الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفيلا المسكونة

محمد زكريا توفيق

2021 / 6 / 8
الادب والفن


اسمي سامي فريد. من الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية. قضيت 6 سنوات في كلية العلوم قسم رياضة بحتة. بعد التخرج، رماني مكتب التنسيق، أيام جمال عبد الناصر، على بلد فلاحين اسمها القرين، لكي أعمل مدرس رياضيات في مدرسة إعدادي.

يا اخوانا كلية العلوم ليس لها علاقة بالتدريس ووزارة التربية والتعليم. دي كلية تدرس فيها العلوم البحتة، مثل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والرياضيات. كلية تدرس فيها نظرية النسبية لأينشتاين، ونظرية التطور لداروين، ونظرية الكم لماكس بلانك.

ولا دخل لمثل هذه الأمور بالتدريس لطلبة الإعدادي. التدريس يحتاج إلى مدرسين دارسين تربية وعلم نفس وطرق تدريس. لكن تقول لمين! هو ده النظام وقت ما تخرجت وحصلت على شهادة البكالوريوس.

رحت استلمت الوظيفة من ديوان عام الوزارة، وأعطوني عنوان المدرسة التي سأعمل بها، وكمان خطاب للقوات المسلحة يطلب تأجيل خدمتي العسكرية، نظرا لحاجة وزارة التربية والتعليم لي.

القرين بلد فلاحين، كانت تتبع إداريا محافظة الشرقة. تقع بالقرب من منطقة التل الكبير، حيث كان يوجد معسكر القوات البريطانية في منطقة القنال، قبل أن يجلوا الإنجليز عن مصر.

في أول يوم استلمت فيه العمل، اكتشفت أن الوصول إلى القرين يوميا بالمواصلات العامة، أمر مستحيل. لم يبق سوى الخيار الآخر. وهو السكن هناك. لكن القرية، لا توجد بها عمارات أو شقق تصلح للسكن.

لم أجد سوى غرفة مبنية بالطين والتبن، ومعروشة بحطب الذرة المغطى بروث الماشية الناشف. أما دورة المياه، فهي لا تخرج عن كونها حفرة في الأرض الترابية، بين عرقين خشب. وإبريق فخار أسود للغسيل، يجب أن تتأكد أنه ملئ بالماء قبل أن تدخل.

بالطبع، ما فيش كهرباء ولا ماء جاري في الحنفيات. لكن لمبة جاز نمرة خمسة، وهي أصغر شوية من نمرة عشرة. ووابور جاز بريموس لزوم الطبخ وعمل الشاي. وطشت للاستحمام وغسل الملابس. وسقا يملأ القلل والزير، وجرة فخار جنب الحيط.

قلت لنفسي يا واد يا سامي اصبر شوية، لغاية لما ربنا يفرجها. يمكن ينقلوك لبلدك الزقازيق، وتبقى مع عيلتك وجنب اصحابك ومعارفك. وتروح كل ليلة تسهر على القهوة تلعب شطرنج وطاولة، زي زمان لما كنت طالب.

ظللت على هذا الحال مدة شهر. وأنا عمال أسب وألعن القوى العاملة اللي عملت هذه العملة، ورمتني هذه الرمية. وألعن نفسي اللي ما كنتش من الشطار، وجبت تقدير كويس. كنت اشتغلت معيد في كلية أو باحث في معهد.

في يوم، جالي فراش المدرسة. ميل عليه وهمس في أذني قائلا: "أستاذ سامي، أنا عارف لك سكن إنما هايل. فيلا مفروشة يا أستاذ سامي، بجنينة كبيرة، لكن مهملة."

أجبته: "فيلا إيه يا رجب؟ أنت عارف إني متعين يا دوبك، ومرتبي لا يسمح بإيجار الفلل." فقاطني رجب، وهو يخفض صوته كأنه يخشى أن يسمعه أحد. "الإيجار يا أستاذ سامي موش مهم. المهم إنها تسكن وينفك النحس عنها. أصحابها مستعدين يأجروها ببلاش لمدة ستة شهور، إذا وافقت. وبعدين تبقى تدفع اللي تدفعه."

بدأ الفار يلعب في عبي. نظرت إلى رجب وخاطبته بجدية وفضول. "إيه يا رجب الحكاية بالضبط؟" أجاب رجب: "أصل الفيلا مسكونة".
أجبته: "يعني فيها عفاريت؟"
أجاب: "أكثر شوية."
"يعني إيه أكثر شوية"
"يعني اتقتل فيها اثنين من الضباط. ماتوا بنفس الطريقة رميا بالرصاص."
"وبعدين؟"
"ده كل اللي أعرفه عن الفيلا دي"
"طيب يا رجب سيبني أفكر، وسأرد عليك.
لو الحكاية عفاريت وبس، أنا ممكن أسكن فيها، لأنني لا أومن بوجود العفاريت أصلا. لكن موضوع القتل ده يخوف. ولازم أبحث الموضوع بروية أكثر.

مين يا واد يا سامي تسأله؟ مين تسأله؟ أيوه، ما فيش غير الناظر. فهو من البلد ولابد أنه يعرف الحكاية الصحيحة.

في اليوم التالي، انتهزت فرصة، ودخلت إلى ناظر المدرسة. أخبرته بنيتي تأجير الفيلا، ولم أذكر ما قاله رجب فراش المدرسة. فامتقع وجه الناظر، ونظر لي بإشفاق قائلا: "لا بلاش يبني الفيلا دي".
"ليه يا حضرة الناظر؟ هو فيه إيه؟"
"أنا ح أقول يا ابني الحكاية. هات كرسي واقعد جنبي واسمع اللي ح أقوله لك"، ثم بدأ الناظر يحكي حكاية الفيلا كما سمعها.
الفيلا كان قد بناها الإنجليز لسكنى ضباطهم الذين يعملون في معسكر التل الكبير. بنيت على الطراز الإنجليزي من أحجار صوان قطعت من الجبل. لها مدفأة في كل غرفة، وحديقة كبيرة.

في أحد الأيام، وجد الخادم أن الضابط الساكن في الفيلا بمفرده، لم يغادر غرفة نومه على غير العادة، فأبلغ السلطات. جاء الإنجليز فوجدوه ملقى على ظهره ميتا على أرض غرفة نومه أمام المدفأة. آثار دماء على رأسه، وعلامات رعب وفزع شديدتين على وجهه. وبجواره مسدسه بعد أن أطلق منه عدة رصاصات.

بعد هذا الحادث، ظلت الفيلا مهجورة بضع سنوات. إلا أن جاء ضابط إنجليزي آخر. أراد أن يبحث قضية مقتل الضابط السابق، ولم يكن يؤمن بموضوع العفاريت التي تسكن الفيلا، كما كان يشاع في ذلك الوقت.

طلب الضابط الآخر، وكان يدعى جون ماكس، السكن في الفيلا من القوات البريطانية. وبالرغم من تحذيرات العديد من الزملاء والأصدقاء، إلا أنه أصر على السكنى في الفيلا بمفرده.

مرت ثلاث شهور بدون أية مشكلة. والكل يتساءل، أين العفاريت التي يتحدثون عنها؟ وإذا لم يكن هناك عفاريت أو أرواح شريرة، ماذا حدث إذن للضابط الأول؟

في صباح أحد الأيام، لم يخرج الضابط الثاني من غرفة نومه في الميعاد لتناول الإفطار. وبعد إبلاغ السلطات، وجدوه هو أيضا، ميتا على سريره، بعد أن اخترقت قلبه رصاصة. كما وجده مسدسه فارغا في يده وقد ارتسمت على وجهه علامات الرعب والفزع.

أبواب وشبابيك غرفة النوم كانت مغلقة من الداخل، وليست هناك علامة واحدة تدل على أن الباب أو الشبابيك قد فتحت ودخل منها أحد. لذلك حفظ التحقيق لعدم معرفة ما قد حدث، مثل الحالة الأولى.

هذا يبني قصة هذه الفيلا الملعونة التي تريد استئجارها. وأنصحك كإبني، ومن كل قلبي، أن تصرف نظر عن الموضوع، وخليك في غرفتك الفلاحي دي. على الأقل، لن تجد نفسك مقتولا بدم بارد في الصباح الباكر.

خرجت من عند الناظر وأنا 90 في المائة صارف نظر عن الموضوع. لكن عدم إيماني بالعفاريت، وإغراء السكن ببلاش لمدة ستة شهور، بدأ يزن ويتردد صداه بين أفكاري. ثم أخذت أضرب أخماسا في أسداس، وأفحص عدة احتمالات.

يمكن يا واد، واحد معه مفتاح غرفة النوم ودخل عليهما وهما نيام وقتلهما؟ أو حد خرم السقف، أو طلع من تحت الأرض؟ أيوه من تحت ألواح الأرض الخشبية. المهم، اي شيء فيما عدا حكاية العفاريت والجان دي. ولكي أقطع الشك باليقين، قررت تأجير الفيلا، وزي ما يحصل. واديني عمر، وارميني في البحر. زي ما كانت بتقول جدتي.

اتصلت برجب الفراش وطلبت منه ترتيب عملية استئجار الفيلا بالشروط التي ذكرها سابقا. فرحب أصحابها، الذين اشتروها من الانجليز، كل الترحيب. عسى أن يكون قراري بسكناها، إيذانا بفك نحس الفيلا سيئة السمعة.

استأجرت بعض الأفراد لكي يقوموا بتنفيض العفش، وكنس ومسح الفيلا وإعدادها للسكنى. وعشت فيها ما يقرب من شهر بدون حدوث شيء ملفت للنظر، سوى أنني في أحد الأيام وجدت فأرا كبيرا ميتا في البانيو. فتعجبت من أين أتى، وكل الأبواب والنوافذ مغلقة. بحث عن ثقب في الحائط في كل الغرف، أو السقف أو الأرض، فلم أجد.

هذا أثار فضولي، وسرب بعض المخاوف إلى قلبي. جعلني، أنام كل ليلة بعين مغلقة وعين مفتحة، وسكينة المطبخ الحادة تحت الوسادة التي أضع عليها رأسي.

وفي ليلة ليلاء، بينما كنت نائما أغط في سبات عميق. بدأ يتسرب إلى سمعي أصوات خطى أقدام على الأرض الخشبية. ظننت في بادئ الأمر أنها أضغاث أحلام، أو كوابيس بعد عشاء دسم.

ظللت أنصت لهذه الأصوات، فوجدتها تتوقف برهة ثم تعود. تبتعد عني ثم تقترب مني جدا وأنا نائم. قمت مذعورا وأمسكت بالسكين في يدي ووقفت أطعن في الهواء هذا الشيء الذي جاء ليقتني وأنا نائم. لأنني أحسست أنه فوق رأسي. لكن كل طعناتي جاءت هباء. لم تلق جسدا أو جسما صلبا.

جريت نحو مصباح الكيروسين. وبصعوبة وجدت علبة الثقاب وأشعلت المصباح. وظللت أنظر في الغرفة فلم أجد شيئا. ماذا يحدث؟ وما هذه الأصوات؟

كيف أنام الآن؟ ظللت راقدا على جنبي، أحاول أن أتبين أي شيء يظهر في الغرفة في ضوء المصباح. إلى أن اقترب الفجر، وبدأت أشعر ببرودة هوائه. وأنا لا أستطيع النوم ثانية. وفجأة، بدأت أسمع صوت وقع الأقدام على الأرض الخشبية من جديد. وعنما نظرت مليا، يا لهول ما رأيت. فأرا كبيرا من فئران الجبل، جاء عبر المدفئة، ليبحث عن شيئا يأكله.

شعرت بشيء من الراحة، عندما عرفت مصدر هذه الأصوات. فهي ليست أصوات عفاريت وجان، بل أصوات فئران تبحث عن غذاء. لكن هذا لا يفسر سبب مقتل الضابطتين الإنجليز بالرصاص.

ظل هذا اللغز مستعصيا على الحل، طوال مدة إقامتي في قرية القرين، واستمتاعي بالفيلا زهيدة الإيجار. وقرب نقلي من التدريس في قرية القرين إلى الزقازيق، دعاني أحد الأصدقاء بمرافقته للتدريب على إطلاق النار من بندقية صيد جديدة قام بشرائها حديثا.

ذهبنا إلى الجبل، ومعنا علب صفيح فارغة للتدرب عليها. أثناء إطلاق النار على علب الصفيح، كنا نخطئ الهدف، وتنعكس الرصاصة أو الخرطوشة بزاوية حادة تصيب علب الصفيح البعيدة. هنا خطر ببالي فكرة، جاءت في لمح البصر. قد تفسر ما حدث للضابطين القتيلين.

عند سماع وقع أقدام الفئران أثناء الليل البهيم، قام كل منهما وهو نصف نائم، بإطلاق النار من مسدسة في الغرفة. الفيلا وكل غرفها، مبنية من حجر الصوان الأسود الذي يعكس الرصاص إذا أصابه بزاوية. بعد عدة انعكاسات لسير الرصاصة على الجدران، استقرت في رأس الضابط الأول. واستقرت رصاصة أخرى في قلب الضابط الثاني، جون ماكس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان