الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطاغية والفراشات الجميلة

فكري آل هير
كاتب وباحث من اليمن

(Fekri Al Heer)

2021 / 5 / 30
الادب والفن


كنت أتأمل عينيها في الوقت نفسه الذي كنا نتحدث فيه معاً بهدوء، وبإيحاء منها كان عليّ تلبية رغبتها غير المعلنة في أن تكون هي موضوعي الذي أتحدث فيه حين أخبرها عني..!!
..
نعم.. لسنوات طويلة كنت عاشقاً مولعاً أهوى مطاردة الفراشات الجميلات، حتى استيقظت ذات صباح وقد صرت راشداً بما فيه الكفاية لأتخلص من ذلك العشق والولع، أتذكر جيداً كل التفاصيل التي لن يفهمها أو يصل إليها أحد في أعماقي حين أدركت أنه لن يكون بوسعي من قبل أو من بعد الوصول إليهن جميعاً، وإذا لم أتوقف فعلاً، فما جدوى الاستمرار؟!
..
لم تكن الفراشات الجميلات لتدرك حقيقة ما كنت أفعله، كما أن المسافات الغبية اللاتي كن يصنعنها بيني وبينهن لم تمنحهن فرصة لرؤيته حقاًً.. كانت حكمتي تضيع في مهب الريح التي أوهمتهن دائماً بأنها تهّبُّ لتمنحهن الحرية ولتساعدهن على الخلاص والنجاة..!!- والريح لا تصنع جميلاً لأحد..
..
هاأنت تتحدث كطاغية؟!- قالت لي ذلك، وعلى وجهها ابتسامة حاولت اخفائها في رشفة من فنجان قهوتها، وهي تقبض على أذنه وتحاصر دائرته البيضاء بأظافرها التي لم تغادرها بعد رائحة الطلاء.. لا أعرف كيف تكون رائحة القهوة أو مذاقها حين تخالطه رائحة طلاء الأظافر..؟!
لا شيء يفوتني، وهذا ما لم تعرفه هي، ولم أحرص أنا على أن تعرفه..؟!
..
ما من ثورة أوقفتني أو تمرد قامت به أي فراشة خارجاً عن إرادتي؛ ولمجرد أني كنت مولعاً بمطاردة الفراشات الجميلات فهذا لم يكن ليصنع مني طاغية؛ فقط كل فراشة كانت تريد أن أكون كذلك ولو على سبيل التوهم والتظاهر لتغدو هي ثائرة ومتمردة..!!
..
ما لا تعرفه الفراشات الجميلات في هذا الشأن، هو نفسه ما لا يدركه الكثير من البشر، وهو أن كلمات مثل الثورة والتمرد ليست إلا تسميات لطيفة للطغيان، وأن الطاغية يصنع طاغية آخر يخرج من جلبابه متمرداً وثائراً عليه، وأي فرق بينهما لن يكون إلا في الخطاب وفي اللغة والمفردات التي يختارها كل منهما لمغازلة فراشاته أو حتى جمهوره..!!
..
تقول الحكمة القديمة أن هناك ثمة من هو مختلف ومتفرد دائماً، ولطالما كانت لغتي وحكمتي واحدة، متفردة ومتناغمة مع كل الفراشات الجميلات اللاتي حظيت بهن ولم يشعرن بحظوتهن تلك لدي، إنها اللغة والحكمة نفسها التي لم تدفعني يوماً الى أن أضع فراشة جميلة في قفص.. أو أن أدفنها بين دفتيّ كتاب وما شابه.
...
كل ما في الأمر، أني كنت أمنح نفسي فرصة للتأمل في كل فراشة في محاولة لاكتشاف ما يميزها كبصمة متفردة، عدا عن ذلك، فقد كنت أترك لها أن تقرر ما تشاء، مع ثقتي الكاملة أن أي فراشة دون تلك البصمة المتفردة لن تقرر البقاء معي.. وأنها بمجرد ما أن أفرد لها راحة يدي ستطير وتحلق بعيداً، وأني لن أهتم إذا كانت ستلتفت الى الوراء وتمنحني نظرة أخيرة.. أم لا.
..
صحيح أن الفراشات الملونات زاهيات وجميلات للغاية، إلا إنهن على الشيوع في طبيعتهن العامة غير مخلصات بالأساس، لا يدركن أن بوسعهن التحليق في سماء من يحببهن فعلاً ولم يسع يوماً الى قمعهن.. أن تحلق فراشة في سماءك، فهذا لا يعني أنها صارت جزء من حياتك أو فيها، كما أن الفراشة في غير الفضاء الذي تحلق فيه لن تكون فراشة زاهية أو جميلة..
..
من دون أن يخطر في بالي أن أعقد مقارنة ما بشكل أو بآخر ، قالت معترضة ومستبقة الأمور: لا لا، لن تخبرني عن ماوتسي أو جورج واشنطن.. لن تفعل؟!
..
بالرغم من أني أكنُّ احتراماً لصدام حسين وطغاة آخرين، فإني لم أكن لأفعل حقاً ذلك الذي أرادته وأظهرته توقعاً؛ فما كان لطاغية أبداً أن يكون لديه ذلك العشق والولع الذي كان بي.. وهذا هو الفرق الوحيد الذي لم تكن تراه الفراشات، ولم تراه هي أيضاً..
..
كيف لفراشة جميلة بوعيها المحدود أن تدرك أن التفرد لا يطيق وحدته بل ويستوحش منها، ولهذا السبب يسعى الى أن يجد لنفسه تفرداً موازياً.. كان الأمر سيؤول مختلفاً لو أن ذلك حصل بالفعل لدى أياً منهن أو لديها هي، فتراه وترى نفسها وتراني كما لو كانت تنظر للتو في مرآتها، وبقدر ما أردت أن تكتشف هي حقيقة الأمر فأرى ميزتها، كنت امتنع عن إخبارهن بالحقيقة..!! – لكنت جارحاً وسفاحاً إن فعلتُ ذلك.
..
لقد ساعدني الوقت كثيراً وحصيلة تأملاتي لأدرك في لحظة ما بأني أصبحت راشداً بما فيه الكفاية، وأنه آن أوان أن أتخلى لمرة واحدة عن كل الفراشات الجميلات بعد أن تخلين عني واحدة تلو الأخرى لمرات ومرات، دون أي حديث عن المشاعر التي كان يخلفها الأمر في كل مرة، فهذا لن يكون مجدياً اليوم، كما لم يكن ممكناً في وقته..
..
كان هذا هو تأملي الأخير..
مودعاً، فتحت لها راحة يدي لتمضي، وحتى إذا قررت أن تلتفت وتمنحني نظرتها الأخيرة فإنها لن تراني في مكاني أبداً..
..
في قرارة نفسي كانت هي آخر فراشاتي الجميلات..!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا