الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جوهرة مدفونة في العفن … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 6 / 1
الادب والفن


الساعة تدق الخامسة عصراً في قاعة الاعراس الفاخرة في قلب المدينة .. الزينة معلقة في كل مكان .. يتدلى بعضها من السقف ، والبعض الآخر مصلوبٌ على الجدران ، والمصابيح الملونة تتراقص معها بفرح وتكاسل .. ومن بعيد يتناهى صوت الموسيقى وايقاع الطبول ، يختلط مع ضحكات ولغط الحضور ، تناثر المدعوون في ارجاء القاعة .. خطا محمود وصديقه باتجاه احد المناضد ، واخذوا مكانهم بين الضيوف ، وبعد ساعة او اكثر بدء محمود بالتململ ، وهو يداري ضجراً بدء يزحف ، فهو اصلاً لا يطيق هذا النوع الرسمي من الاحتفالات المملة ، لكن اداءه للواجب هو من دعاه الى الحضور !
وقتلاً للوقت راح يجول ببصره في أرجاء المكان ، وفي إحدى التفاتاته العفوية لمحها خطفاً من بعيد ، فتاة تبدو في نهاية العشرينات أو ربما في بداية الثلاثينات ، تمشي باعتزاز ، يقود خطاها غرور الصبا والشباب ، تنشر ابتساماتها في كل مكان ، جسد مازال متفجرا بشوق عارم للحياة ، ينسدل شعرها الفاحم بتموجات على كتفيها ، شدته اليها على الفور ، وجذبته بدفء شخصيتها وجمالها الصافي الذي لم يعكره مرور الزمن .. تعلقت عيناه بحركتها ، لم يستطع مقاومة فضوله أكثر ، فمال على صديقه وسأله :
من هذه الفتاة … ؟ ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه الصديق : سارة .. صديقة العروس …
تعرفها … ؟
تقريباً … ! أجاب الصديق …
متزوجة … ؟
مطلقة … ! سبق لها ان خُطبت وعقد عليها لكن التجربة فشلت ، وتم الطلاق قبل الدخول بها ، ثم تساءل غامزاً :
أعجبتك … ؟
أحس محمود بنبرة غريبة بين طيات كلماته كأنها تحمل تحذيراً خفياً ، تجاهل سؤاله ، وبقي ملازماً صمته ، ثم عاد الى متابعتها شارداً محلقاً في فضاء بعيد مما يملك من مخزون الأمل والأحلام ، لكنها سرعان ما توارت وابتلعها الصخب والزحام ، فغابت عن الانظار .
أعجبته بالفعل ، لكن مخاوفه قد طغت كالعادة على هذا الاعجاب المفاجئ ! وقد آن الاوان لأن يغربل نفسه من هذه الهواجس والمخاوف التي ضيعت عليه فرصاً كثيرة ، والزمن لا يرحم ، والسنين تمشي ، والعمر ليس فيه متسع ، وكفى هدراً لسنينه الثمينة .. فهو لم يعد شاباً ولا يمتلك رفاهية الوقت ، وقد شارف على الاربعين ، لقد حنَّ فعلاً الى لمسة الزوجة ودفء الاسرة ، وجاء الوقت ليعفي نفسه من السهر الذي بدء يكلف صحته الكثير !
ليس لديه اعتراض على فكرة الزواج في الاصل ، ولا حاجة الى من يذكره بها ، فهو يحملها دوماً في داخله كما تحمل الأم جنينها ، لكنه لم يكن بطبعه من محبي المغامرات العابرة الغير مضمونة العواقب خاصة في الأمور المصيرية ، ولا من المنزلقين الى طريق لا يعرف نهايته … !
وما أسباب هذا الانفصال … ؟ عاد محمود الى التساؤل …
صمت الصديق قليلا كأنه يتحسس طريقه للدخول في الموضوع ، ثم أجاب بإسهاب :
تضاربت الانباء عن الاسباب الحقيقية وراء ذلك ، لكن الكل اجمعوا على ان امها الكامنة في اعماقها هي السبب الرئيسي ! إن المشكلة في الام وتسلطها المرضي ليس على سارة وحدها ، وانما على كل افراد الاسرة بما فيهم الاب الذي حوّلته الى رب اسرة فخري منزوع المخالب والانياب ، لا يهش ولا ينش ، كل الحل والعقد في البيت بيدها وحدها ، واذا بقي الحال على ماهو عليه ، فقل على المسكينة سارة السلام ، فلن يشفع لها شئ ، ولا حتى جمالها الزائل الذي سيأتي يوم عليه ، ويُلقى في سلة المهملات ، ستبور حتماً ، وعليه العوض ! ثم أكمل غامزاً : والزمن يا صديقي العزيز لا ينتظر ولا يجامل احداً .. وختم كلامه : رغم مرور سنوات على هذا الحادث ، لم يتقدم لها أحد ، واذا كنت تلمح الى التقدم لخطبتها انصحك بأن تكون خطبة أولاً بدون عقد !
أطلّتْ على المكان من جديد بوجه يسيل بشاشةً ورقة ، نظر في وجهها فتقابلت عيناهما ، يبدو انها ادركت بغريزة الانثى انهم كانوا يتحدثون عنها ، فأشرق وجهها بأبتسامة عذبة ، وكأنها تناجي حلماً قديماً قد ضاع … !
بقي بعد سماعه لتلك المعلومات متردداً بين شد وجذب ، جزء منه يطالبه بخوض التجربة ، وكفى تردداً وتراخياً ، والجزء الآخر يحذره من خوض هكذا تجربة غير مأمونة العواقب ، وبأنه قد يبتلع لقمة اكبر من طاقته ، او يقع في حفرة لم يقدِّر مدى عمقها !
فشِل في استدعاء النوم الى جفونه في تلك الليلة ، فظل يتقلب على الفراش بانتظار الفجر ، والفجر بعيد .. أحس انه بحاجة الى بعض الوقت ليتأكد اولاً من حقيقة مشاعره ، ويعرف المزيد عنها قبل ان يُقدم على الخطوة الاخيرة - الاخطر والاهم في حياته - هكذا استقر رأيه في النهاية ، وارتاح تماماً لهذه النتيجة ، ثم أعياه التعب واستنزفه التفكير ، فتدثر باغطية ثقيلة ، وراح في سبات عميق ، وصورتها تحاصره من كل ناحية ، وتلاحقه في احلامه ، ولا تدع له مجالاً للهرب هذه المرة !
تأكد لمحمود بعد ذلك بأن الفتاة قد تعرضت الى تجربتين فاشلتين ، وليس واحدة كما ذكر صديقه !
ومضت في رأسه فكرة قد تساعده في حسم الموضوع ، فباشرها على الفور .. وبعد سؤال وتقصي عرف عنوان خطيب سارة الاخير او طليقها ، فاتصل به وضرب معه موعداً .. وعند اللقاء لاحظ ان الرجل كان محرجاً وحذراً لكنه تكلم اخيراً بعد الحاح وتطمينات من محمود فقال .. وكأنه يجلس على كرسي الاعتراف :
بعد اتمام الخطبة والعقد ، والقبول بشروط الام المبالغ بها ، والتي أملتها بنبرتها المتعالية ، وهي تضع رجلاً فوق الاخرى ، واهمها وازعجها هو ضرورة التجهيز من ارقى المحلات واغلاها ، وسمّتها بأسمائها .. وقيس حضرتك على باقي الامور … !
بدءنا ، ونحن نخطوا أولى خطواتنا في الاستعداد للحياة الجديدة ، وتركتُ لخطيبتي اختيار لوازم البيت الجديد ايماناً مني بأن البيت هو مملكة المرأة ، ويجب ان تكون لها الكلمة الفصل في كل شئ فيه تقريباً ، ولكن ليس بدون منازع ، فأنا أرفض ان أكون مجرد اضافة دون ان يؤخذ رأيي في شئ .. لكنها وأمها كعادتهما تريدان الامساك بخيوط اللعبة منذ البداية ، وأن يكون واجبي ان أُطيع فقط ، وان أذوب في ارادتهما ، واتحول إلى دمية بلهاء ، وخيال مآتة أو نموذج للزوج المسلوب الارادة ، وهو ثمن غالٍ جداً لرجل لم يعتد الخضوع لأحد .. مثلي ، وكأنهما لم يستفيدا من دروس الماضي ( وأشار الى تجربة سارة الاولى الفاشلة ) . ثم أكمل : لاحظتُ ان وثاقها أخذ يشتد عليّ يوما بعد يوم ، وتحكمها في كل شئ يخصني يضيِّق علي الخناق ، وكأنها قد تحولتْ الى سجّان يعد علي أنفاسي كل يوم .. كان في الامر منطق غريب يتجاوز حدود فهمي وتحملي !
وهكذا مرت الايام دون أدنى تغيير ، شعرت ان بصمات امها باتت واضحة في الفصل في الكثير من الامور التي يجب ان تكون حصراً بيني وبين خطيبتي ، وانها دائمة الوقوف خلف ابنتها كأنها ملاكها الحارس ، تزج انفها في كل صغيرة وكبيرة ، ولا تترك لخطيبتي حرية الحركة ، ولو لإنج واحد دون موافقتها ، وكأني غير موجود ، أنا زوج ابنتها الشرعي ، وتفرض رأيها حتى ولو كان معاكساً لآراءنا نحن الاثنين ، كأنه فرماناً واجب النفاذ ، وفي النهاية لا تمشي إلا كلمتها ولا ينفذ إلا رأيها ، وكأن الباقون اصفاراً ! ومع مرور الوقت اصبح الامر مكرراً وبعدها بدا مملاً ومقززاً .. !
ورغم قرب خطيبتي مني ، أحسست اننا متباعدان بمسافات ، وطالت بيننا لحظات الصمت .. ثم بدءت روح الخلاف تنمو دون ان ندري ، وتعبأ الجو بالتوتر ، وبدء النقار وتطور الى شجار ، ثم وجدت أمامي وجه آخر وشخص آخر غاية في الغرابة ، حاولت تفكيك الالغام ، وإعادة الحرارة الى علاقتنا التي يبدو انها كانت تمر بطريق مسدود ، لكني فشلت ، واخيراً تحولت حياتنا معا الى وتيرة متصلة من العذابات !
أحسست بخيبة امل ، وخفّت حماستي ، وتراجعت مشاعري نحو سارة خطوة الى الوراء ، وشعرت بأني قد أصبحت مثل ذاك الذي إشترى صندوقًا مغلقا دون ان يفتحه ، ويرى ما بداخله .. أو كذاك الذي قفز قفزة متهورة في الظلام لا يدري على أية أرض سيسقط !
ثم تابع وقد استغرقته التفاصيل : ظل عقلي يناوشني ، هل أضع اللوم على الام المستبدة ام على خطيبتي التي سمحت لامها ان تتحكم بها الى هذا الحد ؟ كنت خائفاً أن تكون سارة قد تماهت مع آراء وتصرفات وشخصية أمها المتسلطة والمتعالية ، والخوف كل الخوف أن تتحول بعد الزواج الى نسخة طبق الاصل منها ، وكما يقول المثل البنت لأمها .. وربما اتحول انا الى نغمة مكررة من ابوها ( يضحك الاثنان ) وعندها سيكون الزواج كأنه اسلوب من اساليب الانتحار !
كان محمود مستغرقاً في صمته يتشرب كل كلمة من كلمات الرجل محاولاً قراءة الجانب الخفي من افكاره ، وربط الخيوط مع بعضها ، تُضئ وجهه ابتسامة باردة ومحايدة ، وغير مفهومة !
أكمل : لهذا لا مفر من مواجهة الحقيقة والذات ، والاستسلام للواقع ، فهذا زواج يا سيدي : يعني حياة ومستقبل وأسرة .. سعادة وتعاسة ، وليست علاقة عابرة تتلاشى بعد أن تأخذ وطرك منها ، وإن راهنت على الايام في أن تُغيّر سارة في المستقبل ، فهي مخاطرة غير مضمونة العواقب لستُ مضطراً لخوضها ، وقد ادفع ثمنها غالياً ، لأن الزمن - كما يقولون - لا يغير الناس وانما يكشف حقيقتهم .. وخيبة واحدة على اي حال خير وافضل من خيبات كثيرة ، فقررتُ الانسحاب بهدوء وسلام .. رغم الخسائر النفسية والمادية المهولة التي تكبدتها ، واخذت مني هذه الكبوة سنين لأتعافى واستعيد توازني .. لكني لست نادماً على قراري هذا ، والحياة على أي حال لا تتوقف على إمرأة .. !!
وختم كأنه يريد تبرئة ذمته : الفتاة ممتازة ولا غبار عليها ، وهي في نظري مجرد ضحية مسكينة لأم متحكمة ، وأبٍ نالت منه لعنة الضعف ، واستكان للهوان ، ورضي لنفسه ان يكون مجرد كومبارس في مشهد عابر لفلم ردئ .. وإن كانت لا تصلح لي ، لا يعني انها لا تصلح لغيري .. فهي بلا شك جوهرة لكنها ، وياللاسف .. جوهرة مدفونة في العفن !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا