الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأثيم الضحية

صبحي حديدي

2006 / 8 / 8
الارهاب, الحرب والسلام


الأوّل استمات واستقتل واستبسل، بعد أن تشاطر وتحذلق وتخابث، من أجل إقناع مشاهديه بأنّ ضحايا مجزرة قانا ـ 2، وجلّهم من الأطفال بالطبع، لم تجهز عليهم البربرية الهمجية الإسرائيلية، بل انتحروا او نحروا أنفسهم بأنفسهم! ففي برنامجه الأسبوعي "الطبعة الأخيرة"، كان نجم الـ CNN ولف بليتزر شديد الحرص على التأطير المسبق ـ أي الرقابة الإحترازية ـ لما سيقوله مراسل القناة على الأرض، في قانا: "الإسرائيليون يقولون إنهم أعطوا الكثير من الإنذارات للأفراد القاطنين هناك، وأسقطوا عليهم المنشورات، وعرضوا علينا بعضها، وبينها ما يقول التالي لسكّان القرى جنوب الليطاني: بسبب الأعمال الإرهابية التي تُرتكب من داخل قراكم وبيوتكم ضدّ دولة إسرائيل، فإنّ جيش الدفاع الإسرائيلي مضطرّ للردّ مباشرة على هذه الأفعال، حتى داخل قراكم".
صحافي مخضرم، ومواطن ديمقراطية عريقة، وسليل الهولوكوست، يعاضد جيشاً غازياً في حثّ ضحايا الغزو على هجر بيوتهم وقراهم، والانخراط طواعية في ما يشبه إعادة إنتاج الـ "ترانسفير" الفلسطيني قبيل وخلال 1948. لكنّ طوية بليتزر لا تتكشف كاملة إلا في القسم الثاني من البرنامج، حين عرض تحقيقاً مصوّراً نفّذه بنفسه... ليس في قانا، كما قد يخطر لبعض أبرياء العقل، بل للمشاقّ التي يعانيها الإسرائيليون في حيفا جرّاء صواريخ "حزب الله". وبعد أن جال في ميناء المدينة، انتهى إلى هذه الوقفة الرثائية: "وإذْ نظرتُ إلى ذلك الميناء وإلى خليج حيفا، كان مثيراً للانقباض رؤية القليل فقط من السفن الراسية هناك"! ماذا عن المرافيء في صيدا وصور وبيروت؟ مطار بيروت؟ الجسور الـ 145 التي دمّرها برابرة الدولة العبرية؟ بل ماذا عن بلدة قانا ذاتها، مسرح المجزرة الجديدة وحدث الساعة؟
الصحافي الثاني تلقى صفعة مهنية من السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، ليس لأنّ الدبلوماسي احتجّ على انحياز الصحافي ضدّ إسرائيل لا سمح الله، بل ـ صدّقوا هذه المفارقة البذيئة ـ لأنّ الصحافي لم يتعاطف مع ضحايا مجزرة قانا! ففي البرنامج الشهير "واجِهْ الصحافة"، لم يبدأ تيم رسرت برنامجه بالحديث عن أهول يوم مجزرة قانا ـ 2، كما يليق به أخلاقياً ومهنياً، بل سأل ضيفه دان غيلرمان بتهذيب جمّ: هل ستقبلون بوقف إطلاق النار بعد هذا الذي جرى اليوم؟ لكنّ غيلرمان، ببروده الذئبي المألوف، أهمل هذه السؤال تماماً وسارع إلى تكديس أحزان إسرائيل، وأحزانه شخصياً، إزاء فظائع هذا "الأحد الدامي"، وقال: "أوّلاً، اسمح لي يا تيم أن أقول إنّ هذا الأحد نهار مريع مدمّر دامٍ، وهو صباح رهيب، ونحن في حداد على تلك الوفيات في صفوف المدنيين والأطفال"... قبل أن ينتقل، بالطبع، إلى تحميل "حزب الله" مسؤولية مقتلهم.
العيّنة الثالثة، وهي هذه المرّة الصحيفة الأمريكية العريقة "نيويورك تايمز"، بدت وكأنها اتفقت مسبقاً مع وولف بليتزر حول نظرية الإنتحار الجماعي لضحايا قانا ـ 2، فكتبت: "قالت إسرائيل إنّ ضربة قانا استهدفت مقاتلي حزب الله الذين كانوا يطلقون الصواريخ من تلك المنطقة، لكنّ انفجاراً هو الذي تسبب في انهيار المبنى السكني، فسحق المدنيين اللبنانيين الذين كانوا يقضون الليلة في الطابق السفلي، حيث اعتقدوا أنهم سوف يكونون في مأمن. ولقد أثار الإسرائيليون احتمال انفجار الذخائر المخزّنة في المبنى، بعد الضربة الجوية، مما تسبب في انهياره"!
هل ثمة حاجة إلى أيّ تعليق على تغطية كهذه، تُنشر في صحيفة لعلّها الأهمّ في العالم بأسره؟ ولِمَ العجب، في المقابل، إذا كانت الصحيفة ذاتها قد اعتذرت رسمياً من قرّائها لأنّ تغطياتها للأسابيع السابقة على غزو العراق كانت، باعتراف هيئة التحرير، قد ضللت الرأي العامّ ورسّخت اليقين الزائف بأنّ العراق يمتلك اسلحة دمار شامل؟ ثمّ لِمَ العجب، أيضاً وايضاً، إذا كانت شقيقتها في الشهرة والعراقة، الـ "واشنطن بوست"، صاحبة الكشف عن فضيحة "ووترغيت" والإطاحة بالرئيس الأمريكي ريشارد نكسون، تسير في الخطّ ذاته: أنّ المبنى كان مستودع ذخائر لـ "حزب الله"، والضحايا كانوا بمثابة دروع بشرية للمقاومة!
المحزن، في غمرة هذه البذاءة التي تطبع وسائل الإعلام الأمريكية ـ غير حاملة لأية مفاجأة، في الأغلب، إلا عند رهط مريدي "الشرق الأوسط الجديد" ودراويشه ودعاته ـ أنّ بعض العون يأتي من أهل البيت أنفسهم. ففي برنامج الـ CNN المشار إليه أعلاه، ولكي يتخابث أكثر حول الموازنة بين الرأي والرأي الآخر، استضاف ولف بليتزر الوزيرة السورية بثينة شعبان، فسألها عن استعداد دمشق لوقف تزويد "حزب الله" بالسلاح والعتاد. وكان أن أجابت، لا فضّ فوها، هكذا: "تذكروا أنّ ألمانيا النازية كانت كذلك قد زعمت أنها تحارب الإرهاب. ثمّ توجّب على العالم بأسره أن يوقفها".
وغنيّ عن القول إنها، ذلك الأحد الدامي تحديداً، أجهزت على بليتزر بالضربة القاضية، خصوصاً وأنّ مهاراتها في الإلتفاف على الأسئلة المحرجة هي من طينة ذلك المثال الكلاسيكي، حين أكدت أنّه لا يوجد سجين سياسي واحد في سورية! ومع ذلك، ثمة ما يعزّي شعبان: حالها في هذا شبيهة بحال تسعة أعشار الضيوف العرب على الفضائيات الأمريكية، إذْ لا شطارة على تلك المنابر إلا لأمثال داني غيلرمان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الزمالك المصري ونهضة بركان المغربي في إياب نهائي كأس الاتحاد


.. كيف ستواجه الحكومة الإسرائيلية الانقسامات الداخلية؟ وما موقف




.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تسلط الضوء على معارك جباليا وقدرات


.. الدوري الألماني.. تشابي ألونزو يقود ليفركوزن لفوز تاريخي محل




.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