد والمثقف والمعلم المربي والسياسي والسجين، ولا اخفي اعجابي بقدرة الكاتب على نقل الصورة بحيث يبقى عبق تعلقها بشذى المكان وجمال السرد حاملا موصِولا وموصُلا بالأسبق والأبعد. وبعد كل هذا الزمن ماذا كان ينتظر الكاتب ليقول حكاياته؟

وبهذا تعميق لتأويل السؤال حسب (ياوس)1 وهو اعادة بناء المعنى في النص، فالحكايات تروى لسبب، ولا يشترط بالسبب ان يكون ثابتاً وبهذا يكون المكان كما اشرنا متحولا ايضا. بحيث نرى على نحو واضح في اعمال اخرى، وهذا ما اشرت اليه في مقال سابق، ما اقوله بكلام آخر هنا: هو انفصال السرد عن البنية الوصفية، اما لدى العتابي فأنه يضع روح المكان وجوّه في سياق الحكاية ذاتها بحيث يكون للانسجام دافع دلالي على الإسقاط، ولا يفوتنا هنا التنويه عن اسقاط عنوان الكتاب بحد ذاته على نصوص الكاتب.
نرى مثلا في قصة (حلم ايبارة المحروس… ) انها تنطوي على سلبية وسببية الدعاء بقوله «الله يحرمك من الهوه (الهواء)، لأنك حرمتني من شوفة الزعيم » -اعاد روايتها الكاتب في نص آخر- فيبقى اثر الأدعية بكل صنوفها شاخصة وكأن حياتنا كلها محض ادعية لغياب الإرادة. او باص يتعطل، وهو امر طبيعي، لكن البنية التوالدية للنص تمنحه النجاح لانه ينتج فعلا آخر فيتغير المعنى حسب دريدا2 . فالكاتب المجيد يضع ما يملكه في سياق القرآة والتحليل والتأويل والفهم. لدرجة ان ادراك الكاتب جعله يستشهد بأحدى حكاياته بمقولة لـ (باشلار)3 عن روحية المكان كونها «تتوجه من الألفة العميقة الى المدى اللانهائي ». من جهته يذهب الباحث الناقد صباح الأنباري بروئيته عن المكان فيقول « لا يمكننا التحدث عن أهمية المكان جماليا قبل ولادة صورته شعريا، فالصورة تستبق الدلالة كما تستبق الأجنة الولادة وىذا يفسر لنا استباقية الأمكنة للأزمنة أيضاً»4. ومع هذا التلازم المثير يكون للمكان روحا ضافية تمكن القول من شمر الفكرة tabs الى ازمنة متفرقة، غير انها لا تشتغل بذاتها. وبذلك ستعيننا هذه الرؤى بفحصنا لنصوص العتابي بمحمولاتها المكانية والزمنية.

في استذكاره للأمكنة على يد رفاقه الذين احبهم، نتحسس روحا مضافة لفعل لا ينضب. ذلك انه يضع الاستذكارات من بشر واصدقاء مبدعين وبستان ومقهى وكتب... الخ، اضافة للانصاف، في مرمى توصيف زمني لا يقل شأنا عن المكان. اقول هنا ان الكاتب لو تعامل مع المكان على نحو مستقل لما كان بوسعه ان يمضي بفكرته التي اصطلح عليه نقديا بـ (الفضاء) الى القدح الذي احدثه بتساوق الأثنين معا، فيصبح نص الكاتب من دونها خال من (الاستدامة)، ومن ثم التأشير لما الح عليه كغياب لكلا الأمرين ومؤشر صادم آخر هو رحيل الأصدقاء كذلك.
وكتدعيم لرؤيتنا عن النصوص الجيدة لم يستطع العتابي منع نفسه من نقديته ككاتب، فيؤشر بجملته الأثيرة وقت استنطاق التعبير عن الحالة فـ «يبقى السؤال معلقا بين مكان لا يجيب، وزمان يكون هو السؤال » في نصه (البستان) اللذي سمح له بالانتقال المريح بين ازمنة اوشكت على الانقراض. ثم يقولها صراحة في نصه (اسعد العاقولي ) «تكفي قصة واحدة في مسلسل حياة العاقولي أن تتحول إلى فيلم سينمائي يتلوى من الألم… » فيما يقوم بنفسه برسم المشاهد كهروبه من سجن الحلة والقبض عليه مجددا، حتى حياته كصحفي «ليروي جفاف الكلمة ».

