الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حروب الثقافتين

ساطع هاشم

2021 / 6 / 2
الادب والفن


العلماء والمهندسين بمختلف اختصاصاتهم من جهة، والأدباء والفنانين وبمختلف الفروع الانسانية من جهة اخرى، هما القطبان الاساسيان في تكوين وبناء حضارة الانسان المعاصر، منذ بداية الثورة الصناعية في اوروبا اواخر القرن الثامن عشر والى الان.
وينظرون إلى العالم بشكل مختلف جوهريا أحدهما عن الاخر، وغالبًا ما تؤدي هتين العقليتين المختلفتين إلى صراع فكري وجدل عقيم، أطلق عليهما العالم والمفكر البريطاني سي.پي. سنو في محاضرته الشهيرة سنة 1959 مصطلح: الثقافتين، هذا المصطلح الذي بات مشهوراً ومتداولاً على نطاق عالمي واسع منذ ذلك الحين.
فمعظم العلماء والمهندسين لا يقرأون الروايات ولا يهتمون او يتابعون الفنون، ومع ذلك، فهناك الكثير من المفكرين والفلاسفة واصحاب الرأي لا يعتبرون هذا أمرًا خطيراً (ومن ضمنهم سنو نفسه) كما هو الحال عندما يتجاهل الأدباء والفنانون او الانسانيون عامة العلوم والتكنولوجيا.
ولذلك فمن السهل جدًا ان نرى الطلاب ذوي التفكير العلمي يتجاهلون الأدب والطلاب ذوي العقلية الأدبية والفنية يتجاهلون العلم ومواكبة التقدم التقني والتكنلوجي.

والغربيون ذو الثقافة الأدبية، لا يشجعون الثورة العلمية والتكنلوجية بالعالم، ولذلك فهم غير ميالين او مشجعين لرغبة شعوب العالم الثالث لتحسين حياتهم من خلال التكنولوجيا, على الرغم من ان الجميع يعرف بان العلم والتكنولوجيا مهمان غاية الاهمية بالنسبة لمستوى معيشتنا بحيث لا يمكن تجاهلهما، فالثورة الصناعية في دول العالم الثالث هي الطريقة الوحيدة المضمونة لتحسين أحوال الفقراء وانقاذ الحياة، فهي التي غيرت الغرب ومن ثم العالم بالقرنين ونصف الماضية، فمستوى المعيشة في الغرب وفي جميع أنحاء العالم يعتمد، على عدد العلماء والمهندسين والتقنيين الذين تمتلكهم هذه الدولة او تلك، ومع ذلك، فان دول التخلف الشرقية تبذل القليل جدا من الجهد لتشجيع وتطوير هذه المجالات من التعليم (باستثناء العسكريات), وتصرف بسخاء لا حدود له على المؤسسات والمنظمات الدينية ورجال الدين وطبقتهم الفاسدة, ولهذه الغايات الشريرة تم إشاعة الشعوذة بدل العلوم في كل مجالات الحياة.

والشعوذة ممارسة قديمة جداً في تاريخ الانسان، وقد جرى تحديثها وبهرجتها بشكل واسع النطاق بالعقود الأربعة الماضية في الشرق، باستعمال العادات والتقاليد المتخلفة القديمة والسيئة والخانقة للتطور في مجتمعاتنا، منذ ان تمكن الإسلام السياسي من غزو الشارع وارهابه والانتشار بين فقرائه، وأصبحت الشعوذة بأياديهم أدوات مزدوجة المفعول لتقوية نفوذهم بين العامة والغوغاء من جهة وبين العمالة للأجنبي من جهة اخرى، وهذه الازدواجية هي ما يركز عليه المعممين والاخوانچية في خداع وتخدير العامة الذين استسلموا اليهم وعيونهم مغمضة تماماً.

ومنذ ان تنتشر بضاعة ما ويجري تسويقها بشكل جيد فأنها ستغدو جذابة وشعبية وسهلة البيع والتبادل، وبضاعة الشعوذة والكلام الخرافي المعسول سهل التسويق جداً لأنه بغير حاجة الى التفكير وبذل الجهد، فهي تخلط بين الواقع الملموس والخيال في مجتمعات فاسدة بلا وعي يراقب ولا عقل يفكر وزادوها فساداً وانحطاط.

والثقافة العالمية الحديثة سلعة تُباع وتُشترى ايضا، وتسمى الان برأس المال الثقافي كمعادل لرأس المال المالي، فربما ليس عندك من رصيد مالي لكن قد يكون لديك رصيد ثقافي او كلاهما.
وأحد اهم مصادر (رأس المال) الثقافي أو التأثير الثقافي هو نظام التعليم العالي والجامعات تحديدا، التي تمنح الشهادات والالقاب والدرجات الاكاديمية وبطاقة الدخول الى الحياة المهنية والعملية بكل نشاطاتها، وهذا هو الغرض الاجتماعي و(المالي) الرئيسي لها ومنذ توسعها وانتشارها في بداية القرن التاسع عشر والى الان.

ويكتسب الناس رأسمالهم الثقافي عادة من مؤسسات عديدة اخرى غير الجامعات واهمها بالعالم المتمدن، المتاحف والمسارح والأوركسترا، ثم الصحف والكتب والمجلات والمعارض الفنية التجارية والإعلان، وتوسعت صناعة الثقافة في القرن العشرين لتشمل الأفلام والإذاعة والتلفزيون، ومؤسسات الانترنيت وعموم الاعلام المرئي والمسموع، والأشخاص الذين يعملون في هذه الأنظمة الثقافية اليوم يتم تدريبهم دائمًا تقريبًا في الجامعات.

هذه الأنماط الثقافية قد طورت أشكالها الحديثة والنموذجية في اوروبا خلال العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر خاصة بعد دخول الثورة الصناعية مرحلتها الثانية واستمرت الى الان فيما يسمى بعصر الحداثة وما بعد الحداثة.
لكن الملفت للنظر هو ان الحياة الثقافية الحقيقية والمجددة والطليعية في اوروبا كانت قد ازدهرت خارج الجامعات، ومعظم المفكرين والفنانين والادباء ذو الاصالة الطليعية في الابداع والمعروفين عالميا كانوا من منتقدي الجامعات وبيروقراطية الحياة الفكرية فيها بعد ان رأوا فيها وفي كادرها التدريسي مجرد اوصياء على التقاليد القديمة ومعاداة التجديد

وقد أنتجت هذه الصراعات بين الجامعات من جهة والفنانين والادباء او عموم المثقفين من الجهة الاخرى الحروب الثقافية التي نألفها في الثقافة العالمية الحديثة اليوم.

ففي المنعطف التاريخي لنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت القضية شديدة جدا, حيث شكل الأساتذة الجامعيون نخبة ثقافية مميزة، ومدعومة من الحكومات والشركات الكبرى والدول واصبحوا ارستقراطية اكاديمية ذات نفوذ واسع بالدولة تشكل تعاليمها الافكار الرسمية للحكومات، وصارت المصدر الرئيسي لتخريج الموظفين والعاملين بالإدارات الحكومية والتكنوقراط المتمرس، ودافعت عن سلطة الدولة والفلسفات والايديولوجيات الداعمة لها ولرأس المال الصناعي، وقدموا للطلاب رأس المال (الثقافي) الضروري لتقدمهم الاجتماعي بهيئة شهادات عليا ومؤهلات ثقافية ومهنية ووظائف, لكن اندماج الجامعات في النظام البيروقراطي والمهني للدولة لم يوفر مساحة كبيرة للإبداع الحقيقي في تلك الفترة, وهذا واحد من الاسباب الذي جعلها هدفا للسخرية واستياء العديد من المثقفين والفنانين المتمردين المجددين آنذاك ومن سلطتها الثقافية وجعلهم معادين للثقافة الاكاديمية عامة.

ونتيجة لهذا الاستقطاب بين الطرفين فقد تطورت حياة ثقافية بديلة غير رسمية في المدن الاوروبية التي يعيش فيها عدد كبير من الكتاب والفنانين والصحفيين على هامش الجامعات، وظهرت التجارب الثقافية والنقد الاجتماعي الجديد خارج الدوائر الأكاديمية فيما يسمى (بالثقافات البوهيمية) في مدن مثل باريس وبرلين وفيينا، وعرف المجتمع الفكري والفني البوهيمي نفسه بالوقوف ضد الحياة الاجتماعية البرجوازية والجامعات الرسمية.
حيث كان في كل هذه المدن جامعات كبرى، ولكن لم يكن من السهولة على المفكرين والفنانين المجددين اختراقها او ان يجدوا مكانًا لهم فيها, وبدل من ذلك فقد اصبحت المقاهي والمكتبات العامة والبيوت الخاصة ومقرات الجمعيات والاندية حيث يمكن للناس أن يجتمعوا والتي تمتلئ بها كل من باريس وفينا خاصة هي مراكز الثقافة الاصيلة, حيث ذهب الناس الذين عملوا في نفس المجلات أو الصحف او المراسم الفنية وغيرها إلى نفس المقاهي والمكتبات والاندية, وقد وفرت لهم هذه المدن الكبيرة ما يكفي لدعم مستقل لصناعة ثقافة بعيدة عن الجامعات والتي احتاجت إلى كتاب وفنانين مبدعين مجددين وغير تقليدين.
وكان لباريس خاصة تقاليد عريقة في جذب الغرباء والمنفيين، ودعمت كلتا المدينتين شبكات الحياة الفكرية خارج التخصصات الأكاديمية الرسمية، بهدف خلق مجتمع فكري دولي، ساعد على التقريب بين أشخاص من جنسيات وخلفيات ثقافية متنوعة، ثم ان لباريس سمعة ايجابية واسعة فيما يتعلق بالراديكالية السياسية والثقافية التي استمرت في جذب المبدعين الخارجيين على المألوف من كل العالم تقريبا.
ودعم الجمهور لكلا المدينتين صناعة الثقافة التي تضمنت المعارض الفنية وناشري الكتب والصحف والمسارح والحفلات الموسيقية، وتشبه الحياة الثقافية في فيينا الثقافة الباريسية في أن العديد من مثقفي فيينا كانوا يعملون خارج الجامعة ايضا.

ولكن النمو المطرد للجامعات بسبب الحاجات الوظيفية الاقتصادية للصناعة والزراعة والتجارة وفروع الانتاج العالمي، والدعم المالي للدول قد زاد من عدد أعضاء هيئاتها التدريسية وطلبتها وخاصة بالفترة بين الحربين العالميتين, وأدى هذا إلى تطوير الجامعات والبحث العلمي بشكل عاصف، وازداد عدد التخصصات الفكرية والعلمية تحديدا، وأصبح الأساتذة باحثين ومعلمين وعلماء كاشفين عن تأثير العلم الذي يحتاج الى المختبرات والاجهزة المعقدة والاستثمار المستمر, وتمكن هذا الدعم من تحديث نموذج الجامعة الحديثة, التي ابتكرت ونظمت المؤتمرات العلمية واللقاءات الدورية وعمقت تخصصات البحث العلمي، مع مختبرات علمية وندوات في العلوم الإنسانية عابرة للقارات والدول, فبدأ هذا النهج يجذب رواد الطليعة والابطال البوهيميين كذلك وتضمنت مناهج التدريس تخصصات جديدة كانت حتى وقت قريب من اختصاص المقاهي ودور النشر الحرة ورعاة الفن الاغنياء .
وهكذا قامت الجامعة بتوحيد الوظيفتين الرئيسيتين في النظام الاجتماعي والثقافي الحديث، العلمي التقني من جهة والانساني الفني والادبي من جهة اخرى وهذه الوظائف المزدوجة لا تزال في صلب الحياة الجامعية.
اما الوظيفة الأخرى الاخطر للجامعة في الغرب فهي حماية وشرح التقاليد الثقافية والايديولوجية الأوروبية كسلعة ثقافية ورأس مال ثقافي ونشرها عالميا والمرتبطة بالغرض التقليدي المتمثل بالمُثل الأرستقراطية والبرجوازية ورأس المال (المالي) وقد أنتج هذا النمط من التعليم الثقافي الغربي طبقة عليا متعلمة وثقافية وتم تصدير كوادرها الى كل دول المستعمرات وبكل شرورها وخيرها على السواء، ونظامنا السياسي الجائر في الشرق ليس الا احدى ثمار هذه السلع الثقافية الغربية وحروبها الثقافية المستمرة علينا بلا هوادة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع