الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منشأ الحياة، الطبيعة أم ذكاء واعي؟

أحمد زايد

2021 / 6 / 2
الطب , والعلوم


في عام 1952م قام العالمان هارولد يوري وستانلي ميلر بتجربة ميلر–يوري الشهيرة التي تمكنا من خلالها من تخليق أحماض أمينية (حجر البناء الرئيسي للبروتينات) باستخدام جزيئات كيميائية صغيرة من الماء، الأمونيا، الهيدروچين، الميثان، تحت ظروف ظنَّا أنها تحاكي ظروف الأرض البدائية، وبعد هذه التجربة أعتقد الكثير أنه يمكن تفسير منشأ الحياة على الأرض بسهولة، فقط نحتاج لمزيد من البحث والتجارب [1]، بالرغم من أن أبحاث أصول الحياة أصبحت أكثر تعقيدًا بشكل تدريجي، لكن هدفها – لتفسير أصول الحياة- لا يزال بعيدًا اليوم كما كان في عام 1952م؛ ذلك لأن البروتوكولات المستخدمة في التجارب الحديثة لم تتغير أبدأ علي مر السنين فالخطوات المتبعة في كل تجربة هي:

– شراء بعض المواد الكيميائية عالية النقاء.

– مزجها معاً بتركيزات عالية وترتيب معين في ظروف مختبرية مصممة بعناية.

– اشتقاق خليط من المركبات الناتجة؛ ونشر ورقة تتحدث عن ادعاءات جريئة حول أصل الحياة.

هذه البروتوكولات لا تتحسن أبداً وأيضاً هي غير واقعية.

— تخليق المركبات الكيميائية العضوية المعقدة في المختبرات:

هذه وظيفة علماء التخليق الكيميائي، أحياناً ربما نجد في الطبيعة مركبات كيميائية لها فوائد طبية لكنها موجودة على سبيل المثال بنسب صغيرة جداً في نباتات تعيش في قاع المحيط الهادئ، نحن نريد كميات كبيرة من هذا المركب لكن الطبيعة لا يوجد فيها سوى كميات صغيرة، فما نفعله هو أننا نقوم بفصل هذا المركب الذي نريده من مصدره، ونقوم نحن بتصنيع مثله في مختبرات الكيمياء بوسائل معقدة، طريقة تخليق مركب كيميائي معقد وليكن اسمه A مثلاً هي كالتالي:

أولاً: نقوم بالتعرف على الصيغة الكيميائية للمركب A.

ثانياً : نقوم بعمل ما يسمى تحليل التخليق التراجعي Retrosynthetic Analysis بدلاً من استخدام مواد أولية، والمرور في العديد من الخطوات وصولاً إلى المركب A الذي نريد تصنيعه – نعكس الموضوع – نبدأ من المركب A الذي عرفنا صيغته الكيميائية، ونرجع للوراء خطوة بخطوة وصولاً للمواد الأولية التي يمكن استخدامها لتخليق هذا المركب، هذه الطريقة المعكوسة أفضل لأنها تمكننا من معرفة الطرق المختلفة التي يمكن أن يتم تخليق المركب A بها، وبالتالي اختيار أفضل طريقة لتحضيره (يعني مثلاً الطريقة Z ستخلق المركب A، الطريقة Y أيضاً ستخلق المركب A، لكن التفاعلات الكيميائية المستخدمة في الطريقة Z سينتج عنها غازات مضرة للبيئة، ونسبة النواتج ستكون صغيرة، والتفاعلات المستخدمة فيها ستكون غير مستقرة تحت تأثير العوامل البيئية، أما الطريقة Y لا تنتج غازات مضرة للبيئة مستقرة، ونسبة النواتج فيها عالية، إذا نختار الطريقة Y بدلاً من Z)

ثالثاً: ما إن نعرف المواد الأولية اللازمة لعملية التخليق، وطرق الوصول الأفضل من هذه المواد إلى المركب A يقوم عالم التخليق الكيميائي بضبط الظروف عند كل خطوة من الخطوات ما بين المواد الأولية – التي يجب أن تكون مواد نقية تماماً – إلى المركب المراد تصنيعه؛ مثلاً:
- ضبط درجة الحرارة.
- وضع عامل حفاَّز يزيد من سرعة تفاعل ما.
- وضع عامل مؤكسد أو عامل مختزل.
- ضبط الكيمياء الفراغية Stereochemistry للمركبات المتكونة أثناء التفاعلات.
نحصل بعد ذلك على المركب A فنقوم بتنقيته من شوائب التفاعل.
إجراء اختبارات تحليل كيميائي عليه بإستخدام طرق التحليل الكيميائي الطيفي علي سبيل المثال Spectroscopy للتأكد من أن تركيبه الكيميائي هو نفسه التركيب الكيميائي للمركب الذي تم الحصول عليه من الطبيعة [2].
الآن كما هو واضح من الخطوات المذكورة أعلاه، أي تجربة يقوم بها عالم تخليق كيميائي في أي مختبر لتخليق مركب معقد واحد فقط تطلبت عمليات تدخل متكررة من كينونة واعية (الإنسان) للحصول على النتائج المرجوة، لا يمكن خلط أي مواد كيميائية بعضها مع بعض، والانتظار لفترة حتى تخلق لك سحرياً بشكل تلقائي مركب معقد.

كل أبحاث أصل الحياة (Prebiotic Chemistry/Abiogenesis) تقابل هذه المعضلة؛ فهي تفترض أنه قبل 3.8 مليار سنة تجتمع المواد الكيميائية مع بعض بطريقة ما، وتخلق المواد الحيوية المعقدة اللازمة للحياة وهي؛ الكربوهيدرات، البروتينات، الليبيدات (الدهون)، الأحماض النووية (الحمض النووي الريبوزي RNA، الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسيچين DNA) بدون تدخل من كينونة واعية، كما يقول عالم الكيمياء Clemens Richert في دورية Nature Communications التدخل الواعي ضروري دوماً في عملية تخليق المركبات العضوية المعقدة، إضافة أن المواد الكيميائية في الأرض عادة ما تكون مخلوطة مع مواد أخرى، ولا يوجد مواد عالية النقاء طبيعياً [3]، فالطبيعة ليست واعية، ولا تقوم برسم أهداف، ووضع تحليلات تخليق تراجعية للوصول للهدف، كيف إذاً خلقت تلقائياً مواد بهذا التعقيد؟ أبسط أنواع الحياة المعروفة ما زالت تحتاج مركبات معقدة [4]، لذلك كما هو مذكور البروتوكولات المتبعة في التجارب غير واقعية، لا تحاكي بيئة الأرض اللاواعية البدائية حيث تحدث تدخلات واعية دوماً من عالم التخليق الكيميائي لخلق المركبات المعقدة، لم تتكون المركبات المعقدة تلقائياً في أي تجربة من دون تدخل واعي.

– منشأ الخلية الأولى:

حتى لو بطريقة ما الطبيعة اللاواعية خلقت المواد المعقدة اللازمة للحياة، مستحيل أن تتجمع هذه المواد تلقائياً سَوِيًّا لتصنع خلية حية، الآن معنا كل المواد الخام الموجودة في الخلايا، معنا عقولنا التي لها القدرة على التفكير، و التحليل، والاختراع، ولدينا التقدم العلمي و التكنولوچي، ومع ذلك لم يتمكن أي أحد من صنع خلية تحاكي الخلية الحية، ولا أحد يعرف كيف يمكن لخلية أن تنبثق من مكوناتها الجزيئية، فتعقيد الخلية لا يأتي من تعقيد مكوناتها فقط؛ بل يأتي أيضاً من الطرق المعقدة اللامتناهية التي تتفاعل بها هذه المكونات مع بعضها البعض، أحدث ما وصل إليه البشر هو تصنيع كبسولات صغيرة باستخدام تقنيات الموائع الدقيقة بداخل هذه الكبسولات الصغيرة يوجد طين، ولأن الطين له قابلية عالية للارتباط بالأحماض النووية، مثل DNA تمت إضافة جزيئات DNA للطين فكونا مع بعضهما نواة صناعية بذلك، تمكنت هذه النواة الموجودة في بعض الكبسولات من تخليق بروتينات، وإرسالها لكبسولات أخرى مجاورة لها [5]، إنزيم بلمرة الحمض النووي الريبوزي RNA Polymerase الذي استخدم الحمض النووي DNA الموجود في الكبسولة كقالب لصناعة الحمض النووي الريبوزي الرسول mRNA، الريبوسومات المكونة من البروتينات، والحمض النووي الريبوزي الريبوسومي rRNA، والحمض النووي الريبوزي الناقل tRNA، والعوامل الإنزيمية المساعدة Enzymatic Cofactors، مصادر الطاقة اللازمة للعمليات الحيوية Energy Sources – هذه هي أصلاً الأشياء التي قامت بتخليق البروتينات – كلها تم استخلاصها من كائنات حية أخرى، والفريق الذي كتب الورقة لم يصنع شيئًا سوى الكبسولات تقريباً، ومع كل هذا التقدم هذا آخر ما توصلنا له! وهم حتى لم يضعوا أي مواد كيميائية معقدة مع بعضها، وانتظروا حتى تنبثق الخلية المراد صناعتها من هذه المواد، بل استخدموا أجهزة وتقنيات متقدمة، وفوق ذلك العقل البشري القادر على التفكير والتخطيط، ربما بعد 2000 سنة يتمكن العلماء من تصنيع خلية نقية خالية من أي مركبات مستخلصة من أجسام كائنات حية أخرى، ومكافئة تماماً للخلية الطبيعية، لكنهم بذلك يؤكدون على استحالة تجمع المواد الكيميائية المعقدة مع بعض بطريقة ما لتعطيك خلية حية، يلزم دوماً تقدم تكنولوچي وتدخل واعٍي، من أين ستأتي الطبيعة اللاواعية بهما؟؟

