الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحراك بين حلم جزائر الغد ومخاوف السقوط في الدولة الاسلامية (الجزء الثالث)

مصطفى صامت

2021 / 6 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


أ- نقطة ضعف الأمة
كانت ثورة الجند المأجور (241-237 ق.م) أو الحرب الليبية كما يسميها المؤرخ بوليب او ثورة الكفاح التحريري عند أحمد صفر ، أكبر تهديد شعبي كاد أن يخلص الشمال الإفريقي من سرطان الأوليغارشية التجارية الحاكمة في العاصمة البونية قرطاج والتي وضعت مصالحها الإقتصادية الخاصة بزمرتها فوق كل إعتبار. لقد شاركت كل شرائح المجتمع القرطاجي والليبي في تلك الثورة، أهل المدن والأرياف، الأحرار والعبيد، حتى النساء تبرّعن بحليهنّ لتمويل الثورة. تم محاصرة قرطاج وأسرى الشاب حنبعل ابن القائد هاميلكار باركا من طرف قوات المتمرد الأمازيغي ماطو (Mathos) ورفيقه سبنديوس(Spendius) ولم يجد أشفاط قرطاج سبيلا للقضاء على الثورة المُهددة لمصالحهم الا بزرع الشقاق بين الثوار والتي بدأت بالتقسيم العرقي الذي تميز به جيش قرطاج، حيث تظاهر مجلس الشيوخ القرطاجي بسعيه للاستجابة للمطالب الشعبية وأُرسل القائد جيسكو، الذي بدأ في تسوية رواتب الجنود الأجانب قصد ترحيلهم ليبقى الجنود الأمازيغ المحليين لوحدهم ثم يسهل القضاء عليهم.
بعد تفطن الثوار لهذه الحيلة وافشالها قام حكام قرطاج بتأليب القائد المسيلي ناراواس (Naravas) وهو جد الملك ماسينيسا، ضد الثوار مقابل تزويجه إحدى أميرات قرطاج وكانت نهاية هذه الثورة العارمة بضرب الثوار الأمازيغ المتمردين على قرطاج بالأمازيغ المسيل والذي نتج عنه آلاف القتلى الأمازيغ بينما بقي أشفاط قرطاج الفينيقيين محصنين بأصوار قلاعهم يواصلون جمع الأموال من الآهالي عبر الضرائب الباهظة المفروضة عليهم مع ضمان استمرار حكمهم بنشر العداوة والشقاق بين القبائل والمدن الأمازيغية في المنطقة .

بعد تلك الحرب التي لا تغتفر ، تعلم القرطاجيون الدرس، فقاموا باعادة تشكيل جيشهم من جنود أغلبهم من أهل البلاد الأمازيغ كما في كل مرة (12000 جندي من المشاة أمازيغ كانوا مع حنيبعل في إيطاليا و 11850 آخرين مع أخيه أسدروبال) تم إرسال هذا الجيش الى إسبانيا قصد إبعاد خطره على مصالحهم ، وإلهائه بالصراع ضد مصالح روما في شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة وهو السبب الأول الذي دفع بالقائد الروماني شيبيون الإفريقي (Scipion) بنقل الحرب الى البر الإفريقي لإبعاد جيش حنيبعل عن مدينة روما، ليكون النوميد الأمازيغ أكبر ضحية لهذا الصراع الذي افتعلته الأوليغارشية القرطاجية مرة أخرى و التي لم تعبر يوما بأي حس بالإنتماء المحلي .

إنقلبت قرطاج على حلفائها من أحفاد القائد ناراواس الذي أنقذها من ثورة ماطو وتحالفت مع منافسهم في المنطقة، سيفاكس المسيسيلي، مما دفع بالعاهل المسيلي ماسينيسا الى التحالف مع عدو الأمس، شيبيون الإفريقي، لإسترجاع حقوقه المسلوبة. فضُرب سيفاكس بماسينيسا، و انتهت الحرب البونقية الثالثة بالقضاء على قرطاج التي لم تختفى الا بعد ما جلبت روما الى المنطقة لتحل مكانها وتمارس نفس مهامها في ضرب طرف بطرف آخر. عمٌ سلام مؤقت في شمال افريقيا خلال عهد ماسينيسا وابنه موكسن الى غاية وصول الحفيد يوغرطة الذي تحدى روما فضُرب بصهره بوخوص بعد فشل الحملات الرومانية على إركاعه ، ثم يوبا الأول بأبناء بوخوص ومرتزقة سيتيوس، الدوناتيين الأمازيغ بالكاثوليك الأمازيغ، تاكفاريناس بيوبا الثاني، فيرموس بشقيقه جيلدون، وجيلدون بشقيقه ماسكزال ...

لم يتمكن العرب المسلمين من إخضاع شمال افريقيا الى سلطانهم طيلة 72 سنة من الصراع ضد المقاومة الأمازيغية إلا بعد إشراكهم لقبائل لواتة ومغراوة الأمازيغيتين، وما كان لغزو بدو بني هلال وسليم أن يقع على شمال إفريقيا في 1050م لولا الصراع القائمة أنذاك بين الدول الاسلامية الأمازيغية الناشئة بالمنطقة حينما أرسلت قبيلة كتامة المهاجرة من منطقة القبايل إلى مصر، بدو هلال وسليم إلى شمال إفريقيا بعد تسليحها ودفع الدرهم لكل جندها للانتقام من المعز إبن باديس الصنهاجي الذي خرج عن دعوتهم الفاطمية بإفريقيا .

ولم يتمكن القراصنة الأتراك من التغلب على ثورات الجزائريين الرافظة لحكمهم منذ 1516 الا بمساعدة الموريسكيين الهاربين من الأندلس . وما كان لفرنسا أن تخضع كل البلاد لسلطانها لولا استعانتها بنصائح كل من أحمد بوضربة وحمدان خوجة والداي حسين، وعن طريق تلك النصائح الثمينة قامت بإستنساخ النموذج التركي الذي خلق قبائل مخزنية حليفة كانت سيف الأتراك على الجزائريين وعلى طريقة قراصنة الأتراك أعادت فرنسا إحياء كتائب الڨومية والزواف وفيالق الصبايحية والمهاريست ... التي فضلت خدمة السيد الجديد قصد الإسترزاق ولحماية نفسها من إنتقام القبائل الناقمة عليها منذ عهد الأتراك . ضُربت مقاومة أحمد باي بالأمير عبد القادر ، ومقاومة الأمير بكتائب الڨومية. وثورة الفلاحين بالباشاغات الإقطاعيين، وعبر مخابر فرنسا خُلقت القومية العربية للمستعربين ونفثت بسمها في الخصوصية الأمازيغية للقبائليين . وعبر إعلامها روجت لصراع الصوماميين مع جماعة القاهرة، فضرب ثوار الداخل بجيش الحدود المدعوم من القاهرة وباريس بعد الإستقلال، حيث ورثت جماعة وجدة نفس ممارسات التفرقة للإستعمار الفرنسي، إتخذت القومية العربية كهوية رسمية للبلاد ونادى بن بلة بعروبة الجزائر ثلاثا لمغازلة القاهرة ونكاية في خصومه من الثوار الداخل الذين كانت قاعدتهم الشعبية من الولاية الثالثة التاريخية الناطقة بالأمازيغية، ولإثارة الشعبوية شُيطنت منطقة القبايل كجهوية سلبية ذات خصوصية معادية لمحيطها . فضُرب حراك التيار الديمقراطي الذي ظهر بعد الربيع الأمازيغي الأول ثم أحداث 5 أكتوبر 1988 بالتيار الإسلامي الذي وقف كسد منيع ضد التحرر الفكري الذي كان يهدد نظام الجنرالات، ثم ضُرب الفيس في التسعينات بالتيار الإستئصالي الذي أرعبه النظام بفزاعة الاسلاميين ، والتيار الإصلاحي الوسطي الذي قاده بعض الزعماء التاريخيين (أيت أحمد، عبد الحميد مهري، علي يحي عبد النور...) بالشعبوية والإعلام الحكومي، الحراك الشعبي الوطني (22 فيفري) بالتيار "الباديسي" الذي إستعملته السلطة لتمرير إنتخابات 12/12 . قبل نقل الصراع الى داخله بين العلمانيين والاسلاميين بعدما كان الصراع أفقيا بين الشعب و النظام .

ب- الصراع العلماني الإسلامي في الجزائر
مبدئيا يجب إعتبار وجود صراع فكري بين التيارات السياسية والفكرية في الجزائر مظهر صحي للمجتمع سيقود دون شك الى خلق وبلورة أفكار جديدة تصب إيجابيا على حركية التاريخ شرط الإبتعاد عن لغة العنف والتحريض والإلغاء، أما رفض الثورة ضد النظام مخافة السقوط في الحكم الاسلامي، فهو في نظرنا كمن يمنع صبيه من المشي مخافة السقوط، فقد شهدنا التكلفة الباهظة التي دفعها الشعب والوطن جراء إنقلاب المؤسسة العسكرية في التسعينيات على شرعية الصندوق بتبرير التيار الإستئصالي بحجة حماية الديمقراطية ، لقد عادت هذه الأفكار إلى الواجهة خلال الحراك الشعبي وتناغمت أجهزة الدولة معها بشكل علني وأستغلتها لتجريم حركتي "الماك" و "رشاد" لتبرير حملة الإعتقالات التي تستهدف من ورائها القضاء على مسيرات الحراك ومنع الشعب من حقه الدستوري في التظاهر السلمي لإبداء رأيه.

غالبا ما يقيس جزء من التيار العلماني الواقع الجزائري الحالي بسنوات التسعينات، ويقدم أحكام مسبقة نابعة عن أفكار تصورية فقط ليس فيها أي إحصائيات أو دراسات أكاديمية نستطيع من خلال نتائجها التأكد من فكرة أن أغلبية الشعب مع حكم إسلامي، مما قد يعني أن الذهاب الى إنتخابات شفافة في الجزائر ستفضي دون شك إلى نظام إسلامي !
لابد أن نشير في هذه الجزئية إلى أن النتائج الرسمية للإنتخابات التشريعية للدور الأول، والمعلنة من طرف المجلس الدستوري في 26 ديسمبر 1992، وهي النتائج التي يقر "الفيس" بنزاهتها، تأكد أن عدد الأصوات الممنوحة للجبهة الإسلامية للانقاذ والمتمثلة في 3.260.222 صوت كانت تمثل نسبة 41% من عدد الناخبين المصوتين الذين بلغوا 7,822,626 ، وثلاثة مليون صوت التي تحصلت عليها الجبهة الإسلامية تمثل كذلك نسبة 24% فقط من الهئية الإنتخابية التي كانت حينها تساوي 13 مليون ناخب ، وإذا علمنا أن نسبة سكان الجزائر سنة 1992 هو 27 مليون نسمة وبحذف المواطنين تحت عمر 18 سنة فهذا يعني أن النسبة التي صوتت لصالح الدولة الإسلامية حينها هي 23% فقط من الجزائريين بينما كانت الصورة النمطية لشوارع الجزائر العاصمة والمدن الكبرى حينها توحي بأن كل الجزائريين أو السواد الأعظم منهم هم من تيار الإسلام السياسي وهي الصورة التي بقيت في أذهان الكثير حتى اليوم . ما وقع حينها أن 5 ملاين من الأصوات المسجلة إمتنعت عن التصويت وهي ما نسبتها 41% وهو ما تفطن له حسين أيت أحمد قبل الإنتخابات وطالب الأغلبية الصامتة بالخروج والمشاركة بقوة لإنقاذ الديمقراطية من الأصولية الإسلامية وعسكرة الدولة عبر التصويت بقوة لصالح جزائر حرة ديمقراطية .

أغلبية الجزائريين اليوم أصبحوا يحملون الإسلاميين والنظام مآسي العشرية السوداء، والكثير منهم كان يتذكر فشل الاسلاميين في تسيير البلديات التي سيطروا عليها في 1990، بسبب المحسوبية والمحابات التي لم تختلف عن التي مارسها سابقوهم، وعزجهم عن تحقيق الوعود التي رفعوها على الناس في منابرهم قبل إنتخابات البلديات . فالكثير من المؤشرات كانت توحي بأن حكم الإسلاميين لم يكن له لأن يستمر لعهدة ثانية بعد أن ينكشف وجههم الحقيقي عند الشعب ، فلا يخفى على أحد إفتقار الاسلاميين لأي برنامج سياسي حقيقي ، وأن الإسلاميين أنفسهم يدركون اليوم إستحالة فرض الشريعة على شعب يعيش تأثيرات العولمة والإنفتاح العالمي، بدليل التجربة التونسية التي خسر فيها الإسلاميين الحكم في الجولة الثانية وكيف أضطروا الى علْمَنة خطاباتهم السياسية نزولا الى المنطق الذي فرضته السياسية العالمية الجديدة (nouvel ordre mondial)، ناهيك عن المعارضة القوية لتيار الديمقراطي التقدمي لهم، وتخوفهم كذلك من إستغلال العسكر لأي تطرف صادر عنهم للانقلاب عليهم بحجة إنقاذ الدولة والديمقراطية من تطرفهم بدعم داخلي وخارجي كما حدث في التسعينات وتكرر حديثا في مصر ، وهو ما يعني أنهم مضطرون إلى التنازل بالكثير من أفكارهم الإسلامية لغرض تحقيق هذا التوازن السياسي وهو ما بدر من حركة رشاد الإسلامية مؤخرا عبر خطاباتها السياسية وإعلامها الذي إقتسمته مع بعض الديمقراطيين، كما لوحظ هذا التغيير كذلك حتى في خطابات قيادة الفيس السابقة ، ومن الصعب إعتبار ذلك مجرد تقية منهم بل هي التوازنات السياسية المفروضة عليهم كما أسلفنا

ج- النظام القائم و عقبة الانتقال الديموقراطي
بهذا يتضح لنا أن العائق الحقيقي و الأول لإنتقال الجزائر نحو الديمقراطية الحقيقية ليس في وجود التيار الإسلامي المعادي للحريات والمواطنة كما يشاع بل في النظام الحاكم الذي يرفض التنازل عن السلطة للشعب عبر توفير العدالة الحقيقية واسقلاليتها ، وتحقيق الحريات الفردية والجماعية، ورفع إحتكاره وسيطرته عن الإعلام والمنظمات والنقابات وجمعيات المجتمع المدني ، وحرية التظاهر السلمي ...، فبدون توفير هذه الشروط الأساسية في الدولة الحديثة لا يمكن تحقيق أي تغيير سياسي إيجابي، ولا أي تغيير على مستوى الذهنيات لتحرير العقول من الأفكار الرجعية والأصولية قصد الانتقال إلى مرحلة عدم التخوف من أي نتائج تصدرها صناديق الاقتراع ما دام أن جو الحرية والتفكير والتعبير غير مضمون وكل شیئ پیسر حسب رغبة وتصور النظام الذي يحمي نفسه بضرب هذا بذلك ويُسخِر كل مؤسسات الدولة لأجل ضمان إستمراره وحبس الشعب في المستوى الأول من هرم ماسلو للإحتياجات (Pyramide des besoins) بإختلاق الأزمات الإقتصادية وإفتعالها بدل تطوير الإقتصاد وتوفير الخدمات والحياة الكريمة للمواطن. ناهيك أن الوضع اليوم لا يختلف كثيرا عن ما يمكن للاسلاميين فرضه، فالمدرسة متأسلمة، وقانون الأسرة مستلهم من الشريعة، وقنوات الإعلام بارعة في نشر الدجل والظلامية، وقانون العقوبات أرحم على اللصوص والمجرمين والمحرضين والعنصريين منه على منتقدي الفكر الديني والمعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين .

إن دفع المؤسسة العسكرية إلى البقاء في ثكنتها بعيدا عن الحياة السياسية لا يمكن ضمانه الا بتوحيد الأطراف السياسية الفاعلة حول مشروع وطني توافقي واي خلاف بين الأطراف سيكون الثغرة التي سيدخل منه العسكر لإستعادة النظام لنفسه كما كل مرة وهو ما يعني إستحالة تحقيق الانتقال الديموقراطي الصحيح في الجزائر دون تحالف التيار العلماني والديمقراطي مع الإسلاميين بكل أطيافهم ضد النظام الذي يعمل على بقاء الأمور على حالها مع إحتكاره لكل السلطات.

خلاصة القول أن السبيل الوحيد لإنجاح الحراك هو عبر توحيد الصفوف لغلق الثغور على أعداء الحراك، وهدف الحراك الأساسي الذي يجب العمل لأجله هو تأسيس أرضية دستورية صلبة تضمن للشعب حرية التظاهر السلمي والتعبير الحر وممارسات الحريات وإستقلالية العدالة و المؤسسات وتمكين الشعب من السلطات بعدها مرحبا لأي سلطة وحكومة تفرزها الإنتخابات الشفافة حتى ولو كانت إسلامية ، ما دامت أنها مقيدة بإحترام هذه المبادئ المسطرة والمحمية بمؤسسات الدولة المستقلة ولا يحق لها ولا لغيرها تقوّيضها أو المساس بها تحت أي حجة كانت كما فعل النظام القائم مع مكسب حق التظاهر السلمي الذي إسترجعه الشعب بعد 22 فيفري ناهيك عن خسارته لمكاسب أخرى كإحتكار لكل وسائل الاعلام في الجزائر ولكل السلطات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نازح من غزة يدعو الدول العربية لاتخاذ موقف كالجامعات الأمريك


.. 3 مراحل خلال 10 سنوات.. خطة نتنياهو لما بعد حرب غزة




.. جامعة كاليفورنيا: بدء تطبيق إجراءات عقابية ضد مرتكبي أعمال ا


.. حملة بايدن تنتهج استراتيجية جديدة وتقلل من ظهوره العلني




.. إسرائيل تعلن مقتل أحد قادة لواء رفح بحركة الجهاد