يؤشر الكاتب على الحالة ذاتها بنصه (المدينة انيقة بساكنيها ) فيحمّّله اشتراطات الكتابة المعرفية. ويدعّم منهجه بباشلر مجددا، الذي شكل نقطة افتراق في مفهوم حرية النص والكاتب خارجا عن النظم الفيلوجية السائدة. فتاريخ الكتابة يقرأ بعين القارئ المجيد كذلك، كما امتلاك الكاتب «ذهناً حرًا لا تقيده أي من المواصفات، سواء في اختيار موضوعاته أم في معالجاته ». وهكذا ينصف الكاتب الكثير من الأسماء الذين فارقهم الحلم لأنهم يحلمون بـ «اكثر من اللزوم » فيُغدر بهم لسبب انهم يحلمون « متى تتحول الريح الى عصف »! لحدٍ نرى العتابي يتنقل بين الفنون بين كتابة وموسيقى وغناء، بين استذكار ووصف وحنين، وبين منتج ذهني رفيع فيأتي من خلاله على اسماء مجايليه، فيما تكون النتائج مربكة، ومحزنة بالكثير منها كالفقدان والكآبة، فيما تبقى الصفة الشاعرية للنصوص طاغية ورقيقة. ولا اكثر دلالة، من نص (المدينة تغني) لتنتهي الى بوتقة الانصهار الفني الرفيع لكوكبة من الفنانين والأعمال ممن احتضنهم المكان، المكان بزمنه، بناسه ويفاعته. حتى تكاد ترى ان العراق كله يغني مثلما هو يعاني كذلك.
وعلى ما يبدو ان غليل العتابي لم يشف على الرغم من مروره بكثير من الوجوه، فـ ألحت عليه فكرة تداول الأسماء المعشقة بأحداث وتواريخ صدمته بتجربته المهنية، فأفرد لتلك الحكايات نصوصا شكلت رسما بيانيا يتوجه بانحداره المخيف لبلد تحسست تلك الأسماء، بل تنبأت له، على وقع الاسراف في الامتهان والمصادرة والتعسف، بمصير مجهول. حتى يأتي على استنطاق (جدارية ناظم رمزي) كعمل وضع ليس بمكانه قطعا، مما يؤشر الى الإنزياح الهائل الذي يتأثر حتما بظرف ما، فمثلما تغيب الشخوص والاغاني كذلك تؤول الأعمال الفريدة للزوال، والسؤال: كيف ستفقه العهود (الجديدة) واجيالها على ما انطوت عليه سرائر واذهان رفيعة؟ ازيد عليها كمثال ازالة نصب الجندي المجهول لرفعة الجادرجي او تخريم نصب الحرية لجواد سليم بالرصاص، كذلك محاولات رفع نصب كهرمانة وابي نؤاس. وبذلك يضعنا العتابي بحيرة عن نوع العقاب الذي ينتظر المبدع. فتكون هنا شذرات المعرفة ضربا من ضروب الكماليات التي لا لزوم لها بل ينبغي مقاضاتها بأن جمالها شوه الصورة النمطية لألف عام او أكثر. يطال ذات الأمر نصوص المبدعين، او ثنيهم عن مآربهم المحدثة، فيكون نص (يوم القبض على "الخنافس") صورة صادمة للجهل المقدس، وبقدر ما حمل المثقفون احلامهم تكون كذلك صدمتهم كبشر تختصرهم السلطات بقص شعورهم فهم (متخنثون) او فتيات تدهن سيقانهن بالاصباغ!

ومع المفارقات هذه تأتي المقاربات على نحو مهارات وتجديد وتحدي وعابرة للمألوف، فيكتب العتابي عن زمن له اكثر من رئة: النص، اللحن والصوت، والجمهور الذي لم يتأخر بإعلاء سقف ذائقته.
وبهذا، نحن لا نهتدي لشيء متكامل اذا ما ساءلنا جغرافية المكان بحد ذاتها عن جواب مجزٍ، ولن يكون الا العجز نصيبنا من المحاولة، فالمكان لا يتحرك من دون شخصوص، والشخوص لا تنمو من دون حدث وفعل محرك، وعليه تكون بيئته inverment بعناصرها وقوده اللاهب. وبذلك يضيف الكاتب عنصرا آخرا في مشروعه الكتابي وهو (النستولوجيا) المرافقة للإغتراب بجغرافيتها من عدمها، فيأتي نصه (جيان...الروائي والقاص العراقي) محملاً بالاستعارات المكانية والأسئلة التي تبدو مبتسرة بنظر من لا تشغله صورتها، فيعيد العتابي ازدهار الأمكنة الضليعة بالحكايات ويفجر ما للغياب من معنى مؤثر، بل صادم بالمفارقة بصورة المكان. وتأتي على النحو ذاته نصوصه الأخيرة بحق الصداقة التي تنقسم الى مناخين بين داخل وخارج حتى لا نكاد نفرق بين وجيهما. فتبدو النصوص كما طعنات بجسد المكان المحاصر ذاته.

يميل العتابي بحكاياته الى الرومانتيكية فيكثر من التغني بمفاتن الطبيعة التي تفرّج الألم، فهي بمثابة «معبد يأوى له عندما تقسو الحياة»5. فالكاتب الجيد هو القادر على استنهاض الوسيط الابداعي، ذلك ان اي كاتب هو كأي انسان يمتلك الذخيرة، أما كيفية استخدامها فأنه يتوقف على عدد من التحولات كما للطبيعة ذاتها من تحولات صارخة. يدرك العتابي هذه الخاصية فيكملها على نفس المنهج باستخراج الألم، المنجم الآخر لنهوض النص. فلا تكاد نصوصه تخلو منه، حتى في جو مفارقاتها وسخريتها، بل على العكس تبقى على نحو اسئلة يقظة من دون التمدد الى وصفياتها التي تقلل من اهمية استخدامها وقربها من السياحة النصية اكثر من تأثيرها التساؤلي.

ولنا ان نجد في جانبها، اي استدراكاته عن روح المكان بعموميته من حيث الشخوص العاديين، تخصيصا في نصوص العتابي للفكرة ذاتها، انما باختلاف وسائلها كما يحدث في نص (مقاهي المدينة) ونصوص أخرى، فلا تكاد تخلو من ذكرهم. فيلتقط الكاتب تأثرهم بواقع كأن تكون أغاني ام كلثوم سببا لهزيمة (حرب حزيران) او لنداءات الالتحاق بالمقاومة (5/18 تحت الجذر التربيعي) تخمينا او حلما، كدعوة لأحد لاعبي الدومينو في وقت يعاود لعبته من جديد في مقهى آخر! في مفارقة يأتي عليها الكاتب كتخصيص للمكان (المقهى) الآخر (نعيس) الذي يرتاده أناس من طينة أخرى على رأسهم «فارسهم عزت الدوري» كترميز للفصل بين هويتين او ميول سياسية. وهذا بمثابة استنطاق مكاني لأناس يمتعهم اللهو والعبث والتعالي اكثر من جدية الموقف وواقع الحال. فيكمل الكاتب مشهد صاحب كشك الثلج بنص آخر عن المكان (مقهى الجمعية ) الشاهد الباقي ليودع «كشكه الخشبي نحو أعلى المراتب» في زمن آخر. في وقت يكون نص الكاتب مثقلاً بما اضطمت عليه المقهى من نوادر للذكرى بين فرح ونحيب، فلا اشك انه كان يبتسم، يسخر ويبكي حينما كتب نصوصه بذات الحفر الذي احدثته اغنية (لا خبر) «كأنها احد كشوفات الإنسان العظيمة يوم ولدت » او سماع رواد المقهى خطاب عبد الناصر «يعلن تنحيه عن قيادة مصر» بعد حرب حزيزان.

اما عن تأثيث المكان ذاته فهو مشغل خاص للعتابي بحيث يضعه في بيئته الوجودية والمعنوية فلا تكاد الصورة تفلت من جماليتها وهيبتها. في نصه (المدرسة الريفية) كمثال من الممكن اعتماده قياسيا، تأتي الصورة على نحو سيناريو معد بخصائصه الفنية فما على المخرج سوى اختيار زاوية المشهد. ثم تتعقد الصورة لتنقلاتها وتداخلاتها مما يظهر براعة الكاتب كما تشكيلي محترف يمزج اللون المائي المناسب للوحة طبيعية او زيتية انطباعية تحمل سر تفسيرها الذهني كذكرى. لكن حركية نصوص العتابي التي تدخل البنية الصورية بهيئة حياة، تمنحها صورة مضيئة لاحتوائها المكاني النابض بالتفصيل الانساني وقتذاك. وهي بهذا القدر كذلك تكون بقوتها مناسبة للتحولات المكانية القسرية من حيث غياب او استبدال عنصرين هما: ملامح المكان، وعمق التحولات السياسية. فـ(الريفية) هي وجه آخر للثراء المعرفي على يد جيل إئتمن على رسالة يباغت اصحابها اذلال الأنظمة والتحولات السياسية. فمن دونهم لا تأثيث يذكر للمكان ولا حتى ذاكرة تمحي غبار زمن مضى ليفيض يناعة بنصوصه عن المدينة والمشتل والبستان، وحتى الحارات والشوارع كالمتنبي، بما فيها المكتبات المعاتبة بأنين محترق بأنفاسه في حكايته (حوار مع مكتبة المثنى )، بل جميع ذخائره الحية عن المكان بعين عاشقة راصدة للزمن وتحولاته. ومهما بالغت انظمة العسف بالاسراف والإمعان بمحو الأثر، واطلاق الاسماء والالقاب البديلة التي آلت للزاول، ومهما توالت العهود المسرفة بعدم الوفاء، لكن نصوص العتابي تطلق خيول المارثون لترسم صورة أثيرة للبلاد المشرقة بوجوهها ومعتمة بتحولاتها ايضا. فمن بهاء المدرسة وشخصياتها الأثيرية الضالعة بالفنون والمعرفة، وهو المكان الذي حضر فيه الشعر واللوحة وشريعة النواب، في احدى نصوص الكاتب، الى واقع التجربة والمعايشة والتعليم بأبهى صوره، حتى يجد مدرس مادة الرسم (سعدي الحديثي ) نفسه شريكا لزميل آخر هو (مظفر النواب) «في زنزانة واحدة من سجون الديكتاتورية والاستبداد ». وهنا يفتح السؤال اجابته عن تأثيث مختلف للسجون لأرقى العقول والمربين! فأي تساؤل سيقدح بذهن الأجيال حينما تنتهي العقول الى مفارقة اشبه ماتكون بالكوميديا السوداء بابتسامة ساخرة وغليان قلب يذيب الحديد! فأقرأ للعقابي في نصه عبارة لم يكتبها: (الريل مر وتعده). وهنا مغزى الإحالة في تأثيث المكان، ليس تأويلا هذه المرة، بل طرزا اثثت لها الدكتاتوريات بعناية قد تفوق الخيال، بل تجاوزته فعلا! اما عن الملامح وتغييرها الطافح بالمرارة فهي المكمل الآخر لوجه البلاد الذي يصرخ بهاؤه تحت معول يهد جدارية نفذها الفنان ناظم رمزي، او نصب آخر يستغيث.

وعن المكان الأرحب، العالم، اتسمت نظرته في نصه (المثول امام الجورنكا) بسلام خاص عن الفنان الذي «يهيب بنا أن لا نتأسّى، بل أن نبحث عما وراء أثره الفني» وهو الخراب بكل صنوفه، والحرية التي تليق بالإنسانية كمبدأ. وهي الفكرة ذاتها التي عالجها من زاوية انسانية محضة بنصه (سرداب الموتى).
وهناك ايضا نلاحظ خاصية أخرى للكاتب يمكننا وضعها في فقرة تأثيث المكان، هي ميوله في بعض نصوصه الى فن (ادب الرحلات). تأتي على نحو مشاهدات سياحية المظهر لكنها متسائلة ومقترنة مع فضائها. يعيدنا مشهد رحلته الى (قلعة هاملت) في الدنمارك الى محاكاته الأليفة لمكانه الأول الى الريف المزدهر بفنه طبيعيا، فيكون تجانس القول مع المحيط صورة لا تكتمل عناصرها من دون تجميع ما تتركه العين بعاديتها، او ما يخلفه ذكر الأمكنة من قصص وحكايات. وهنا على وجه التحديد هاملت براويته الشكسبيرية، فيمازج بين سحر المكان وما اثقلت به الحكاية من ادمان تأثيرها حسياً، وحميمية انسانية عن الحياة واشتقاقات الفعل والندم. في وقت تلاحق عيناه الحصون والسدود لزمن تسيد فتأخر لصالح الحداثة كمتحف، او (كاليري لوزيانا) العالمي في الطريق الى القلعة. يضعه الكاتب بدءا بأحاديث مرافقيه (آشتي احدهم) كنفسٍ لرحلة الصداقة ذاتها ليضهعا في بنية نصية تقطف جنيه تباعا.

اسلوبية العتابي لها خصوصيتها، برغم ملاحظتنا عن نأيها عن التجريد الذي تحتاجه بعض النصوص، لكنها تبدو كما التوزيع الاوركسترالي. فنرى وحدة اسلوبية متقنة وان بالغ الكاتب الحصيف بالتنقلات المكثفة فأنه يتمحور بالفكرة ذاتها باختلاف العزف المنسجم. فلو ترك نصه من دون هذه الخاصية فعليه ان يتمدد النص الى اضعاف مضاعفة مما يلحق الأذى بالاسلوبية ذاتها ناهيك عن السأم لتجاور السرد القصصي مع السرد الصحفي الذي مر من تحت عيني القارئ عشرات المرات وربما المئات. وبهذا تضع الأسلوبية حدودها/مصداتها لانها تُعنى بالخطاب المنسجم كرؤية (سويسرية)6 متصفة بالتفرد، اضافة لكونها بنية كلامية اشتقاقية متوالدة. ولا نجد هنا افضل ما قال عن الحال (باختين)7 بما معناه: النأي عن الاحساس بمحدودية اللغة وتاريخيتها ومشروطياتها، ذلك ان الاسلوبية ضخ منتج للحداثة والاستخدام. وبذلك يقترب العتابي في مشروعه الكتابي من سمة الكاتب/الناقد الذي نطلق عليه صفة (الخاطف) الذي يدخل كلا المواصفتين، الكتابة والنقد، في مشروع واحد تميل فيهما الكفة حسب نوع الكتابة التي هو بصددها. نصه (نسرين ملك.. سارقة اللافندر) مثال واضح على ذلك باعتبار سردها حسب قوله كناقد ضمني «عذبا لا يخضع للقواعد السردية الصارمة… ». وبذلك يكتمل تشييد الكاتب لبنى نصوصه التي حملت حلو الكلام وعذابات التجربة مع عمق التأويل والإحالة والاسقاط الذي اعتقده هو الأهم في هذا الكتاب الماتع فأكرر سؤاله الذي اختتم به نصوصه «لا اعرف كيف عاش الفل؟ هل الفل عراقي»؟ ربما احرره من فتنته فأقول: هل الحزن عراقي؟ نعم الحزن عراقي وضارب الجذور.
____________________
 1 الناقد والمنظر الألماني هانز روبرت ياوس (1921 - 1997) "الشعرية والتأويل"
 2 جاك دريدا 1904-1930 اول من استخدم مفهوم التفكيك فلسفيا، وهو الأكثر شهرة لحد الآن
3 غاستون باشلر1884-1962 فيلسوف صاحب رؤية متفردة في الابستمولوجيا وفلسفة الجمال والفن
4 صباح الانباري (المكان ودلالته الجمالية في شعر شيركو بيكس)
5 د. محمد مندور ( في الأدب والنقد)
6 (سويسرية) نسبة الى فرديناند سويسر اللغوي البنيوي الشهير
7 ميخائيل باختين فيلسوف ولغوي ومنظر ادبي روسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