الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة اللاوعي

محمد الأمين

2021 / 6 / 14
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


حالما يذكر مصطلح اللا وعي في اي مجلس من المجالس النفسية او الفلسفية وحتى العملية، تتسارع النقاشات في شأنه و تختلط النظريات بالتأويلات بالمفاهيم و القراءات حول هذا الموضوع، فينقسم المجلس من أقصى التعصّب التحليلي والتجريدي إلى أقصى الحسي والتجريبي. فالتحليليون الفرويديون الكلاسيكيون الجامدون، يعتبرونه أشبه بغرفة مظلمة مليئة بالرغبات غير المشبعة والخاضعة لمبدأ اللذة والتي تم القذف بها بفعل آلية الكبت الذي أقامه عليها مبدأ الواقع من خلال الأنا و موقع في السكيما ال فرويدية في اسفل الجبل. اما الحسيين والتجريبيين من فلاسفة و علماء نفس وبيولوجيا، لا يعترفون الا بالوعي وما يمكن ادراكه حسياً، ومن خلال العمليات المعرفية، وخاضع للنقد والتطوير، وقياسه وملاحظته والتنبؤ به. وما بين القطبين هناك الوسطيين ليسوا محابين برأيي، او لم يحددوا موقفهم لكنهم كانوا مرنين في تأويلاتهم متبعين تطور ابستمولوجيا العلوم التجريدية والتجريبية، من إنسانية و طبيعية ليواكبوا العصر و مقتضياته.
فكم عمر هذا المصطلح الفلسفي النفسي؟ ولما كل هذه الجلبة حوله و التحامل عليه حتى من اتباع المدرسة التحليلية ذاتها وبالخصوص الكلاسيكيون ك يونغ و كارن هورني و كلاين؟ وهي ما اثار تحفيزي لمحاولة تقديم سرد تاريخي موجز قدر الإمكان لأبرز الآراء على سبيل المثال لا الحصر، عن أشكال من التفسيرات لظواهر ال نفس خارجة عن إرادة الجسم لما سمي لاحقاً باللا وعي.

يمكن أن تكون - دون جزم- أول مقاربة للاوعي كانت مقاربة افلاطون، الذي قسم الروح في محاورة فيدروس الى ثلاث حسب قول جون كوترو في الكتاب الأسود للتحليل النفسي، و هذه الأجزاء هي الجزء الأعلى الذي يقابل العقل وهو " النوس" وهو يقود حصانين احداهما مطيع و يحمل الرغبات السامية ويسمى "تيموس" و الآخر متمرّد وجامح وهو "ابيتوميتكوس" يرمز للرغبات الماديّة الفظة، وهو شبيه بما جاء به فرويد من تقسيم ثلاثي للجهاز النفسي وسنأتي على ذكره لاحقاً.
هل كل ما يقدمه لنا العقل حقيقي؟ الا يمكن ان تحيد به مجموعة من الاوهام؟ يسأل الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون في فلسفته حول أوهام العقل، بما هي وهم السوق، الكهف، القبيلة و المسرح. وما تحمله من موروثات اجتماعية وذاتية ولغوية ودينية وهي موروثات تقارب ما ذهب اليه يونغ في اللاوعي الجمعي.
يذكر لايبنتز في " بحث جديد في الفهم البشري" ، هناك ألف علامة تجعلنا نقول بوجود عدد لا محدود من إلادراكات بداخلنا في ايّة لحظة، لكن بدون افكار ولا تأملات، اي انها تغيرات في الروح لا ندركها.
يتساءل اسبينوزا بدوره في الفصل الثالث من كتابه " الأخلاق" أنه لم يتمكن احد لحد الآن من تحديد ما يستطيع الجسد" فعله إن التجربة لم تفصح عما يستطيع الجسد انجازه اعتماداً على قوانين الطبيعة وحدها، منظورٌ اليها في ماديتها فقط و ما لا يقدر على انجازه بدون ان يكون محكوماً بالنفس...لما يقول الناس ان هذه الحركة او تلك من حركات الجسم تصدر عن النفس التي لها كل سلطة تامة عليه، لا يعرفون في الواقع ما يقولونه، ولا يفعلون شيئاً اخر غير الاعتراف بلغة خادعة انهم يجهلون السبب الحقيقي للأفعال التي لا تدهشنا.. "
و يُذكر في فلسفة الروح، النسخة الفرنسية اقتباس عن هيغل بقوله،" إن الصورة محفوظة في خزينة الروح، في ليل الروح، انها لاواعية، اي لا تعارض كموضوع امام التمثل ". و لهيغل إسهامات ضخمة في فلسفة لاكان التحليلية النفسيّة من حيث جدلية السيد والعبد والذات والموضوع والرغبة.. لكن اعتقد ان التباس و صعوبة ستحدث اذا ما خضنا في الروح الذاتية عند هيغل و مفهوم الوعي لديه وارتباطه بالبحوث التحليلية البعد فرويدية.
يلحق بهم الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي اعتبره فرويد من الفلاسفة الذين اسهموا في نظرية التحليل النفسي قبله بعشرات السنين .. فذهب شوبنهاور ، في مؤلف “العالم كإرادة وتمثل” في الفصل بين مبدأين رئيسين في الكون: القوة العاقلة والإرادة. لكنّ الإرادة هي التي تسيطر على ما يدخل في نطاق القوّة العاقلة او الفكر- الشعور: “إن الفكر يبقى غريبا تماما عن قرارات الإرادة. فيجب أن يضبطها متلبسة ليحرز مقاصدها الفعلية”. وهكذا، فالإنسان قد يجهل الدوافع الحقة لأفعاله التي لا تفسّرها إلا فورة غامضة للإرادة، تبقى لا شعورية بالنسبة للفكر . كما أن شوبنهاور كان قد ذكر في مؤلفه ذاته فكرة النكوص والعودة بالنفس إلى حالة سابقة.
غير بعيد عن مضمار الفلسفة المهتمة بمقولة اللا وعي، استلهم الفيلسوف الألماني كارل غوستاف كاروس هذا التصور الشوبهاوري، إذ كتب في “دروس في الفلسفة” : “إن اللاوعي هو التعبير الذاتي الذي يدلّ على ما نعرفه موضوعيا تحت اسم الطبيعة”. وقيد سبق وأن ميز بين لا وعي مطلق، باعتباره منطقة من النفس لا ينفد إليها أي شعاع من الشّعور، وبين لا وعي نسبي يتشكل من تدني بعض العمليات الشعورية، وشابه العاطفة باللاوعي ”
يقول فريدريك نيتشه في العلم المرح،" ان الانسان مثله مثل اي كائن حي يفكر بأستمرار، لكنه يجهل ذلك والفكر الذي يتحول إلى وعي لا يشكل الا جزء ضئيل بل أكثر سطحية و الأسوأ، من كل ما يفكر، لأن الفكر هو الوحيد الذي يتم التعبير عنه بالكلام، اي عبر دلالات التبادل..". كما ان كتابات نيتشه مليئة بالإحالات لما قبل تشكل الوعي من احلام إلى أعصبة، وتشكّل الذات وطبيعة علاقة الام بالطفل والهوماات.. واعتبار كل ما هو وعي او عقلي هو خدعة وصناعة حضارية و الافضلية للأصالة والغرائزية المقموعة، ويضيف في موضع آخر يجب توضيحه إلى اي حد يظل كل ما هو واعٍ سطحياً، والى اي حد يختلف الفعل فيه عن صورة الفعل.. إلى حد تعتبر فيه الإرادة الحرة مجرد وهم. هذا ما دفع بفرويد إلى القول " اخاف ان اقرأ نيتشه فأجد نظريتي عنده"
يُعتبر كارل ماركس مثلا من بين الفلاسفة الأوائل المشكّكين في جوهرانية العقل وسليله الوعي، عندما طرح كومة من التساؤلات الإشكالية نقتصر على ذكر ثنائيها القطبي، كالآتي: هل الوعي كيان مستقل؟ إلى أي حد يمكن تنزيله منزلة الجوهر والمبدأ والمحدد لماهية الإنسان؟ وبطبيعة الحال لن نفصّل في المنظور الماركسي، مكتفين بهذه الإحالة التي ابتدأت مشوار التظنن في الوعي وإعادة البحث في شروط تكونه ومصداقيته المعلّقة، دون الحاجة إلى الخوض في تعريف المفاهيم التي خطّت متنه وأبانت على محدودية الوعي وهشاشته، من قبيل استلاب الذات الأنسانية.
ونشير في نفس السياق إلى “الفيلسوف الألماني إدوارد فون هارتمان” الذي صاغ تصورا عن إرادة وفكر لاشعوريين، باعتبارهما مبدأين يعلوان على الشعور، وذلك في كتابه الأساسي “فلسفة اللاشعور”. فمبدأ اللاوعي ، في رأيه، هو الذي يتحكم في ظاهرة الغريزة: الخوف من الموت، الحياء، التقزّز، عاطفة الأمومة، الرغبة العاطفية الجنسية. وعلى اللاوعي تنبني الحساسية والأخلاق والاستيطيقا {علم الجمال، الحس الجمالي}.
اما فرويد الذي ارتبط هذا المصطلح به، فيعتبر ان اللاوعي هو تكوين نفسي رمزي ناتج عن قمع المجتمع الرغبات الشهوية النرجسية( اللذاوية) والغرائزية البيولوجية التي يحملها الطفل منذ ولادته، وهو ليس جزء او غرفة مستقلة بذاتها بل هو إفراز ما لما كان وعياً ذاتياً لدى الطفل، و يتشكّل عندما يحرم الطفل من إشباع رغباته ويخضع للتهديد والقمع فيضطر ليحابي و يساير المجتمع خوفاً من الخصاء، فيكبت ما سيسبب له الألم و يحافظ على الانا (شخصيته) متوازنة بين مبادئ الواقع و اللذة والمثالية لاحقاً، واللاوعي عند فرويد هذه الرغبات والملذات المكبوته تخرج حين اضعاف سطوة الكبت و حراسة الأنا عن طريق الاحلام او زلات اللسان او القلم.. او عن طريق التسامي بها من خلال قنوات مقبولة اجتماعياً.
لحق ب فرويد تلميذه كارل يونغ الذي ابتدع اللاوعي الجمعي ومضى مع اللاوعي الفردي معتبراً ان الشخصية تنمو انطلاقاً من اللاوعي. و يقول " ان مصدر تلك النزوات هو الدماغ الموروث وليس الذاكرة الشخصية، و هي عبارة عن مخلوقات جديدة تتميز بالأصالة والإبداع لأنها ناتجة عن فعالية العقل المبدع وليس فقط التذكر.. فعندما يغدو هناك عقل خلّاق فإن ذلك يعني انه استمد قدرته على الخلق من تاريخ البشرية من خلال ما سماه يونغ النماذج البدئية اي المفاهيم الأسطوريّة التي نتناقلها من جيل الى جيل بالتواتر. إن هذا اللاوعي المدفون في بنية الدماغ لا يكشف لنا حضوره الحي الا بواسطة النزوات المبدعة هو لاواعي يتجاوز اللاوعي الفردي.
اما كارن هورني فلم يكن لديها الكثير من الإسهامات حول اللاوعي لكن يمكن ان نستشف من نظرتها إلى الاحلام التالي، فبرأيها إن الأحلام تتوفر فيها عناصر بناءة، فالمريض يستطيع في حلمه أن يسترق نظره على عالم فعال داخل نفسه، وهو عالم خاص به، وهو أقرب لمشاعره من أوهامه. والمريض في إطلالته هذه يجد بأنه يعبر في أحلامه عن مشاعره وعن أمنيات لا يملك الجرأة الكافية لكي يشعر بها في يقظته. وترى هورني بأننا في أحلامنا نكون في آن واحد كل إنسان وكل شيء، ولعلّها بهذا الرأي تظهر متأثرة بيونغ ونظرياته حول اللاوعي الجمعي.
ميلاني كلاين المحللة الفرنسية للأطفال رأت أيضا، أن اللاوعي يتكون من غرائز ومشاعر مرتبطة بها- اي الغرائز - يتم التعبير عنها في أشكال من السلوك الإنساني، وخاصة منه الطفولي. لذلك وقبل أي تفسير ممكن ينبغي بناء اللاوعي وهو الأمر الذي يتطلّب المزيد من الغوص في العالم الداخلي للطفل، وهو لا يزال في المهد، مفتقرا للكلام ومدهوشا بالصورة. فالسنين الاولى تلعب بين الأنا الاعلى والهو الذي يسبق هذا الأخير في الظهور.
اما جاك لاكان فقد قدم للتاريخ النفسي قراءة جديدة ل اللاوعي فقد اعتبر لاكان اللاوعي عبارة عن بنية متشكلة كاللغة ومن اللغة تحمل مكنوناته الكناية والاستعارة و المجاز. فاللاشعور كما يريد لاكان أن يقول يؤدِّي عمله وكأنه لغة بنائيَّة، فهو الذي يتكلَّم داخل الإنسان وكلمته هذه تحمل دوال ومداليل مختلفة من ذات ل أخرى . ويعتقد لاكان فـي هـذا الخـصوص أن الأعـراض السيكولوجيَّة ذات طابع لاشعوري ويمكن فك رمزيتهـا بنـاء عـلى هذا الأساس، وهذا ينسحب على ذكريات الطفولة، ونمط الحياة والمفـردات الخاصة و من خلال خطاب الذات المتكلمة عبر لسان الأنا.
وكان لا بد من انتظار مجيء الفيلسوف لويس ألتوسير الذي أفعم رصيد الماركسية وأقحم التحليل النفسي في صلبها، عندما أوضح بدوره سكرات الوعي وشبّهه “باللاوعي المزيف”، كما أكد على أن الأيديولوجيا – منظومة الأفكار المؤطرة لحركة الوعي الجماعي – هي في صميمها لاواعية، تتوقّد بمفاعيل غير مدركة على نحو تام ومباشر.

في خاتمة الحديث عن ال لاواعي لا يسعني القول سوى بأن فكرة اللا وعي، حمّالة اوجه في الأساس لأنها في جوهرها ماديتها واحده، لكن صورها تغيرت وفقاً لعاقلة المتلقي والزاوية التي فسر من خلالها المواضيع الخارجية وتأثيراتها الداخلية. فمنهم من عارض فرويد بجذرية لكنهم عادوا ووضعوا نظريات تتعلق بالادراك والفهم بناءً على مكنونات غير ذاكرية.. مثل الأفكار الجوهرانية عند المعرفيين السلوكيين.. أو التحليل النفسي الموضوعي لدى باشلار او التحليل النفسي واللاوعي من منظار التأويل الريكوري.. وغيرهم.. وان كان هذا يدل على شيء فهو على أن كل واحد من
هؤلاء المفكرين قد نظر لل لاواعي من منظاره الخاص وزاوية مشاهدته ولم يتمكن أحد منهم من الإحاطة بكلانيته.
المصادر :
اللاوعي - سميرة شمعاوي ومحمد الهلالي
علم الأخلاق - سبينوزا
مدخل للتحليل النفسي - فرويد
- علم النفس التحليلي - كارل يونغ
جدلية الانا و اللاوعي - كارل يونغ-
معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي اللاكاني - ديلان ايفانس ترجمة هشام روحانة.
العلم المرح- فريدريك نينشه
إنساني مفرط في إنسانيته - فريدريك نيتشه
الكتاب الأسود للتحليل النفسي- مجموعة كتاب
تاريخ الفلسفة الغربية الجزء الثاني. برتراند راسل.
محاضرات للأستاذ يوسف عدنان- استاذ الفلسفة المتخصص بالتحليل النفسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: المرشحون للانتخابات الرئاسية ينشطون آخر تجمعاتهم قبيل


.. رويترز: قطر تدرس مستقبل مكتب حماس في الدوحة




.. هيئة البث الإسرائيلية: تل أبيب لن ترسل وفدها للقاهرة قبل أن


.. حرب غزة.. صفقة حركة حماس وإسرائيل تقترب




.. حرب غزة.. مزيد من الضغوط على حماس عبر قطر | #ملف_اليوم