الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة أخرى للشخصية الانطوائية

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 6 / 12
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


من أكثر المفاهيم التي يُساء فهمها هي "الانطوائية" فيحكم الناس على الشخص الانطوائي بالعدوانية والجنون، برغم أن تجارب هؤلاء في المجتمع لم تثبت هذه النتيجة غالبا، فكثيرا من المبدعين والفنانين والفلاسفة كانوا شخصيات انطوائية، ودعاة السلام والمحبة كثير منهم انطوائيين..ومثال الرهبنة في الأديان الغنوصية والصوفية والزهد نموذج لذلك..

وعندي أن أحد أسباب كراهية الشخص الانطوائي لدى البعض هو شعورهم نحوه بالغبُن والاستعلاء، فيعتقدون أنه متكبرا مغرورا أو يراهم بصور مسيئة لا يرضوها لأنفسهم، وفي ظل عدم اعترافهم بهذا الدافع لكنه يظل كامنا في الأنفس ضامرا في الوعي لا يبيحون به لأسباب تتعلق أحيانا بالفضيلة وحرص هؤلاء على عدم إيذاء وشعور الآخرين بما يعتقدوه، ولأسباب أخرى تتعلق بالمصالح ..فحين يصرح أحدهم بأن شخصا ما انطوائيا هو مغرورا أو متكبرا فسيؤدي ذلك إلى الصدام ليس فقط مع الضحية الانطوائية ولكن مع أنصاره والمجتمع أحيانا، ولذلك عندي أن أي اتهامات تصدر لشخص انطوائي لمجرد عزلته – لا أفكاره وسلوكياته – أنظر فيها من حيث طبيعة المصدر والقائل من ناحية، وعلاقته بالانطوائي من ناحية أخرى..

أو قد يكون الشخص الانطوائي لا يعتزل المجتمع بالكلية ولكنه يعتزل فصيلا من الناس على أساس النوع والجنس أو الدين والهوية، ففي الواقع توجد شخصيات في عالم الإنترنت لا تتفاعل سوى مع النساء أو أكثر تفاعلاتهم مع الجنس الناعم، وهذا قد يكون سببا كافيا لاتهام الشخص بالتزلف الجنسي أو الإغواء بدرجاته، لكن ما لا يدركه البعض أن فئة من الرجال لها أهدافا ونموذج حياة لا يتحقق في عالم الذكور بل يجدوها أكثر في الأساليب النسوية وأفكارهن، ومن ضمن الأهداف ونماذج الحياة الذكورية التي تتحقق في عالم النساء هو (اللاعنف) فالميول الذكورية للاعنف حينها تدفع صاحبها للتقرب إلى النساء ليس بقصد الإغواء والجنس ولكن لشعوره بالراحة النفسية والسلام الروحي، إضافة للتفاعل مع الآخر كون الذكر وقتها أكثر شغفا لرؤية عالم الإناث من الداخل، وهذا تفسير لكيف أن حالات كثيرة من تلك الشخصيات تتسم بالهدوء والتسامح ونظافة اللسان..

وعندي أن نموذج الأديب المصري "إحسان عبدالقدوس" خير شاهد على براعة تلك الشخصية أو أنها ليست عدوانية مجنونة كما يعتقد البعض، فإحسانا لم يكن من الشخصيات المنفتحة اجتماعيا وعاش حياته محافظا ..لكن هذه المحافظة لم تنعكس على أفكاره التي تبنى فيها قضايا النساء واشتهر بأديب الجنس الناعم، وفي الفكر تعد أعماله محورا للنسوية العربية ونقل معاناة المرأة النفسية والاجتماعية للإعلام، والفكرة العامة أن (اللاعنف) هو مدخل مهم لمعرفة تلك الشخصيات، وبالطبع لا تعميم فيوجد من الصنف الآخر الشهواني أو العدواني العنصري ضد النساء والمغتصب الذي يتقرب إليهن بنوايا سيئة..

فالشخصية الانطوائية ليست بالضرورة أنها معادية مجنونة، بل إن كثيرا من الانطوائيين لا مشكلة لديهم في الانفتاح والجلوس مع الآخرين والاستمتاع بجلسات السمر واللهو، لكن تبقى العزلة هي المفضلة لديهم..مما يعني أن المشكلة هنا في (اللاعنف) كمصدر أساسي لتقييم شخصية الانطوائي، فلو كان الانطوائي عنيفا فلربما كان ذلك له أسبابه النفسية والصدمات أو الغرور والقناعة بالتفرد المطلق..وهذا نوع من الجنون بالفعل، أن يعتقد الإنسان بتفرده المطلق وتميزه على ما سواه في كل شئ، أما لو كان ذلك الشخص بريئا من العنف وطبيعته هادئة مسالمة..فالأقرب أنهم يجدون هذا الهدوء في عزلتهم أكثر فيميلون للعزلة من تلك الناحية، وهي أن اعتزال الناس يوفر لهم أٌقصى درجات الراحة والبعد عن صخب الحياة والضوضاء المنفرة..

من ناحية أخرى فيجب تقييم شخصية الانطوائي من جوانب أخرى كالذكاء، وخصوصا بالتفريق بين الذكاء الفكري والعاطفي، فالبعض ممن يتمتعون بالذكاء الفكري أغبياء عاطفيا لدرجة أن عواطفهم تدفعهم لسلوكيات غبية تتعارض مع أسس وثوابت أفكارهم، والعكس صحيح، أي هناك من الأذكياء عاطفيا أغبياء في الفكر تدفعهم عقولهم لتبرير سلوكهم الاجتماعي المميز بأدلة سطحية ساذجة، فيما يشير لفجوة كبيرة بين الذكائين..

ويوجد مثال على الذكاء الفكري مع غباء العاطفة في (مؤيدي الثورات) غالبا، فهم مع براعتهم الفكرية لكن عواطفهم في حب وكراهية الأشخاص والأنظمة تسبق أدلتهم في تحليل الواقع الحسي فيتورطون، ومن هذا المنطلق صار تقليد الأشخاص (عملاً غبيا) وفطن إليه الفلاسفة منذ قرون على أنه علامة ضعف وفساد، حتى أن بعض فقهاء المسلمين حرّموا التقليد في العقائد لهذا السبب، والمثال الآخر على الذكاء العاطفي مع الغباء الفكري في (الميكافيللية) غالبا، فهم مع قوتهم وقدرتهم على ضبط وتقييد عواطفهم لكن أدلتهم في تبرير ما يفعلوه ساذج للغاية، ومصادم غالبا لقواعد المنطق والأخلاق، وهذا كان مصدرا لاتهام الميكافيللين بالنفاق وسوء الأخلاق برغم أن للقصة مساحة أخرى تخص ذكاء هؤلاء العاطفي بالأساس..

البشر حين يجمعون بين الذكائين يتقدمون بالمناسبة، أي لو تعمقت جيدا في التاريخ الإنساني لرأيت أن تطور العالم وسلامه وهدوءه مرهون بتحقق كلا الأمرين، فمثلما يوجد مفكرين عباقرة مبدعين يوجد سياسيين قادرين على التفاوض ، وقتها يكون التعاون بين المفكر والسلطة نشطا لتبرير وفهم سلوك الحكام من ناحية، ولتحويل مشاريع المفكرين لدولة من ناحية أخرى، فإذا علمنا أن من يقوم بهذا الأمر شخوص انطوائية لصُدِمنا مما يحدث..

نعم فكثيرا من الانطوائيين يجمعون بين الذكائين الفكري والعاطفي، وليس من البسيط أن تؤثر في أي انطوائي عاطفيا لشكّيته الغالبة وهواجسه التي تسبق قراراته، فالمعتزل على أساس تفرده الجزئي أو راحته من صخب وضوضاء الحياة يتمتع بقدر كبير من الهدوء اللازم للتفكير غالبا، ومبرأ كذلك من المصالح التي تدفعه للانحياز العاطفي الذي هو سمة للتفاعل الاجتماعي، فالمنحازين سياسيا ودينيا أغلبهم متفاعلين اجتماعيا بالواقع المحيط بحيث شكّل لديهم هذا التفاعل جزءا من الوعي العام الذي قد يكون مسلما أو مسيحيا أو سنيا أو شيعيا، وهذا سر من أسرار (طرق تفكير القطيع) أن العوام غالبا يميلون للانحياز على أساس الهوية والدين لاجتماعهم على طريقة تفكير واحدة ونبذهم لما سواها..

خلافا للانطوائي حينها الذي قد اعتزل هذا التفكير الجماعي وقرر لنفسه طريقة عيش مختلفة، حتى يصبح أكثر قدرة على مخالفة القطيع من ناحيتين، الأولى: أنه لا مصالح تجمعه بذلك القطيع وبالتالي فلا ضغوط عملية تدفعه لتغيير آرائه، والثانية: أنه متفرد فكريا ومستقل لم يمرض بأدواء المجتمع ، وبالتالي فهو أكثر قدرة عاطفية وذكاءا على التفكير بشكل مجرد يجمع فيه بين العاطفة والفكر، وإذا تتبعنا التاريخ لربما رأينا أن كثيرا ممن غيروا خريطة الفكر البشري والعالم كانوا انطوائيين بالأساس اجتمعت فيهم صفات الاستقلال والذكاء الفكري والعاطفي، بحيث كلما تجدهم يفكرون فأدلهم منطقية علمية..وحين تجدهم ينحازون عاطفيا فأدلتهم أيضا متسقة ومنسجمة مع رؤيتهم الفكرية، وهنا الفيصل الذي أراه عيبا كبيرا في النخبة العربية والإسلامية، فالأغلبية منهم – خصوصا المتصدرين للإعلام الرسمي – إما أغبياء فكريا أو أغبياء عاطفيا وفقا للتعريف الوارد أعلاه.

وهنا صورة خاطئة تؤخذ عن الشخص الانطوائي وهو أنه (يشعر بالملل) وبالتالي فكونه معتادا على هذا الملل صار شخصية مملة، وهذا غير حقيقي، فالاعتزال عند هؤلاء ليس شعورا بالفراغ ولكن شعورا بالحاجة إلى الإنتاج، فكثيرا من الانطوائيين يضعون خططهم العلمية والاجتماعية وقراراتهم الهامة أثناء عزلتهم، ومثلما للأشخاص المنفتحين القدرة على الإنتاج ضمن مجموعة فالانطوائي لديه القدرة على الإنتاج فرديا، وشخصيا كانت لي تجربة مع الإخوان المسلمين أساسها هذه الجزئية حكيتها في كتابي "رحلتي من الإخوان للعلمانية" فهم يريدون العمل الجماعي والصلاة الجماعية والتفاعل الاجتماعي بالمظاهرات والنشاطات وخلافه..بينما كنت أعتذر كثيرا عن هذا العمل الجماعي فتم تفسيره (بالضلال الديني) كون المحور الأصلي في قاعدة تنظيم الإخوان هي (الحركية) أي العمل الحركي الذي لا يفرق بين نشاط الفرد ونشاط المجموعة.

وهنا أيضا جانبا هاما يتمثل في ضرورة احترام القدرات والرغبات الشخصية، فالانطوائي لديه قدرة خاصة ورغبات ذاتية لا يمكن مصادرتها، وقد تعاملت كثيرا مع انطوائيين وجدتهم مبدعين في جوانب شتى إما في مهارات رياضية واجتماعية أو في علوم عقلية ونفسية، بل حصلوا على ثقة الناس ليس فقط لتلك المهارات والعلوم..ولكن لعدم تضارب مصالحهم مع هذا الانطوائي، مما يدفعنا لتصور جزئية أخرى وهي أن المجتمع مثلما يرى الانطوائي غالبا شخصية شاذة خارجة عن القطيع..لكنه في ذات الوقت يحترم تميزها وتفردها وإبداعها الشخصي ولا يثق في غيرها لهذا السبب، وهو أنه لا تضارب مصالح بين الطرفين نتيجة لعزلة الانطوائي التي خفّضت كثيرا من مشاكله الشخصية أضعاف مما يعاني منها المنفتح.