لذلك كما يقول أحد أهم علماء التخليق الكيميائي في عصرنا أستاذ الكيمياء في جامعة رايس James Tour من التجارب التي تم إجراؤها في المختبرات ومن علمي الكيمياء والفيزياء، الحياة لا يجب أن تظهر طبيعياً في أي مكان في الكون ولا حتى على سطح كوكب الأرض، ولا يمكن حتي للإنتظار لفترات زمنية طويلة (ملايين السنين) أن يحقق هذه المعجزة، لأن التفاعلات الكيميائية أصلاً التي تنتج مركبات الحياة كالكربوهيدرات والليبيدات هي تفاعلات غير مستقرة ثيرموديناميكياً، بمعني أن الإنتظار لفترات طويلة، يدمر هذه المركبات الحيوية، فالوقت يدمر لا يطور [6].

ملاحظة: معظم العلماء ما عادوا يهتمون بتجربة يوري-ميلر لأن الظروف التي تمت فيها التجربة لا تحاكي أصلاً ظروف الأرض الإبتدائية بالإضافة إلي أن التجربة كان فيها تدخلات واعية [7]، ويمكن استخدام ما ذكر هنا كحجة علي أنه لابد من وجود مصمم أو ذكاء يبدأ خلق الحياة ولن تكون هذه ”مغالطة إله الفجوات“ = ”لا نعرف كيف بدأت الحياة إذا الخالق الذكي خلقها“، بل سيكون هذا إحتكام لأفضل تفسير، العلم نفسه وآلاف التجارب هي ما تقول أنه لابد من وجود وعي أو ذكاء أثناء تصنيع المركبات الكيميائية المعقدة وحتي أثناء محاولات تصنيع خلية حية من هذه المركبات، فالحجة قائمة أساساً علي ما يقوله العلم نفسه وليس علي ما عجز العلم عن تفسيره.


مصادر:

[1] https://science.sciencemag.org/content/130/3370/245
[2] https://www.wiley.com/en-us/The+Logic+of+Chemical+Synthesis-p-9780471115946
[3] https://www.nature.com/articles/s41467-018-07219-5
[4] https://science.sciencemag.org/content/309/5738/1242
[5] https://www.nature.com/articles/s41467-018-07473-7
[6] https://inference-review.com/article/an-open-letter-to-my-colleagues
[7] Deborah Kelley, “Is It Time To Throw Out ‘Primordial Soup’ Theory?,” NPR (February 7, 2010). – https://bit.ly/3cbrMW9








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ابتداءً من 6 مايو | أثر الطائر الطنان | ناشونال جيوغرافيك أب


.. هكذا نحمي أطفالنا من مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي




.. قوات الأمن الأمريكية تمنع وسائل الإعلام من تغطية اعتصام معهد


.. الجزيرة ترصد تزايد أعداد السفن المنتظرة في المياه الإقليمية




.. واشنطن تستعمل التكنولوجيا لكسب تأييد جزر المحيط الهادي