الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسطورة نفرتيتي بين الواقع والخلود

الياس خليل نصرالله

2021 / 5 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


ان اصل اسم نفرتيتي الكلمة المصرية القديمة، "نفر" ومعناها الجميل، الطيب، وهي من القاب، الاله اوزريس (اله البعث والحساب).
اعلن أمنحتب الرابع (والتي معناه رضى امون) في السنة الرابعة من حكمه ثورة دينية، التي استبدل فيها عبادة امون وبقية الالهة، بعبادة اله واحد، لا شريك له، هو اتون، رمز له بقرص الشمس، بأشعتها التي تنتهي بأيد بشرية، لتمنح الحياة ،الخير والرخاء للأسرة. كانت طقوس عبادته تتم تحت أشعة الشمس المباشرة، خلافًا للمعابد المظلمة لعبادة الآلهة القديمة. غيَّرَ أمنحتب الرابع اسمه رسميًا إلى أخناتون ،ومعناه الروح الحية لاتون. ودفعه ذلك الى اختيار اسم نفرتيتي لزوجته لإكرام الاله اتون، ليصبح معناه الجميلة اتت.
ومن الجدير ذكره ان كلمة "نفرو" يتكرر ذكرها في الكتابات الهيروغليفية{الكتابة المقدسة} خاصة على جدران الاماكن المقدسة والمسلات ،بمعان متعددة منها: حسن، جميل ،سعيد، نقي، بيت الجمال، شفاء المرضى ،وكلمة "تيتي" منسوبة الى الاله توت.
ومن معاني كلمة "نفر" في معجم لسان العرب، النَّفْر: التفرق المذعور، ويضيف ابن منظور ان النفائر عند ابن الاعرابي، هي العصافير، وفي القاموس: النفارير العصافير (منقول من لسان العرب). بينما يُرجعها انيس فريحة الى الكنعانية، ومعناها العصفور الصغير مثل الدوري (كتابه ملاحم العرب ص٦٧٧). الا انني استبعد تفسير انيس فريحة، لان العصفور في اللغة البابلية القديمة issuru، "صِبَر في الفينيقية "صِپابرا" في الآرامية السورية، "إصّر" في الاكادية، "عصور" في اوچارتية رأس الشمرا، العبرية "צפור"، "صانبار" في الآرامية، "ܨܸܦܪܵܐ" (صفرا) في السريانية "صِپرا" في الآرامية المندائية، و"عصفور" في العدنانية.
ونقل التراث العربي رواية “عصافير المنذر"، التي تذكر انه كان عند النعمان بن المنذر جِمال ذات سنامين يقال لها "عُصْفورِيٌّ"، وهي من نجائب الإبل، وعليها ريش ليعلم الجميع أنها من عطايا الملوك. وبهذا يزداد الجَمال جَمالًا، فالعصافير في هذا السياق هي الجِمال". فمن هذا النسق اشتق العرب من الناقة "الأناقة"، ويمكن سحب ذلك على اسم نفرتيتي "عصفورة جميلة".
ارجح ان نفرو ر من المصرية القديمة، واضيف كتأكيد لذلك باننا نجد هذه الكلمة في الامازيغية "ابو نفرو" ومعناها الجميل. وفي الليبية العامية هو اسم لطائر "الفرو"، (لأنه يفر وينفر فجأة وبسرعة مذهلة وجذابة)، وهو طائر الفر في بلاد الشام واسمه في اللغات السامية طير السلوى. لقد ارتبط تاريخ ليبيا بشكل وثيق بالتاريخ الفرعوني المصري القديم، حيث استوطن الكثير من الليبيين في مصر، ليصل منهم فراعنة الى سدة الحكم، واذكر كمثال بان الفراعنة من شيشق الاول حتى الخامس من اصل ليبي. كما يذكر هيرودوتوس أن النساء الليبيات في مصر، امتنعن في العصور القديمة عن اكل لحم البقر، لأنها التوتم المقدس للمعبودة المصرية "إيزيس" زوجة وأخت الإله "اوزريس"، التي كانت على صورة بقرة. ومن المحتمل أنه على ضوء هذا التعايش والاختلاط انتقال كلمة فرو من اللغة الفرعونية الى اللغة الامازيغية .
ذاعت شهرة نفرتيتي حتى يومنا هذا لأنها كانت شخصية متفردة يلف الغموض تفاصيل حياتها، من مولدها حتى مماتها. انها الاسطورة الخالدة للجمال والاناقة. هنالك اختلافات في الرأي بين المتخصصين حول أصلها وموطنها، إذ اعتبرها بعضهم أجنبية (من اصل كنعاني)، في حين قال آخرون إنها ابنة الملك أمنحتب الثالث من زوجته "تي". وكتبت جوليا سامسون رواية بعنوان نفرتيتى الجميلة التي حكمت مصر في ظل ديانة التوحيد، تروي فيه ترجمة شاملة لحياة الملكة نفرتيتي، فجاء هذا الكتاب شاملا ومتكاملا حيث غطى قصة حياة الملكة بتسلسل تاريخي، يبدأ ببداية حياتها ونشأتها، ثم يتناول جوانب من شخصيتها القيادية، ويخصص فصلا لحياتها في مدينة أمون، ثم في تل العمارنة (العاصمة الجديدة لأتون التي بناها اخناتون) وتسرد هذه الرواية ايضًا أحداث حياتها، حتى وفاة الملك اخناتون وتوليها الملك وأخيرًا نهايتها وقصة موتها.
وتؤكد سيرة حياتها في المصادر بانها لم تكن فقط شخصية جميلة وجذابة وحسب، انما شخصية قوية يهابها الرجال والنساء على السواء، والتي لعبت دورا بارزا في حياة زوجها أخناتون، حيث كانت له نِعْم المساعد والمعين في نشر دعوته وتثبيت دعائم دينه الجديد، الذي دعا فيها لعبادة اله واحد لا مثيل له، الذي صوره بقرص شمس يرسل اشعته على الكون بأيدي بشرية تفيض بالخير (سمى هذه الايدي "عنخ" مفتاح الحياة). اعتقد اخناتون ان معبوده اتون هو القوة الكامنة وراء الرمز له بالقرص الشمسي، وانه واحد لا شريك له، يمنح الحياة لكل البشر. وجعله إلهًا عالميًا لكل الشعوب، ورفض أن يتم تصويره في أية هيئة، سواء كانت بشرية أو حيوانية. ان ثورته الدينية هذه برأي الكثير من الدارسين لتاريخ الاديان، كانت اول دعوة الى عبادة اله واحد، عادل وقادر على كل شيء. انها اول ثورة على الفساد واستبداد كهنة امون وقوى النهب والاستبداد. فتمحورت دعوته التوحيدية بالقضاء على جبروت وبطش كهنة الاله السابق (آمون)، الذين وصفهم "سحرة ومشعوذين، إنهم مصدر الاستغلال والفساد، لذلك قرر عزلهم من مناصبهم ومصادرة كل ممتلكاتهم وثرواتهم لان اقوالهم واعمالهم ذروة الاثم الدمار والفساد".
الا أن هذه الدعوة للتغيير لم تتوفر لها امكانيات الاستمرار، لأنها جاءت سابقًة لأوانها. اقصد بذلك ان محصلة القوى في ميدان الصراع كانت لمصلحة الاكليروس، الطغمة العسكرية والنخب المعزولة التي جندت كل امكانيتها لاستعادة ثروتها ونفوذها. فنجدها تتفنن في حياكة الشائعات والمكائد، وترويجها حول اخناتون وزوجته في حياتهما ومماتهما. ولقد تمكنت القوى المتضررة من التغيير، ان تدغدغ بأحابيلها وترهاتها عواطف عامة الشعب واقناعها، بان اخناتون قد الغى ودنس عبادة امون لأنه شاذ وفاسق عقليا وجنسيا، مِثْل اختلاقها انه مارس اللواط مع اخيه وأنه تزوج احدى بناته، وان زوجته قد هجرته نكاية به لشذوذه. وصدَّق عامة الشعب كل ذلك لأنه مفطور على حب امون، لينطبق عليه المثل القائل "طبع طبعه اللبن ما بغيره غير الكفن".
الا ان تنقيبات علماء الاثار كشفت مستندات انصفت اخناتون وعرت سفاهة وانحطاط اشاعات خصومه. فمثلا عثروا على نص يعود الى السنة السادسة عشرة لحكمه (اي قبل وفاته بقليل، عام ١٣٣٤ ق.م) والمذكور فيه بأن نفرتيتي هي زوجته الوحيدة. وعثر ايضًا في الحفريات الاثرية على تمثال منقوش على قاعدته "نفرتيتي هي سيدة كل الارض والعالم، الزوجة الشرعية لأخناتون، هي فائقة الجمال ويحبها زوجها". واكتشف علماء الاثار صورة لهما، وهما يركبان عربة يتبادلان القبل تحت اشعة اتون. وأوضح دليل على مكانتها الكنوز التي تمَّ العثور عليها في مقبرتها والمعروضة في المتحف المصري في القاهرة.
كما ان الصور الرسومات والكتابات الموجودة على المسلات وجدران المعابد، تنقل لنا تقدير اخناتون لزوجته وهو يحاورها بحب واحترام وهي تحتضن احدى بناتها، ليؤكد كل ذلك متانة حياتهما الاسرية الحميمة. والدليل قاطع لجمالها الفتان ومكانتها المرموقة، تمثالها المحفوظ في المتحف المصري في برلين.
ومن العوامل التي ساهمت في تقويض ووأد ثورة اخناتون، انضمام قادة الجيش الى العناصر والقوى المعارضة للتغيير الجذري، لأنها اصبحت غاضبة وقلقة لتدهور اوضاع الامبراطورية المصرية نتيجة الاهتمام بالشؤون الداخلية واهمال الشؤون الخارجية. والدليل لذلك نجده في رسائل تل العمارنة "اهملت في حينه شؤون الامبراطورية الخارجية، وخاصة حماية حلفائها الاسيويين امام تنامي قوة الحثيين، الميتانيين وقبائل العبيرو". واشارت ايضًا الى الظروف الغامضة لموته عام ١٣٣٦ ق.م.
وخلف اخناتون في الحكم "سمنخ كارع" ثم شقيقه الملك "توت عنخ آمون" الذي ارتد عن عقيدة آتون وأعلن عودة عبادة آمون ونقل العاصمة الى طيبه. لم يبخل هذا الفرعون وكهنة امون باستعمال كل الوسائل لتدمير العاصمة (أخناتون— تل العمارنة) التي شيدها اخناتون وتحطيم وطمس كل ذِكر لديانة اتون التوحيدية.
رحل اخناتون بعد حكمه مصر ١٧ عاما في ظروف غامضة، وكاد التاريخ ان ينساه لولا العثور على مقبرته في بداية القرن العشرين، ليعرف العالم عراقة حضارة مصر واهمية دعوة اخناتون، ويكتب المؤرخ بريستد في كتابه "مصر فجر الضمير" بان مصر فجر الضمير الانساني، وهي التي نقلت لنا مفهوم التوحيد، وخلود الروح والبعث والدينونة والصيام والاساطير والاناشيد والقصص الدينية.

شفاعمرو، ايار 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترقب للجولة الثانية من الانتخابات بين بزشكيان وجليلي| #غرفة_


.. في -معسكر مغلق-.. بايدن وزوجته يبحثان -القرار المصيري-| #غرف




.. تركيا.. قتلى وجرحى في انفجار أسطوانة غاز بمطعم شعبي


.. بعد سنوات من القطيعة.. اجتماع سوري تركي مرتقب في بغداد| #غرف




.. إيران تهدد بتدمير إسرائيل.. وتل أبيب تتوعد طهران بسلاح -يوم