الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أخطر اجتماع

مصطفى مجدي الجمال

2021 / 5 / 31
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


كانت هذه مغامرة بكل المقاييس..
ولنبدأ الحكاية من أولها بالسرد العام ثم بالسرد الشخصي.
كان إعلان الحزب الشيوعي المصري عن نفسه في أول مايو 1975 ، ثم إعلان مماثل عن قيام حزب العمال الشيوعي، بمثابة إنذار شديد اللهجة والمعنى لنظام السادات.. فقد كان يتصور أن بروباجندا الانتصار في حرب 1973 كفيلة بإسكات التيار اليساري، فضلاً عن الانقسامات الكثيرة في التيار الناصري.. وهما كانا التيارين الرئيسيين اللذين أزعجاه أيما إزعاج قبل الحرب..

وبالطبع فإن أجهزة الاستخبارات الغربية والسعودية قد أدركت خطورة هذا التطور.. وإذا كانت الاستخبارات السعودية قد أوصت السادات، بإيعاز أمريكي، بتشجيع تيار "الإسلام السياسي".. فإن الأجهزة الغربية قد مالت أيضًا إلى تحقيق "انفتاح سياسي" مظهري يرافق الانفتاح الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يتم استدراج الأحزاب السرية اليسارية إلى مصيدة العلن فيتم التعرف على مدى تغلغلها ونقاط قوتها وضعفها تمهيدًا لتصفيتها.

كما صور ذكاء السادات لنفسه أن تفكيك الاتحاد الاشتراكي إلى ثلاثة منابر (يسار ويمين ووسط) يساعد في جرف ما تبقى من الكيان السياسي الرسمي الناصري، وفي الوقت نفسه عمل على دفع بعض زعامات اليسار "الإصلاحي المهادن" القانوني إلى محاولة السيطرة على منبر اليسار وجعله صنيعة للسلطة تحت لواء كاذب مثل "التجبيه الوطني" أي فعليًا التحالف مع النظام.

ثار خلاف داخل اليسار حول كيفية التعامل مع المخلوق التنظيمي الجديد المسمى منبر اليسار. واستقر الرأي في حزب العمال الشيوعي وتنظيم 8 يناير وحتى "التيار الثوري" على الرفض الكامل للاشتراك في بنية وفعاليات منبر اليسار الذي أصبح حزب التجمع الوطني الوحدوي (وإن كان البعض من كوادر حزب العمال قد دخل التجمع فيما بعد كأفراد وليس كتوجه حزبي، بلل ومحاولة بناء بؤرة "ثورية" لهم في مواقع مثل مدينة نصر والوايلي).

كما سرعان ما خرج من حزب التجمع قطاع صغير من التيار الناصري لعوامل عديدة أهمها المطالبة بالمحاصصة. وأضحى النفوذ المتعاظم داخل حزب التجمع للحزب الشيوعي خاصة أن قسمًا من أهم قيادات الحزب الشيوعي وأكثرها جماهيرية قد اندفعت صوب التجمع، كما كان التجمع منصة مهمة لتجنيد الكثير من أعضائه للحزب الشيوعي، وهكذا تفاقمت ظاهرة "العضوية المزدوجة" خاصة بعد الهجوم الأمني والإعلامي الكاسح على حزب التجمع بعد انتفاضة 1977 وخروج عشرات الألوف من عضويته ومن ثم ازداد الثقل الكمي والكيفي للشيوعيين داخل التجمع، وكانت ظاهرة "العضوية المزدوجة" تيمة وتهمة مؤثرة استغلها البعض في الصراع الداخلي.

لم يكن لدى الحزب الشيوعي نظرية واضحة ومتفق عليها للتعامل مع التجمع.. فهناك من رآه جبهة ومن رآه حزبًا للبرجوازية الصغيرة ومن رآه "حزبًا جبهويا" ومن رآه واجهة علنية..الخ. ومما زاد الأمر غموضًا أنه كان من المحظور تمامًا كتابة أي كلمة عن هذه التجربة. ولكن كان لا بد من التنسيق بين قيادات وكوادر الحزب الشيوعي الكثيرين الناشطين في التجمع. وساد الانطباع بضرورة ترك أصحاب "العضوية المزدوجة" للاحتكام إلى قناعاتهم الشخصية في أي خلاف داخل التجمع، فيما عدا مواقف حاسمة مثل الانتخابات الداخلية وبعض القرارات ذات الطابع الاستراتيجي.

لكن كان لا بد من أن يكون هناك تنسيق قوي بين القيادات الشيوعية في التجمع، ودون إشراك القيادات المنخرطة في النشاط السري للحزب الشيوعي. فكان أن استقرت الأمور على أن تتشكل اللجنة المركزية من ثلاث مجموعات لا توجد صلة تنظيمية بينها، وألقي على عاتق المكتب السياسي والسكرتارية المركزية مهمة تنسيق الاختيارات السياسية الكبرى والتصويتات..الخ. والمجموعات الصلاث هي: "المجموعة الديمقراطية" وتضم القيادات العضوة بالتجمع وتتحكم تقريبًا في الحزبين، والمجموعة الداخلية ذات النشاط الحزبي الخالص، ومجموعة الخارج التي تضم الكوادر المتواجدة خارج البلاد لأسباب مختلفة.

بالطبع كان هذا التسيق صعبًا ومليئًا بالتعقيدات، كما أنهكت الحزب بعض الانقسامات مثل مجموعة طلاب القاهرة ومجموعة تنظيم المؤتمر ومجموعة سعد كامل اليمينية الميالة للتهادن وحتى الجبهة مع السادات. و مع ذلك ازداد الحزب قوة وحجمًا.. لكن مجيء مبارك أدخل اليسار كله في معضلات جديدة، خاصة بعد البروباجندا الإصلاحية التي صاحبت مجيئه.

وكانت البداية مع صدور تقرير عن المكتب السياسي يستبشر عمليًا بسياسات مبارك (أعده نبيل الهلالي وحسين عبد الرازق واعتمده المكتب). ولعل أخطر فقرة في ذلك التقرير قد جاءت بعد تعداد قرارات وممارسات ووعود مبارك المختلفة عن السادات.. وتقول العبارة بالحرف ".. مما يوحي بأننا قد نكون إزاء إرهاصات توجهات جديدة للنظام". لاحظ "يوحي"، "قد"، "إرهاصات".

وحينما اجتمعت اللجنة المركزية بعد صدور التقرير الإشكالي بشهرين أو ثلاثة رفضت التقرير وألزمت المكتب السياسي بسحبه.. وقد جاءت مقاومة هذا الموقف اليميني أساسًا من الكوادر الوسطي غير التجمعية ومن مجموعة الخارج، بالرغم من الخلاف الكبير بين الكوادر الداخلي ومجموعة الخارج.

غير أن ما لفت نظري بقوة في تلك الفترة تحول نبيل الهلالي (الرفيق الأقرب إلى قلبي) من أقصى الموقف اليميني إلى أقصى الموقف اليساري، دون أن يلقي التحية على مجموعة "الوسط" غير المنحازة حلقيًا (كما قلت له بالحرف).. في الحقيقة أخذت تساورني الشكوك أن الطابع الحلقي والشللي غلاب وآخذ في التزايد.. وإنْ ظلت هناك مجموعة من الرفاق غير الحلقيين (أطلق عليها مجموعة الوسط) لكنها لم تستطع تشكيل تيار حزبي ثالث بسبب التردد والخوف من تمزيق الحزب أكثر، واعترفها بوجاهة بعض المواقف عند كل طرف.

وفي هذا الوقت عملت قيادة مجموعة الخارج على استخدام "اتحاد الشباب الديمقراطي" كأداة في توسيع نشاطها الحلقي، وبالذات من خلال مجلة "اليسار العربي" التي تصدر بالخارج. وأذكر أنني كنت ألاحظ فيها لهجة يساروية زاعقة لا تتفق مع وقائع الحال في الداخل.. ومثلا انزعجت جدًا من مقال لميشيل كامل يدين عدم تأييد "انتفاضة الأمن المركزي" التي شبهها بانتفاضة البحارة والجنود قبل الثورة البلشفية، وأن جنود الأمن المركزي الهاربين إلى قراهم سيلعبون مثل ذاك الدور في تثوير الشعب. ساعتها أيقنت أن البعد لسنوات طوال عن النضال على أرض الوطن يجلب الكثير من الرطانة الفارغة والحماقات الضارة.

الخلاصة أننا أصبحنا إزاء حلقتين إحداهما تمترست في التجمع والأخرى تمترست في الخارج. كما بدأت تتجلى ظواهر عن قيام مجموعة "مجموعة ميشيل ونبيل" بتشكيل تكتل غير تنظيمي داخل الحزب (وهو ما اعترف به قادته وبرروه فيما بعد حينما انقسموا فعليًا وأعلنوا حزب الشعب الاشتراكي).. وازدادت الحوارات الداخلية حدة على صفحات النشرة الداخلية وفي الاجتماعات الحزبية.. خاصة حينما اتخذت اللجنة المركزية بالأغلبية قرارًا لا يسمح لمن قضى بالخارج أكثر من عشر سنوات بأن يترشح للجنة المركزية. وهو ماردت عليه مجموعة الخارج بشجب "التيار التصفوي الانتهازي" في الداخل.

هذا هو السياق الذي تطلب أن تجتمع اللجنة المركزية في الوطن في اجتماع مشترك بين المجموعتين الداخلية والديمقراطية. وكان هذا القرار بمثابة مجازفة أمنية كبرى. وقتها تمت دعوتي إلى اجتماع ضيق جدًا مع رفعت السعيد وإبراهيم بدراوي. بدآه بمدح دوري المتواضع في تأمين المؤتمرين الأول والثاني للحزب. ثم تطرقا إلى مشكلة أين يعقد الاجتماع الخطر والمنتظر أن يكون عاصفًا. وتحدثا عن سابق نجاحي في إخفاء ثلاثة من قادة الحزب مطلوبين أمنيًا وقضائيًا في عشتنا (فيلتنا) في مصيف رأس البر.

فهمت المطلوب، وبصراحة حاوت التهرب خشية أن يحدث مكروه وينسب الفشل إلى شخصي. لكني رضخت في النهاية. وطلبت مهلة للإعداد الجيد لكنهما استعجلاني. ودرست الأمر سريعًا.. كانت رأس البر تكون مهجورة تقريبا طوال الشتاء (قبل أن تصبح مدينة).. وهذا لصالحنا لكنه أيضًا يمكن أن يلفت نظر القليلين المقيمين بشكل دائم وهم من المعروفين بالتعاون مع الأمن.

المهم اشترطت أن تكون مدة الاجتماع 24 ساعة متواصلة.. ووضعت جدولا بتوافد الأعضاء وأماكن استقبالهم المتباعدة. وقررت أن يكون الاجتماع بالطابق الثاني. وطلبت السماح لصديق عمري عبد العزيز عبد الحق بمساعدتي (وكان عضوا احتياطيًا باللجنة المركزية). وقمت بتجهيز كم من المعلبات والخبز وبطاطين..الخ. وذهبت مع عبد العزيز لنصف يوم نستكشف المكان والظروف.

يمكنك أن تعرف خطورة اجتماع حوالي ثلاثين شخصًا معروفين للأمن وموضوعين تحت العين 24 ساعة. وأذكر منهم: رفعت السعيد، نبيل الهلالي، مبارك عبده فضل، محمد علي عامر، حسين عبد ربه، حسين عبد الرازق، عريان نصيف، فريدة النقاش، شاهندة مقلد، أبو العز الحريري، عبد الغفار شكر، رأفت سيف، عيد صالح، ماجد الصاوي، إبراهيم البدرواي، أحمد شرف، علي إسماعيل، مصطفى الجمال، صلاح عدلي، يوسف درويش، عبد العزيز عبد الحق...

كان الاجتماع صاخبًا، والاتهامات المتبادلة بلا حساب، فابتأست.. وأذكر أن كان بجانبي المناضل الكبير محمد علي عامر الذي لاحظ اكتئابي، فقال لي: "مالك ياوِلْد؟".. قلت له "يعني انت مش شايف".. فقال لي أغرب عبارة: "الجمل ياما كسر بطيخ"!! وهو مثل شعبي عن ضرورة تحمل خسائر لا مفر منها.

خرجت من الاكتئاب الداخلي بأن كنت أخرج كل ربع ساعة لأقوم بدورة حول العشة للتأكد من الأمان.. غير أن أكثر ما أزعجني كانت أصوات بعض الرفاق الرهيبة (خاصة أحمد شرف وحسين عبد ربه) التي كانت تدوي في صمت الليل.. فأعود لأرجوهم التحدث بهدوء. لأنه لو تصادف ومر أحد لفهم بسهولة أن هذا نقاش سياسي.

استمر الاجتماع من الصباح حتى صباح اليوم التالي، وأشرفت على مغادرة الرفاق بنظام دقيق ومسارات مختلفة.. وبعدها تنفست الصعداء أنا وعبد العزيز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقالات ومواجهات بين الشرطة الألمانية ومتظاهرين في برلين أث


.. عوام في بحر الكلام -محمد عبد القادر: أول زيارة لـ عبد الناصر




.. من قلب مسيرة 6 أكتوبر بالرباط في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى


.. محمد نبيل بنعبد الله بمناسبة مشاركته في المسيرة الشعبية الوط




.. اشتباكات في روما بين الشرطة ومتظاهرين مؤيدين لفلسطين