الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جمالية الانزياح الشعري في - زارني الشعر- للشاعر العراقي البابلي محمد كاظم جواد

غانم عمران المعموري

2021 / 5 / 31
الادب والفن


تشّكلت شخصية الناص الشعرية عِبْر مجسات وتمظهرات نفسية واجتماعية داخلية وخارجية لازمته مُنذ زاره الشعر لأول مرة في مجتمع عبثت فيه الفصول ما أن تنفس نشوّة الربيع إلا وعصفت بيه رياح الخريف بأجوائه المتقلبه فهو عاصر الزمن الجميل زمن التسامح والعيش السلمي وزمن الحكومات الدكتاتورية المقيته والديمقراطية المُزيفة بالإضافة إلى الموهبة الّتي توهَّجت من اللاوعي إلى الوعي لينتج لنا شعراً بلاغياً صادقاً نابع من وجدان وقلب حيّ فهو كالمصوّر الإحترافي الذي يلتقط كل ما تُشاهده عينيه وهو كالروحاني الّذي يتحسس الأشياء ويترجمها بلسانٍ عربيٍ فصيح وبذلك تتكون لديه فكرة النص النابعة من ذاته التي تُحدد فلسفته الشخصية ومنها نعرف ما يتبناه من المفاهيم والمقاصد والدوافع التي من أجلها صار إلى كتابة نصه وبذلك وفق هذه الرؤية لابد من ملاحظة ومعرفة الظروف الخارجة عن النص وقصدية الشاعر ( ... ولأن القصد فوق النصي يتعلق كثيرا بالسياق يمكن الكشف عنه أحياناً بدلالات نصية تدفع المتلقي للبحث عن السياق الذي أنتج فيه النص وفي أحيان أخرى لا يمكن التنبه عن ذلك المقصد لأن النص بُني بطريقة لا تلفت إلى دلالات غير ظاهرة وهنا لا بد من معرفة السياق ابتداء وفي كلتا الحالتين سنسمي المنهج الكاشف عن المقصد فوق النصْي " المنهج السيا نصْي" الجامع بين السياق والنص لانه يعتمد تحليل الأثنين معا للكشف عن البعد الكامن ماوراء النص)1.

وهنا لا بد من الالتفات إلى حياة الأديب وما يحيط به من ظروف نفسية واجتماعية لها الأثر في انبعاث المُنتج قدر الإمكان أي ( المزاوجة والالتفات بعين إلى حياة الأديب ونفسيته إن تمكّن الناقد وبعين أخرى إلى الأثر الأدبي واستجابة الحالة النفسية للأديب أو صدوره عنها)2.
توّجت المجموعة بعنوان " زارني الشعر" والتي هي من اصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – بغداد, دار الرواد المزدهرة لعام 2020 تضمنت سبع وعشرين قصيدة وقد أهتم الكثير من الباحثين في موضوع العنونة فقد "عني كثير من العاملين في حقل النّقد بسيميائية العنوان وبدوره في تقديم الخطاب و بتفاعله فيه، باعتباره نصّا موازيا، فالعنوان طاقة حيوية مشفّرة قابلة لتأويلات عدّة قادرة على إنتاج الدلالة"3. وهو يتصدر الغلاف الخارجي "أكبر ما في القصيدة إذ له الصدارة و يبرز متميزا بشكله و حجمه."4
وهو بذلك يشكل عنصرا هامّاً من عناصر المؤلّف الأدبي و مكوناً داخلياً ذا قيمة دلالية عند الدّارس، إذ يعتبر ممثلا لسلطة النّص و واجهته الإعلامية التّي تمارس على المتلقي، وهو الجزء الدّال من النّص كونه يؤشّر على معنى ما، و بذلك يُعّد وسيلة للكشف عن طبيعته والمساهمة في فك غموضه، وبهذا "يبقى العنوان علامة دالة على النّص وخطابا قائما بذاته لكونه جزءا منمذجا فيه، وهو أيضا شبكة دلالية يفتح بها النّص ويؤسس لنقطة الانطلاق الطبيعية فيه، و العنوان بوحي من الكاتب يهدف إلى تبئير انتباه المتلقي على اعتبار أنّه تسمية مصاحبة للعمل الأدبي مؤشرة عليه"5.
وإني أرى العنونة هي الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارىء ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل القصيدة وما تتضمنه من دلالات ومعاني واستعارات وانزياحات وتضادات..
لذلك جاءت العتبة الأولى المتمثلة بالعنوان منسجمة تماماً مع لوحة الغلاف الخارجي للفنان التشكيلي محمد علي جمعة وعند الوقوف والاطلاع على أولى العناوين الفرعية للمجموعة كانت " مُفتَتَح : تتمثل فيها الانزياحات اللغوية الشعرية في : وأجْهزُ على ما تَبَقّى مِنْ رَمَقِ, الحَدائِقُ تَتَرمَّل , وَخَرائِطُ الدّموعِ " فقد استطاع الناص من خلال الانزياح الدلاليَ الخروج من المألوف وهو إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه وأيضاً كما في
" أيّها القَلَقُ: ...
أيُّها القَلَق
دائِماً تَعزفُ لي قًطراتٍ بَطيئَةٍ "
وفي قصيدة التجاعيد تسخر :
... حِينما أضْحك
سَتَرفضُني المِرآة
وَتقول لي ليسَ أنتَ
هذا مسخُك أيّها المُتَصابي ..."6.
أدار الناص حوار بلاغي انزياحي جميل بينه وبين المرآة والتجاعيد والخطوط التي تتجمع حول عينيه.كما أن الشاعر استخدم ضمير المخاطب في قصيدة
" ما بَيْنَنا :
أعْرفُ أنّكِ تنْظرينَ إليّ
وتعرفين أنّي أنظُرُ إليكِ"7.
في حيث أنَّ العنوان الفرعي الّذي تصدْر أحد القصائد و اتخذ نفس العنوان الخارجي للمجموعة " زارني الشعر: فأن الشاعر خاطب الأمكنة والأزمنة وكأنه يوجز مسيرة حياة طويلة مملوءه بالمشقة والآلام ويبين مسألة مهمة وهي ما يُعانيه المؤلف عند استنزافه قواه واشغال كل تفكيره في اخراج مُنتَج إلى أرض الوجود تعبث فية أيدي لاتعرف قيمته كما في قوله: من المُضحك أنْ تَضَعهُ
على رُفوفِ المكْتباتِ
لا أحد سَيسْألُ عَنْهُ
ُبّما تتناوشه يَدٌ
وحينما تُعيدُهُ إلى الرَّف
ستضعه بشكلٍ مًقْلوب ...
رُبَّما يتَصَّفحهُ أمامَك سَريعاً"8.
يتنقل بنا الشاعرإلى واحة جميلة من الومضات الشعرية والشعر الوجيز في قصيدة " سهولُ النّسيان" المملوءه بالانزياحات والاستعارات والتشبيهات اللغوية كما في : في غُرْفتي
نهرٌ من الأَحْلامِ *** رَأيتُ بُلبلاً
يَبحَثُ عَنْ وَظيفَةٍ ***دَخَلتُ صَخرَةَ (الرَّوشة)
بِزَوْرقٍ نَعْسان *** بِكأْسٍ مَثْلومٍ
شَربْتُ مُعظَمَ أَيّامي *** بشَفرةٍ صَدِئَةٍ
أُحْلِق لحيةَ أيّامي *** ذاتَ يَومٍ
جًرحْتُ الليلَ
فسالَ دَمُهُ الأَبْيض *** رَأيتُ النّهار
يَسْتدين مِن الليلِ النجوم
وَرَأَيْتُ الليلَ
يُطيلُ لحيتَهُ في الفَجْرِ"9.
وبذلك فإن بناء القصيدة المذكورة مقطعي ينفصل بالصياغة والصورة والانزياح عن المقطع الّذي بعدهُ لكن جميع المقاطع تصبُّ في بوتقة العنوان وفي مسار واحد يُشَّكل الماهيَّة الشِعرية للقصيدة وتكون بمثابة النسيج المشترك بين فكرة وأخرى..
إلا أن قصيدة " رَحيلٌ يَستَنفدُ خُطاه " جاءت بانزياح رائع كما في :
أدوسُ على جُثَّةِ أيّامي
وأنوءُ بثقلِ السَّنوات
ليربط بين الأقدام الّتي طالما تأتي معها عبارة أدوسُ وبين الأيّام الّتي تذهب دون أن يُحقق شيء فيها أو تلك الّتي ذاق فيها المرارة والألم اعتبرها الشاعر جُثَّة هامده وبذلك فهو خرج إلى غير المألوف والمُعتاد بأسلوب بلاغي مُنسجم من نسيج القطعة النثرية, وفي قصيدة أثرُ الطَّريق : رُبَّما
يَقتفي البَردُ
رَجْفَةَ قَدميكِ
وفي قصيدة
وقتٌ موْزونٌ بالشَّكِ :
دائماً يَهدي بَسمَتَهُ
كي يُورِثَ الأَسئِلَة
وَيطلق ما تَبَقَّى
مِن عَصيرِ طفولَتِه...,
ومن قصيدة" اكتَشِفُ بَقايا صَمْتِك:
...كَم جُرحَت هذي الأَرضُ؟
بِسَكاكينَ, غرِزتْ في خاصِرةِ الّليلِ.
أن الانزياح الّذي اتخذه الناص أعطى للصورة الشعرية ديناميكية وحركية وحيّوية وساهم في رفعه من الرتابة والملل إلى النرجسية الروحية الموسيقية ذات الطابع اللغوي الذي يعتبر أهم الركائز المستثمرة في النص النثري والوازع الجمالي والنور المتوهّج في قلب الصورة الشعرية المؤثرة على المتلقي وبذلك فأن الشاعر قد ابتعد عن شكل القصيدة الكلاسيكية ولجأ إلى التراث العربي وأدواته اللغوية..
"...إذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي وإنما يجب أن يكون بآلة من داخله ..."10.
إلا أن رولان بارت يرى" أن النص عملية إنتاجية تتشكل من أصداء اللغات والثقافات الاخرى وأنه نسيج توليدي تتدخل فيه الذات المبدعه" 11.
بينما يرى الساعدي" أن الذات المبدعة هي الفاعل الأول والمحرك التوليدي الأساس بامتلاك الموهبة وقدرة البعث والاشتقاق وتشكيل ألوان الابداع بوجود المؤثرات أو لا , لخلق بؤر نصية تساعد بإحالة المتلقي لجوانب عديدة في النص أهم من يقف عندها الناقد وربما يكون الأفضل بتحديد المسار الحقيقي لدلالة النص"12.
وإن المتتبع لقصائد الشاعر يجد السرد الشعري متربعاً في مساره التعبيري بصورة مختلفة لغرض إيصال رسالته إلى المتلقي لذلك تراه كتب عن الحب واللقاء والموت والحزن والغربة والألم والاستبداد والظلم والفقير وهي كلها تتقارب في الإتحاد والتمثلات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تسود واقعنا العربي فهو تارة يبكي على الماضي الجميل وتارة يلعن الحاضر ليعرّي كل مظاهر الفساد بأسلوب سهل عن الطريق الابتعاد عن الطلاسم والألغاز بحيث يستطيع المتلقي الوصول إلى فهم القصيدة وهو بذلك امتاز بطريقة اقناعية بسيطة تلتقطها عين القارىء دون البحث في معجم المعاني ولا سيما أن غاية الشاعر هو إيصال صوته إلى أكثر من شريحة في المجتمع وليس شريحة نخبوية لذلك كانت قصائده " موت, إقامة, أشواك القلب, فقد بارد, اكتشف بقايا صَمْتك, مرايا أحلامي, الأقواس تقوّضت فتهدّمت العبارة,..."
استهل الشاعر القصيدة بعنوان "ماكاندو" تلك العتبة التي من خلالها يبث نوره ليكشف عتمة النص في بدايته لمد جسور الفهم والتأويل لدى المتلقي للانتقال ذهنياً من مرحلة التفكير والادراك إلى عالم اللغة ومعرفة معاني الكلمات فهو بذلك العنوان الرمزي يدفع القارىء بالتشوق للولوج إلى ما ترنوا إليه هذه الكلمة ومن ثم ينطلق إلى عمق النص حسب الحصيلة الأولى التي تلقاها من عتبة القصيدة " ماكاندو" التي يريد بها الشاعر تلك المدينة الخيالية التي كانت تدور أحداثها في رواية مائة عام من العزلة للكاتب ماركيز ليبني له صرحاً خيالياً نرجسياً وفق ايقاع حسيّ مُرهف للبحث عن المجتمع المثالي بعيداً عن النفاق كما في قوله:
ويخط بفحمةِ أيّامه
اسماً مقترحاً
لفصول لا يهزمها بركان13.
رغم الحزن والألم الذي يسود قصائد الشاعر إلا قصيدة "رَحيقُ أنوثَتِها" كانت من قصائد الغزل الّذي تغنى فيها الشاعر كما تغنى قبله شعراء الجاهلية وتفننوا في وصف المرأة ومفاتنها إلا أن الشاعر محمد كاظم كان غزله عفيف غير فاضح ومخدش للحياء وإنما تمثل بصورة شعرية كقطعة ذهبية تبهر العين ولا تجرحها بالإضافة إلى استخدام الانزياحات الشعرية اللغوية كما في قوله:
على وَجْهِها يسكبُ القدّاحُ
آخرَ قَطْرَةٍ ...
مِن صَوتِها يَستحي البُلبلُ
حين يُغنّي عَلى غُصْنها المَيّاسِ 14.
كما أن الشاعر استنطق الأمكنة بأسلوب سردي بسيط كما في قصيدة " مقهى الهلالي" أما قصيدة " أريدُ أنْ أكونَ شاعِراً صَغيراً " فهي أحلام جميلة يسردها لنا الشاعر بأسلوب ترتيبي تسلسلي انزياحي بالإضافة إلى تضمينها أسماء كتاب مثل كارل ماركس, والت وايتمان, ويذكر فيها اسمه الصريح ومواليده وكأنه يحكي لنا سيرة حياته بقصيدة طويلة مليئة بالمشقة والكفاح والانتصار على الغير ممكن كما في :
أريد أن أكون شاعراً صغيراً
كي لا أحلِقُ لحيَة قصائدي
التي طالت.
حتى ينهي لنا تلك القصيدة الطويلة بمقطع:
أريد أن أكون شاعراً صغيراً
كي لا أطلب من الجمهور
المتنقي في القاعة
أن يصغي إلى قصيدتي
التي باءت بالفشل
فأختصر كلامي بجملة قصيرة
كالمستجير من الرمضاء في النار.
من خلال مجموعة الناص أقول له أنت شاعراً لست صغيراً كما تقول في قصيدتك وإنما كتلة وشعلة من المشاعر والأحاسيس الّتي تتوّهج من قلب مُفعم بالحب لأهله ولمجتمعه الذي ضحى الكثير من أجله وحمل الهموم والآلام كأي مواطن عراقي شريف عاصر أجيال السبعينات مروراً بالدماء السائلة والحروب بالثمانينات وأيام الجوع والقحط بالتسعينات حتى الأنقلاب على الحكم الدكتاتوري المقيت وصولاً إلى الديمقراطية المُزيفة وتدهور وضياع الهويّة وتمزيق وحدة البلد وتكالب الأرهاب والوحوش تنهش جسده البريء وأقول لك رداً لمقطع من قصيدتك :
أريدُ أن أكون شاعراً صغيراً
كَي لا أتّكيءُ على مقدمة جاهزة
لمجموعتي الشعرية
يكتبها أحد النقاد
أو شاعر يحمل القابا على صدره.
فأنك لم تتكأ على مقدمة جاهزة لمجموعتك الشعرية وإنما استحقاق وانتماء حقيقي لكُتاب قصيدة النثر التجديدية مُبتعداً عن التقليد ومُنتِجاً شعراً لغوياً ذي مقاصد وأهداف سامية ولم يكتب لك أحد النقاد وإنما قارىء مُحب للشعر وأهله.
أتمنى للشاعر المزيد من الإصدارات الجديد والابداع والتقدم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??