فمثلما يوجد للمنفتح مزايا في الاتساق مع المجموعة وفهم المجتمع، توجد مزايا للانطوائي في فهم الكون والاتساق مع الطبيعة نظرا لسلامه النفسي وهدوءه ورغبته في اعتزال الصخَب، لكن الفارق أن مشكلات العزلة أقل من مشكلات التفاعل..والثابت اجتماعيا أنه إذا تفاعل الإنسان 100 مرة فبحساب معدل أخطائه ولو بنسبة 5% فتكون لديه 5 أخطاء، بينما إذا تفاعل 5 مرات فبحساب معدل أخطائه بنفس النسبة يكون لديه (خطأ واحد) وهذا الذي أقصده، أنه كلما زادت معدلات التفاعل كثرت معدلات الخطأ فينخفض تقييم الإنسان ويفقد كثيرا من الشركاء، لكن إذا انخفضت معدلاته في التفاعل انخفضت أيضا أخطاءه فيرتفع تقييمه في المجتمع ويحافظ على شركاءه الحاليين، وهذا سر من أسرار أن كثيراً من القضاة والمُحكّمين عرفيا بالقرى والمدن لا يتمتعون بحياة اجتماعية صاخبة وظهورهم محدودا جدا..

ليست دعوة للانطوائية ولكن إنصافا لها ولأصحابها، ونقل مشاعرهم كيف يفكرون، وشخصيا ليست لدي ميول انطوائية على الإطلاق، ولكني ممن يميلون للتفاعل الاجتماعي إذا توفرت الظروف لذلك وسنحت الفرصة لظهورٍ أكثر، إنما في نفس الوقت لدي قناعة بأن حجج الانطوائيين غالبا في رفض الانفتاح بدعوى (الخجل والكرامة) هي مقبولة جدا، فالإنسان أسوأ ما يشعر به أنه يصبح (ثقيل الظل) أو بمعنى آخر (متطفل) وهنا الحقيقة الجوهرية التي تدفع كثيرا من الانطوائيين للعزلة، فمن كثرة تجاربهم مع المجتمع وظهورهم بشكل متطفل وخجلهم من تلك الصورة قرروا الاعتزال للتخلص من ذلك الشعور، فالإنسان مهما بلغت به الظروف السيئة لكنه يتوق دوما للسعادة، فإذا كان شرط السعادة في العزلة فلما لا وفقا لهؤلاء، ولو كان شرط السعادة في الانفتاح فلما لا أيضا وفقا لهؤلاء..

وخلاصة ذلك أن الانطوائي لا يختبئ من الناس مثلما يظن البعض، لكنه يرتاح جدا للمجتمع..أستثني من يعاني رهاب المجموعة، وهذا مرض نفسي عند بعض الانطوائيين بالفعل، ويعني هذا الرهاب الخوف من الحضور ضمن مجموعات بشرية أو أماكن مفتوحة ، فيفضل الاختبار من المجتمع في مكان مغلق وضيق، لكنني أزعم أن غالبية الانطوائيين ليسوا كذلك، وبحكم دراستي للبعض منهم عن قرب فهم ممن يفكرون قبل أن يتحدثون..وإذا تكلموا ظهر حديثهم عميقا ودقيقا، وتلك علامة على الذكاء الفكري والعاطفي كما تقدم، وقناعتي أن شعورهم بالوحدة في ظل الاعتزال يدفعهم للتفكير بشكل أكثر عمقا من القطيع المتفاعل..وهو المعنى الذي قصدته بالقدرة على الإنتاج الفردي الذي هو سمة لهؤلاء الناس حصريا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. دعم صريح للجيش ومساندة خفية للدعم


.. رياض منصور: تغمرنا السعادة بمظاهرات الجامعات الأمريكية.. ماذ




.. استمرار موجة الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين في الجامعات


.. هدنة غزة.. ما هو مقترح إسرائيل الذي أشاد به بلينكن؟




.. مراسل الجزيرة: استشهاد طفلين بقصف إسرائيلي على مخيم الشابورة