الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة الخلق . رواية فلسفية.

محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)

2021 / 6 / 17
الادب والفن


قصة الخلق
رواية فلسفية اجتماعية

(1) إرهاب وحب ورأس مقطوع !
كلما وردني تهديد جديد ينذرني بإقامة الحد علي، أي بقتلي، وقفت " لمى " في مواجهتي، راجية أن أتوقف عن كتابة المقالات والروايات والأفكارالتي تبحث في أصل الوجود والغاية منه، وفي إمكانية وجود ألوهة ما أوعدم ذلك، والأهم الغاية من وجود الإنسان، وأنا أرفض بعناد شديد التخلّي عن الأمر، بل وأشرع في كتابة رواية جديدة بعنوان " قصة الخلق " إضافة إلى حوارمعي حول الوجود والغاية منه، قد يمتد إلى حلقات، على محطة تلفزة خاصة، تدعى " أفق المعرفة " غيرآبه بالتهديدات التي تنصب علي من جهات مختلفة، داعشية وغير داعشية ! مؤكدا ل " لمى " حبيبة قلبي" أن هذه رسالتي في الحياة التي نذرت نفسي لها ، مع أنني لست رسولاً لأحد، أو مرسلا من أحد، حتى من إله، رغم أنني لا أستبعد أن يكون هناك خالق أو قائم بالخلق، قد يقبل أن يكون إلها، أو ما هو أكبر من إله، والحق إنه لأمر مؤسف أن لا يقوم بتكليفي برسالة سماوية، ما دفعني إلى تكليف نفسي بالمهمة بل ونذر نفسي لها، إدراكا مني أن للوجود غاية، وأن لوجود الانسان غاية، تتعلق بغاية الخالق من الوجود، وهي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وبناء الحضارة الانسانية. فالخالق لا يشق طرقاً ولا يبني جسوراً ولا يشيّد مدناً، وبالتالي لا يقيم حضارة. والحق إنني لم أجد لنفسي ما هو أجمل من هذه الغاية، فنذرت نفسي للعمل على تحقيقها وهداية الناس إليها، رغم خوف " لمى " عليّ من أن تطالني رصاصات الغدر ذات يوم، بعد أن أخفقت في محاولة سابقة فشلت في النيل مني، وإن ذهب ضحيتها إنسان بريء غيري! فقد صادف مرور رجل من أمامي في اللحظة التي ضغط فيها القاتل على الزناد . كنت جالسا على رصيف مقهى في جبل اللويبده حين أطلق هذا المعتوه النارعلي . حاول القاتل الهرب غير أن الناس ألقوا القبض عليه حتى جاءت الشرطة . ولم يعرف أحد أن المقصود أنا وليس القتيل إلا بعد تحقيق الشرطة! وإن شئتم الحق أنا حزين لتوقع مقتلي، ليس على نفسي، بل على " لمى " فما ذنب هذه الصبية حتى تتجرع مرارة كأس الفجيعة بي ، بعد أن نذرت نفسها لحبي حتى آخر أيام كهولتي . فارق السن بيننا كبير، ولمى محبوبتي وليست زوجتي. وهذه مسألة أخرى تقلقها، فقد يشي أحد ما بنا كزانيين ، ينبغي إقامة الحد علينا، وهو هنا الجلد، أو الرجم بالحجارة حتى الموت، حسب ما يقررالمعاقبون، وآمل أن نموت بسرعة في كلا الحالين حتى لا يطول عذابنا، أو يعلم الخالق بما يجري لنا ويتدخل بطريقة ما لإنقاذنا، مع أنه لم يتدخل في مسائل مصيرية كثيرة تهم البشرية ، رغم علمه بها !
بعضكم يعرف لمى وبعضكم لا يعرفها .. إنها بطلة رواية " زمن الخراب " للكاتب محمود شاهين الصادرة عام 2019 عن مكتبة كل شيئ الحيفاوية .. هي في الحقيقة شخصية متخيلة وليست حقيقية وإن بدت في الرواية كذلك . كانت مغرمة بعشق أبيها، ما أدى إلى اضطرابات نفسية لديها ، ساعدتها أنا على تجاوز وضعها، لتقع في حبي دون قصد مني ، بينما انتحر أبوها بأن ألقى نفسه بالاندفاع بسيارته لتسقط من أعلى جرف على الشاطئ إلى أعماق البحرالميت. لا شك أن بعضكم عرف الآن من أنا ؟ أنا محمود أبو الجدايل بطل الرواية نفسها، أي أنني شخصية متخيلة للكاتب نفسه كما هي لمى بالضبط ، ولهذا أنتم ستعيشون مع شخصيتين متخيلتين ، إياكم أن تصدقوا أنكم أمام شخصيتين حقيقيتين أو حتى واقعيتين . وإن شئتم حقيقة قد تحمل شيئا من الواقعية، هي أنني أحد شخصيات محمود شاهين شبه الإنفصامية .. فهو منذ أن كتب ملحمته النثرية الشعرية قبل قرابة ربع قرن " غوايات شيطانية " التي يصبح فيها الأديب ابناً لله تزفه الكائنات في معراج إلى السماء، وهو يعشق هذا النوع من الانفصام الشخصي، الذي يخرجه من واقع الحياة المقرف: فهو "الملك لقمان" في ملحمة " الملك لقمان " الباحث فيها عن الله . وهو الملك نفسه ، في ملحمة " أديب في الجنة " التي يتحد فيها بالألوهة ويصبح جزءا منها. وهو "عارف نذيرالحق" المعتقد بوحدة الوجود في رواية " عديقي اليهودي " وهو "محمود أبو الجدايل" الفيلسوف المتعمق في المذهب نفسه في رواية " زمن الخراب " و"محمود أبو الجدايل" أيضا في الرواية التي شرعتم في قراءتها " قصة الخلق " متمنياً أن لا يتخلى محمود شاهين عن مذهبه في وحدة الوجود أو يضيف إليه ما هو جديد ومفيد . ولا أعرف إن كنت قادراً كشخصية متخيلة أوشبه انفصامية له أن أتدخل في أفكاره ، رغم أنه أتاح لي ذلك حين جعل مني راوياً بدوري، وقد يجعل من لمى راوية أيضاً ..
قد يبدو لكم الأمر غريباً وعجيباً جدأ، فكيف يمكنكم أن تعيشوا مع شخصيات متخيلة ، وتقتنعوا بوجودها ، بغض النظر ، إن كانت شخصيات شبه انفصامية للكاتب أو لم تكن .. فليس هناك إنسان حسب علمنا يمكن أن ينفصم ويرى نفسه في شخصيات متعددة ..
لمى " حبيبة قلبي " قلقة جداً منذ أن بلغني آخر تهديد في منتدى المؤمنين العرب، ينذرني بقرب أجلي وأنني سألعن اليوم الذي ولدت فيه، والنهد الذي أرضعني حليب الأمومة .. ضمت رأسي إلى صدرها وأنا أفكر في إجابات للأسئلة التي ستطرح علي في الحوار التلفزيوني ، والتي تلقيت نسخة منها ، كي لا أباغت ببعضها . وكان السؤال الأول يتعلق بالوجود والعدم، وما إذا كان الوجود قد جاء من عدم ! قبلتني جاهدة لأن تخفي قلقها .. بادلتها القبلة بقبلات خفيفة أولا على خديها، وزدت على ذلك بأن التهمت شفتيها وأوغلت لساني عميقا في فمها ليأخذ دورة حول لسانها ملتذا بطعم الرحيق المنبثق من فمها !!
*****
" ما لا أفهمه لماذا يخاف المسلمون على إلههم من إنسان يفكر بعقل حر، هل يمكن أن يخاف الله من انسان؟ بصرف النظر عن ماهية الله! " تساءلت لمى بينما كنا نستلقي متجاورين على السرير بعد جولة حب رومانسية فجرتها القبلات الملتهبة عشقا، ولذة عناق لسانينا وهما يتعانقان في حالة وله فريدة !"
" الله لا يخاف، هم الذين يخافون على فهمهم أن ينقرض، ربما لإدراكهم أن فهمهم لن يصمد إلى الأبد أمام مفاهيم كثيرة عقائدية وفلسفية وعلمية وصوفية في العالم، لذلك يجهدون بكل الوسائل ليخوضوا معركة البقاء لهذا الفهم بشتى الوسائل، بما فيها القتل، والبحث عن العلم في النص الديني، وغير ذلك" أجاب محمود!!
" إذا كان العلم نفسه لم يتوصل إلى معرفة الحقيقة المطلقة للوجود والغاية منه، فهل يتوصل هؤلاء عبر البحث في النص الديني أن الله والوجود حسب ما صورهما النص" ؟
" مستحيل حبيبتي الحقيقة المطلقة للوجود والغاية منه والقائم به، لم يعرفها العقل البشري بعد، ولن يعرفها بسهولة .. فما مرأربعة عشر مليار عام على انشائه لن يتم التوصل إلى معرفته خلال بضعة قرون. الفيزياء والفلسفة يصطدمان بين حين وأخر بحواجز لا يمكن اختراقها .. رغم أن المجال أمام الفلسفة أرحب للوصول إلى حقائق يقبلها العقل والمنطق"
أطرقت لمى للحظة ثم هتفت:
- كأني سمعت طرقا على الباب!
- من سيطرق في هذا الوقت المتأخر من الليل . الساعة تجاوزت الواحدة ..
- اسمع ! طرقة ثانية ... ثالثة !
- غير معقول . من الذي سيأتي إلينا في هذا الوقت دون أن يخبرنا مسبقا بقدومه ؟
حاول محمود أن ينهض من السرير غير أن لمى منعته .
- لا تنهض حبيبي. هذا مجرم أكيد . وربما أكثر من واحد .
طرق الباب للمرة الرابعة بطرقتين متتاليتين .
بدأ الرعب يجتاز جسد لمى، فيما حاول محمود السيطرة على أعصابه ونهض ليخرج من درج الخزانة المسدس الذي اقتناه للإنتحار، إذا ما ضاقت الدنيا في وجهه، وليس للدفاع عن النفس. أخرج المسدس. وضع طلقة في حجرة النار وهمّ للخروج من غرفة النوم. نهضت لمى ووقفت أمامه .
- لن يجدي المسدس شيئا أمام المجرمين . لا تخرج .
- سألقي نظرة من نافذة الممرالمطلة على نافذة المنورالمجاورة للباب.
بدأت لمى ترتجف رعباً ..
- حبيبتي . ابق هنا أو عودي إلى السرير وحاولي أن تهدأي !
لم تقبل . تبعت محمود وهو يخرج من غرفة النوم ويجتاز الصالون إلى الممر. فتح النافذة المطلة على نافذة مدخل بيته. ألقى نظرة . نور المدخل مضاء. لم ير الطارق. كان يقف خلف الباب كما يبدو بحيث يستره الحائط المجاور للنافذة.
- من هنا ؟ هتف محمود وانتظر أن يسمع رداً.
شاهد رجلا كالشبح يقدم ليقف أمام النافذة، كان متسربلا بالسواد بحيث لم يبد منه غيرعينيه .
هتف الشبح بعد لحظة من تأكده أن محمود أبو الجدايل لن يفتح الباب:
- أحضرنا لكما هدية متواضعة يا أبو الجدايل ! بإمكانكما أن تتمتعا بها إلى أن يحين أجلكما أنت والزانية المقيمة معك، وتقام عليكما حدود الله! إلى اللقاء!
وانصرف الرجل صاعدا الدرج النازل إلى مدخل البيت .
أغلق محمود النافذة . أشار إلى لمى أن تعود إلى غرفة النوم . أبت بحركة من رأسها ! تبعته وهو يعبرالممر إلى صالة معرض لوحاته، ويتجه إلى باب البيت ليفتحه ببطء وحذر .
تجمدت لمى على بعد خطوتين منه . أطل برأسه إلى الخارج . شاهد إلى جانب الباب رأسا مقطوعاً مخضباً بالدماء وإلى جانبه مظروف مغلق. نظر يميناً وشمالا ليجزم بعدم وجود أحد . أشار إلى لمى أن تعود إلى داخل البيت . أبت بإصرار وهي تتساءل :
- ماذا رأيت ؟
- حبيبتي ارجعي إلى غرفة النوم . يستحسن أن لا تري ماذا أحضروا لنا.
- لن أرتعب أكثر مما ارتعبت حتى الآن . أريد أن أعرف .
- من الأفضل أن لا تعرفي!
- سأعرف بكل الأحوال . يفضل أن أعرف من الآن .
- مجرد لعبة ملطخة بالدم ! يستحسن أن لا تريها .. هيا عودي إلى غرفة النوم .
- أي نوم سيأتيني بعد هذا ؟ اتصل بالشرطة .
- لن أتصل بالشرطة في هذا الوقت . سأذهب إليهم بالدمية في الصباح .
- ستتعرض حينها إلى تحقيقات وأسئلة لست في حاجة إليها . يستحسن أن يروا بأنفسهم ونخلص من الأمر الآن .
وحاولت أن تقترب من الباب وتطل لترى الدمية . فقد شكّت في أن محمود لم يقل الحقيقة ، غير أن محمود صدها بلطف . قاومته واندفعت نحو الباب لرؤية ما يقبع هناك . صدها محمود ثانية غير أنها قاومت وأطلت برأسها لترى الرأس المقطوع المخضب بالدماء. صرخت وهي تتراجع وتلقي نفسها على صدر محمود ..
- يا إلهي ! هيا اتصل بالشرطة . لا تلمس شيئا ..
اتصل محمود بشرطة النجدة ، مخبرا عن وجود رأس مقطوع أمام باب بيته.. حضرت دورية من ثلاثة أفراد بعد قرابة ربع ساعة .. تأمل رئيس الدورية الرأس دون أن يلمسه .
- يبدو أنه رأس صناعي! هتف رئيس الدورية.
وضعوا الرأس بكيسه مع المظروف في كيس نايلون آخر، وانصرفوا مصطحبين محمود معهم لكتابة محضر التحقيق في القضية .
*****
" أوه محمود أبو الجدايل في حضرتنا ثانية " هتف الضابط المناوب في قسم الأمن الجنائي ، وكان قد تعرف إلى محمود أبو الجدايل خلال التحقيق في محاولة اغتياله، التي أودت بحياة رجل بريء.
"تفضل استاذ محمود "
جلس محمود على أريكة ، فيما راح الضابط يتأمل الرأس المقطوع:
- يبدو أنه من البلاستيك المقوى وطلي بمزيج من عصير الشمندر ومسحوق أحمر. قال الضابط وهو يمد يده إلى الرسالة ليتفحصها للحظات ليتأكد من خلوها من متفجرة ما ، قبل أن يفتضها ، ليقرأ :
إنذار أخير إلى الزنديق الكافر محمود أبو الجدايل :
تب إلى الله وعد إلى الإيمان القويم . وانتظر أن يقام عليك وعلى الزانية التي تقيم معك حد الزنى!
التوقيع : أحباب الله !
- أف ! مرتد وزان أيضا ؟! هتف الضابط مخاطبا محمود أبو الجدايل !
بدا لمحمود أن الضابط أخذ بما ورد في الرسالة وراح ينظر إليه كزنديق وكافر وزان :
- عفوا! هل تتساءل أم تتهمني أنت أيضا ؟
- لا، لا أتهمك ، مجرد تساؤل استنكاري للتهم.. لكن من هم " أحباب الله هؤلاء "
- إذا أنتم لا تعرفون فهل سأعرف أنا ؟
- للأسف لم نسمع بهم . هل تتهم أحدا بعينه .
- لا، لا أتهم . قد تكون جماعة جديدة متطرفة ، أو الجماعة نفسها التي أقدمت على اغتيالي سابقا .
- لم يثبت حتى اليوم على الرجل الذي أطلق النار عليك، أي انتماء لجماعات اسلامية متطرفة ، كما لم يثبت من قبل على قاتل ناهض حتر !
- بعض هؤلاء يعتبرون أنفسهم منظمين تلقائيا منذ نشأة الاسلام في حزب إلهي غايته الدفاع عن الله ، حتى لو لم يكونوا منتمين إلى جماعات ارهابية، أوأي تنظيم مهما كان نوعه . بعضهم قد يحتاج إلى تحريض بسيط من شخص مدفوع من جهة ما .. وإن جازهذا الرأي على القاتل ، فقد لا يجوز على غيره، أو على الجميع، لوجود تنظيمات وجماعات داعشية وغير داعشية تهدد أمن دول وليس أمن أفراد فقط .
- مشكلة ! كشف هؤلاء الأوغاد مسـألة معقدة ، وخاصة هؤلاء الذين يتصرفون بدوافع إيمانية شخصية .
- لا أظن أن الرجل الذي جاء بالرأس المقطوع جاء بدوافع شخصية ، ولا أظن أنه جاء وحده في هذا الوقت من الليل ، وتوقيع الرسالة من قبل جماعة يشير إلى ذلك . وأعتقد أن القاتل السابق ينتمي للجماعة نفسها .
- حيرنا أمر ذاك القاتل . ما لا يصدق في محاولة اغتيالك ، أن يسبق مرور انسان الطلقة قبل إصابة هدفها.
- أشك في أن القتيل سبق الطلقة المتجهة إلي، ربما كان القاتل خائفا ولم يصوب جيدا، أو أنه اتخذ قراره بإطلاق النار ولم يفكر في التراجع .
- ومع ذلك ما زلت محتارا في الأمر، فالقول أن القاتل كان خائفا ومرتبكا ومترددا في اطلاق النار وأخطأ الهدف، أوأنه لم يستطع التراجع بعد أن أخذ الضغطة الأولى من الزناد في الوقت الذي كان القتيل يمر من أمامك.. توقعات غير دقيقة تماما..
- ومسألة أن يقتل رجل رجلا آخر دون معرفة القتيل أوأي سبب يدعو لقتله ، محيرة أكثر .
ران صمت للحظات ..
- سنعمل ما في وسعنا ونأمل أن نتوصل إلى نتائج مفيدة . بإمكانك الانصراف بعد توقيع محضر القضية .
*****
وجدت لمى في حال يرثى لها .. قبلتها وهدأت من روعها .
" يفضل أن تقيمي في بيتك لبضعة أيام حبيبتي إلى أن تخرجي من هذه الحالة ، وأنا لدي تسجيل حوارظهيرة اليوم مع تلفزيون "أفق المعرفة".. الآن يجب أن نحاول النوم !
" أشك في أنني سأتمكن من النوم بعد أن رأيت ما رأيته .. وأنت يجب أن تذهب لتقيم معي في بيتي ، فهو غير معروف لهؤلاء القوم .. لا يمكن أن تبقى في هذا البيت ضمن ظروف الرعب هذه "
لم أحبذ فكرة لمى ، لأن معرفة مكان إقامتي لن يكون عسيرا على هؤلاء ، ولا أريد أن أنقل الرعب إلى بيت لمى أيضا.. لم أناقشها في المسألة قلت لها :
- سنفكر حبيبتي ، الآن يجب أن ننام ، لقد طلع الفجر.
ضممتها إلى حضني .. وأغمضت عيني على أنفاسها تداعب عنقي. سمعتها تهمس " كم أشعر بالأمان وأنت تحتويني في حضنك "
ربت على ظهرها دون أن أهمس إلا بكلمة واحدة "حبيبتي"
******
استيقظنا في العاشرة . تناولنا مشروبي المفضل .. شاي أخضر تبعناه بشاي زعتر .. ورغم أنني لا أحب الفطور إلا أن لمى أرغمتني على تناول بيضة مسلوقة وموزة صغيرة ونصف تفاحة ، فلم أقدر على تلبية رغبتها في أن آكل التفاحة كلها، لكني تقبلت كأس عصير البرتقال الذي اختتمت به إفطاري في انتظار القهوة، التي يندر أن أخرج من البيت دون احتسائها . قد تكون لمى على حق في ارغامي على الفطور، فقد يطول زمن التسجيل .
القهوة مع تدخين البايب متعة فريدة . قدرلا مفرلي منه. حاولت تركه عشرات المرات دون جدوى .. ما أن أقمع رغبتي فيه لبضع ساعات أوبضعة أيام ، حتى أجد نفسي مندفعا إليه بلهفة شديدة . رغم أنني أعتبر إرادتي قوية ، حتى أمام المرأة التي تشكل ضعفا لمعظم الرجال ، إن لم يكن جميعهم .
أوصلتني لمى بسيارتها إلى مبنى الاستوديو الذي سنسجل فيه . قبلتني مودعة وتابعت طريقها إلى بيتها . على أمل أن نلتقي بعد أن أنتهي من التسجيل .
******

2) عقل طاقوي !
فوجئ محمود أبو الجدايل بآنسة جميلة ستجري معه اللقاء. شكرالله في سريرته أن جمال النساء لم يعد يسلبه عقله ، بعد أن عرف بعضهن في شبابه وحتى في رجولته وشيخوخته.. وتذكر للحظات أسوأ موقف له مع النساء في ريعان مراهقته ، حين حاول أن يتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة في جمعية الشبان المسيحية في القدس، وفي الحقيقة لم تكن رغبته في تعلم الضرب على الآلة الكاتبة أكثر من رغبته في التقرب إلى الفتاة الجميلة التي قيل أنها تعلم التنضيد على الآلة. كان جمالها يبهره ، ويتمنى لو يتاح له أن يراها ولو لدقائق كل يوم :
"جلست الفتاة على كرسي أمام الآلة الكاتبة وأوقفت محمود أبو الجدايل خلفها وجعلته يمد يديه من فوق كتفيها . ضربت أمامه جملة كانت مكتوبة على ورقة مشبوكة بالآلة " كانت البنت تكتب الكتاب السياسي الشمالي " وألقت يديها فوق يديه ووضعتهما على سطر الحروف لتمسك أصابعه اصبعا اصبعا وتعلمه كيف يضربها، لم يعد يفقه شيئا، وهو يغرق في جمالها ولمسات يديها وشم رائحة عطرها، وحين انتحت وأجلسته مكانها وطلبت إليه أن يكتب الجملة راح ينقرعلى الحروف بعشوائية دون أن يفكر ولو في كلمة واحدة من الجملة . ألقت الفتاة نظرة دهشة عليه ، وما لبثت أن انصرفت لتقول لمدير المؤسسة حسبما توقع " أي جحش هذا الذي أرسلتموه لي ، لم يفقه شيئا مما قلته له ، وأشك في أنه سيتعلم شيئا في حياته " فوجئ محمود بالمدير يدخل عليه ليقول له : هذا العمل لا يصلح لك يا محمود "
"وهكذا انصرف محمود أبو الجدايل يجرجر أذيال الخيبة ويلعن عقله ، الذي انهار أمام جمال الفتاة وطريقتها المثيرة في التدريس، بحيث لم يعد يفقه شيئا مما تقوله " ورغم أنه لم يعرف ما قالته المعلمة للمدير، إلا أنه أدرك فحواه. وهي في الحقيقة ليست إلا سكرتيرة المدير نفسه ، وأن وظيفتها الرسمية ليست تعليم الضرب على الآلة الكاتبة . لكن المدير الطيب " أبو جابي" حاول تلبية رغبة هذا الفتى ، ولم يعرف أنه سيخذله!"
- أهلا وسهلا أستاذ محمود!
هتفت الآنسة( أسيل القمر ) وهي تجلس على أريكة في مواجهة محمود أبو الجدايل ، وتقدم نفسها له .
- أهلا بك !
- هل تحب أن تشرب شيئا قبل أن نبدأ اللقاء أستاذ محمود.
- أشكرك شربت في البيت . يمكن أن نبدأ .
أعطى المخرج الإشارة لبدء التصوير . شرعت أسيل في تقديم محمود أبو الجدايل للجمهور :
" علم من أعلام الثقافة العربية . صدر له عشرات المؤلفات في الرواية والقصة والشعر والفلسفة والبحث والنقد ، وهو فنان تشكيلي أيضا ، رسم أكثر من أحد عشر ألف لوحة ، له منها قرابة ثمانية آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا في العالم . أثارت كتبه ومقالاته ومقولاته على صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت جدلا واسعا في أوساط المثقفين، وردود فعل متباينة بين مؤيد ومعجب ومعارض ومجادل. تعرض لمحاولة اغتيال نجا منها بإعجوبة ، وما زالت تهديدات الأصوليين تلاحقه لاتهامه بالإلحاد، رغم أنه يعتبر نفسه مؤمنا صوفيا. يختلف محمود أبو الجدايل عن غيره من الباحثين والفلاسفة والأدباء والنقاد ، في أنه يسعى بالدرجة الأولى إلى فهم الوجود والقائم به والغاية منه ، وتقديم تصور جديد له، وليس إلى مجرد نقد الماضي وما جاء به العقل البشري على مر العصور. وقد توصل بذلك إلى فهم حديث للوجود والخلق والخالق، استنادا إلى العلم والمنطق وحتى بعض المفاهيم المثالية للخلق، إضافة إلى اجتهاده وتأملاته . وننوه إلى أن حوارنا مع الأستاذ محمود سيمتد إلى حلقات، وسنجري في نهاية بثها حلقة خاصة للإجابة عن أسئلة المشاهدين . ويمكن لمن يهمهم الأمر من المشاهدين ، أن يدونوا ملاحظاتهم وأسئلتهم خلال مشاهدة الحلقات "
-أستاذ محمود أبو الجدايل، فيلسوف الأدب والفن بلا منازع : أهلا ومرحبا بك في " أفق المعرفة "
- أهلا بك .. وشكرا لهذا التقديم ألذي آمل أن أكون على قدر مقبول من المستوى الذي وضعني فيه.. وشكرا لأفق المعرفة التي أتا حت لي هذا اللقاء للتعريف بفلسفتي. متمنيا لقناتكم دوام التقدم والازدهار في آفاق المعرفة الانسانية .
- استاذ محمود . يكثر الحديث بين المثقفين عن الوجود والعدم دون التوصل إلى إجابات قاطعة ونتائج مرضية ، فهل جاء الوجود من العدم ؟
- عفواً، السؤال خطأ !
فوجئت أسيل القمر بالإجابة. تساءلت:
- أف! لماذا ؟
- لأن العدم نقيض الوجود ، أي لا شيئ على الاطلاق، فكيف يأتي منه وجود، أو خلق، وكيف يمكن لسائل أن يسأل سؤالا كسؤالك ؟
- هل لك أن توضح لي ، فأنا أشعر أن سؤالي ليس خطأ !
- لنفترض أنك تعيشين في بلدة نائية ، ليس فيها جزار، لكنك حصلت على لحم بطريقة ما ، فهل يمكن أن يسألك أحد أبناء البلدة الذين يعرفون أنه لا يوجد في البلدة جزار" هل أتيت باللحم من الجزار؟ "
- أكيد سؤال كهذا من قبل انسان يعرف أنه لا يوجد في البلدة جزار، ليس منطقيا ! لكن ما هو السؤال المنطقي في هذه الحال؟
- من أين أتيت باللحم ؟
- وفي مسألتنا يتوجب علي أن أسأل : من أين جاء الوجود ؟
- صحيح !
- لكن ماذا سنقول لبشرما يرون أن الوجود جاء من عدم ؟
- نقول لهم شغلوا عقولكم فأنتم مخطئون! فأساطير الخلق القديمة كالبابلية، وحتى الكتب المعتبرة سماوية، تقول إن الحياة جاءت من الماء " وجعلنا من الماء كل شيء حيّ .. " فالعدم لم يكن موجودا كما لا يمكن إيجاده!
- لا يمكن إيجاده ؟!
- أجل ؟
- ألا يمكن إحالة جسم مادي ما إلى عدم ؟
- مستحيل ! فما بالك بالوجود كله ؟
- لنأخذ حبة قمح مثلا ، ونسحقها . ألم نحلها بالانسحاق إلى عدم ؟
- أبدا.. مسحوق حبة القمح ليس عدما . وهذا المسحوق إذا ما عجناه وخبزناه ، أو سلقناه مع كمية من طحين القمح ، وأكلناه ، سيمنح أجسادنا مادة وطاقة ، رغم أننا قتلناه بسحقه وبتعريضه لحرارة عالية كعجين ، وسلقه كحبوب أو طحين . ويمكن القول إن حبة القمح لم تمت رغم أننا قتلناها بسحقها ، بل تحولت إلى مادة وطاقة في حياة جديدة ! وإذا ما دفناها في تربة صالحة ستنبت لنا سنبلة من ستين حبّة . والستون حبة يمكن أن تنتج ستين سنبلة ، وإذا ما تابعنا سلسلة تناسل حبة قمح واحدة قد نصل إلى ما يعادل حمولة باخرة من القمح . وكل ذلك بفعل طاقة الخلق السارية في التربة وفي حبة القمح وفي الماء الذي أسقاهما ، وليس بفعل أمر خارجي من خالق جالس على عرشه في السماء.
- يا إلهي ! إذا كانت هذه هي الحال مع حبة القمح فكيف ستكون عليه مع الانسان ، ألا يعني ذلك أن موته ليس ذهابا في العدم واللاشيء؟
- أبداً، موت الانسان بداية لدورة جديدة في حياة جديدة كي لا يفنى الانسان ولا تفنى الحياة ! فجسم الانسان مكون من مادة وطاقة . والطاقة لا تدمر ولا تفنى وهي قابلة للتحول إلى أشكال مادية مختلفة. وحسب فهمي : الإنسان بعد موته تحل مادة جسده ( المادية) في مادة الوجود لإغنائها، وتحل طاقة جسده غير الطقمادية ، في طاقة الخلق العقلانية القائمة بالخلق !
أطبقت أسيل بيديها على صفحتي رأسها ، حين وجدت أن الحوار مع محمود أبو الجدايل قد يكون أصعب بكثير مما تخيلته :
- يا إلهي أنت تضعنا أمام أسئلة صعبة ومعقدة ، فماذا تعني بالطقمادية وطاقة الخلق العقلانية القائمة بالخلق؟
- الطقمادية مصطلح اشتققته من مفردتي الطاقة والمادة للإشارة إليهما ككيان واحد حسب معادلة آينشتاين،الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء. فالطاقة والمادة شيء واحد وليسا شيئين! وطاقة الخلق العقلانية هي الطاقة (غيرالطقمادية) السارية في الخلق ، التي يتم الخلق بواسطتها، فهي طاقة لا تنطبق عليها شروط ومواصفات الطقمادية، مع أنها طاقة! إنها القدرة على الخلق التي لم تتوصل العلوم إلى معرفتها الحقيقية حتى اليوم .
- هل هي الألوهة ؟
- حسب مفهوم ديني يمكن أن تحمل ألوهة أو تكون الله أو ما يقابله في لغات أخرى ، وحسب مفهوم فلسفي يمكن أن تكون العلة الأولى ، أو المحرك الأول ، أو غير ذلك ، كما أعتقد أنا، أي طاقة غير طقمادية .
- يبدو أن الحديث في هذه المسألة يحتاج وحده إلى حلقة كاملة ، لذلك سنؤجل الحديث عنه إلى زمن آخر، وخاصة إذا لم تتضح أبعاده خلال حواراتنا، ولنعد إلى موضوعنا . قلت أن الخلق جاء من الماء، لكن الماء لم يكن بداية الخلق ، يمكن أنه كان بداية خلق ما اعتبر كائنات حية ، فماذا عن الخلق قبل ذلك ألم يأت من عدم ؟
- كلا ، أتى من هذه الطاقة العقلانية غيرالمنظورة وغير الطقمادية، أطلق عليها أيضا الهيولى البدئية.
- وماذا عمّن يقولون أن الوجود أوالخلق جاء من خالق أو إله ؟
- لقد اتفقنا على أن يكون اللقاء حول فلسفتي للوجود والغاية منه ، وليس حول فلسفات وعقائد وأديان البشر، على أية حال يمكنني القول إجابة عن سؤالك : للبشر الحق في أن يفكروا حسبما يعتقدون ، فالإشكالية ليست هنا، بل في ما هو الخالق ، أي ما هي ماهيته وجوهره وأين وماذا كان قبل عملية الخلق، وماذا يريد من الخلق ، وهل هو منزه عنه ؟!
- هل هذا يعني أنكم تقرّون بوجود خالق ؟
- أجل . هناك عملية خلق قائمة منذ قرابة أربعة عشر مليارعام ولا بد من وجود قائم بالخلق فيها !!
- إذن ! استاذ محمود أبو الجدايل : من أين جاء الوجود ؟
- الوجود أوالخلق، جاء من طاقة عقلانية أزلية غير طقمادية، تتصف بالوعي والحكمة. كانت كامنة في ما يشبه الفراغ الزائف عند الفيزيائيين، وفكرت ربما لملايين السنين في أن توجد نفسها في وجود ترى نفسها فيه ، وتظهر وتتجسد فيه ، وفي الوقت نفسه يكون قادرا على الخلق، بما في ذلك خلق نفسه بنفسه عبرطاقتها العظيمة السارية فيه .
- ماذا تقصد بعقلانية ، هل كان لدى هذه الطاقة عقل .
- كل حديثنا كان عن عقل. الطاقة بحد ذاتها عقل ، أو العقل هو الطاقة ذاتها . ويمكن القول إن الوجود جاء من عقل أزلي كامن. وأستخدم مفردة الطاقة لتسهيل الفهم ، كون مفردة الطاقة تعني القدرة من ضمن ما تعنيه ، والقدرة لا يمكن أن تتم دون عقل.
- وإذا لجأنا إلى مفهوم ديني ، يمكن القول حسب هذا الفهم : إن الخالق موجود في كل كائن مهما كان ، وأنه بدوره خالق.
- أجل بدوره خالق، إنما خالق محدود الفعل لأن ( الألوهة ) بالكمال الذي بلغته، ليست قائمة بكليتها فيه ، بل بجزء يسير جدا جدا منها ، يمنحها القدرة على خلق نفسها بنفسها ، وعلى عمل ما تحتاج إليه لتحافظ على بقائها وتطورها . ولو أننا أخذنا الانسان مثلا كأرقى الكائنات، فإن قدرته على خلق نفسه وتطورها، كانت أعظم ما نتج عن عملية الخلق. ومع ذلك ليس في مقدور الانسان مثلا أن يخلق كائنات حية ، أو أن يخلق كوناً.
- وبما أننا في زمن انتشار الفيروسات بين فترة وأخرى هل يمكن القول إن الفيروسات تخلق نفسها بنفسها ؟!
- أجل تخلق نفسها بنفسها بتوظيف طاقة الخلق السارية فيها !
- دون أن تتحكم الطاقة بها؟
- أجل ! طاقة الخلق لا تتحكم بما يخلق إن كان في اتجاه الخير أو اتجاه الشر، المواد التي ينتج عنها الخلق لها دور مهم في المسألة ، ثم يأتي دورالمخلوق الذي يتكون.
- وهذا ما يقودنا إلى أسئلة مختلفة ، لكن سنتركها إلى وقت آخر حتى لا نخرج عن صلب الموضوع.
- لقد خرجنا كثيرا وتشعبت التساؤلات والإجابات، وهذا يغني الموضوع كما أظن.
- أكيد. وما هو الفراغ الزائف الذي كانت هذه الطاقة أو العقل يكمن فيه ؟
- حسب ما توصلت إليه علوم الفيزياء أن هذا الفراغ لم يكن فراغا، لإمكانية نشوء فقاعة أو نقطة فيه يمكن أن ينشأ عنها كون . وقد اعتبرته قوانين الفيزياء فراغا لعدم احتوائه على عناصر مادية وأبعاد زمكانية، أي زمان ومكان ، لكن في زمن لاحق تم تجاوز هذه المسألة ، حين اكتشف حسب نظريات الفيزياء الكمومية ما اعتبر تاكيونات ، كانت تكمن في هذا الفراغ ، وفي الأعوام الأخيرة تم اكتشاف جسيم ينتج عن هذه التاكيونات، أطلق عليه "بوزون هيغز " نسبة إلى عالم الفيزياء البريطاني بيترهيغزالحاصل على جائزة نوبل 2013 ، وقد أطلق عالم الفيزياء الأمريكي "ليون ليدرمان " الحائز على نوبل عام 1988 على هذا البوزون اسم "جسيم الإله " متجاوزا بذلك الفكر الفلسفي المادي وحتى العلمي، اللذين لا يعتقدان بوجود إله أو خالق وخلق .
- بماذا يعتقدان اذن ؟
- يعتقدان بتحولات المادة والطاقة ، ولا يريان في هذا التحول خلقاً بل وجود طاقة متحولة من شكل إلى آخر.
- وأنت ماذا ترى ؟
- أرى أن عملية التحول خلق وإبداع . ليس للقائم بالخلق فقط بل للابداع الإنساني أيضا ، فأنا أراه خلقا، ولا استثني خلق الكائنات الأخرى من نبات وحيوان وغيرهما.. لكل كائن في الوجود دور ينبغي أن يلعبه إن سلبا وإن ايجابا !
- وما هو هذا البوزون وهل تم اثبات وجوده ؟
- البوزون جسيم افتراضي مسؤول عن إكساب الجسيمات الأولية كالإكترون والبروتون والنيوترون كتلتها عبر تفاعلها مع مجال هيغز، وقد تم رصده عمليا عام 2012 بنسبة عالية جدا تجاوزت 99% في مصادم الهادرونات الكبير الموجود في مختبر سرن في سويسرا، الذي تصل فيه سرعة البروتونات إلى ما يقارب سرعة الضوء. لذلك أسماه ليدرمان " جسيم الإله "
- وهل تعتبره أنت كذلك ؟
- أبدا !
- ماذا تعتبره إذن ؟
- أعتبره نتاجا أوليا للتصورالافتراضي للعقل الطاقوي القائم بالخلق في الهيولى البدئية!
- وهل هذا التصور هو الذي نشأ عنه الوجود .
- أجل الوجود نشأ عن تصورافتراضي في العقل الطاقوي، لكن ثمة تحولات ومراحل مر بها هذا التصور إلى أن حدث الانفجار الكبيروما بعده. ومن هنا بدأ بث العقل الكوني في الذرات والجسيمات دون الذرية التي يتألف منها الوجود، والتي أصبحت سارية في الكون والكائنات كلها فيما بعد.
- هل في الامكان تعريف العقل الطاقوي أو الطاقة العقلانية وما علاقتها بالطاقات المعروفة لدينا التي تنظم الوجود ؟
- إن أفضل تعريف لهذه الطاقة هي أنها طاقة عقلانية عظيمة غير طقمادية، تتصف بالوعي والحكمة، ولا يضاهيها أي طاقة أخرى، ويصعب على العقل البشري- ولو حتى الآن- سبر واكتشاف ماهيتها ! فهي ليست إحدى القوتين النوييتين وليست الجاذبية كما انها ليست الكهرومغناطيسية ، ولا تنطبق عليها مواصفات الطقمادية، كما أسلفنا، هي طاقة الطاقات كلها ، وعقل العقول كلها، التي جاء منها الوجود، وكل شيء، على الاطلاق، ومآل كل شيء إليها ، فهي لا تفنى ولا تزول.
- من أوجدها!
- هي أوجدت نفسها بنفسها لنفسها منذ الأزل وما تزال توجد نفسها بنفسها لنفسها.
- هذه الفكرة تحتاج إلى حلقات أيضا. هل هي إله أو رب أو خالق ؟
- قد تكون إلها وقد تكون أعظم من إله ، مع أن هذه مفردات لغوية حديثة جدا أطلقها العقل البشري على الخالق القائم بالوجود، بعد اختراع اللغات من زمن قريب جدا لا يتجاوز ستة آلاف عام ، وقد تقبل بها هذه الطاقة أو لا تقبل. علما أنني أستخدم لغة تميز بينها وبين العقل البشري لتسهيل الفهم ، فالعقل البشري جزء من عقلها وما ينتج عنه يمكن اعتباره ناتجا عنها .. وهذا موضوع يحتاج وحده إلى حلقة وربما أكثر لاستيعابه.
- استاذ محمود كل إجابة لك تقودنا إلى كثير من الأسئلة التي قد لا تنتهي. هل تؤمن أنت بوجود إله أو آلهة، اعذرني إذا كان السؤال مكررا ؟
- أؤمن بوجود خالق قد يقبل أن يكون إلها أولا يقبل، كونه مجرد عقل طاقوي عظيم ، يمكن أن يكون أكبر من كل المفردات والتعابير أن تعبر عنه ، رغم أن هذه التعابير والمفردات واللغات كلها، لم تتم دون طاقته العظمى السارية في الكون والكائنات ، ويمكن اعتبارها لغته؟
- أليس لديه لغة محددة ؟
- ليس لديه لغة محددة رغم اعتبار اللغات كلها لغته لأنها تمت بطاقته؟
- هل يتكلم اللغات كلها في هذه الحال؟
- لا يتكلم ولا لغة منها في الوقت الذي يتكلم بها كلها .
- كيف لم أفهم ؟!
- هو كطاقة لا يتكلم لغة محددة لكن على لسان خلقة ( وجوده ) يتكلم اللغات كلها ، فخلقه جزء منه كما أسلفنا ويسري بطاقته العظيمة في كل كائن فيه .
- يا إلهي ! أين تقودنا أستاذ محمود ؟
- أنا أجيب عن أسئلتك فقط ، دون أن أفكر في الاتجاه الذي ستقودك إليه إجاباتي، مع أنني أطمح أن أقودك إلى فهم فلسفتي!
- استفسارآخرحول الموضوع، هل أنت ربوبي ؟ أي تؤمن بوجود مدبر للوجود ؟
- يمكن القول أنني ربوبي صوفي إنما على طريقتي ، فأنا أختلف مع الربوبيين والمتصوفة في مفهومي للخالق أو القائم بالخلق. وأختلف مع الفلاسفة المثاليين أيضا من سقراط وافلاطون وأرسطو مرورا بابن عربي واسبينوزا وهيغل وكانط إلى آخر الفلاسفة المحدثين.
- في هذه الحال كيف تجيبني عن غاية الخالق من الخلق؟
- أخيرا وصلنا كما يبدو إلى السؤال الجوهري. الخالق خلق الخلق ليرى ذاته الطاقوية العقلانية الحكيمة مجسدة في كائنات يتمتع بها! أي يتمتع برؤية نفسه ، فليس من الخلق أن يبقى مجرد عقل طاقوي دون تجسد في مادة تنبض بالحياة والجمال والحب . ولولا هذا التجسد لما عرف نفسه جيدا، ولما عرفناه نحن. هذه غاية أولى ، أما الغاية الثانية فهي أن يقوم هذا التجسد الممثل في الكائنات وبشكل خاص الكائن الأرقى ، أي الانسان ، مشاركته في عملية الخلق لبلوغ غاياته . وفي هذه الحال تصبح عملية الخلق تكاملية بينه وبين ما يتجسد فيه . وبمعنى ديني كما عبرت كثيرا : تكاملية بين الخالق والمخلوق .
- وما هي غاياته ؟
- إقامة حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. ودون هذا الخلق لا يمكن لهذا العقل الخالق أن يحقق ما يريد ، فهو كطاقة عقلانية لا يبني مدنا وجسورا ولا يشق طرقا ، ولا يقيم حضارة ، فكان لا بد من خلق يتجسد فيه ليحقق ما يطمح إليه .
- وهل حققت الكائنات والانسان ذلك ؟
- حقق الإنسان جزءا يسيرا جدا كبناء المدن واختراع اللغات واكتشاف بعض طاقات الكون وتوظيفها ، وإيجاد بعض القيم، وغير ذلك من المكتشفات والاختراعات والسلوكيات والمنظومات الضرورية للحياة .
- وماذا عن قيم الخير والعدل والمحبة ؟
- للأسف ما يزال الانسان بعيدا جدا عن تحقيق هذه الغايات بأسمى معانيها . حتى أنه لم يدرك الغاية الحقيقية من وجوده ، وبالتالي لا يدرك نفسه كجزء من ذات إلهية أو ذات كونية .
- وماذا عن الكائنات الأخرى ، ماذا حققت ؟
- الكائنات الأخرى من حيوان ونبات وكل ما في الطبيعة من كواكب ونجوم وأنهار ومحيطات وبحار، تقوم بدورها في عملية الخلق على أكمل وجه عكس الانسان الضال !!
- هل تعتقد أن هذا التجسد في عملية الخلق وصل من حيث الشكل إلى أرقى ما هو ممكن ؟
- إلى ما هو ممكن حتى اليوم وخاصة في الوجود الكوني، أما في الوجود الانساني مثلا، فالشكل المنشود قد يكون أجمل وأرقى بكثير مما هو عليه اليوم .
- هل من الممكن تقديم تصور له ؟
- ربما يكون شكل الانسان كالملائكة الذين تتحدث عنهم الكتب الدينية .
- ومتى يمكن الوصول إلى ذلك ؟ ربما بعد مليون سنة وربما أكثربكثير .
- هل هذا يعني أن عملية الخلق وتجسدها ما تزال في بداياتها؟
- بل إنها ما تزال تحبو مقارنة بعمرالوجود البالغ أربعة عشر مليار سنة . فإذا كان خلق الكائنات الحية لم يتم إلا منذ بضع ملايين من السنين من هذا الزمن الهائل ، وأن خلق الانسان (العاقل) لم يتم إلا من قرابة أربعين ألف سنة، فإن الخلق الاقرب إلى المنشود قد يحتاج إلى مليارات السنين وليس مجرد ملايين.
- لماذا العاقل بين قوسين ؟
- لأن الانسان العاقل بالمطلق ، أي الكامل لم يوجد بعد ، والعقل البشري ما يزال يرزح تحت نير التخلف العقلي والفكري والعقائدي!
- هل هذا يعني أن عملية الخلق والتجسد عملية متطورة وليست ثابتة ومنتهية ؟
- أكيد .
- وأنك تعتقد بذلك ؟
- أجل .
- كيف تتم عملية الخلق لتتجسد في مواد وأشكال مختلفة تعبر عن وجود العقل الطاقوي القائم بالخلق فيها .
- العقل الطاقوي كما أسلفنا طاقة سارية في الخلق ومتجسدة فيه، تتصف بالوعي والحكمة. وقد توصلت إلى وضع قانون بعد ملايين التجارب، يتم به الخلق . فالعقل الطاقوي الخالق لا يقف على رأس كل جسيم مادي ليحيله إلى ما يريد، بخلطه وتفاعله مع جسيمات أخرى ، لقد وضع قانونا تخلق الكائنات نفسها بنفسها عبره ، بأن بث طاقته العقلية في أساس الجسيمات والذرات التي يتشكل منها الوجود، أي جعل الكائنات توجد نفسها بنفسها، كما أوجد هو نفسه بنفسه لنفسه منذ الأزل ، إنما دون تجسد ، بل مجرد عقل طاقوي مطلق لا يمكن تحديد ومعرفة ماهيته إلا من قبله نفسه . لذلك يقف العقل البشري حتى اليوم عاجزا عن اكتشاف سرهذا الاعجاز .
- هل يمكن اعطاء فكرة عن هذا القانون ؟
- لقد سبق وأن لخصت هذا القانون نظرياً بمفردات قليلة تحتاج إلى شرح مطول :
" الكائنات كلها من الجماد إلى البكتيريا إلى الفيروسات إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق العقلانية الكلية السارية في الكون التي أطلق عليها البشر اسم الله أو ما يقابلها في لغات اخرى . . فإذا كانت العناصر المادية إيجابية تنتج عنها طاقة ايجابية ينتج عنها خلق إيجابي ، وإذا كانت العناصرالمادية سلبية ينتج عنها خلق سلبي ، قد يكون ضارّاً، وإذا كانت المادة مزيجا من السلب والإيجاب غير المتكافئ ، قد ينجم عنها خلق مشوه غير قابل للبقاء. ونظرتنا إلى الوجود تشير إلى تفوق المادة الإيجابية على المادة السلبية ، بدليل وجود الجمال والبقاء والتطور والرقي في عملية الخلق إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه خلال ما يقرب من أربعة عشر مليارعام من عمر الوجود "
- كالعادة فجرت أمامي عشرات الاسئلة، لكن زمن الحلقة انتهى. سأترك ذلك للحلقة القادمة وما بعدها من أفق المعرفة . شكرا استاذ محمود أبو الجدايل !
*****

(3) لوحة فنية تحاكي المطلق.
هاتفت لمى من صالون الاستوديو لأخبرها أنني فرغت من تسجيل الحلقة . كانت أسيل ما تزال معي . سألتني ماذا لدي . قلت لها "لا شيء أنتظر صديقتي لنذ هب لتناول الغداء" قالت:
- يسرني أن أدعوكما لتناول الغداء ، وسأكون شاكرة لو وافقتم .
- تشكري . لا أظن أن لمى ستوافق .
- لماذا؟
- لأنها كريمة جدا !
- وهل هذه مسألة تدعوها لأن ترفض دعوتي ؟
- هي لن ترفضها ، ستوافق شريطة أن تدفع هي ثمن الغداء !
ضحكت أسيل وهي تردد:
- أنبل وأجمل ضيوف يمكن أن يتخيلهم المرء.
لم يعرف محمود حينه ما إذا كانت أسيل القمر آنسة أم سيدة فسألها :
- عفوا لم أعرف بعد إن كانت محاورتي الجميلة آنسة أم سيدة ؟
- أشكرك أستاذ . أنا آنسة ، وأحب ذلك ، ولا أعرف إن كنت سأتخذ قرارا بالزواج ذات يوم .
رن الهاتف . أجاب محمود :
- وصلت لمى . هل ننزل أم أدعوها لتتعارفا.. ومن ثم نقرر إلى أين سنذهب.
- هذا أفضل .
******
حضرت لمى . قدم محمود أسيل القمر لها .. فوجئت لمى بجمال أسيل، غير أنها لم تبد ما يشير إلى ذلك .
- ماذا تشربين . سألت أسيل .
- ممكن قهوة سادا !
- وأنا أيضا.. قال محمود وتابع :
- أسيل تدعونا لتناول الغداء ما رأيك ؟
- موافقة بشرط أن أختار أنا المطعم وما يتبع ذلك !
- ماذا تقصدين ، ثم إن الآنسة قد تدعونا إلى بيتها !
- بل إلى مطعم أستاذ محمود وللآنسة لمى أن تختار أي مطعم ، أما ما بعد ذلك فهو عليّ كداعية ..
- حسنا لن نختلف.. هتفت لمى..
رن الهاتف . نظر محمود إلى الرقم . كان مجهول الاسم . أقفل الخط دون أن يجيب .
تساءلت لمى:
- لماذا لم تجب ؟
- رقم مجهول !
- أكيد واحد يريد أن يبلغك رسالة تهديد .
- لا أعرف . ربما اكتفوا بالرأس المقطوع!
لم تكن أسيل القمر قد عرفت بالرأس المقطوع بعد .
- اوه ! رأس مقطوع ؟ ماذا تقصد ؟
- ألقوا أمام باب بيتي رأسا مقطوعا الليلة الماضية !
- يا إلهي .. أي إجرام هذا؟
ثمة إشارة لصورة على الواتس.. فتح محمود الجهاز .. كانت صورة لثلاثة رؤوس بشرية مقطوعة إلى جانب ثلاث جثث. أقفل محمود الجهاز دون أن يتكلم .
- ماذا هناك حبيبي ؟
- لا شيء حبيبتي أحد أصدقاء الفيس بوك يصبح علي بوردة !
- أشك في أنك تقول الحقيقة حبيبي ومع ذلك سأصدقك .
- لكن أنا أحب أن أعرف إذا كان الأمر يتعلق بتهديد لننقل الخبر إلى العالم مع خبر الرأس المقطوع . هتفت أسيل .
- فتح محمود الجهاز على الصورة وقدمه لأسيل .
ندت عنها شهقة رعب وهي تغمض عينيها وتضع يدها اليسرى على صدرها وتعيد الجهاز إلى محمود بيدها اليمنى وهي تهتف " يا إلهي يا إلهي "
لم تحاول لمى أن ترى الصورة واكتفت بأن يخبرها محمود بأنها جثث لقتلى ..
فكر محمود في تغيير رقم هاتفه للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر . اقترحت أسيل أن ينشر خبر عن هذه التهديدات . وافق محمود لكن بعد أن يخرجوا من المبنى حتى لا يعرف المجرمون أنه موجود فيه .
دخلت أسيل إلى استوديو الأخبار بعد أن عرفت من محمود التفاصيل المطلوبة وأخبرت محررا أن يقوم بصياغة الخبر لنشره بعد خروجهم .
****
- إلى أين تقوديننا حبيبتي ؟
- إلى منتزه الملك لقمان والملكة نور السماء !
- مجنونة ! لكن دون ملوكية وموائد ملكية ! هتف محمود وهو يضحك .
- في هذا العالم المجنون لا يليق إلا الجنون !
تساءلت أسيل :
- ما قصة الملكية هذه ؟
- قصة جنونية لمن يريد أن يهرب من جنون العالم إلى جنونه الشخصي! سنطلعك عليها في المطعم . أجابت لمى !
****
شاهد موظف الاستقبال أمام باب المنتزه السيارة وهي تدخل الساحة أمام المنتزه فعرف من فيها. سارع إلى أخبار مدير المنتزه ، الذي طلب إلى العاملين أن يصطفوا لا ستقبال محمود أبو الجدايل ومن معه.
كان المنتزه يعج بالعديد من العائلات والضيوف . فقد أصبح من أشهر المنتزهات في الأردن بعد الدعاية التي اكتسبها من زيارة محمود أبو الجدايل ولمى ، وتمثيلهما دور ملك وملكة وإقامة مائدة ملكية لهما .
رحب المدير بالضيوف أمام باب المنتزه . ودعاهم إلى الدخول. فوجئوا بالعاملين يصطفون على جانبي المدخل للترحيب بهم .. صافح محمود رئيس الندل وبعض العاملين لتجاوز الهالة التي شاء المدير رسمها لهم ، بينما اكتفت لمى بالابتسام والتحية بإشارة من يدها .
افردت لهم مائدة خاصة على شرفة تعلو شاطىء البحر، حيث كان بعض الشباب والفتيات يسبحون .
هتفت أسيل متسائلة :
- شوقتموني لمعرفة قصة الملوكية والمائدة الملكية ؟
- أخبريها يا لمى !
- يحب محمود أحيانا أن يخرج من العالم الواقعي الكريه ليعيش في عالمه الأدبي المتخيل، ومن أحب الشخصيات له شخصية الملك لقمان وشخصية أخرى لأديب يحيله الله إلى ابن له ، وهما شخصيتان ابتدعهما في عملين أدبيين له . وحين جئنا لتناول الغداء هنا أحببت أن أخرجه من أجواء الواقع إلى عالم خياله ، فخاطبته على أنه الملك لقمان ، سرّ محمود للمسألة فراح يخاطبني على أنني مليكته نور السماء .. وبناء عليه طلبت مائدة ملكية مهولة . تنبه العمال إلى أننا نتخاطب كملك وملكة فاحتاروا في أمرنا ، ولم يجدوا مفرا من مخاطبتنا كملك وملكة.
- أمر مدهش فعلا .. اجعلاني وصيفة شرف للملكة إذا قررتما أن تعيشا الحالة ثانية !
- ماذا تأمرون جلالتكم ؟ هتف رئيس الندل وهو يقف إلى جانب محمود .
ضحك محمود وهو يجيب :
- لا ملوكية هذا اليوم ولا موائد ملكية !
- تأمر أستاذ محمود !
- أظن أننا سنبدأ بكأس من البيرة وسنرى فيما بعد ماذا سنأكل !
وافقت الآنستان على الطلب .
- أمر مؤسف أنني لن أعيش حال وصيفة الشرف دون غداء ملوكي!
- بل أنت ملكة شرف دون ملوكية ! هتف محمود مازحا!
- أنا بغار حبيبي! ولا أريد ملكة ثانية معي تنافسني عليك!
ضم محمود لمى :
- تسلم لي الغيورة على شيخوختي!
فيما أسيل تضحك وهي تهتف " خلص بلا ملكية استاذ محمود"
حضرت البيرة ... شربوا نخب لقائهم .. ألقى محمود نظرة على البحر وكاد أن يسرح مع ذكرياته فيه لولا أن أسيل سألت :
- استاذ محمود هل يمكن أن نتحاور خارج الحوارات الرسمية المصورة؟
- طبعا ممكن ، لكن لا تزجي بالأديان في الحوار!
- لكن هذا الكلام ليس للنشر!
- أظن أنك كإعلامية قد تنشرينه ذات يوم .
- لكني قرأت لك بعض الكتابات في نقد الأديان التي قد تكون من المحرمات !
- صحيح .. في بدايات كتاباتي كنت مهووسا بنقد الأديان المختلفة .. حتى المتصوفة لم يسلموا من نقدي كابن عربي مثلا.
- ونقدك للتوراة ، ألم تقرأها قراءة نقدية في مؤلف من عشرة أجزاء.
- بلى التوراة وغيرها أيضا كتبت الكثير.
- أكثرما أعجبني من هذه الأجزاء ، قراءة سفر التكوين وسفر أيوب ، وقصة نوح . لكني أحب الآن أن أسألك حول مسألة أخرى تقلقني .
- ما هي ؟
- أكيد عن الله واستنادا إلى حوارنا وما قرأت لك !
- اسألي!
- هل لك أن توضح لي أكثر لماذا أراد الخالق أن يتجسد في الوجود وفي الانسان بشكل خاص مع أنه مجرد طاقة أو عقل طاقي أو طاقوي حسب تعبيرك في بعض كتاباتك، بغض النظر إن كان إلها أو لم يكن؟
(حضر رئيس الندل لتسجيل طلب الغداء.. اتفقوا على شواء منوع ومقبلات مختلفة)
شرع محمود في إجابة أسيل :
- تصوري لو أن الخالق كعقل طاقوي ظل كامنا إلى الأبد ولم ينبعث ويتمظهر ويشرع في التجسد أو التجلي.. لما كان هناك وجود، ولما تمكن الخالق كعقل رؤية نفسه في أجسام وأشكال وكائنات مختلفة . وبالتالي لفقد أي معنى لوجوده . لذلك ظل يعمل بدأب إلى أن توصل لخلق الانسان بعد مليارات السنين ، ليرى نفسه على الوجه الذي سيبلغ به كمالا ما ، قد يرضى عنه أكثر . تطرقت في بعض مقالاتي عن وجود الخالق المشروط بوجود خلق . فدون خلق لا نعرف إن كان هناك خالق . ودون خالق لا يمكن أن يكون هناك خلق. ودون لغة لا يمكن أن نقدم رؤية وفهما وفلسفة للوجود وللخالق نفسه .
- ماذا لو كان الخالق غير ما عرفته المعتقدات والفلسفات، كالطبيعة مثلا ؟
- بعض الفلسفات المادية وبعض الفهم العلماني تطرق إلى الخلق الطبيعي الذي يتم بفعل الطبيعة نفسها، لكن هذا الفهم لم يجب عما إذا كانت الطبيعة تملك عقلا يتم به الخلق ، وعلى هذا القدر من التنظيم ، الذي لولاه لانهار الكون. الوقوف على الاعتقاد بأن الخلق طبيعي وعشوائي حسب بعض المجتهدين، دون معرفة من أين جاءت الطبيعة، وكيف وبماذا تتم عملية الخلق فيها، مسألة خاطئة . يمكن أن تكون العشوائية قد مرت بمرحلة ما أو مراحل من عملية الخلق لكنها لم تبق عشوائية ، وهذه العشوائية يمكن أنها كانت تجارب للعقل الخالق الساري في ذرات. من هنا ندرك لماذا استمرت عملية الخلق مليارات السنين. لو كانت عملية الخلق تتم بتنفيذ فوري لما أخذت أكثر من بضع سنين أو حتى أيام، حسب الخلق التوراتي الذي حدث من أقل من ستة آلاف عام ، وتم في ستة أيام فقط ، ليستريح الله في اليوم السابع، ويظل مستريحا إلى يومنا كما يبدو!
- ابتسمت أسيل دون أن تعلق. وتابعت متسائلة :
- ألم يكن لهذا العقل جسم وشكل ؟
- كان مجرد طاقة غير طقمادية جوهرها العقل والحكمة، ليس لها شكل ، ولا يمكن أن ترى إلا بتحولها وتمظهرها في كائن مادي، وكانت وراء كل من المكان والزمان والصفات ، لذلك اعتبر بعض الفلاسفة وجودها وجودا إلهياً أوجد نفسه من عدم. وهو في الحقيقة لم يكن كذلك، وإن كان أقرب إلى العدم من وجهة نظري، كونه فوق التصور . وقد اعتبرت هذه الحالة حالة هيولى بدئية كامنة .. وتوقعت أن كمونها دام لمليارات السنين ، إلى أن اكتمل تصورها المبدئي للخلق، فانبثقت بإظهار نفسها إلى الوجود ، لتصبح طاقة كونية، في محاولة لرؤية نفسها من حالة التصورالعقلية المتخيلة ، إلى حالة مبدئية من التجسد، دامت في تطور لمليارات السنين، وما تزال، إلى أن بلغت أرقى تجسد لها في الانسان ، الذي شكل حالة أولية لطموحها دون أن يكون ما توصلت إليه ذروة الطموح، فالعقل الخالق، أو الطاقة الخالقة لم تتوقف عن اشغال الخيال لايجاد تصور أرقى للوجود الانساني يمكن تنفيذه، لأنه أولا وأخيرا وجودها نفسه .
هذه الفكرة اعتمدها بعض المتصوفة كابن عربي، لكنه قدمها برؤية مختلفة، كون الالوهة أرادت أن ترى نفسها ، فتجلت في الوجود، دون أن يكون التجلي هي ، فأبقى على الألوهة منزهة عن الوجود . كما أن التجلي قد تم وانتهى الأمر، وأن عملية الخلق اكتملت . وهذا ما لا أعتقد به .. عملية الخلق ما تزال في بداياتها بل وقلت أنها ما تزال تحبو، وأن غاياتها لم تتحقق بعد .
- يبدو لي أستاذ محمود أن حوارنا سيكون صعبا على المشاهد .
- بالعكس! فلسفتي ليست معقدة على الاطلاق ! ربما لأنني لست معقدأً إلى حد يصعب فهمي ! طبعا الانسان العادي قد لا يهتم بالأمر، فهو حوار يخص المهتمين وليس للعامة.
- هل يمكن اعتبار الوجود بالنسبة إلى الخالق، كاللوحة بالنسبة للفنان ؟
- لكن ليس أي لوحة وليس أي فنان . نحن مع الخالق أمام لوحة كونية حيّة لا يحدها شكل ولا حجم ولا لون ، فهي تحاكي المطلق في كل شيئ. بينما لوحة الفنان محدودة في كل شيء.
والأصعب من ذلك أن لوحة الفنان رسمت من مواد متوفرة للفنان ، بينما لوحة الخالق كانت مجرد صورة مبدئية في عقل الخالق كان ينبغي عليه أن يوفر لها المواد الضرورية للخلق، لذلك استغرق رسمها مليارات السنين ولم تنته بعد .
- يا إلهي لا أستطيع تصور ذلك !
- بل تستطيعين . فأنت لا تفعلين شيئا قبل أن تفكري.
- مشكلتنا أننا لا نشعر أننا نفكرقبل أن نقدم على عمل ما . فلو لم نفكر في الأكل لما كنا هنا اليوم !
- هذه مشكلة بسيطة أمامنا ، فما بالك بمن يريد أن يخلق وجودا من مجرد فكرة ، لا تستند إلى وجود مادي لتحقيقها . مجرد حقل طاقوي مضغوط لا يمكن رؤيته بالعين المجردة !
- هنا يتوقف عقلي أمام ما هو أكبر من قدرته على الاستيعاب!
- بل ومن قدرة العقل البشري الذي لم يعرف الحقيقة أو ما هو أقرب إليها حتى يومنا
اكتظت المائدة بالشواء والسلطات والمقبلات ..
- هيا إلى الطعام . ولنترك الحوار إلى حينه . هتف محمود .

( 4) زيارة لأسرة أم أمل زوجة الضحية!
لم تجادل أسيل حين وجدت أن اصرار لمى على دفع الحساب لا يقاوم . وأنا لم أحاول أيضا لمعرفتي لكرم لمى . ودعنا المدير ورئيس الندل والعاملين ، وغادرنا .. أوصلنا أسيل إلى بيتها في جبل عمان . وتابعنا إلى بيتي في اللويبدة. أصرت لمى على أن تبقى معي رغم إلحاحي عليها أن تقيم لبضعة أيام في بيتها ، إلى أن تخرج من أثر الخوف والقلق اللذين بعثهما فيها الرأس المقطوع والتهديدات بقتلي ، فأبت ، متذرعة بأن حياتها ليست أهم من حياتي ، وأن الحياة دوني لن تعنيها شيئا ..
ما لم أتوقعه إطلاقا في حياتي ،حتى في أحلامي ، أن تظهر لي صبية تعشقني في كهولتي ، وأنا الذي تبين لي أن كل من عشقنني في حياتي لم يكن يعشقنني بقدر ما كان الأمر مجرد نزوات عابرة وتحقيق رغبات ، وربما حلم بالزواج مني لدى بعضهن ، حين تعثر العثور على زوج في حياتهن .. وبالمقابل كان عشقي لهن مجرد أوهام وتنفيس لكبت جنسي دفين ، وطاقة لحوحة تتفجركل بضع ساعات ، وأحيانا كل بضع دقائق! وإلا ما معنى أن أتخلى عن أي منهن لمجرد أول خلاف بيننا .. لمى حالة مختلفة تماما.. أشعر أنها تحبني من أعماق نفسها .. وأنا كذلك، أشعر أنها أعادتني إلى الحياة وأعادت الحياة إلي ، بعد أن هجرتها إلى الفكر والتأمل والكتابة والرسم ، ولا شيء غير ذلك ، وأشعر أن محبتي لها حقيقية وليست زائفة .. ربما لما فعلته من أجلي بشراء بعض لوحاتي بأسعار باهظة، دور في المسألة .. كانت تعد القهوة بعد أن أخذنا قيلولة لأكثر من ساعة ... سألتني بعد أن سكبت القهوة في فنجانين :
- لم تحدثني عن الحوار كيف كان ؟
- أعتقد أنه كان جيدا .
- ألم تحاول التخفيف من صداميتك مع المعتقدات الدينية لعل التهديدات تخف عنًا؟
- لا أذكر أننا تطرقنا إلى الأديان ، وكنت قد اشترطت من قبل حين اتفقت مع مدير القناة أن يكون الحوار حول فلسفتي، وهي فلسفة يمكن اعتبارها دينية ، كونها تقوم على مبدأ خالق .
ضحكت لمى وهي تعقب :
- خالق لم يبق للآلهة الأخرى شيئا تفتخر به !
- بل أبقى الكثير رغم الاختلاف في طبيعته.
- لن ينقذك ذلك من تهمة الإلحاد ولن ينقذني أيضا من تهمة الزنى إضافة إليه . الدين عند الدواعش هو الإسلام ولا دين غيره ! وفي هذه الحال أنت كافر ومرتد !
- لنا إلهي يا حبيبتي ، وعندي إحساس أنه لن يتخلى عني وعنك ! إذا ما تعرضنا لأذى ما.
- هل تعتقد أن نجاتك من محاولة الاغتيال كانت بتدخل إلهي؟
- يا إلهي ! وجدتها! هل تعرفين أنني لم أفكر في ذلك ، رغم أنني توقعت حالات أخرى أنقذتني!
- لكن حسب مفهومك الله غير قادر على كل شيء !
- غير قادر على كل شيء أجل ، لكنه يقدر على أشياء كثيرة جدا وعظيمة حين يصمم ويريد. فإرادته هي العليا التي لا تعلو عليها إرادة.
- آمل ذلك .
رن الهاتف. أخذته . كانت أم أمل. زوجة الرجل الذي كان ضحية محاولة اغتيالي.
- هلا أم أمل !
- الحمد لله على السلامة!
- الله يسلمك ليش شو فيه ؟
- التلفزة تتحدث عن محاولات جديدة لاغتيالك وعن رأس مقطوع أمام باب بيتك وجثث قتلى وما شابه.
- ستفشل محاولاتهم بإذن الله . المهم طمنيني عنكم .
- نحن بخير ولا نريد غير سلامتك.
- أوضاعكم المادية وشغلك كيف ؟
- ميسورة والحمد لله بفضلك أستاذ.
- محتاجين شي ؟
- م.م. محتاجين سلامتك .
أحس محمود من ترددها أنهم في عوز . قال:
- انتو في البيت ؟
- ايه ! وين بدنا انروح!
- فينا نزوركم؟
- طبعا أستاذ أنت مرحب بك في أي وقت أنت والأخت لمى .. لم يعد لنا غيركم .
- انتظرونا بعد حوالي ساعة ونصف على الأكثر.
- أهلا وسهلا..
أغلق محمود الهاتف. تابع حديثة مع لمى:
- يبدو أنهم يمرون بضائقة . سنذهب إليهم .
- أم أمل سيدة طيبة وتحتاج كل خير.
كان محمود قد بحث عن اسرة الرجل الذي راح ضحية محاولة اغتياله ، فوجد أنها أسرة فقيرة تعيش في بيت قديم مستأجر في سفوح جبل اللويبدة النازلة إلى وسط البلد. الأم تعمل خياطة نسائية على مكنة خياطة قديمة. وكان الأب يعمل في البلدية كعامل تنظيفات في شوارع المدينة . ولدى الأم ابنتان "أمل وسعاد" في الجامعة، وإبن " علاء " في الثانوية . ابتاع محمود لأم أمل مكنة خياطة حديثة وأعطاها عشرة آلاف دينار، لابتياع قماش ومصروف للبيت . ويتفقد الأسرة بين فترة وأخرى . ولا يتوانى عن مساعدتهم كلما احتاجوا شيئا .
- التلفزة أذاعت أخبار المحاولات الإرهابية وأم أمل أرادت أن تطمئن علينا.
هتف محمود مخاطبا لمى.
- يبدو أن قنوات تلفزيونية نقلت الأخبار عن قناة أفق المعرفة وإلا لما انتشر الخبر بسرعة.
وطلبت إلى محمود أن يفتح الجهاز ليروا.
سارع محمود إلى فتح الجهاز على قناة أفق المعرفة . كان الخبر يمر بين لحظة وأخرى مكتوبا على شريط متحرك أسفل الجهاز وقد كتب عليه : محاولة ارهابية للأديب والفيلسوف محمود أبو الجدايل بوضع رأس مقطوع أمام باب بيته ، وأخرى بإرسال صور جثث مقطوعة الرؤوس أيضا على هاتفه الجوال . إضافة إلى تهديدات بقتله.
- شيء جيد أنّ الخبر لم يتطرق إلي. هتفت لمى .
- كان يجب أن يتطرقوا.
- أظن أن هذا أفضل لي.. لا أريد قلقا زائدا .. يكفيني قلقي عليك.
ضم رأسها إليه وقبل شعرها.
- هل اغلق الجهاز ؟
- أجل .. اغلقه ولنذهب إلى أم أمل.
*****
توقفت لمى أمام محل لبيع اللحوم . ابتاع محمود ذبيحة كاملة ، جعل اللحام يقطعها ويعمل منها جزءا مفروما وجزءا شرحات وجزءا شقف ، وآخر بعظمه للطبخ .. كما ابتاع سبعة فراريج ، وكمية كبيرة من الأسماك.. وجعل اللحام يقطع الفروج أيضا ويضع كل فروج في كيس وحده ..
وضع اللحام أكياس اللحوم في صندوق السيارة . انطلقا .
- إلى أين الآن ؟ هتفت لمى .
- هناك بقالة أمامنا توقفي عندها .
- قد لا يتسع براد العائلة لكل هذا .
- يتسع ! ألم نبتع لهم برادا كبيرا ؟
توقفت لمى أمام البقالة .
ابتاع محمود كمية كبيرة من الخضاروالفواكه والحبوب والسكر والشاي والبن والجميد والصابون والمنظفات .. وضع عامل في البقالة بعض المشتريات في صندوق السيارة ليمتلئ . أشارت له لمى أن يضع باقي المشتريات في المقعد الأخير.
انطلقا في اتجاه بيت أم أمل . وصلا . أوقفت لمى السيارة إلى جانب الرصيف المحاذي للدرج النازل إلى البيت .
أخذ محمود بعض الأكياس وترك لمى عند السيارة .. نزل قرابة ستين مترا إلى أن بلغ البيت . قرع الجرس. فتحت أم أمل التي كانت حريصة على أن تفتح لمحمود لتستقبله بنفسها.
- يا ميت ألف أهلا وسهلا.. حلت علينا البركة . هات عنك هات . ليش بتعذب حالك ؟
- غلبتكم راحة لي أم أمل.
وضعت الأكياس خلف الباب ثم شرعت في مصافحة محمود معانقة ، فيما كانت أمل وسعاد وعلاء يهرعون لاستقباله. تصافحوا بتبادل القبل .. كانوا بالنسبة لمحمود مثل أولاده، حتى أن الأصغر علاء ود لو يخاطبه بابا!
- لمى معي عند السيارة وهناك أشياء أخرى. هتف محمود.
- خليك انته الاولاد بطلعوا..
وشرعت الفتاتان والولد في الصعود حيث تقف لمى عند السيارة .
جلس محمود في الصالون المتواضع . وراح يتأمل الصور، فيما أم أمل ترحب من جديد به:
- يا ألف أهلا وسهلا، الله والنبي والمسيح وموسى وإبراهيم الخليل يحموك من أولاد الحرام . ويسهلوا أمورك ، ويفتحوا لك في كل ضيق طريق، ويعموا عيون العدا عنك .
أم أمل سيدة مسلمة تجاوزت الخمسين من عمرها بقليل.. غير أنها ليست متعصبة ، مع أنها لم تحصل من التعليم إلا المرحلة الابتدائية ، ولا تفرق بين الأديان السماوية ، والأديان الأخرى، وتردد حين يسألها أحد عن السر في احترامها للأديان " كل واحد على دينه ألله يعينه " وقد اعتبرت محمود أبو الجدايل خلال متابعتها لما يكتب على الفيس بوك ، أكبر المؤمنين على الاطلاق، وخاصة بعد أن تعرفت على نبله وكرمه وتهذيب أخلاقه وعمق إيمانه، مع أنه لا يصلي كما تفعل هي أحيانا! ولا يصوم كما تفعل دائما، عدا أنه يحب فتاة وربما يقيم معها علاقة غير شرعية، ومع ذلك لم يتغير شيء من رؤيتها وفهمها له. صارت مقالاته زادا معرفياً لها، وصارت تنظر إليه كأب روحي. وحين سألته ذات يوم إذا كان راضيا عن طريقتها في الايمان ، راح يستغفر الله ويهتف " من أنا أمام الخالق العظيم لأرضى عنك، المهم رضاه هو وليس رضاي .. ابق على ما أنت عليه من ايمان ، طالما يهذب سلوكك ويريح نفسك ، فهذا يرضيني أيضا "
تعلق في صالون بيتها صورة للمسيح والعذراء إلى جانبها صورة لمحمود ولمى، إضافة إلى صور للعائلة بينها صورة بفستان الزفاف تجمعها مع الفقيد أبوأمل يوم العرس. وثمة ثلاث لوحات لمحمود أهداها للعائلة، وصور لمناظر طبيعية .
لا حظ محمود أنها علقت صورته مع لمى.
- ما هذا يا أم أمل ؟ تعلقين صورتنا أنا ولمى ؟
- ومن غيرك وغير لمى يستحق أن أعلق صوره !
كان الأولاد ولمى قد فرغوا من احضار المشتريات وإدخالها إلى المطبخ .. صافحت لمى أم أمل بحرارة ..
- انظري أم أمل علقت صورتنا. هتف محمود .
- هل ضممتينا إلى العائلة أم أمل؟
- انتو رب عيلتنا لمى . ولولاكم لكنا في أسوأ حال بعد رحيل أبو أمل . شو تشربوا؟
- ممكن قهوة سادا، مع أننا شربنا في البيت قبل قدومنا . هتف محمود.
- وأنا أيضا . هتفت لمى.
دخلت أم أمل إلى المطبخ . لم تتفاجأ بما أحضره محمود لأنها ليست المرة الأولى التي يحضر فيها هذا الكم من المشتريات . شرعت في غسل بعض الفواكه لوضع طبق منها على المائدة أمام محمود ولمى، فيما شرعت أمل في اعداد القهوة .
وهم يتناولون القهوة راح محمود يستفسر عن عمل أم أمل ودراسة البنتين والولد:
- ايه أم أمل طمنيني عن شغلك ؟
- والله يا استاذ الشغل شحيح ، الأجيال الجديدة من الصبايا يفضلن الألبسة الجاهزة على التفصيل. عملي شبه متوقف على بعض الأمهات اللواتي يفضلن الأزياء الشعبية، عرضت على معمل أن أخيط له بعض الملابس فوافق إنما بأجر زهيد.
- الله يعطيك العافية . طالما أنتم بخير كل شيء يهون.
وراح يطمئن على دراسة أمل وسعاد . أمل سنة ثالثة أدب انكليزي. سعاد سنة أولى حقوق. علاء صف أول ثانوي. كانوا جميعا موفقين في دراستهم.
أخرج محمود دفتر شيكات من جيبه وكتب شيكا بألفي دينار لأم أمل . ثم أخرج من جيب سترته بضع أوراق نقدية أعطى منها مائة دينار لكل بنت وللولد.
- أبدت أم أمل بعض التمنع في أخذ الشك متذرعة بالإكتفاء ، حتى لا تثقل على محمود، غير أنها أخذته أخيرا وراحت تدعو لمحمود بالرزق وطول العمر. أمل وسعاد وعلاء قبّلوا محمود شاكرين ، ما دفع لمى إلى المزاح قائلة :
- وأنا أين قُبلي ؟
انهالوا عليها تقبيلا. أخرجت من محفظتها بعض النقود وأعطتهم كما أعطاهم محمود.
وهي تقول :
- المهم أن تعتنوا بدراستكم ولا تغضبوا أمكم . النقود تروح وتجيئ ، ولا تتوانوا في الاتصال بنا كلما دعت الحاجة.
مكث محمود ولمى يتسامرون معهم لقرابة ساعة ونصف، ثم استأذنا بالانصراف ، راحت أم أمل تحلف عليهم أن لا يذهبا قبل العشاء معهم ، غير أن محمود شكرها متذرعا بأنه اعتاد أن يتناول عشاءه بعد منتصف الليل.
*****

(5) الخلق الحيوي مسودة لوجود افتراضي!
مرت بضعة أيام لم يتلق فيها محمود أي تهديدات أو محاولات ارهابية . شكر إلهه على الأمر، معتقدا أن مهدديه ربما اتفقوا على اعطائه مهلة للتوبة ، أو أنهم شعروا باستنفار القوى الأمنية للبحث عنهم ، فاختبأوا إلى أن يتوقف الأمن عن البحث. وبدت لمى مرتاحة بعض الشيء لتوقف التهديدات .. وحان موعد تسجيل حلقة من الحوار لقناة أفق المعرفة . اتفق مع أسيل على اللقاء.
بدت أسيل مشرقة ومتوهجة الوجه وكأن سعادة ما تغمرها. رحبت بمحمود أشد ترحيب وعانقته مقبّلة. شرعا في اجراء الحوار على الفور. هتفت أسيل :
- استاذ محمود ، كان محور حديثنا في الحلقة الماضية هو الوجود ومن أين جاء، بغض النظر عن التفرعات الناتجة عن إجاباتكم التي سنتطرق إليها فيما بعد، ونظرأ لأن هذه المسألة هي ما يقوم ويرتكز عليها حوارنا كله ، ولصعوبة فهمها على المشاهد ، فإنني آمل منك أن تعيد قدر الإمكان تلخيصها للمشاهدين ، حتى يحصلوا على فهم مقبول لها، ويتمكنوا من متابعتنا بيسر في اللقاءات القادمة.
- حسناً .. سأحاول :
- الوجود جاء من عقل طاقوي عظيم غير طقمادي ، أي طاقة لا تنطبق عليها شروط ومواصفات الطاقة والمادة ، يتصف بالوعي والحكمة ! اعتبره العقل البشري فيما بعد ، أي بعد اختراع اللغات، من زمن قريب جدا مقارنة بعمر الوجود، إلهاً، أو ربّاً، أو خالقا، أو محركاً أول، وأطلق عليه أسماء أخرى كثيرة حسب الأمم : الأب ، الأم الكونية ، عشتار، رع ، إيل ، مردوخ، براهمان . العلة الاولى . قوة الحياة . المطلق الأزلي . الحق . فاهيغورو.
- عفوا للمقاطعة . ما هو فاهيغورو هذا ، لم أسمع به من قبل ؟
- هذا أحد أسماء الإله لدى الطائفة السيخية في الهند! وثمة أسماء أخرى كثيرة أطلقتها الأمم عبر العصور على القائم بالخلق أو القائمين به من آلهة مختلفة. يمكن اطلاق "الهيولى البدئية" على الحال الاولى له حسب فهمي . كان كامنا لمليارات السنين في اللا أين، أو ما يمكن اعتباره عدما، مع أنه ليس عدما. كان يفكر بدأب في أن يوجد وجودا لوجوده، وحين توصل إلى تصورما ، شرع في إظهاره من هيولى التصور إلى العلن، وما الانفجارالكبير الكوني إن صحت نظريته ، إلا بدء انبثاق وانبعاث وتوهج هذا العقل، والشروع في رسم الخريطة الكونية الأولية، وإيجاد الزمان والمكان، وبث القوى الكونية الأربع الناظمة لوجوده : القوة النووية الصغرى، والقوة النووية الكبرى، و قوة الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية ، إضافة إلى طاقتة الخالقة ، وطاقة عقله الكونية . لتظل قواه هذه بكليتها عناصر الخلق ومكوناته الأساسية إلى الأبد ، التي دونها لا يمكن أن يكون هناك كون وخلق ووجود بالمطلق .. من هذا العقل العظيم ، وهائل الوجود، ومن كل ما انبثق عنه، جاء كل شيء في الوجود. وكل وجود في الوجود، من أصغر جسيم دون ذري، إلى أكبر مجرة، لا ينفصل عن وجوده ، بل جزء أساسي من وجوده !! والوعي والحكمة اللذان يتصف بهما مبثوثان في الخلق، من أصغرجسيم إلى أكبر مجرة ، وطاقته الخالقة تسري في الكون والكائنات كذلك، من أصغر جسيم إلى أكبر مجرة . فليس في الوجود إلا هو، وهو وحده ، وما كل وجود إلا منه وله ، وما كل ظهورأو تمظهرلكائن ما إلا له ، دون أن يكون الكائن هو بكليته ، بل جزء يسيرجدا جدا لا يكاد يذكر من وجوده الكلي. يمكن القول أن الوجود كله في داخله ولا شيء على الاطلاق خارجه!
- حتى الفضاء ؟
- لم يكن هناك فضاء قبل تجليه ، فالفضاء جزء من وجوده.
- والسماوات ؟
- أي سماوات هل تحدثت أنا عن سماوات ؟ لماذا تريدين أن تدخليني في مفاهيم معتقدات أخرى ، هناك فضاء غير محدود يتمدد باستمرار وليس سماوات. هل علي أن أعيدك إلى موضوعنا الذي هو فلسفتي ، في كل مرة تخرجين فيها عنه ؟على أية حال قد أجيبك لا حقا عن رأيي في المعتقدات والفلسفات والأديان كلها .
- أليس رأيك في المعتقدات الأخرى هو جزء من فلسفتك ؟
- صحيح . لكن ما يهمنا الآن هو فلسفتي في الوجود ،وليس رأيي في الفلسفات الأخرى.
- أليس في مقدورك أن تقول رأيك فيها باختصار من الآن ؟
- إنها اجتهادات العقل البشري على مرالأزمان لمعرفة الوجود والغاية منه . هذا جزء من الاجابة وليس الإجابة كلها . وسنترك التفاصيل إلى حينها .
- التصور الذي طرحته للوجود تحتاج كل فقرة منه إلى عشرات الاسئلة .
- وأنا هنا لأجيب . فهذه فلسفتي ويهمني أن أجيب عن كل تساؤل حولها .
- هل يمكن اعتبار الوجود عقلا حسب ما قدمته حضرتك ؟
- هو نتاج عقل هائل كما أسلفت ، لكن مجازا يمكن اعتباره كذلك! لي قول حول الانسان مثلا أرى أنه عقل ، ودون عقل يغدو أجوف كالطبل ولا معنى لوجوده! والوجود دون عقل لا معنى لوجوده ، فما ينظم وجوده ويطوره هو عقل كوني كلّي.
- وهل يمكن اعتبار هذا العقل إلهاً؟
- ممكن . وممكن أن لا تفيه المفردة حقه ، كأن يكون أكبر من إله ، أو أن يكون الطبيعة كونه مجسدا فيها ، أو أن يكون العقل المجرد . أنا أفضل مفردة خالق ، رغم أنها مفردة كغيرها من المفردات اللغوية التي أوجدها العقل البشري بعد اختراع اللغات من زمن قريب جدا من عمر الوجود البالغ أربعة عشر مليارعام . وقبل ذلك لا يعرف أحد ماذا كان الخالق يطلق على نفسه ! هذا إذا كان يرى أن وجوده في حاجة إلى اطلاق اسم أو صفة عليه . مفردات مثل الله أو الرب أو الطبيعة قد تشير إلى فهم ما بعينه ، لذلك أفضل مفردة خالق لشموليتها. يمكن التطرق لهذه المسائل حين نشرع في الحديث حول فلسفة الألوهة والخلق . فكل ما يجري ليس خارج الذات العقلانية الخالقة مهما كانت !
- ألسنا الآن في التحدث حولها ؟
- نحن في جانب منها يتعلق بمفهوم الخالق .
- لنعد إلى وجود العقل الذي كان في (هيولى بدئية) حسب تعبيرك قبل الانبثاق أوالتوهج أو التجلي أو الانبعاث أو الانفجار، من أوجد هذا العقل ؟
- هو موجود بذاته ولذاته منذ الأزل دون موجد له ، وما زال يوجد ذاته بذاته لذاته دون موجد له .
- هل يمكننا في هذه الحال أن نقول : في البدء كان العقل بدلا من القول : في البدء كان الكلمة ، حسب الكتاب المقدس!
- ها أنت تعودين لتزجي بالمعتقدات في حوارنا. لكتّاب الكتاب المقدس ولغيرهم الحق في رؤية الوجود بمنظورعقل زمنهم، كما أرى أنا بمنظورعقل زمني، نعم في البدء كان العقل !
- لكنه منظور بدائي لدى كتاب المعتقدات القديمة .
- لذلك تجاوزه العقل .
- تقصد العقل العلماني أكيد ، فالعقل البشري ما يزال يرزح تحت نير معتقدات مر عليها آلاف السنين .
- صحيح.
- ومنذ متى كان هذا البدء؟
- بدء غير محدود على الاطلاق ؟
- لماذا؟
- لأنه ليس في استطاعتنا تحديد زمن الوجود البدئي للخالق/ العقل، لعدم وجود زمكان حينذاك ، فوجوده لم يكن مرتبطا بزمن محدد ، بل بزمن مطلق إذا جاز لنا أن نوظف مفردة زمن . فالزمن بالنسبة لنا بدأ بالانفجارالكبير، هذا إذا صحت نظرية الانفجار . فنحن نتعامل معها كنظرية لم يجر دحضها علميا أو منطقيا حتى يومنا ، بينما وجود خالق أو قائم بالخلق كان قائما قبل ذلك ، مع أن تعبير (قبل) أيضا هو تعبير خطأ ، لارتباطه بالانفجارالكوني ، فلا أحد يعرف ما هو ( القبل ) قبل الانفجارالكوني لعدم وجود قبل وحتى بعد أيضا ، طالما أن الانفجار لم يحدث.
- هل في الامكان القول أن هذا الوجود الكامن حسب تعبيرك أيضا ، كان عقلاً محضاً ؟
- أجل إنه كذلك ؟ عقل محض غير معزول عن ماهيته ( اللاحقة ) التي لا يتم تمظهر وجوده إلا بوجودها ؟
- تقصد بماهيته جوهره ؟
- أجل ! مع أنه يمكننا أن نميز بينهما مجازاً إذا ما أردنا أن نعرّف جوهر العقل بالحكمة والوعي بينما ماهيته بالطقمادية المجسد فيها ، حسب تعبيري، التي نجمت فيما بعد عن هذا العقل !
- الطقمادية ماهية عقل الخالق ؟
- نعم !
- هل لك أن توضح لي مفهوم الطقمادية ، خاصة وأن مفهوم المادة ما يزال ملتبسا عند الناس؟
- صحيح. حسب معادلة آينشتاين زالت الفوارق بين المادة والطاقة، كما هي الحال مع الزمكان الذي هو دمج لمفهومي الزمان والمكان . ولهذا ينبغي أن ننظر إليهما ككيان واحد وليس ككيانين ، ولا يمكن عزل أحدهما عن الآخر إلا مجازا .. فليس هناك مادة إلا وينجم عنها طاقة وليس هناك طاقة إلا وينجم عنها مادة ، فكل ما نلمسه ونراه ليس في حقيقته إلا طاقة متحولة حتى لو بدا لنا جمادا، لا حياة فيه . ولو أردنا أن نطبق هذا النص النظري على العقل كطاقة ، أي كقدرة غير محدودة بدقّة، لقلنا: ليس هناك عقل إلا وينجم عنه خلق مادي ما، وليس هناك خلق مادي - خاصة إذا ما كان حياً- إلا وينجم عنه عقل ما . ويمكن القول إنّ المادة تنطوي على العقل بإنتاجها له ، وأن العقل ينطوي على المادة بإدراكه لها . ويمكن أن ينطبق الكلام على الوعي كنتاج للعقل.
- يقال أن الحيوانات دون عقل !
- غير صحيح على الاطلاق، ليس هناك كائن حي دون عقل يعي به، حتى أدق الكائنات وأصغرها حجما. وليس بالضرورة أن يكون وعيها أو عقلها ناتجاً عن دماغ ، فالعقل الخالق الذي أنتج ما لا يحصى من أشكال الوجود والحيوات والأدمغة ليس نتاج دماغ !
- بما في ذلك النباتات ؟- أجل !
- ماذا لو طبقنا هذا النص النظري على الانسان ؟
- ليس هناك انسان إلا وينجم عنه عقل ، وليس هناك عقل انساني إلا وينجم عنه ابداع وعمل مادي! وإذا ما أردنا أن نطبق النص على الدماغ لقلنا ، ليس هناك دماغ إلا وينجم عنه عقل ، وليس هناك عقل إلا وينجم عنه فعل كفكرأو مادة ما. وإذا كان العقل ينجم عن أعضاء أخرى مختلفة في جسم الانسان ، كالقلب والأعصاب، وهذا احتمال ضعيف رفضه أبقراط والعديد من الفلاسفة. فيمكن القول أن العقل ينجم عنها أيضا مع الدماغ.. وهذا ما نعنيه بتغير الحال بين المادة والطاقة رغم كونهما كيانا واحدا . وإن أعدنا تأكيد المقولة النظرية على الدماغ مثلا، لقلنا، الدماغ ينطوي على العقل بإنتاجه له ، والعقل ينطوي على الدماغ بإدراكه له .
- هل في هذه الحال يمكننا أن نستنتج أن الانسان عقل ؟
- أكيد كما أسلفت .. الانسان عقل والوجود عقل والخالق عقل ودون العقل لا معنى لأي وجود مهما كان . العقل/ الخالق، أوالعقل الطاقوي، أو طاقة الخلق، أو القائم بالخلق، أو الخالق، أو الله مجازا : يسري في الكون من أعلاه إلى أدناه ، من أكبر مجرة في الكون إلى أصغر خلية في أجسادنا ، وإن شئت في أصغر الكترون أو ما شابه !
- يا إلهي عقل لدى الاكترون ؟
- يا عزيزتي هذا الإلكترون حير أكبر علماء الفيزياء ، فلم يستطع أحد معرفة موقعه وزمنه وعزمه وطاقته ، فهو أشبه بساحر شيطاني كلما تم توقع وجوده في مكان ما قفز في اللحظة ذاتها إلى مكان آخر ليبدو وكأنه موجود في كل مكان وغير موجود في الوقت نفسه.
- وماذا عن الوعي ؟
- الوعي هو ما نكتسبه بالعقل عبرالحواس والعمل والتجربة والتأمل والبحث ، ليغدو جزءا من تكوين العقل نفسه ، فدون عقل لا يمكننا أن نكتسب معرفة مثلا ، فالمعرفة ضرورة لتنمية الوعي . وهما ( العقل / الوعي) متلازمان كالمادة والطاقة . وإذا كان ثمة مشكلة في العقل البشري، فهي تكمن في وعيه الذي يتوقف لمئات القرون وربما آلاف الأعوام على مفاهيم محددة ولا يسعى إلى تجاوزها ، لاعتقاده أنها حقائق مطلقة .
- وماذا عن مفهوم حضرتك هل تعتبره حقائق مطلقة ؟
- أبدا .. هو اجتهاد فكري كغيره من اجتهادات العقل البشري عبر التاريخ لمعرفة الوجود والغاية منه . الحقيقة المطلقة لم يعرفها العقل البشري بعد ، وربما لا يعرفها حتى الخالق نفسه ، وإن كان هو الأقدرعلى معرفتها ، هذا إذا كان هناك حقيقة مطلقة ، ليس بعدها حقيقة . فثمة احتمال كبير أن مفهوم الحقيقة المطلقة لم يوجد بعد . فالحقيقة المطلقة في ما يتعلق بمفهومي ، يفترض أن تكون معرفة الخالق بمنطق علمي لا يقبل الجدل على الاطلاق، والغاية من الخلق، وانتهاء الغاية التي أرادها الخالق من الخلق، وهي بناء الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال .. وفيما يتعلق باجتهادي وتميزه عن الاجتهادات الأخرى المثالية وغير المثالية كونه يستند إلى العلم والمنطق بقدر مقبول ، استنادا إلى ثقافة محدودة أيضا حصلت عليها بجهدي ومثابرتي. واجتهادي لا يخلو من أفكار قد تكون مثالية في نظرآخرين وحتى في نظري، لأنني لا أتصور وجوداً بدون خالق، حتى لو كان الخالق هو الطبيعة نفسها دون وجود طاقة خالقة فيها .
- اذن أنت تعتبر مفهومك اجتهادا وليس حقائق مطلقة . وآمل من المشاهدين أن يتنبهوا للأمر ، فالأستاذ محمود يجتهد قدرالإمكان استنادا إلى المنطق وما توصلت إليه العلوم ، ولا يعتبر اجتهاده حقائق مطلقة.
- صحيح . أشكرك ، فأنا لست مشعوذا !
- لكن ما نسبة التأمل في هذا الفكر إذا جاز لنا أن نعطيه نسبة .
- التأمل يغتني بالثقافة ومختلف صنوف المعرفة ، ودون ذلك يكون التأمل والتخيل فقيرين في محتواهما.. لذلك يصعب تحديد نسبة لتأمل مجرد معزول عن ثقافة ومعرفة . فالتأمل العقلاني يستند إليهما. لكن يمكن القول إن تأملاتي الشخصية تتعلق بما قبل الانفجار الكبير، كون العلم وقوانين الفيزياء لم تعرفا شيئا قبله ، فالقول أن الوجود جاء من عقل طاقوي، هومن بنات أفكاري ، و كذلك معظم ما يتعلق بوجود خالق وعملية خلق وغاية من الخلق وموت وما بعده ، كل هذا من تأملاتي ويشكل نسبة كبيرة من فكري ، وإن أردنا أن نعطيه نسبة يمكن أن تزيد على سبعين في المائة .
- لكن إلى أي حد تعتقد أن فكرك هذا يمكن أن يتقبله الناس؟
- الناس العقلانيون فقط الذين يؤمنون بدور العقل في الوجود وفي الحياة ، هم من يتقبلون هذا الفكر، أما النائمون على أساطير المعتقدات ، أو حتى الذين يغلقون عقولهم على أفكار مناقضة ، لن يتقبلوا فكري.
- وظفت عبارات مختلفة في الوجود البدئي ، كالعقل الطاقوي أو الطاقة العقلانية ، أو العقل ، أو الهيولى البدئية ، فهل ثمة اختلاف في هذه التعابير أم أن لها كلها مدلول واحد .
- أجل كلها لها مدلول واحد يشير إلى الوجود البدئي للقائم بالخلق.
- البدئي وليس البدائي أي بمعنى البداية التي جاء منها الخلق .
- أجل .
- ماذا لو أردت تعريف الهيولى البدئية ، ماذا تقول ؟
- الهيولى البدئية ، هي الطاقة العقلانية أو العقل الطاقوي في حالته الكامنة التي جاء منها الوجود الكوني.
- ألم يكن لها حجم ؟
- هي في الغالب كطاقة غير طقمادية خارج الحجم والكتلة، وإذا كان ثمة حجم وكتلة لها، فلا تعرف إلا من قبلها نفسها . ثمة من يرى من علماء الفيزياء أنها دون كتلة. وعلوم الفيزياء لا تشير إلى ما قبل الانفجار بل إلى ما بعد حدوثه، لكنها تشير قبل حدوثه إلى كثافة شديدة ودرجات حرارة تفوق أي تصور مهما كان، إلا تصور موجدها. ولك أن تتصوري مدى ارتفاع هذه الحرارة الطاقوية حين تعرفين أن الانفجار الكوني ما يزال قائما بتمدد الكون حتى يومنا .
- ألن يتوقف ؟
- حسب تصوري لن يتوقف إلا بانتهاء الغاية التي أرادها الخالق والتي ليس بعدها غاية على الاطلاق . يمكن القول أنها بلوغ الكمال المطلق ولو نسبيا .
- ثمة من يرون أن الوجود قد يعود إلى الانكماش !
- أنا لا أتفق مع هذا الرأي ، فمن تعب مليارات الأعوام ليوجد وجود له ، سيعمل على ابقاء هذا الوجود ما في استطاعته ذلك .
- دعنا نعود إلى البدء .. متى حدث الإنبعاث أو (الانفجارالكبير) من حيث علاقته بالخالق؟
- حدث بعد اكتمال التصور البدئي في عقل الخالق لعملية الايجاد والخلق. ويمكن القول أن تفكير وتصور الخالق للوجود قد بلغ ذروته ولو بالشكل الأولي للكون ، فكان لا بد من الانفجار، الذي هو انبثاق وتوهج لطاقة عقل الخالق نفسه غير المحدودة كما أسلفنا، وبداية عملية تجسد الخالق لوجوده الظاهري وتحقيق ذاته الأولية، بظهوره من الكمون إلى الوجود المرئي غير المحدود.
- هل نفهم من ذلك أن الانفجار الكبير كان انفجارا لعقل الخالق نفسه .
- نعم ! لكن ليس بالمعنى التدميري الذي توحي به مفردة انفجار، إنه انبثاق وانبعاث وتوهج لعملية الخلق كي تظهر إلى العلن .
- وما هو التصور البدئي ؟
- التصور البدئي هو تصور الكون بنجومه وكواكبه ومجراته.
- وماذا عن ما بعد النجوم والكواكب كخلق حياة مثلا ؟
- كان ضمن التصور لكنه لم يكن مجلوا في خيال الخالق، كما هي الحال مع النجوم والكواكب ، التي كانت مجلوة بقدر ما .
- هل تقصد أن تصور حياة كان غير متضح في الخيال البدئي الكامن .
- نعم، لذلك تأخر بدء الحياة ثلاثة عشر مليار عام عن بدء خلق الكواكب والنجوم والمجرات !

- ألا تعني هذه الأزمان المديدة جدا، أن عملية الخلق كانت بطيئة جداً ؟
- وربما كانت سريعة جدا إذا ما قورنت بحجم الكون غير المحدود .
- وهل هذا يعني أن العقل / الخالق ، خلق الوجود على مراحل مديدة؟
- أكيد .
- وأنه كان يطور عقله وتصوره في كل مرحلة ؟
- أجل كان التصور وخاصة في المراحل اللاحقة غير مكتمل ، مجرد تصور عام . فإذا كان الخالق يفكر في خلق كائن راق مثلا، لم يكن تصور شكل هذا الكائن مكتملا في خياله . لذلك نرى كائنات حية كثيرة خلقت قبل خلق الانسان، انقرض معظمها. وثمة مخلوقات في زمننا تنقرض وتنشأ مخلوقات لا ضرورة لها ، أو مخلوقات ضارة.
- وماذا تقصد بقولك : وبداية تجسد الخالق لوجوده الظاهري وتحقيق ذاته الأولية؟
- الذات الأولية هي الشكل الأولي للوجود ما بعد الانبعاث . إنها رؤية الله (إن شئت ) لنفسه، وتحقيق لذاته .
- وماذا عن الذات الكلية الكونية.
- هي آخر ما بلغه العقل الخالق من تجل وتجسد في الوجود.
- تحدثت عن طاقة خالقة إضافة إلى عقل كوني خالق ، فهل هما كيان واحد يسري في الوجود أم أنهما كيانان؟
- المسألة تشبه وحدة الطاقة/المادة، فالعقل الكوني الخالق الساري في الوجود والمجسد فيه، يحتوي على طاقة لديها القدرة على الخلق ، وهذه القدرة على الخلق لا تتم دون توظيف العقل الكوني الساري فيها. فهما في هذه الحال كيان واحد . لذلك قلت " " الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق العقلانية الكلية السارية في الكون" فطاقة الخلق هنا هي العقل الكوني الخالق"
- هل هذه الفلسفة هي رؤيتك لمذهب وحدة الوجود الذي أسسه الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي؟
- أجل . فلسفتي تستند إلى مذهب وحدة الوجود وإن اختلفت معها في مسائل كثيرة جدا وأساسية. فالوجود واحد وليس وجودين : خالق ومخلوق .أو خالق منزه وتجليه في الوجود كما هو عند ابن عربي. إنه وجود للخالق وحده ، فنحن جئنا منه ونعود إليه ، وهذه الفكرة موجودة في الفكر المسيحي والفكرالاسلامي بقدر ما " إنا لله وإنا إليه راجعون " المؤسف أن الناس لا يتذكرونها إلا عند موت أحدهم، ويفهمونها بمنطق مثالي مختلف ، كالعودة إلى جنة وجحيم .. ليس هناك وجود خارج الذات الخالقة أوالإلهية إن شئت . ورغم أن فلسفتي تنطلق من مذهب وحدة الوجود إلا أنها ترى الخالق والخلق والغاية من الخلق بمنظور مختلف تماما ، لا يعير كثيراهتمام لما جاءت به الشرائع كلها وحتى الفلسفات وأفكارالمتصوفة أيضا، ولا يتفق اطلاقا مع معظمها .
- أحب أن أستفسر عن فهم ابن عربي، كيف نميز بين تنزيه الذات الإلهية عن الوجود والتجلي فيه في الوقت نفسه .
- المسألة معقدة حسب فهم ابن عربي وكذلك حسب فهمي . فحسب ابن عربي، التجلي الإلهي ليس الله، بل انعكاس ذاته في الوجود ، أي أن الوجود هو مرآة للذات الإلهية يرى نفسه فيها ، وليس الله نفسه ، وما نراه نحن هو الانعكاس في المرآه وليس الذات الإلهية، التي هي الوجود الحقيقي وليس ما ينعكس في المرآه . وفي هذه الحال يكون وجودنا افتراضيا ، أو وهماً!
- إنها فعلا مسألة معقدة جداً، لكن كيف ولماذا تكون المسألة معقدة عندك أيضا؟
- كنت أفضل أن يبقى طرق هذه المسائل إلى أن يتسنى لنا الحديث عن فلسفة الخلق. في فلسفتي: وجودنا - دون وجود الكون - هو تصور مبدئي لعملية الخلق الحيوي، أراد الخالق لنا أن نراه حقيقة ، لنقوم بدورنا في عملية الخلق . أي أننا مسودة لوجود فيزيائي متخيل، وأن عملية الخلق الحقيقية لم تبدأ بعد ! فكل ما يجري في الوجود الحيوي هو مسودات وتجارب متلاحقة ومتطورة على مراحل زمنية مديدة للوصول إلى الأفضل والأجمل والأرقى ، حينها فقط ستتم عملية الخلق المنشودة التي يريدها الخالق .
- يا إلهي! أدخلتنا في كم هائل من الأسئلة والمتاهات .. وأشعر أن المشاهدين يتمنون الآن أن أستبق الأسئلة التمهيدية لعملية الخلق ، لأسألك عما هو الأجمل والأرقى ، فما هو ؟
- إنه أرقى ما يريد الخالق أن يرى نفسه فيه ، لقد تطرقنا إلى ذلك ، حين تحدثنا عن غايات الخالق من الخلق ، ليس من حيث الشكل بل من حيث المضمون أيضا ، الذي يرى الخالق فيه حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . ودون ذلك سيكون ( مجازا) فشلا للخالق والخلق أيضا !
- ولماذا مجازا؟
- مجازا لأننا لسنا أمام خالق ومخلوق ، بل خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه!
- هل يمكن القول أننا ما نزال في مرحلة الفشل ، أو في المسودة الأقرب إلى البدائية !
- أجل نحن كذلك .
- وهذا الفشل هو فشل للخالق نفسه ؟
- مجازا نعم ! لكن لو نظرنا لعملية الخلق من زاوية مختلفة، يمكننا القول أن وضع العالم اليوم هو ما توصلت إليه عملية الخلق المتطورة حتى اليوم ، لأن الخالق ليس قادرا على عمل كل شيء بسرعة مطلقة، وعلى تحقيق كل ما يريد أن يصل إليه . ومن زواية أخرى ، أن الانسان الذي تجلى فيه الخالق ليساعده في تطوير وتسريع عملية الخلق لتبلغ المدى الأقرب إلى الكمال ، ضل طريقه ولم يعرف الغاية من وجوده ، ولم يسع إلى تحقيق قيم انسانية خيرانية جمالية حضارية، إلا بحدود ضيقة جدا جدا !
- ولهذا قلت حضرتك أن عملية الخلق ما تزال تحبو في بداياتها.
- نعم صحيح . تصوري مثلا أنه رغم مرور أربعة عشر مليار عام على الانفجار الكوني ، لم يتم خلق الانسان الحديث إلا منذ قرابة مائتي ألف عام . وبعد أربعة مليارات ونصف من خلق كوكب الأرض.
- ماذا سنقول في هذه الحال عن معتقدات تتحدث عن عملية خلق تمت في ستة أيام أو في زمن غير محدد ، وغير ذلك كثير مما يرد في معتقدات وفلسفات وديانات وأساطير بشرية ، وأن عملية الخلق انتهت منذ زمن !؟
- لماذا هذا الاصرار على الزج بالفكر البشري بمختلف مناهجه ورؤاه في حوارنا ؟
- لمجرد الإحاطة بعملية الخلق حسب مصادر ومناهج ورؤى مختلفة !
- المسألة تتعلق باجتهادات العقل البشري حسب ثقافة زمنه وحسب معرفة العقل بثقافة ذلك العصر .. لا نتوقع مثلا في زمننا الحالي أن يخرج علينا انسان يدعي النبوّة ، أو يدعي الألوهة، لأن أحداً لن يصدقه. لكن هذه المعتقدات ساهمت إلى حد كبير في اغناء ثقافتنا عن الماضي .. من هنا ينبغي احترامها،إنما دون تقديسها، بل ونقدها. أنا شخصيا أحتفظ في مكتبتي بكتب دينية مختلفة، منها القرآن والكتاب المقدس ، وكذلك نصوص فلسفية وعلمية .. وأعلق مجسما للمسيح مصلوبا على جدار صالون بيتي ، كذلك أضع تمثالا لبوذا .. أحترم هذه المعتقدات والفلسفات لأنها أنارت لنا الطريق بشكل أو آخر، واجتهدت لتقدم لنا ما استطاعت حسب ثقافة عصرها ..
ثقافة العصر التي أنتهجها والتي يمكن تقبلها هي التي ترى الألوهة ( إن شئت ) في كل شيء في الوجود . في الفضاء والكواكب والنجوم والبحار والأنهار والجبال والسهول والانسان والحيوان والنبات والجماد والماء والهواء والتراب .. إلى آخر كائنات ومكونات الوجود .. مأساتنا أن البشرية كلها لم تدرك ذلك بعد أو لم تقتنع به .. وأن الانسان لن يتقدم ما لم يدرك أن الألوهة تكمن فيه ، وتسري بطاقتها في جسده ، وأنه ينبغي عليه أن يكون على قدر الألوهة فيه ، وأنه ينبغي عليه العمل لنهضة وبناء الحضارة الانسانية ، بذلك يحقق وجوده الألوهي كمشارك في عملية الخلق . الخالق لن يبني مدنا و ينصب جسورا ويقيم سدودا ولن يؤسس لحضارة راقية ما لم نبادر نحن إلى ذلك كجزء من منظومته الإلهية الخالقة ، التي جئنا منها لتتجسد بنا ونتجسد بها .
- للتوضيح . نفهم من ذلك أن مادة جسد الانسان والطاقة السارية فيه والناجمة عنه هي جزء من مادة وطاقة الخالق نفسه . سنترك الإجابة للحلقة القادمة .. شكرا أستاذ محمود .
*******

6) غرام يحاكي الأسطورة في كهف لوط !
مر على رحيل أبي منتحرا في البحر الميت قرابة عام ونصف . قلت لمحمود " حبيبي اشتقت لأبي" محمود لا يرفض لي طلبا . وافق وهو يدرك تماما أن أبي لم يكن أبا فحسب ، بل أب وعشيق ، لكن ربما تخوّف قليلا من أنه لم يكن قادرا على القيام بالدور الذي كان يقوم به أبي، عواطف الأب مختلطة بوله العشق ! فقد أطرق للحظة قبل أن يعلن موافقته . هو في الحقيقة يدرك هذه الحال الشاذة ويحاول كل جهده لأن يكون لي أبا وعشيقا .. أعيش معه منذ أكثر من عام ، لا أفارقه إلا إذا شعرت أنه في حاجة إلى الوحدة والتأمل ليكتب .. أتركه ليوم أو يومين وأحيانا ثلاثة أيام ، أي إلى أن يهاتفني قائلا " حبيبتي اشتقت لك " في هذه الأيام الصعبة التي ازدادت فيها التهديدات بقتله ، قررت أن لا أتركه وحيدا ، إلا إذا أصر هو. وهولم يصركثيرا حتى اليوم ، غير أنه طلب إلي أن أنام وحدي ، وليس إلى جانبه ، فهو يقرأ في السرير، ويفكر في السرير ، ويكتب أحيانا في السرير كما كان يفعل قبل الكتابة على الكومبيوتر، ويتقلب كثيرا في السرير بحيث لا يمكن لأحد أن يخلد إلى الراحة والسكون إذا ما نام إلى جانبه ، عدا أنه لا يخلد إلى النوم بسهولة . أصعب شيء يواجهه في السرير هو أن يجلب النوم إلى عينيه ! وخاصة بعد أن توقف عن تناول الحبوب المنومة . أضحك عليه حين يخبرني أنه يشرع في العد عكسيا من المائة في عقله ، وحين يبلغ الرقم واحد دون أن يداعب النعاس جفنيه، يصعد بالعد إلى المائة . التنفس بعمق وممارسة الرياضة في السريريساعدانه على النوم أكثر من العد أحيانا .. محاولاته في النوم المغناطيسي تفشل دائما ، غيرأن الإسترخاء وتسليط النظرلدقائق على نقطة معينة في الحائط المواجه للسرير، يساعدانه على جلب النعاس أحيانا أيضا .. كذلك تخيل النوم في حقل وردي إلى جانب شلال، غير أن هذا التخيل إن لم يكن مركزا تقتحمه هواجس وأفكار وذكريات مختلفة لتشتته. نادرا ما ننام معا، كما في ليلة الرأس المقطوع، ولم يكن الأمر جديدا علي، فأبي نادرا ما نام معي طوال الليل في السرير.
كما كانت علاقتي بأبي وحتى بمحمود علاقة شاذة، ولومن وجهة نظر المجتمع فقط ، كان قبر أبي أيضا . فهو قبر يختلف عن القبور كلها، فهو ليس قبرا بين قبور، يضم تابوتا يحتوي على جثة ، بل سيارة مرسيدس حديثة تنطبق على جثته ، ونظراً لأنه تعذر إخراج السيارة من عمق يقارب أربمائة متر. فقد ارتأينا أن يبقى ضريحه في أعماق البحر، وسط ملوحة تزيد خمس مرات على ملوحة البحار العادية، وعشرات الأنواع من المعادن . واكتفينا أنا ومحمود وأخي بوضع شاهدة على أعلى الجرف المطل على الموقع ، تشير إلى الضريح وصاحبه في أعماق البحر.
الحال تكاد تكون ذاتها مع البحر نفسه . فهو بحر شاذ عن البحور كلها لعدم وجود حياة فيه لملوحة مياهه . إضافة إلى أنه يعتبر أخفض نقطة على الكرة الأرضية لانخفاضه قرابة أربعمائة مترعن سطح البحر. يتغذى من نهر الأردن شمالا ومن سيل ماعين شرقا ونهر وادي الموجب جنوبا ، إضافة إلى عشرات الينابيع الصغيرة إلى جانبية ، كنبعي عين جدي والفشخة غربا . غير أن هذه الينابيع والأنهارلا تكفي ليبقى دون نقص في مياهه .. فمياهه تنحسر باستمرار نتيجة التبخر العالي منه لشدة الحرارة في المنطقة ، ولشفط الكثير من مياه نهر الأردن من قبل اسرائيل، وثمة محاولات لربطه بمياه أحد البحرين : المتوسط والأحمر.
عدا ذلك يرتبط البحر الميت بأسطورة بلدتي سدوم وعمورة ، ، اللتين أمطر الله عليهما كبريتا ونارا وحجارة من سجيل، أو جعل عاليهما أسفلهما، كما في بعض روايات الكتب السماوية التي تطرقت جميعها إليهما، لكون رجالهما من اللوطيين الشاذين جنسيا ، فقد حاولوا اغتصاب ملكين كانا في زيارة النبي لوط .. فنزل غضب الله عليهما. ولم ينج غير لوط وابنتيه وزوجته. غيرأن الزوجة لم تكن مقتنعة بالإرادة الإلهية التي أمرتهم بمغادرة المنطقة دون الالتفات إلى الوراء ، أي لما سيحل بالبلدتين من دمار، فالتفتت وراءها لتتأكد مما جرى للبلدتين ، فحولها الله إلى صنم ! أمّا الفتاتان فقد تخوفتا أن ينقرض نسل أبيهما، فأسقتاه خمرا وأسكرتاه ، لتضاجعاه واحدة بعد الأخرى ، لتنجبا منه ابنين جاء منهما نسل العمونيين والمؤابيين !
ومما يقال عن هذه الأسطورة أن البلدتين المذكورتين أو جزء منهما يقع تحت مياه هذا البحر ، الذي من أسمائه المعروفة أيضا ما يرتبط باسم النبي لوط " بحيرة لوط ". وبهذا يكون ضريح أبي إلى جانب أضرحة قوم لوط ، وقد تدخل قصته الأساطير في المستقبل مع أنها ليست أسطورية ، لكن ربما تتدخل الآلهة أو إله القصص السماوية وحده إن كان واحدا، في حياتي أنا ومحمود ، لتحمل قصتنا شيئا يحيلها إلى اسطورة ، فأنا على الأقل أشترك مع ابنتي لوط في مضاجعة أبي وإن لم أسكره ، فقد كان يسكر وحده .
أوقفت سيارتي في آخر الشارع الترابي المنحدر نحو البحر، ونزلنا أنا ومحمود نتلمس طريقنا مرتدين ألبسة رياضية، عبر منحدر يباس تتخلله بعض الحجارة الصغيرة والمتوسطة، والقليل من الصخور المتناثرة . إنها الطريق التي سلكها أبي بسيارته نحو الهاوية ، والتي سبق لنا أنا ومحمود أن سلكناها مرتين ، مرة حين انتحر أبي ، ومرة حين وضعنا الشاهدة كعلامة تشير إلى مكان القبروالمقبور. كنا نصطحب باقة كبيرة من الورد ، أصر محمود على أن يحملها عني لأعرف كيف أجد طريقي ولا أتعثر في هذا المنحدر ، الذي يبدو أنه سيتحول إلى طريق معروف في المستقبل، لكثرة المنحدرين عبره ، ليس لزيارة ضريح أبي، بل للإقتراب من أقرب نقطة إلى البحر للتمتع بمنظره مستلقيا في الأعماق وأمواجه تتكسرعلى صخور الشاطئ. كنا في الزيارة السابقة قد أزحنا بعض الحجارة لنشكل ما يشبه طريقا ، وشرعنا أنا ومحمود في إزاحة ما يمكن إزاحته أو ابعاده، ونحن ننحدروننعطف بين الصخور ، حسبما ما تتطلب طريق الانحدار، التي كانت متعرجة ، وخاصة أسفل المنحدر حيث تنتصب صخور عملاقة تبدو كمنحوتات ، المرور بينها يشبه التجول في متحف طبيعي .
بعد قرابة نصف ساعة من السير المتعرج في المنحدربلغنا أعلى الجرف الذي هوت منه سيارة أبي. قرابة خمسين أو ستين مترا من الصخور تفصلنا عن البحر. توقفنا بصمت وخشوع أمام الشاهدة التي تحمل اسم أبي وتشير إلى قبره في أعماق البحر، ورحنا ننظر إلى النقطة التي يفترض أن يكون جثمان أبي بسيارته قد استقر فيها. قذفت باقة الورد بشكل قوسي بيدي الإثنتين حتى لا ترتطم بالصخور. رددت بعض الكلمات على مسمع من محمود، فيما كانت باقة الورد تسقط في المكان الذي قصدته، لتحملها الأمواج المتكسرة إلى الصخور أسفل الجرف، ولتعيدها المياه المرتدة من الموج إلى البحر " السلام عليك يا أبي الحبيب. السلام على جثمانك، السلام على رفاتك ، السلام على روحك النبيلة . لن أنساك ماحييت يا أبي الحنون ، الكريم ، الذي لم يبخل علي يوما بشيء مهما كان ، كما لم يبخل على أحد احتاج إليه، والذي حرص على أن يتركني ثرية ولا يدعني عرضة للعوز. سامحني يا أبي إن كان في حبي لك ما دفعك إلى الانتحار. فأنت الأب والحبيب الذي وجدت نفسي من ريعان طفولتي أغرق في حبه ، لا تلم نفسك يا أبي إن كنت الدافع إلى ذلك الحب المتمرد، فقد تكون مشيئة القدر هي من أرادت ذلك . اطمئن يا أبي فقد وجدت في محمود ما يعوضني عن غياب حبك عني .. وأنت أيها البحر كن رؤوفا بجثمان أبي ، وأحطه بما وهبك الخالق من قدرات الحفظ والصون . إن استطعت أن تخفف من تأثير الملوحة على جسده فافعل ، ولا تدع المعادن تتكدس على ضريحه بعشوائية ، دع الكلس والصوديوم والبوتاس والمنغنيز والكبريت وغيرها من المعادن تشكل أيقونات وردية حول الضريح ، وسأكون ممتنة لك أيها البحر"
تنفست بعمق بعد الفروغ من هذه الكلمات ، وألقيت رأسي على حضن محمود ودمعات حارة تنزلق على وجنتي.. لم يتفوه محمود بكلمة تعقب على ما قلته في السلام على أبي ، وراح يشدني إليه بكل حنان ويمسد على شعري.
جلسنا أمام الشاهدة قرابة ربع ساعة ، ونحن نرقب تكسر الموج على الصخور جراء رياح غربية خفيفة، دافعا باقة الورود إليها لتعود مع الماء المرتد إلى البحر. وتمنيت لو أن الباقة تعلق بالصخور وتظل واقفة في مكانها حتى لا تقذفها الأمواج بعيدا إذا ما هبت رياح جنوبية أو شمالية . كان الطقس حارا بعض الشيء غير أنه معقول مقارنة بالحر المعتاد في المنطقة . تدحرجت قطرات عرق على جسدينا .. شعرت بالعطش . أخرج محمود عبوة ماء من حقيبة الظهر التي كان يحملها . وقدمها لي.. محمود يحسب حساب كل شيء . وكان يعرف أننا سنعطش.
نهضنا للعودة ، نتلمس طريقا متعرجة عبر صخور عملاقة منتصبة . توقف محمود أمام إحداها . كانت تشبه نصبا انسانيا . قال إنها ربما تكون زوجة لوط إذا صحت الأسطورة . ضحكت ، فيما هو ينظر إلى البحر من نقطة أخرى، ليرى كم المساحة التي يمكن رؤيتها من هنا . كان المكان يشرف على منطقة شاسعة من البحر، وراح ينظر في اتجاه الجنوب السفلي متوقعا وجود ممرات يمكن أن توصل إلى الشاطئ دون أن تواجه جروفا يصعب اجتيازها . هتف مازحا :
" ما رأيك أن نسلك هذا الطريق إلى البحر لنتتبع مسيرة لوط وأسرته "
" ممكن في مرة أخرى بعد زيارة ضريح أبي، لعلنا نعثرعلى الكهف الذي ضاجعته فيه ابنتاه ، فأنا أرغب في ذلك ، كما إنني أفضل أن نستأجر قاربا في المرة القادمة لزيارة قبر أبي عن قرب ، وليس للنظر إليه من أعلى الجرف"
" لك ذلك حبيبتي ! "
تابعنا سيرنا صعودا في منعطفات بين الصخور .. سار محمود يمينا في طريق يصعد نحو الجنوب حيث بدت كومة صخور تعلو تلة مرتفعة بضعة أمتار عن مستوى الارض . تابعته بنظراتي دون أن أتبعه . اختفى بين الصخور للحظات وسمعت صوته يناديني " تعالي يبدو أن كهف لوط هنا" لم أصدق . هرعت . كان ثمة كهف بابه متوسط الحجم نسبيا، لكنه كبير وعميق من الداخل ، تعلو جدرانه نتوءات صخرية جميلة شكلها تساقط مياه من جدرانه عبر الأزمان. أخرج محمود مسدسه وحشاه ، مخافة أن يخرج علينا ذئب أو ضبع من وكر ما فيه . كان يمتد لقرابة ثلاثين مترا ، وتتسلل إليه أشعة الشمس من كوة جانبية أعلى جداره الجنوبي . بدا الطقس معتدلا فيه مقارنة بطقس الخارج. لم يخرج علينا من أوكار وجحور كثيرة فيه حيوانات أو أفاع. كانت فرصة لأن نستريح في الظل . جلسنا على صخرة مستطيلة نسبيا فيه . تساءلت:
- هل يمكن أن يكون هذا هو الكهف الذي واقعت فيه ابنتا لوط أباهما؟
- ممكن إذا صحت الأسطورة !
- ألا يمكن أن يكون للأسطورة أصل واقعي؟
- ممكن ، لكن ما هو غير ممكن أن يكون جميع رجال البلدتين لوطيين ، فكيف لم تتمرد النساء على هذه الحال؟
- ربما تقبلن الحال ولو على مضض !
- جميعهن ؟
- ممكن لمن يحببنها!
- والأخريات وإنجاب الأبناء والبنات ، كيف يمكن أن يتم لمجتمع لواطي ! ثم كيف يرتبط اسم نبي باللواط ؟
رحت أضحك وأنا أهتف !
- إنها مسائل محيرة فعلا، وخاصة أن معظم رجال البلدتين هرعوا لمضاجعة ملكين . لو توقف الأمرعلى رجلين أو بضعة رجال لأمكن تقبل الأمر. يبدو أنهم كانوا بلا أخلاق على الإطلاق.
- وهل يعقل أن يأخذ الله النساء والأطفال والشباب البريئين بجرم اقترفه رجال، فيبيد ويدمر الجميع ؟
- يبدو أن غضب الله كان فظيعا ما دفعه إلى عدم التمييز بين المجرم والبريء!


- وماذا عن الفتاتين من أين جاءتا بالخمر لتسكرا أباهما؟
- ربما حملتاه معهما لحظة الهروب. ليتنا أحضرنا معنا خمرا ! الجو مناسب لاحتساء الخمروالتمتع هنا!
- نعم ؟ تساءل محمود وهو يضحك متوقعا تبعات كلامي!
رحت أضحك بدوري وأنا أمد يدي متلمسة فخذه هاتفة :
- ولماذا لا حبيبي ، لنعد تواصلنا بأعماق التاريخ ، ونحيي أساطيره!
وراحت يدي تتوغل إلى ملتقى فخذيه !
- مجنونة! هتف وهو يضحك دون أن يحاول ابعاد يدي. وحين وجد أنني جادة في المسألة راح يدخل في الحالة شيئا فشيئا وما لبث أن احتواني وضمني إليه.
*****
أعتقد أنها كانت من أجمل المواقعات الغرامية لي ولمحمود أبو الجدايل . وعذرا لأنني كساردة لم أرو أسرار هذه المواقعة ، ليس لأن محمود شاهين لا يريد ، بل لأنني أخجل من سرد ذلك . كما أن المسألة تتعلق بخصوصيتنا أنا ومحمود أبو الجدايل وليس من الضروري أن تُعرف أسرار سلوكنا في الممارسات الغرامية.. ربما تطرق شاهين إلى جانب من ذلك في روايته السابقة " زمن الخراب " التي تشكل الجزء الأول من هذه الرواية . والغريب أنه لم يدخل على السرد ويأخذ بزمامه ليفضح أسرار مواقعتنا، وكأنه يحترم خصوصيتنا ! كما أنه لم يتح لمحمود أبو الجدايل أيضا ، أن يأخذ بزمام السرد ، ربما لإدراكه أن محمود أجرأ مني على السرد ، وقول الحقيقة ، وحتى هتك الأستار!
*****
ارتدينا ملابسنا وخرجنا من الكهف نتلمس طريق الصعود، والخروج من هذا المتحف الطبيعي إلى الفضاء المكشوف . الصعود يتعب محمود لكبر سنة أكثر مما يتعبني.. لذلك كنت أسير بتمهل إلى جانبه. النزول الذي استغرق معنا قرابة نصف ساعة ، استغرق معنا أكثر من ضعفها في الصعود. كنت أضطر إلى التوقف إلى جانب محمود الذي كان يتوقف ليلتقط أنفاسه ويستجمع قواه ..
" أتعبتك معي حبيبي، لن نكرر هذه الرحلة ثانية"
" لا عليك حبيبتي سنكررها إن شئت "
بلغنا أخيرا السيارة حيث تركناها آخر الشارع الترابي. لاحظت ونحن نقترب منها أن عجلتيها الأماميتين منفستان. هتفت " اللعنة " وهتف محمود " اولاد الكلب " درت حول السيارة لأرى أن عجلاتها الأربع منفسة . اتكأ محمود على نافذة المقعد الخلفي الأيمن وراح يزفر أنفاسه ويشتم الدواعش بأقذع الكلمات .
- كيف عرفوا مكاننا ولاحقونا أولاد الكلب ؟
- من الجوال حبيبي؟
- لكني لا أشغل موقع وجودي!
- ربما لديهم تقنيات عالية يستطيعون عبرها معرفة موقعك حتى لو كان الهاتف مغلقا !
- معقول أن يكون عند هؤلاء الأوباش تقنيات عالية ؟
- أكيد لديهم جهات خارجية تدعمهم بتقنياتها .
أخرج محمود الهاتف من جيبه . ألقى عليه نظرة عابرة ثم طوّح به بعيدا في المنحدر الذي صعدنا منه . وراح يتأفف بانفعال. لأول مرة أراه منفعلا إلى هذا الحد، حتى ليلة الرأس المقطوع تمالك أعصابه ولم ينفعل هكذا .
- طول بالك حبيبي سأحل المشكلة .
أخرجت هاتفي واتصلت بأخي سليم . أخبرته ما حدث معنا وطلبت إليه ارسال سيارة لتقلنا. وإرسال قاطرة لشحن السيارة .
يحتاج الأمر إلى قرابة ساعة أو أكثر قليلا إلى أن تصل نجدة أخي لنا . شكرت الله أنهم لم يعبثوا أو يخرّبوا أبواب السيارة .. كما لم يتركوا انذارا كما في كل مرة ، أو أي أثر يشير إلى هويتهم . صعدنا لنجلس في المقعد الأمامي . جربت تشغيل السيارة فاشتغلت . قلت لمحمود سأجرب السير ببطء على عجلات غير منفوخة . حركت السيارة ببطء واستدرت بها لنسلك طريق العودة . بدا الأمر ممكنا وإن كانت الحركة مزعجة باهتزاز السيارة . سرت ببطء. قلت لمحمود ربما هذا أفضل من الانتظار، سنسير إلى أن تأتي نجدة أخي.
بعد قرابة عشر دقائق من السير المزعج طلب إلي محمود أن أتوقف أفضل من هذا السير.
توقفت . تساءلت :
- ألم يكن من الأفضل اخبار الشرطة؟
- لا أريد أن نبقى منتظرين إلى أن تحضر الشرطة وتحقق في الأمر، هذا الأمر قد يستغرق وقتا طويلا .. حسنا فعلت إذ اتصلت بأخيك . سأتمدد في المقعد الخلفي إلى أن تحضر نجدة سليم .
نهض محمود وتمدد في المقعد الخلفي، بينما تمددت أنا في المقعد الأمامي. أغمض محمود عينيه وحاول أن يغفو، بينما بقيت أنا يقظة .
وصلت نجدة سليم بعد قرابة ساعة وربع . أخبرنا السائق أن القاطرة في الطريق خلفه لشحن السيارة . صعدنا إلى السيارة وانطلقنا.. قابلنا القاطرة في طريقنا . أخبرت سائقها ومرافقيه أن يتابعوا طريقهم إلى أن يصلوا إلى السيارة ويقطروها .. وتابعنا سيرنا عائدين إلى عمان .
*****

(7) عقل الخالق مصدر عقول الكائنات !
قابلتني أسيل القمر بمرح ووجه مشرق وجمال أخاذ يتوهج كنور يغمر الكون بهالة ربّانية . تأمل جمالها يريحني، لتصوري لكم جمال الألوهة السارية فيه. لاحظت أنني أتأمل وجهها بفضول مصحوب بشغف، متناسيا فنجان القهوة الموضوع أمامي ، فتساءلت عمّا إذا كان جمالها يبعث في نفسي البهجة، قلت :
" جمالك يسحرني ، ولولا شيخوختي وعشقي للمى وتجربتي في الحياة لما نجوت من سحره ، حين أرنو إلى وجهك ، ألمس مقدار الألوهة المجسدة فيه وكم الطاقة الخالقة السارية في شرايين جسدك التي شكلته ، ليبدو على هذا القدر من الكمال "
كادت أسيل أن تطيرفرحا من كلامي، فلم تجد إلا أن تمد رأسها لتطبع قبلة على خدي ولتشرع خدها لي لآخذ قبلة منه .
ارتبكت قليلا متخوفة من أن يكون أحد قد رآنا نتبادل القبل ، وما لبثت أن دعتني لإكمال قهوتي لندخل إلى استوديو التسجيل . شرعت في ارتشاف القهوة بينما سبقتني هي إلى الاستوديو .
دخلت بعدها. أخذنا مكانينا أمام الكاميرات . بادرت أسيل إلى الكلام :
- أستاذ محمود طرحت في الحلقة الماضية سؤالا للتوضيح ، يتعلق بكون جسد الانسان والطاقة السارية فيه، والناجمة عنه كفعل، هي جزء من مادة وطاقة الخالق نفسه.
- أكيد ! وعقل الانسان أيضا غير منفصل عن عقل الخالق الكلّي الكوني . فالانسان وكل شيء في الوجود جاء من الخالق نفسه ومن مادته وطاقته نفسها ، ليس هناك مادتان مادة للخالق ومادة للمخلوق إذا جاز تعبير مخلوق . فليس هناك إلا خالق يوجد نفسه. هناك مادة واحدة تسري في الكون من أعلاه إلى أدناه كطاقة، وتتجسد فيه كمادة .. الفرق أن الخالق يوظف هذه الطاقة بقدرة عظيمة .
ولو عدنا إلى أساطير الخلق البشرية سنجد أن الخلق جاء من الألوهة . ففي ملحمة الخلق البابلية ( اينوماإيلش ) التي هي امتداد لأساطير الخلق السومرية، يقوم الإله مردوخ بشق جسد جدته الإلهة تيامات أو تعامة، ليجعل من النصف العلوي سماء ومن النصف السفلي أرضا. ومن هذا النصف السفلي الذي هو تراب جسد الجدة يقوم مردوخ بخلق الانسان ، بأن يعجن التراب بدمه ويحيله إلى الإنسان الذي ستأتي البشرية منه . لاحظي أن هذه ثاني عملية خلق أسطورية يكون فيها جسد الخالق عنصرا أساسيا في عملية الخلق.
عملية الخلق هذه من أجساد آلهة ، نجدها أيضا في ملاحم الخلق السومرية . في إحداها، يقوم الآلهة بذبح الإله (وي) لتقوم الإلهة نينتو بمزج دمه مع الصلصال ليكون للإنسان روح.
حسب هذه النصوص الأسطورية أبدو أنا في بداية القرن الحادي والعشرين وكأنني لم أقدم ما هو جديد، حين أقول أن الخلق جاء من مادة الخالق نفسه . فالسومريون سبقوني قبل قرابة ستة آلاف عام ، ولولا التصور المختلف لوجود الخالق والغاية من الوجود لدي ، لما كنت قدمت شيئا إلى الفكر البشري عن نشأة الخلق والغاية منه .
الخلق في ستة أيام الذي جاء في الديانات السماوية اللاحقة ، هو ما جاء به الإله مردوخ قبل ذلك ، ولم يكن جديدا على العقل البشري .
هل أجبت عن سؤالك أم أنك ستكررين الزج بالمعتقدات في حوارنا ؟
- أنت تجيب بذكاء وكأنك لا تريد أن تخدش حرمة المعتقدات والأفكار الأخرى .
- يا سيدتي أنا أتعامل مع فكر انساني أنتجه عقل انساني ، وأنا أملك عقلا انسانيا وأنتج فكرا انسانيا ، ولا أحمل سيفا لقطع الرؤوس! ولا مدفعا أطلقه على عقول الآخرين ، أنا أطلق فكرا، إذا جاز التعبير، يمكن للآخرين أن يتقبلوه أو أن يرفضوه .
- لكن بعضهم كفّروك وألحدوك وهددوك وما زالوا يهددونك ، كما أنهم حاولوا اغتيالك، فلماذا لا تعاملهم بالمثل ؟
- وهل يعقل أن أنزل إلى هذا المستوى من الجهل والحماقة وسفك الدماء، وأنا أرى (ألوهة) تسري في جسدي، وتتطلب أن أكون على مستوى وعيها وغاياتها كساعية للخير والعدل والمحبة والجمال؟
- الألوهة تسري في أجسادهم أيضا حسب فلسفتك فلماذا لا يكونون مثلك ؟!!!
أدرك محمود أبو الجدايل أن أسيل لا تحوز على قدر أخّاذ من الجمال بل وعلى قدر عال من الذكاء أيضا كما يبدو ..أطرق للحظات وهو يفكر في كيفية الاجابة عن سؤالها الهام .
- يمكن أن أتحدث عن ذلك حين نتحدث عن فلسفة الألوهة !
- أستاذ محمود أعتقد أن حوارنا كله ليس خارج فلسفة الألوهة أو فلسفة الخلق أو حتى فلسفة الوجود، منذ البداية وإلى النهاية التي سنصل إليها .
- صحيح . لكن حوارنا الآن يتعلق بقدرة الخالق وفي الجانب المتعلق منه بالانسان على وجه التحديد . وهذه مسألة بعيدة جدا عن بداية الخلق التي تمت قبل أربعة عشر مليارعام.
- أعتقد أن دخولنا في الحاضر وعودتنا إلى الماضي يجعل الحوار ممتعا أكثر . بحيث يمكن القول أننا بفروغنا من الحوار نكون قد أتينا على عملية الخلق كلها من ألفها إلى يائها ، وفرغنا منها ومن أية تساؤلات قد تطرح حولها.
- ليكن ! لقد سبق وأن أشرت إلى أن عملية الخلق ما تزال تحبو، أي أنها ما تزال في بداياتها ، وأقصد خلق الكائنات الحية ، والانسان منها على وجه التحديد ، وهذا يعني أن العملية تخضع لنظرية التطور، وأن التحكم المطلق بها لم يحدث بعد ، وقد يحتاج إلى مليارات السنين ، إن طاقة الخلق السارية في الكون ومن ضمنه جسد الانسان، أشبه بالوقود في السيارة ، تشغلها وتسيّرها دون أن تحدد اتجاه حركتها .
- وفي حال الانسان ، لماذا لم يتم تحديد اتجاهه؟
- لأن القدرة على التحكم لم تتم بعد . هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية ، لكي تظل عملية الخلق مفتوحة على احتمالات مختلفة غير مدركة .
- لم أفهم . المسألة في حاجة إلى توضيح .
- المسألة تتعلق بأكثر من علّة . الأولى كون عملية خلق الانسان ما تزال في بداياتها ولم يتوصل العقل/ الخالق، إلى التصورالكامل لها، والتحكم المطلق بها، فهذا الكائن الحديث ألذي لم يظهر إلا منذ قرابة مائتي ألف عام من عمر الوجود البالغ أربعة عشر مليار عام ، ليس الغاية المنشودة ، فما هو إلا خطوة من خطوات كثيرة لاحقة ، تنشد الانسان الكامل . الحديث عن انسان كامل في حاضر البشرية هو محض هراء . فالانسان الحالي الذي نعيش معه لا علاقة له بالكمال ، ولا حتى بالحداثة ، فالانسان الحديث أيضا لم يخلق بعد . ومعظم البشر في زمننا تنشأ معرفتهم بتأثير ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه، لتنعكس هذه الثقافة على سلوكهم . فبعض الثقافات الدينية مثلا، ينشأ عنها من يدعون إلى قتل من يخالف معتقدهم الديني . الأشخاص المتميزون، الخارجون على الثقافة السائدة يكونون ثقافتهم بجهودهم الشخصية وبتأثيرعوامل مختلفة وخارجية ، ليست نابعة من المجتمع نفسه ، وإن كان المجتمع لا يخلو من طفرات لا تشكل قاعدة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكنا نرى ملايين الفلاسفة في كل مجتمع. لا تصدقي ابن طفيل ولا بطله "حي بن يقظان" الذي تربى مع الغزلان. مجتمع الحيوانات ينتج حيوانات بوعي حيواني محدود، ولا ينتج فلاسفة. إن ثقافة المجتمع أي مجتمع ، هي أشبه بالسحر أوالإدمان الذي لا يسهل الفكاك منه . والمؤسف أن تسري طاقة الخلق في أجساد أصحاب الثقافة السائدة، كما تسري في أجساد أصحاب الثقافة الوليدة المناقضة .
- ماذا تقصد بالانسان الحديث إذا كنت أنا وأنت وغيرنا لا ننتمي إليه ؟
- الانسان المدرك لوجوده والغاية منه . وجوده الذي لا ينفصل عن الوجود الكوني ، أي عن وجود القائم بالخلق ، أو عن وجود الخالق أو الله إن شئت . وغايته التي لا تنفصل عن غاية الخالق والسعي إلى تحقيقها ، وهي إقامة حضارة إنسانية / إلهية ، تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. فأين هو هذا الانسان حسب هذه المواصفات ؟
- يا إلهي ، حسب فهمك، هذا الانسان غير موجود فعلا ، ربما أنت الوحيد بين البشر الذي يحمل هذا المفهوم !
- حتى أنا وإن حملت المفهوم إلا أنني لا أستطيع العمل على تحقيقه ، ولا أعرف إن كانت أفكاري وتأملاتي وكتاباتي محدودة الانتشار تكفي لهذه الغاية .
- هي على الأقل تساعد في رسم الطريق إلى المستقبل ، وإن لم تصل إلى البشرية اليوم ، ستصل في الغد !
- وقد لا تصل، وإن وصلت ستواجه السيوف والصعوبات نفسها التي واجهت أي فكرسابق.
- هذا يعني أن البشرية ما تزال تعيش في الحضيض ، والكلام عن إنسان حديث لا معنى له إلا شكليا ! لكن ماذا نقول عن أمم حاليا نبذت الحروب وأقامت مجتمعات ديمقراطية ، وحققت قدرا مقبولا من العدالة والمساواة بين شعوبها.
- نعم . هي حداثية مقارنة بالواقع البشري المتخلف السائد ، لكنها ليست حداثية مقارنة بالحداثة المنشودة .. هذه الأمم ترى شعوبا تذبح كالمواشي ، بل أسوأ من المواشي ، وترى مدنا تدمر على رؤوس ساكنيها، ولا تفعل شيئا لوقف هذا الذبح الفظيع !
- وماذا عن العلة الثانية ؟
- العلة الثانية مرتبطة بالأولى . فالعقل / الخالق ، أوجد الانسان من ذاته ومنحه طاقة الخلق وطاقة العقل ليرى ذاته فيه ، وليفكر معه في تحقيق غايات الخلق التي ينشدها ، وإذا ما أردنا أن نوظف مفردتي الخالق والخلق ، أو الخالق والمخلوق ، فإنني أرى أن عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق ، وعقل المخلوق جزء من عقل الخالق، ولن تبلغ عملية الخلق غاياتها إلا بهذا التكامل على وجهه الأفضل ، وقد تطرقنا إلى أن الخالق لا يقيم مدنا ولا يبني حضاره إلا بوجوده المتجلي فيه وهو الانسان . فالخالق يحتاج إلى عقل ووعي وعمل المخلوق كجزء من ذاته الكونية .
- لكن لماذا ظل عقل الانسان محدودا حتى يومنا ؟
- عقل الانسان غير محدود أو أنه أقدر بكثير مما نتصور ، ما يحدث هو أن الانسان لا يوظف عقله كما ينبغي. المحدودية في العقل هي للحيوانات فقط وليس للإنسان . لقد سبق وأن تطرقت في كتاباتي للمقارنة بين عقل الانسان وعقل النحلة . فالنحلة قادرة على القيام بعمل محدد هو صنع العسل ، ولا تستطيع أن تقوم بعمل آخر ، والحال نفسه ينطبق على الحيوانات كلها ، من حيث القيام بعمل واحد محدد، أو أعمال محددة. ولو أن الخالق أبقى على عقل الانسان كذلك لما كان هناك سعي لإقامة حضارة متطورة باستمرار. تصوري لو أن قدرة الانسان اقتصرت على بناء بيت أقرب إلى الوكر له ، لما كان هناك حضارة مهما كانت !
- ألهذا أبقى الخالق على حرية العقل والعمل لدى الانسان، وأبقى على طاقة الخلق السارية فيه كمجرد وقود كما هي الحال مع السيارة؟
- أجل وهذه هي العلة الثالثة أو الرابعة المتعلقة بسابقاتها . فحسب ما أسلفت ، هذا ما توصلت إليه عملية الخلق حتى حينه .. ومن ناحية ثانية عقل الانسان متصل بعقل الخالق ، فعقل الخالق مصدر عقول الكائنات كلها ، ولا يمكن أن يوظفه لدى الانسان في اتجاه محدد قد لا يكون الأفضل ، لذلك أبقى على عقل الانسان مفتوحا على الوجود ، للعمل مع عقله الكلي لإقامة الحضارة الأرقى والأفضل وتحقيق الغاية من الوجود . إنّ كل ما يصدر عن العقل البشري متصل بالعقل الكوني ، لكن العقل الكوني لا يدوّن إلا ما هو الأصلح منه ، وحتى هذا الأصلح قد يتم التخلي عنه إذا ما جاء ما هو أصلح منه . إن ما يجري على مدونات العقل هو ما يجري على مدونات مورثات عملية الخلق نفسها .. فكسر رجل انسان ما مثلا، لا يدوّن في المورثات ، لذلك إذا كسرت رجل أب مثلا أو قلعت عينه ، لا يدون ذلك في المورثات ، حتى لا يأتي الابن برجل مكسورة أو بعين مقلوعة ..
- لكن بعض الأمراض التي تصيب الانسان تورث ، لماذا ؟
- لأن عوامل داخلية في الجسم الانساني تساعد على استفحالها ونموها. كما أن عملية الخلق بحد ذاتها لم تتوصل إلى حل لهذه المعضلات .. المكتسبات الانسانية مثلا كالمهارات واللغات والمعارف المختلفة لا تورث ، وهذه من سلبيات عملية الخلق أيضا ، التي لم يتم تجاوزها .. حتى خلق الانسان ونموه خلال ثمانية عشر عاما عملية بطيئة تحتاج إلى تطوير .. في روايتي " أديب في الجنة " أوجدت معجزة في عملية خلق الانسان التي ينشدها الخالق، بأن جعلت الملكة نور السماء تحمل ب "سحب السماوات" وتنجبه ويبلغ سن الرشد ، ويحصل على كل المعارف البشرية خلال ستة أيام فقط!
- ستة أيام فقط ؟ يبدو أن الألوهة كلها تجسدت فيه !
- نعم، إنه الانسان الكامل الذي ينشده الخالق، والذي سيفتخر به !
- سأعود إلى مدونات العقل الكوني . هل النظرية النسبية لآينشتاين مثلا مدونة في العقل الكوني ؟
- النظرية النسبية استنبطها آينشتاين من الوجود الكوني ، وليس باختراع ما هو جديد .. النظرية جديدة على العقل البشري لكن ليس على العقل الخالق. العقل الطاقوي الكوني هو الذي وضع القوى الناظمة للكون والقوانين المسيرة لها ولعملية الخلق برمتها، بما في ذلك قوى الجذب الكوني التي تقوم النظرية النسبية عليها .
- يا إلهي إذا كان آينشتاين لم يأت بما هو جديد على العقل الكوني ، فكم يحتاج العقل البشري من الزمن ليأت بما هو جديد يفيد عملية الخلق ويغنيها .
- تكمن قيمة آينشتاين وكل من سار على نهجه من العلماء العباقرة ، في أنهم شقوا طريقا جديدا للعقل البشري لفهم ما هية الخالق . والخالق لا ينتظر من العقل البشري ، رغم أنه جزء من عقله ، أن يأتي بما هو خارق جداً في عملية الخلق بيولوجيا وفيزيولوجيا، فقوانين الخلق وضعها الخالق منذ مليارات السنين ، وهو الأقدرعلى تطويرها الذي قد يحتاج إلى مليارات السنين .. غير أنه ينتظر من العقل البشري فهما فلسفيا انسانيا خيرانيا جماليا .. أي نظام حياة كوني يبني الحضارة الأرقى ويقرب الانسان من أخيه الانسان ، ويقرب الانسان من خالقه المتجلي فيه، ليتم التكامل بينهما على أكمل وجه . وليصبح الانسان على قدر الألوهية فيه . لتتحقق بذلك وحدة الوجود الواحد .
*****
تنهدت أسيل من أعماقها وزفرت نفساً طويلا ، وهي تهتف " أي فهم هذا أستاذ محمود؟ محاورك يحتاج ربما إلى أكثر من عقل ، أو عقل كعقل آينشتاين ، وأنا عقلي ليس على هذا القدر .. هل لديك ما تود أن تضيفه إلى هذه الحلقة ؟
- أجل لدي ما أضيفه !
- تفضل .
أخرج محمود أبو الجدايل كتاباً ضخماً من حقيبته وشرع في الحديث :
- قبل بضعة أعوام كتبت بحثا من ثلاثة عشر فصلا بعنوان " ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة " نشرته على شبكة النت ، أحلل فيه شخصية المسيح وصلبه وعلاقته بالألوهة ، لأخلص إلى أن صلب المسيح هو صلب للألوهة ، دون قدرة الله على منع الصلب ، ودون أن يعرف المسيح أن الله غير قادر على منع الصلب ، لذلك رأى أن الله تخلى عنه ، فصرخ بما معناه : إلهي إلهي لماذا تركتني أو لماذا تخليت عني؟ فالانسان ثُقف على أن الله قادر على كل شيء .. وتطرقت إلى الشباب السوريين الذين كانوا يواجهون ذبحهم في المظاهرات بالهتاف : يا ألله ما لنا غيرك يا ألله ! إدراكا منهم أن الله قادرعلى انقاذهم من الذبح .. ولا يدركون بالتأكيد أن الله يتمزق لفجيعتهم وفجيعة السوريين بشكل عام ، ليس لأنهم سوريون وينزفون دما فحسب ، بل لأن الدماء التي تنزف هي دماء الله ، والأجساد التي تنتهك وتذبح هي أجساد الله ، دون أن يستطيع الله أن ينقذهم أو ينقذ نفسه ، وكان يأمل من الآخرين الأقوياء أن يتدخلوا لإنقاذهم ، أو لإنقاذ الله ، أبينا الذي في السموات ( حسب المسيح ) الذي يذبح في سوريا على أيدي القتلة المختلفين والمتعددين ! ولا أنكر أنني حين كتبت ملحمة " غوايات شيطانية " لم أجد غير الله ليلجأ الأديب إليه ، حين راح يشك في أنه واقع تحت غواية شيطانية لن ينقذه منها إلا الله ، فأنشد قائلا من جملة ما أنشده:
إلهي !
مهما مهما كنت
ومهما لم تكن!
لم يبق لي إلا أنت
وليس لي إلا أنت
ولا يدركني إلا أنت
ولا يبصرني إلا أنت
ولا يسمعني إلا أنت
ولا ينصفني إلا أنت
إن كنت أو لم تكن
فلتكن أنت أنا
ولأكن أنا أنت
فليس لي إلا أنت
ليس لي إلا أنت
يا الله يا الله يا ألله
****
كان الأديب في حاجة إلى الله حتى لو لم يكن هناك إله ، وفي هذه الحال سيكون هو الإله لعله يتمكن من انقاذ نفسه .
وحين بدأت بتدوين مشروعي الفلسفي قبل أكثر من ربع قرن ، كتبت ملحمة " الملك لقمان " هذه التي ترينها!!" تطرقت فيها إلى القدرة غير المطلقة للخالق وإن كانت تتطور في اتجاه ذلك نسبيا .. بل وصورت ألم الخالق وعلى لسانه وهو يرى ما يجري لبعض أجزاء جسده الممثلة في الانسان .
كان الملك لقمان يبحث عن الله . جاء إلى كوكب في الفضاء يقام عليه معبد لآلهة وثنية تقدم فيه القرابين البشرية. كان المشهد مرّوعاً ، فقد كانت الجثث تتكدّس على المذابح وتتبعثر من حولها في أشكالٍ عشوائيّة، أو تحرق . جثث أطفال من أعمار مختلفة، وجثث فتيات، وجثث شباب، وجثث شيوخ وجثث نساء، بعضها عارٍ وبعضها شبه عار، وأحواض تفيض بالدّماء حول المذابح، وأناس ينتظرون بوجوه شاحبة بائسة تخيم عليها أشباح الموت.
أطبق الملك لقمان بيديه على رأسه شابكاً أصابعه فوقه، مُخفياً وجهه خلف مرفقيه، جاهداً بكُلِّ قوّته ليمنع صرخة هائلة من الإفلات منه، وما لبث أن رفع رأسه إلى السَّماء فارجاً مرفقيه قليلاً، ليتيح إلى عينيه الرؤية وكأنّه يأمل مشاهدة الله، وراح يصرخ في أعماق نفسه دون أن يعرف أحد ما يدور في مخيلته، سوى الملكة نور السَّماء:
"لِمَ، لِما! لماذا يا إلهي تجعل كُلَّ هذا يحدث، لِمَ تتيح لكُلِّ هذه الدّماء أن تنزف، ولكُلِّ هذه الأرواح أن تقضي، بكم قلبٍ سأحتمل كُلَّ هذه العذابات والآلام، وأنت لم تمنحني سوى قلبٍ واحدٍ ضعيف؟"
وأنزل الملك رأسه وهو يُطبق يديه عليه ويتنفّس بتسارع وعمق لعلّه يسيطرعلى نفسه. غير أنّ جسده كان يتلوّى وكأنّه أصيب بمغص شديد، فسارعت الملكة إلى مواساته، فيما شرع صوت هائل يهتف في دخليته، ليس إلا صوت الله :
"كل هذه الجثث جسدي يا لقمان، وكل هذه الدماء العائمة دمائي، وكُلُّ الأجساد المصلوبة والملقاة في القبور والتي أحرقت جسدي، كل حنجرة قطعت هي حنجرتي، وكل حلقوم نُحر هو حلقومي، وكل قطرة دم سالت هي من دمي، وكل عين فُقِئت هي من عيوني، وكل روح قضت هي من روحي، فكم من الدّماء التي سالت عبر ملايين السّنين من دمي، وكم من الأرواح التي أزهقت من روحي، وكم من العيون التي فُقئت من عيوني، وكم من الأعناق التي قطعت من عنقي، وكم من القلوب التي توقّف نبضها من قلبي؟! لو أنّك عشت مقدار ذرّة من آلامي يا لقمان، لمتّ ألف ألف ألف بليون مَرّة، فهل تراني كنتُ قادراً على منع حدوث كل هذا لي ولم أمنعه؟ هل تراني كنت قادراً على وقف نزيف جسدي ووقفت متفرّجاً عليه؟ هل تراني كنت قادراً على صَدّ الرّماح المنطلقة نحو جسدي ولم أصدّها؟ أم تراني كنت أنعم بمواضيكم وهي تقطّعني إلى أشلاء؟ ورصاصكم وهو يخترق صدري، وقنابلكم وصواريخكم وهي تحيلني إلى رماد وركام؟" ؟!
وتوقف الصوت ليرفع الملك لقمان رأسه المتفجّر المضطرب، ويدور حول نفسه فاغراً فاه مشدوهاً مرسِلاً نظراته إلى الفضاء وهو ما يزال يشبك يديه خلف رأسه، ليهتف متسائلاً بحيرة وذهول مُفجّراً الصوت الذي طالما حبسه في دخيلته:
"لا! أهذا أنت حقاً؟ هل كان هذا صوتك؟ هل هذه الدّماءُ دماؤك، وهذه الأجساد جسدك؟ هل كنتَ في حاجة إليّ بقدر ما أنا في حاجة إليك، وكنتَ تبحث عنّي كما أبحث عنك، فعثرت عليّ قبل أن أعثر عليك؟! أجبني؟ أجبني؟ هل يُعقل أن تكون ضعيفاً بقدر ما أنتَ قوي؟ هل يُعقل أن تموت بقدر ما تحيا، وأن تتألم بقدر ما تحب؟! لا! لا! مستحيل! ساعدوني، أعينوني، ساعدوني،أعينوني، أعيدوا الحياة إلى الله وكفاكم تمزيقاً لجسده وتقطيعاً لأشلائه وطعناً لسويداء قلبه، وإثارة لأحزانه وآلامه "
كانت هذه حال لقمان حين صدمته الحقيقة الفظيعة التي لم يكن يدركها جيدا ، وبالقدر نفسه كانت صدمة المسيح حين وجد أنه كإله غير قادرعلى منع الألم عن نفسه ، فصرخ صرخته العظيمة مخاطباً الإله الأب، الذي يفترض أنه قادرعلى كل شيء : إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي ، إلهي، لماذا تركتني.
- الله القتيل . لله الجريح . لله الحزين . الله غير القادر على منع القتل عن نفسه . شكرا أستاذ محمود على هذه المفاجأة الجميلة غير المتوقعة .
- العفو .
- يبدو أننا سننهي الحلقة دون سؤال نؤجل الإجابة عنه إلى الحلقة القادمة "
- لا ثمة سؤال . هل نسيت أننا استبقنا الزمن بمليارات الأعوم لنعيش في الحاضر ؟
- إذن لا بد من العودة إلى الماضي البعيد ، أي إلى ما بعد الانفجار الكبير ؟ مع أن الغوص في بدايات تشكل النجوم والكواكب ومن ثم الحياة مسألة تناولتها العلوم المختلفة.
- لا أحب كلمة الانفجار هذه ، الخالق لا ينفجر، بل يتجلى أو ينبعث !
- الحق معك في هذه المسألة .
- حسنا مشاهدينا الأعزاء .. إلى اللقاء بكم في الحلقة القادمة ضمن أفق المعرفة، ومع "قصة الخلق" كما يراها أديبنا وفيلسوفنا محمود أبو الجدايل وسؤال : ماذا جرى بعد الانبعاث والتجلي الأول للخالق في الوجود ؟
تصبحون على خير وسلام، مع أطيب تحياتي أنا "أسيل القمر" والأديب الفيلسوف محمود أبو الجدايل !
******


(8) الرزق على الله !!
استيقظ محمود أبو الجدايل متأخرا كعادته.. كانت لمى تجلس إلى طاولة مكتبه تتصفح أخبار العالم عبر شبكة النت على الحاسوب. صبح عليها بقبلة ودخل إلى المطبخ يعدّ مغلياً من الزنجبيل والكركم وشاياً من الزعتر المجفف.
ملأ كأساً من مغلي الزنجبيل والكركم ، وحلّاه بملعقتي عسل ، ووضع الزعتر في بكرج قهوة وأضاف إليه ماء مغلياً ، وتركه يتخمر إلى أن يحتسي الزنجبيل .
خاطبته لمى بعد أن ارتشف شفة زنجبيل وأشعل البايب :
- ثمة تحقيق صحفي في صحيفة "أخبار الأمس" أجراه صحفي تجول في وادي الحدادين مستطلعا أحوال الناس ، تطرق فيه إلى أسرة الرجل الذي حاول اغتيالك !
- ماذا يرد فيه ؟
- يتحدث عن الأسرة "بعد مرور قرابة ستة أشهر على إعدام القاتل الذي حاول اغتيال الكاتب محمود أبو الجدايل . أم وثلاثة أطفال أكبرهم (طفلة) في حدود الحادية عشرة من عمرها ، يعيشون في مسكن من غرفتين ومنافعهما أقرب إلى الكوخ . الهزال البادي على الأطفال والأم يشير إلى سوء تغذية "
ويتابع الصحفي قائلا " سألت الأم إن كانت تعمل فأجابت بالنفي ، وحين سألتها كيف يعيشون ؟ أطرقت للحظات ليبدو حزن دفين ينعكس من عينيها ويخالج وجنتيها، وما لبثت أن هتفت " الرزق على الله " ويتابع أيضا :
" أحسست أنها تخفي العمل الذي تقوم به، و لم أرد أن أثقل عليها بأسئلتي، أو أقول لها " لكن الله لا يطعم خبزا " فاكتفيت بالقول : ونعم بالله ! وأنا أكاد أدرك نوع عملها الذي من الواضح أنه لا يدر عليها ما يكفي لمؤونتهم ، أو أنها جديدة عليه ، وإلا لما بدا هذا الهزال وخاصة على الأطفال، أوأن الهزال قد ألم بهم قبل عمل الأم ، وهم الآن يستعيدون بعض عافيتهم .
- هل يلمح إلى دعارة تمارسها الأم؟ تساءل محمود.
- يبدو أن الأمر كذلك .
أطرق محمود للحظات يفكر فيما إذا في مقدوره أن يقدم معونة لهذه الأسرة ! تساءل دون أن يفصح عمّا فكر فيه :
- وماذا أيضا في التحقيق ؟
- حديث عن نفايات مهملة وزعران وقطط وجرذان وفئران على الأدراج وفي الأحياء. ومحاولات من بعض أبناء الحي لإقامة درابزين في منتصف الأدراج يساعد المسنين على تسلقها.
- فظيعة قصة الأدراج هذه في سفوح جبال عمان ! ياما صعدت وأنا ألهث أدراج اللويبدة وجبل عمان وجبل الحسين ، لأستريح بعد بضع درجات لألتقط أنفاسي.
قال محمود، وهو ينهض إلى المطبخ بعد أن أخذ آخر رشفة من كأس الزنجبيل . سكب شاي الزعتر في كأس وعاد إلى الجلوس في الصالون ، مفكراً في أمر الأسرة :
- حبيبتي ! أريد ان أستشيرك في أمر.
- ما هو ؟
- ما رأيك في أن نقوم بتقديم مساعدة لهذه الأسرة المسكينة !
أطرقت لمى للحظات بدورها .
- عمل كهذا لا يقوم به إلا العظماء حبيبي وأنت انسان عظيم !
ولم يجد محمود نفسه إلا وهو ينهض ويعانق لمى بحرارة :
- وأنت أعظم سيدة في الكرة الأرضية حبيبتي. كله من فضلك أنت . لولاك لكانت حالة الانتحار تراودني بين يوم وآخر .
- والآن ؟
- الآن أريد أن أعيش حتى سن المائة وبالحد الممكن من قوتي ، من أجلك ! وسأطلب إلى الله أن يقوي عزيمتي ويشدد من صلبي!
- آمل أن يستجيب الله إلى دعائك حبيبي.
- ماذا لدينا اليوم ؟
- لا شيء !
- كأنك أهملت الإشراف على حسابات متاجركما !
- ذهبت بالأمس وطمأنني سليم على أن الأعمال تسير على ما يرام في المتاجر والبيوت والبيارة . يشغل كثيرين .
- لكن هؤلاء العاملين في حاجة إلى مراقبة أعمالهم .
- هو يقوم بذلك وإذا ما تطلب الأمر مساعدتي فسأفعل .
- أشعر بالجوع . ماذا سنأكل ؟
- ما تريد !
- مللت الشواء والستيك وما شابه ، أين يمكن أن نجد مطعما لديه طبخ منزلي كالمحاشي واليبرق والملفوف !
- يوجد في جبل عمان مطعم جديد فيه وجبات شهية من هذه .
- لنذهب إليه . وأفكر في أن نذهب بعد ذلك إلى أسرة من حاول قتلي!
*******
بعد أن تناولا طعام الغداء . استخدم محمود أبو الجدايل هاتفه الجديد ليحصل عبر أصدقائه من الكتاب والصحفيين على هاتف الصحفي الذي كتب التحقيق . اتصل به وأخذ منه عنوان مسكن الأسرة .
ابتاع من متجركمّاً كبيراً من اللحوم المنوعة والفواكه والخضار والحبوب والحلويات ، لكن ليس بالقدر الذي فعله لأسرة أم أمل . انطلق مع لمى في اتجاه وادي الحدادين .. توقفت لمى إلى جانب الشارع على مقربة من العنوان الذي أعطي لهما . ثمة درج يصعد إلى أعلى إلى جانبه كشك صغيرعلى رصيف الشارع ، يبيع الجرائد والسجاير والمرطبات والعلكة وسكريات للأطفال.. اقترب محمود من الكشك . رأى شابا يجلس خلف طاولة البضائع يقرأ كتاباً. تنبه الشاب لوقوف محمود أمام الكشك . نهض واقفا . خاطبه محمود:
- مرحبا .
- أهلا .
- ممكن سؤال ؟
- تفضل .
- هل تعرف أين يقع بيت أم بشير هنا ؟
- أعرف ..
وأطرق الشاب للحظات قبل أن يكمل ليسأل :
- ألست الأستاذ محمود أبو الجدايل ؟
- بلى أنا .
خرج الشاب من الكشك وصافح محمود مرحبا .
- كثيرون يسألون عن بيت أم بشيرأستاذ ، لكنهم يختلفون عنك .
- غير مهم .
- بعد أن تصعد قرابة خمسة عشر مترا على الدرج ، تجد طريقا في اتجاه اليمين ، تسلكه لما يقرب من أربعين مترا . تجد درجا ينحدر إلى خرابة صغيرة فيها غرفتان . هذا هو بيتها .
- أشكرك !
- العفو أستاذ . لكن عفوا .. هل تعرف من هي أم بشير ؟
- طبعا أعرف !
- عذرا لفضولي .. لماذا تسأل عنها إذن ؟
- لأطمئن عليها وعلى أولادها!
فغر الشاب فاه ..
- تطمئن على أسرة من حاول قتلك ؟
- الأسرة لا ذنب لها ، والرجل نال عقابه ، لأنه صادف وأن قتل رجلا غيري .
- أي انسان نبيل أنت أستاذ ؟!
- تشكر. هل تعرف أحداً ممكن أن يساعدنا في حمل أغراض اشتريناها للأسرة .
- أنا سأساعدكم.
وصرخ ينادي ولداً كان يقرأ دروسه على شرفة منزل قريب في بناء مجاور، طالبا إليه أن ينزل ويبقى في الكشك إلى أن يعود .
سلم الشاب على لمى دون مصافحة . حمّله محمود بعض أكياس التموين . وحمل هو بعض الأكياس . بقي بعض الأكياس حملتها لمى .
انطلقوا إلى بيت أم بشير . كان الشاب يصعد الدرج بخطوات سريعة . طلب إليه محمود أن يتمهل وأن لا يخبر أم بشير بهويته إذا لم تعرفه .
كانت أم بشير تنشر غسيلاً على حبل ممدود أمام الكوخ ، شاهدت القادمين ينحدرون الدرج بأحمالهم . أدركت أنهم قادمون إليها بمساعدة من فاعلي خير . فهرعت لاستقبالهم ولمساعدتهم وهي تنادي الأطفال أيضا ليخرجوا للمساعدة :
" زهرة ! بشير اطلعوا يمّه ساعدونا"
خرج الأطفال وهرعوا خلفها ..
" يا ألف أهلا وسهلا .. حلت علينا البركة والخير.. "
" كيف حالكم يا أم بشير " قال محمود .
" الحمد لله على كل شي"
أخذت بعض الأكياس من يد لمى وأعطتها للأطفال ثم أخذت بعض الأكياس من يد محمود وهي تهتف " اتفضلوا اتفضلوا "
وضعوا الأكياس أمام باب البيت ليشرع الأطفال في ادخالها إلى المطبخ . ودخلوا ليجلسوا على فراش أرضي من البسط .
تعرف أم بشير صاحب الكشك " علي " . سألت بعد ترحيب من جديد :
- ألف أهلا وسهلا . الله يكثر خيركم ويفرجها عليكم في كل زمان . ما عرفتني بالأخ والأخت يا علي.
- أنا ساعدتهم في حمل الأغراض معهم ولا أعرفهم !
وسارع محمود إلى الإجابة :
- احنا فاعلين خير يا أم بشير . أنا اسمي محمود . والسيدة اسمها لمى .
- هل لديكم جمعية خيرية يا سيدي !
- لا للأسف ليس لدينا جمعية . لكن، قد نعمل .
وأخرج محمود مغلفا يحتوي على ثلاثة آلاف دينار . قدمه لها وهو يقول :
- هذا مبلغ يسير من المال لمساعدتكم . يوجد عليه رقما هاتفين . حين تحتاجين شيئا خبرينا .
وهمت لأخذ يد محمود لتقبيلها غير أنه أبعد يديه الاثنتين وهو يرجوها ألا تفعل .
- يكثر خيركم يا سيدي . ماذا تشربون . عفوا . لدينا شاي فقط .
- شكرا لا نريد شيئا . يجب أن ننصرف . لي طلب واحد منك . تفضل يا سيدي:
- هل الأطفال في المدرسة ؟
- نعم ثلاثتهم في المدرسة .
- دعيهم يكملون تعليمهم واعتني بهم، وسأكون معك ومعهم ما حييت .
- أنت تأمر يا سيدي ، لن أكون لهم إلا الأم الرؤوم . إلهي يكثر أمثالك .
ونادى على الأطفال ليقتربوا منه . جلس أصغرهم ( واصف ) أمامه وجلست زهرة إلى يمينه وبشير إلى يساره .
مسد على شعر واصف وسأله في أي صف هو أجاب أنه في الأول الابتدائي . ونظر إلى بشير قائلا : وأنت ؟ أجاب أنه في الثالث ، ثم إلى زهرة لتقول أنها في الخامس .وراح يسأل أم بشير عن مستوى تعليمها لتخبره أنها أنهت الاعدادية ، وأنها تحب المطالعة .
نهضوا لينصرفوا وأم بشير تحلف عليهم أن يبقوا ليشربوا الشاي ، غير أن محمود أقنعها أنهما مرتبطان بأكثر من موعد ، وليس بإمكانهما أن يتأخرا . صافحها وصافح الأطفال مقبلا ، ثم صافح عليا وشكره ..
وفيما كان محمود ولمى يقتربان بصعودهما من رأس الدرج فوجئا بأم بشير تهرع خلفهما جرياً وهي تصرخ منادية : سيدي سيدي .. عفوا يا سيدي .. تعثرت على بعد أربع درجات منهما لتتابع صعودها حبواً على يديها وقدميها .. هرع محمود إليها ليوقفها ، غير أنها أبت وهي تحاول قدر جهدها أن تنطرح على قدميه لتقبلهما وهي تهتف " دعني أسجد أمام قدميك وأقبلهما يا سيدي لأنني رأيت فيهما قدمي الله " غير أن محمود أبى وظل يجاهد ليوقفها ، إلى أن أوقفها وهو يردد " أستغفر الله العظيم ، أستغفر الله العظيم "
كان الشاب علي قد باح بسر محمود أبو الجدايل ما أن عرف أنه ابتعد قليلا ، وقف أمام أم بشير قائلا : هل تحبين أن تعرفي من هو محمود هذا الذي أغدق عليك كرمه !
- يا ريت !
- إنه محمود أبو الجدايل الذي حاول زوجك قتله ؟!
لم يتوقع علي إطلاقا تأثير الحقيقة على ردة فعل أم بشير.
أطبقت يديها على رأسها وفغرت فاها هاتفة : لا. لا . وهرعت عدوا خلف محمود ولمى .
*******


(9) لماذا كان للوجود غاية ؟
تأخرت قليلا عن موعد جلسة التصوير. دخلنا إلى الاستوديو ما أن وصلت . بدأت أسيل الكلام :
" أستاذ محمود توصلنا في الحلقة السابقة إلى نشأة الخلق بعد انبعاث العقل/ الخالق ، أو ما أطلق عليه العلماء الانفجار الكبير أو العظيم ، فما الذي حدث بعد ذلك ، كيف نشأ الكون "؟
- في الحقيقة الحديث عن عقل خالق وعن نشوء خلق بعد انبعاثه مسألة صعبة للغاية تطرقت لها علوم الفيزياء، ويمكن القول أنها توصلت إلى حقائق ممكنة لكنها ليست أكيدة وإن بدت صحيحة نظريا ، فنحن أمام عقل هائل العظمة يستطيع أن يجسد ما تخيله وإن على مراحل.. ويمكن تصور عظمة هذا العقل حين ننظر في عقل الانسان الصادر عنه. فالعقل البشري معجزة من أهم معجزات عملية الخلق، نستطيع عبره أن نفكر ونخترع ونقوم بما لا يخطر في البال، أي أن نكون مبدعين وخالقين كالخالق نفسه وإن كان خلقنا مختلف. إننا لا نعرف ماهية هذا العقل ، ولا نعرف جسما ماديا معروفا له ، أو حتى جسما ينتجه كالسمع بالنسبة للأذن ، أو البصر بالنسبة للعين ، وإن توقع العلماء أنه يصدر عن الدماغ، وليس عن القلب كما يذكر في بعض النصوص الدينية . ومع ذلك نقر بوجوده دون أن نراه ، كالعقل الخالق تماما ، فنحن نقر بوجود عقل خالق أو قائم بالخلق أو حتى إله ، دون أن نراه أو نعرف ماهيته حسب المعتقدات السماوية، ولا يمكن أن نعرفه إلا من خلقه ، والامر كذلك بالنسبة للعقل البشري. . يمكن تصور أن العقل البشري ينتج عن الدماغ والقلب والأعصاب ، أو عن الدماغ وحده ، لذلك لا يعتبر الميت ميتاً ما لم يتوقف دماغه عن العمل ، وليس بالنظر إلى الحال التي عليها قلبه. هذا في حال الانسان، فما هي الحال مع العقل الإلهي أو عقل الخالق، حيث لا دماغ ولا قلب ولا أعصاب ، وحتى لا زمان ولا مكان كما هي الحال قبل الانبعاث. فليس هناك ما يشجعنا لأن نعتقد أن للخالق شكل إنسان ، وأنه يملك دماغا وقلبا وأعصابا. فعقل الخالق مسألة مختلفة تماما، لأنه لا شكل له يمكن أن نعرفه، ولا زمان ومكان خارج زمكانه، لنفترض أنه موجود في مكان آخر وبشكل آخرلا نعرفه. وليس أمامنا في هذه الحال إلا أن نتخيل عقله بقدر ما حسب ثقافتنا ، وعلى ضوء ما أنبأتنا به علوم الفيزياء، وخاصة الفيزياء الكمومية ، التي أثبتت لنا أن اهتزاز الكترونين بتوافق في حالة تناغم ، يُمَكِنُهما من أن يظلا في حالة تناغم موجي حتى لو فصلت بينهما مسافة كبيرة . وعلى الرغم من أن الإلكترونين قد يبعد أحدهما عن الآخر سنوات ضوئية فإن هناك موجة غير مرئية تربط بينهما كالحبل السرّي . ولو حدث شيء ما لأحد الإلكترونين فإن الشيء نفسه يحدث للإلكترون الثاني. هذا ما يطلق عليه " التواصل الكمومي " وهو المبدأ الذي ينص على أن الجسيمات التي تهتز بتناغم ، لها نوع من الاتصال العميق الذي يربطها بعضها ببعض. على ضوء هذه المعرفة يمكننا تصورعقل الخالق ، على أنه مسألة اعجازية بكل ما تعنيه الكلمة ، بحيث يمكنه أن يتواجد في كل زمكان، وفي كل كائن، من أصغرجسيم دون ذري، إلى أكبر مجرة ، دون أن يفقد أي جزيء في الوجود علاقته بكل الأجزاء الأخرى وعلاقته بالكون ككل . من هنا يأتي فهمنا للوجود الانساني وارتباطه بالوجود الكوني.
على ضوء هذه المفاهيم العلمية يمكننا النظر إلى نشأة الكون وإلى فهم التفاعلات التي تمت بعد لحظة الانبعاث، بين كواركات وفوتونات ولبتونات لينتج عنها بروتونات ونيوترونات ، وليدخل الالكترون في هذه العملية لتنشأ ذرة الهيدروجين ، ومن ثم الهيليوم ولتصبح مادة الكون الاولى 75% منها من ذرات الهيدروجين و 23% منها من ذرات الهيليوم . هذه العملية جرت في الثواني الاولى من الانبعاث ، أي أقل من دقيقة. العلماء يقسمونها بالثواني ويتابعون المسألة لما جرى خلال دقيقتين وما بعدهما! وكل ذلك يجري ضمن حرارة فائقة التصور وإن بردت نسبيا . وراحت تبرد وتمر بمراحل مديدة وعصور مختلفة إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه .. وقد تناول الفيزيائيون والجيولوجيون معظم هذه التطورات . لن ندخل في تفاصيل هذه التفاعلات لأنها تخص العلم الذي كشف معظمها، بينما حواراتنا تركز على الجانب الفلسفي في المسألة الوجودية برمتها، وإن كنا نستنير بهذه العلوم لإغناء رؤيتنا. ويمكن لمن يرغب في معرفتها البحث عنها عبر الكتب أو شبكة النت . وقد أخبرنا العلم أن هذه التفاعلات دامت لملايين السنين حتى ظهرت ذرات متعادلة نجم عنها غازات وغبار تحولت عبر الأزمنة إلى غيوم أقرب إلى الضباب الكثيف. ويمكن تصور كم كانت هذه العملية شاقة ومعقدة حين نجد أن العملية استغرقت قرابة تسعة مليارات عام حتى اكتمل ظهورالكواكب والنجوم والمذنبات في بعض المجرات . وهذا رقم هائل جدا، ما دفع بعض العلماء للاعتقاد أن الوجود نشأ صدفة ، وأن كل ما يجري هو مجرد صدف ، وبالتالي لا غاية للوجود ، وهذا ما أختلف حوله مع العلماء. فكل ما نلمسه في الوجود يشير إلى أن للوجود غاية كما سبق وأن ذكرنا، والمؤسف أنه لا يمكن اثبات ذلك علميا ، لكنه ممكن بالاستدلال المنطقي. . وسنتطرق إلى ذلك بقدر ما في حينه ، أما عن الصدف ، فثمة احتمال كبير أن بعض عمليات الخلق كانت تتطلب من العقل/ الخالق أن يجري تجارب على ما يفكر فيه، لعدم وضوح قوانينها في عقله ، أو لخلل فيها، فينجح بعضها ويفشل بعضها الآخر، وربما حدثت ملايين التجارب ، حتى تم التوصل إلى ما هو ممكن أو إلى الأفضل .. يمكن الاستدلال على ذلك فيما بعد من مخلوقات حية كثيرة جدا، خلقت وانقرضت لعدم تكيفها مع بيئتها ، أو لعدم نجاح عملية خلقها من الأساس ، لأن قوانين الخلق كانت ما تزال تتشكل في عقل الخالق ، بل وما تزال ، أي أن الإطلاق في اكتمال قوانين الخلق لم يحدث بعد ، وقد لا يحدث ، فالقوانين تتطور باستمرار ، وعملية الخلق برمتها في تطور دائم . ولنا أن نتصور كم كانت العملية شاقة، حين نرى أن الشمس لم تكن قد شكلت قبل قرابة خمسة مليارات عام، وأن كوكب الأرض لم يوجد إلا منذ قرابة أربعة مليارات ونصف عام ، أي أن قرابة تسعة مليارات عام لم يكن فيها كوكب الأرض.
- وهذا يشير إلى أن خلق الكون بمجراته وكواكبه ونجومه هو ما استغرق معظم هذا الزمن الهائل ، وأن خلق الكائنات الحية لم يأخذ إلا بضعة ملايين من السنين .
- أكيد ، وخاصة إذا ما عرفنا أن تشكل الخلية الحية لم يكن إلا من قرابة خمسمائة مليون سنة أو أكثر قليلا . وإن أوغل بعض العلماء في ما هو أبعد من ذلك. حين تحدثوا عن وجود سلف لكل الكائنات الحية قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة ، كان وحيد الخلية.
- أستاذ محمود . كما أسلفت أنت إن ما يهمنا من حوارنا هو الجانب الفلسفي ، أما الجوانب الأخرى من فيزيائية وجيولوجية وبيولوجية ، فلا تعنينا إلا من حيث الاستنارة بها . فما رأيك أن نتناول مسألة واحدة من مسائل كثيرة تعنينا وتعني المشاهدين .
- هذا جيد . تفضلي.
- بعد أن تناولنا مسألة جوهرية تتعلق بالوجود ومن أين جاء وكيف ، آن الأوان لأن ندخل في الحديث عن الغاية ، ورغم أنك تحدثت عن غاية تتلخص في بناء حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال ، إلا أن بعض المشاهدين الذين لا يرون أن للوجود غاية قد يتساءلون لماذا كان هناك غاية للوجود ، فلماذا حسب رأيك ؟
- لأنه لا معنى لوجود دون غاية ، في هذه الحال يصبح الوجود عبثيا ، وليس في الإمكان اعتبار العبث بحد ذاته غاية . فلماذا الخلق إذن إذا كان الأمر كذلك؟ ليكن الدمار! ولماذا التعب والشقاء وخلق الانسان ؟ ليذهب الانسان إلى الجحيم . ولماذا بناء حضارة ، وتحقيق قيم خير وعدل ومحبة وجمال ، لمن ستوجد هذه القيم السامية إذا لم يكن هناك كائن أو كائنات تحقق ذلك وتتمتع به ؟ إن كل ما نلمسه ونراه يشير إلى أن للوجود غاية ، وتحديدا هي ما ذكرته، ولا شيء غير ذلك . إن الوجود دون غاية لا معنى له على الإطلاق. ولولا ذلك لما كان هناك وجود، ولما كان وجود كما هو عليه اليوم من كون وكائنات ، ولما كنت أنا وأنت نجلس في هذا الاستوديو ونتحاور حول سر الخلق.
- ماذا عن معتقدات ترى أن الغاية من الخلق هي خدمة الخالق أو خدمة الآلهة وعبادتها .
- هذه بدايات تفكير العقل الانساني في البحث عن حقيقة الوجود والغاية منه . فهذا العقل لم يكن قادرا على فهم الوجود والغاية منه ومن يكمن خلفه .
- لكن موضوع العبادة ما يزال قائما لدى الكثير من المعتقدات .
- لأن الفهم البدائي نفسه ما يزال قائما لدى الكثير من المعتقدات ، وإن حض بعضها على العمل وخاصة عمل الخير . المشكلة أنها لم تكن منسجمة في طرحها ، فثمة ما يمكن أن يعتبر شرا في شرائعها ، مقابل ما هو خير، ولم تستطع التخلص من تناقضاتها، حتى يومنا ، فهي حمالة أوجه كما قيل عنها ، أو عن بعضها على الأقل ، وهنا تكمن مشكلتها. وهي في الحقيقة مشكلة العقل الذي أنتجها حسب ثقافة زمنه. الخالق في مفهومي لا يحتاج إلى عباده لأنه في هذه الحال يعبد نفسه .. عمل الخير وما يرقى بالإنسان هو بحد ذاته عبادة .
- طيب لو عدنا لفهمك ؟ لماذا ترى أن الغاية من الخلق أو من الوجود ، هي رؤية القائم بالخلق لذاته مجسدة في وجود تتحقق فيه القيم التي تحدثت عنها ؟
- لأنه لا يعقل أن يظل الخالق قابعا في حقيل طاقوي دون ذري لا يرى نفسه ولا يراه أحد، فوجوده على هذه الحال لا معنى له. وما ينطبق على هذه الحال ينطبق على القيم ، فالوجود الشكلاني لمجرد الظهور في أشكال مختلفة دون قيم ودون غاية ما نبيلة ، لا معنى له أيضا ، أما لماذا القيم السامية والنبيلة، لأن القائم بالخلق لا يمكن أن يكون غير ذلك ، مهما كان هذا القائم بالخلق ، حتى لو كان الوجود نفسه ، وهو كذلك ! لأن قيم الخير والعدل والمحبة والجمال قيم عليا لا يعلو عليها قيم ، فكيف، لمن يقوم بالخلق أن لا تكون هذه القيم قيمه ، وأن لا يسعى لتحقيقها في ذاته ، أو في وجوده ، أو في خلقه إن شئت ؟
- كيف يمكن تلمس هذه القيم في الوجود ؟
- في جمال الخلق في الكون والطبيعة أولا . وفي القليل من أعمال الخير والعدل والمحبة لدى الانسان ثانيا. وما تنتجه الكائنات المختلفة لديمومة الحياة واستمرارها ثالثا.
- لماذا الخلق الأول ( الجمال) يبدو أقرب إلى الكمال ، بينما الخلق الثاني لم يتحقق إلا القليل منه ؟
- لأن الخلق الأول تم بفعل القدرالأعلى من خلق الخالق نفسه ، أما الخلق الثاني فقد تم بفعل الكائنات بما فيها الإنسان الذي يسري في خلاياه قدر يسير من طاقة الخالق.
- لماذا قدر يسير؟ لماذا لم يضع الخالق طاقته أو قدرته على الخلق ، كلها في الإنسان ؟!
- لأن الخالق لو وضع طاقته كلها في انسان دون غيره ، لأصبح ندا للخالق نفسه ، ولأصبحنا أمام خالقين وليس أمام خالق واحد، ولما بقي طاقة للإنسان الآخر وللكائنات الأخرى ، لكي تستطيع خلق نفسها ، ولكي تقوم بدورها في عملية الخلق. وفي بدء عملية الانبعاث لم يكن هناك انسان وحتى كون وكائنات .. الانسان جاء بعد أكثر من 13 مليار سنة .. ولك أن تتصوري كم المراحل التي مرت بها عملية الخلق ومقدار الطاقة التي وظفت فيها حتى وصلت إلى خلق الانسان الأول. وما اختصارهذه المراحل إلى مرحلتين : خلق الكون وخلق الكائنات الحية ، إلا مجازفة وتجاوزا منا لمراحل عديدة. والمسألة ليست عملية وضع قدر من الطاقة في هذا الكائن أو ذاك. إنها عملية بعث وبث وسريان في الكون ، وتعابيرنا من وضع وخلق وخالق كلها تعابير مجازية لتسهيل الفهم ، واجتهاد قدرالإمكان لفهم هذه العملية المعقدة جدا . فنحن أولا وأخيرا أمام قائم بالخلق أو خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، ليرى ذاته مجسدة في أجمل ما يمكن تصوره من أشكال وكائنات ، وأرقى ما يمكن تحقيقه من قيم نبيلة وسامية.
- أليس هناك امكانية لأن تكون هناك حضارات في الكون تحقق فيها قدر أعلى من الجمال والقيم ، أكثر مما تحقق على كوكب الأرض البائس ؟
- في ملحمة الملك لقمان تحدثت عن حضارات راقية وحضارات بدائية في الكون ، فإمكانية أن يكون هناك حضارات أخرى في ترليونات الكواكب والمجرات ،مسألة واردة وممكنة . وفي كتابه فيزياء المستحيل يتطرق الفيزيائي ميشيو كاكو، إلى توقعات بعض العلماء بوجود عشرة آلاف كوكب في مجرة درب التبانة وحدها، قادرة على استقبال الحياة الذكية . وأنه يوجد منها بعض الكواكب المتحضرة جدا، على بعد مئات السنين الضوئية من الأرض. وإذا ما قورنت حضارتنا بحضارات هذه الكواكب، وخاصة النوع الأكثر تطورا منها، بمقياس استخدام الطاقة، فهي أكبر بكثيرمن مستوى الحضارة بيننا وبين النمل !! وهذا يعني أننا على كوكب الأرض ما نزال نعيش في مستوى حضارة أقل من نملية !! وقد ذكر كاكو ثلاثة أنواع من هذه الحضارات المتطورة في الفضاء، استنادا إلى عالم فيزياء روسي.
- كيف تصور تطورها ، ولماذا تطوراتها متفاوتة ومختلفة ؟
- تقوم المسألة على استغلال الطاقة باستخدام قوانين الفيزياء. ففي حضارات من النوع الأول يتم حصد طاقة كوكبية باستخدام الإشعاع الشمسي الذي يسقط على الكوكب جميعه. ويتم تطويع البراكين والتلاعب بالطقس ، والتحكم بالهزات الأرضية ، وبناء مدن في المحيطات.. إن طاقة الكوكب جميعها تدخل ضمن تحكم سكانها.
حضارات من النوع الثاني، وهي تلك التي تستطيع استخدام القدرة الكاملة لشمسها ، مما يجعلها أقوى بعشرة مليارات مرة من حضارة من النوع الأول . وهذا النوع من الحضارة هو حضارة خالدة، ولا يمكن لأي شيء معروف في العلوم، كالعصور الجليدية أو ارتطام النيازك أو حتى للمستعمرات العملاقة أن تحطمها . ويمكن لهذه الكائنات في حال كان نجمها الأم على وشك الانفجار، أن تنتقل إلى نظام نجمي آخر ، أو حتى أن تنقل كوكبها نفسه !!
- (يا رب الكون ماذا يختلف هؤلاء عن الله )؟! علقت أسيل .
- سبق وأن تحدثت في مقال لي عن إمكانيات عالم الفيزياء ، حيث يمكن تفتيت جسد الانسان إلى ذرات وإطلاقه في الفضاء عبر موجات ضوئية إلى كوكب آخر وتجميعه هناك ليعود إلى حالته الطبيعية الانسانية ، وربما عمل أكثر من نسخة من الإنسان نفسه إن شاء ذلك !
- يا إلهي ! وماذا عن الحضارة الثالثة هل نرى الله في أروع تمظهر وتجسد له ؟!
حضارات من النوع الثالث ، يمكن لها أن تستخدم طاقة مجرة بكاملها ، وهي أقوى بعشرة مليارات مرة من حضارات من النوع الثاني. ويمكنها استعمار واستغلال مليارات الأنظمة النجمية ، كما يمكن لسكانها استخدام الطاقة من الثقب الأسود في مركز مجرتهم ، وهم يتجولون بحرية في مسارات الفضاء ضمن مجرتهم .. يعني لا تستغربي إذا ما عرفت أن الإنسان في هذه الكواكب المتحضرة جدا ، يمكن أن يتناول فطوره على كوكب ، وغداءه على كوكب ثان يبعد مائة سنة ضوئية ، وعشاءه على كوكب ثالث يبعد مائة سنة ضوئية أخرى !
- يا إلهي ! هذا يعني أن حضارتنا ما تزال دون الصفر! ونتبجح بأننا متحضرون ونعرف الحقيقة المطلقة . مأساتنا فظيعة.
- للأسف نحن فائض حاجة ولا يستبعد أن ننقرض!
- يخطر لي سؤال الآن .
- ما هو ؟
- كيف يرى الله هذه الحضارات المتطورة وكيف يتمتع بها ؟
- أسيل أنت تنسين أو أنك لست مقتنعة بأننا أمام خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، ففي هذه الحال كيف يمكن لخالق موجود في كل كائن أن يرى ويتمتع ؟
- يرى بعيني الكائن أكيد !
- أجل عزيزتي فكل العيون عيونه ، فهو يرى بها ويتمتع بما يراه بها ، وهذا الأمر ينطبق على الحواس كلها . نحن من الله والوجود كله من الله ولا وجود إلا له ! وها أنا أوظف مفردة الله جل جلاله لإرضاء اخواننا المتدينيين ، ولا ينظرون إلي كملحد ، وإن اختلف مفهومي لماهية وجوهر الله والإلوهية بشكل عام .
- لكن ثمة ما هو محير في هذه الفلسفة. إذا كان الله هو نفسه طاقة الخلق السارية في انسان الفضاء وإنسان الأرض ، فلماذا تقدم وتطور بشكل مذهل في الفضاء وظل متخلفا على الأرض؟!
- في البداية لا بد من القول أن تصور العلماء هذا ، مجرد تصور وقد لا يكون هناك وجود أرقى من الوجود القائم على كوكب الأرض. لكن لو افترضنا وجود ذلك ، فيمكن القول وببساطة شديدة ، لأن انسان الفضاء اعتمد على عقله ووظف طاقة الخلق الألوهية السارية في جسده على وجهها الأكمل، أي أنه جهد ليبلغ مستوى الألوهة نفسه ، بينما انسان الأرض لم يوظف عقله ولم يستغل طاقة الخلق السارية في جسده بالمستوى الممكن ، وبعض هذا الانسان ما يزال ينتظر الجنة الموعودة بعد موته ليحظى بحور العين ، ويعيش في راحة تامة إلى الأبد ، برعاية الله نفسه ، وما يوفره له من حياة راغدة !!
زفرت أسيل نفسا عميقا وهي تبتسم .. هتفت :
- هذا يعني أن احتمال انقراضنا وارد حسبما ذكرت !
- بل ووارد جدا ! فالله يريد انسانا يتجلى فيه، ويكون على مستوى الألوهة نفسها التي سيّرها في جسده! ليتمتع بجماله وجمال خلقه !
- ياه !! دائما تفجر في مخيلتي أسئلة كثيرة . لكن وقت الحلقة انتهى . شكرا أستاذ محمود ، وشكرا لمشاهدينا الأعزاء ، على أمل أن نلقاكم بخير في حلقتنا القادمة من أفق المعرفة ، لتعرفوا ما لم تعرفوه من قبل من فيلسوفنا وأديبنا الكبير محمود أبو الجدايل ! محدثتكم: أسيل القمر.
*****

(10) فاسق وبغي وقوّاد!
مساعدة محمود أبو الجدايل ولمى لأم بشير، فتحت لها نافذة مشرقة على الحياة، لم تكن تحلم بها ، غير أنها كانت محاصرة ممن يستغلون ظروفها . فكرت في أن تلجأ إليهما لعلهما ينقذانها من وضع فظيع . وهما بدورهما كانا يفكران في ما ستؤول إليه حياتها بعد وقوفهما معها ، فهل ستتوقف عن ممارسة الدعارة إذا كانت تمارسها ؟ وما هوعملها الآخر إن لم تكن تعمل في الدعارة؟ محمود كان متفائلا "بدت لي سيدة طيبة ويستحيل أن تستمر في الدعارة إذا كانت تمارسها ، طالما شعرت بوقوفنا معها" وكان هذا إحساس لمى أيضا ، التي طلب إليها محمود أن تتابع أحوالها قدر الامكان .
منذ الليلة الأولى لزيارتهما ، شرعت أم بشير في كتابة ما اعتبرته مأساتها ، لإحساسها بأنها لا تستطيع التحدث إلى محمود أو حتى إلى لمى بشكل مباشر ، ثم إنها لا تريد أن تثقل عليهما بشغل وقتهما .. وحين اتصلت بها لمى بعد بضعة أيام للإطمئنان عليها ، قالت لها أنها في حاجة إلى مساعدتهما ، وأنها كتبت رسالة إليها ، تتحدث فيها عن واقعها .
أرسلت لمى سائقا حمّلت سيارته بمواد تموينية للأسرة ، وحمّلته أم بشير سلامات حارة للسيد والسيدة .
جلست لمى إلى جوار محمود في صالون بيته . فضت غلاف الرسالة التي كانت موجهة إليها، وشرعت في القراءة على مسمع محمود :
سيدتي الفاضلة . لا يسعني في هذه الرسالة إلا أن أتقدم إليك بجزيل شكري وامتناني ، على ما قدمته لي مع السيد العظيم محمود أبو الجدايل . لا تلوميني سيدتي إذا ما رأيتُ ألوهة في الرجل الذي اختار دون غيره أن يقف مع أسرة من حاول قتله. ولا تلوميني سيدتي إذا ما رأيت ألوهة فيك أيضا . فأنتما لا تعرفان مدى الذّل الذي كنت أرزح وأطفالي تحته ، وقد لا تعرفان أن مساعدتكما لنا كانت بوارق أمل أنارت طرقها في غياهب ظلام أيامنا . فاسمحي لي يا سيدتي أن أنحني على قدميك أيضا لأقبلهما تقرّبا إلى ألوهية أراها فيك !
أنا يا سيدتي سليلة أسرة تدين ببقائها، عبرشخصيتي تحديدا، إلى خم دجاج ! كانت أمي طفلة في حدود الخامسة من عمرها ، حين داهمت عصابات الأرغون وشتيرن بلدة دير ياسين عام 1948 بعد استشهاد القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني، وشرعت في بقر البطون وقلع العيون وقطع الرؤوس والأيدي والأرجل والآذان، في أفظع مجزرة من مجموعة مجازر قامت بها هذه العصابات وغيرها .. خبأت جدتي أمي في خم الدجاج ، وطلبت إليها أن تكتم أنفاسها حتى لا يذبحها اليهود، ولا تحاول الخروج أبدا مهما طال الزمن، إلى أن يأتي من يخرجها. كان معظم رجال العائلة وبينهم جدي وأخوالي الثلاثة قد استشهدوا في الدفاع عن القرية حسب ما عرفت من أمي ، أما من بقي حيأ منهم فقد أعدم ، ولم تذكر مدونات التاريخ أن رجلا واحدا قد نجا من القرية . أما جدتي وباقي الفتيات والنساء فقد قتل معظمهن، ونكّل بأخريات، واغتصب بعض الفتيات والنساء منهن ! لم ينج من عائلتنا امرأة أو فتاة ، ممن نكّل بهن وطردن شبه عاريات إلى الأحياء العربية من القدس.
ظلت أمي مختبئة في خم الدجاج لقرابة ست ساعات . حين سمعت لغطا بعد قليل من الهدوء . كانت العصابات قد انسحبت من البلدة بعد أن دمرت كل شيء حتى المدرسة والمسجد . وألقت بعض الجثث والأوصال في بئر .. دخل الصليب الأحمر إلى البلدة وراح يجمع الجثث ويبحث عن أحياء فيها .. عثروا على بعض الأطفال الذين خبأهم أهلهم في أخمام الدجاج أو تحت ألقان العجين أو في الطوابين ومذاود الحمير، أو في جحور وحفر في أحياء البلدة .. كانت أمي من هؤلاء الأطفال ، فوجئت بالخم يفتح وأيدي تمتد لأخذها ، شرعت في الصراخ . هدأها صوت امرأة طالبا إليها أن لا تخاف . كانت أمي تتمتع بذاكرة قوية وتتذكر أيام طفولتها وهي ترويها لي ، ومن أهمها ذلك اليوم الرهيب في خم الدجاج .
انتهت أمي مع بعض الأطفال إلى دار للأيتام ، وضعهم الصليب الأحمرفيها . وظلت تدرس وتعمل في هذه الدار إلى أن تزوجت من شاب دون أن تكمل تعليمها ؟ نزحت مع الشاب على أثر حرب 1967 إلى الضفة الشرقية . أقاما في مخيم البقعة للاجئين . لم تنجب من الشاب ، ما دفع إلى الاعتقاد أنها عاقر، وهي لم تكن كذلك . كان العقر من الشاب. سافر الشاب إلى لبنان بحثا عن عمل . ووعد أمي أنه سيعود ويصحبها ما أن يستقر هناك ، لكنه لم يعد حتى يومنا . وبقيت أمي وحدها ، تقيم في خيمة دون معين لها في الحياة . راحت تبحث عن عمل في فنادق عمان ، عثرت بعد أيام من البحث، على عمل ، كعاملة تنظيفات في أحد الفنادق . تركت خيمة البقعة واستأجرت غرفة في مخيم الوحدات . تعرفت إلى شاب كان يعمل نادلا في الفندق الذي تعمل فيه ، تزوجت منه بعد بضعة أعوام . ومن سوء حظها أنه غادر إلى لبنان بحثا عن عمل هو الآخر ولم يعد ، فقد انضم إلى فصيل فلسطيني ليستشهد في حرب 1982على الفلسطينيين في لبنان. بعد مغادرة الزوج بأيام تبين أنها حامل بي . وهكذا جئت إلى الحياة عام 1981 في مخيم الوحدات. درست في مدارس المخيم حتى أنهيت المرحلة الاعدادية ، وخرجت إلى العمل لمساعدة أمي ، التي كانت تعاني من أمراض مختلفة بين فترة وأخرى ، وحين كانت تستريح في البيت لبضعة أيام ،كنت أذهب للعمل بدلا عنها. تعرضت لمحاولة اغتصاب من قبل صاحب الفندق . نجحت بما أوتيت من قوة في منعه من فض بكارتي ، التي تعلمت أن شرفي يكمن فيها !! لم أخبر أمي بما حدث معي حتى لا أضاعف معاناتها من الاكتئاب والتهابات القولون والمعدة والأمعاء وغير ذلك من الأمراض. وتوقعت أن تكون أمي قد تعرضت للأمر نفسه ، أوأنها قبلت على مضض أن تقيم علاقة معه. وهذا ما قبلت به أنا أيضا مرغمة ، شريطة أن لا يفتض بكارتي ! وهذا ما لم يصمد طويلأ أمام قسوة الحياة ، وعدم وجود من يحميني وأمّي ، ليغدو كل جسدي مباحا لهذا العجوزالقذر!
رحلت أمي عن الدنيا بعد قرابة خمسة أعوام من مكابدتها لأمراض مختلفة . ساعدني بعض أهل الخير على دفنها .. وبدأ المدير وهو يتخطى الخامسة والسبعين من عمره، يقلل من استدعائي إلى غرفة نومه ليعبث بجسدي بما لا يخطرعلى بال !
قرابة ثلاث سنوات فقط كانت تفصلني عن سن الثلاثين، دون أن أعرف أي شيئ عن مستقبل حياتي، بعد رحيل هذا العجوز الذي كان يغتصبني منذ اثني عشرعاما. في جلسة بعد ممارسة مقبولة معي ، بدا لي خلالها هادئا ، طرحت عليه ما كنت قد طرحته عليه من قبل ، أن يكتب لي عقد زواج بأي شكل ، يثبت أنني كنت متزوجة منه، حتى أجد تبريرا لعدم عذريتي إذا ما تقدم إليّ أحد للزواج . وأقسمت له أنني لن أطلع اسرته على هذا العقد، ولن أطالب بأية حقوق. وافق . أحضر لي بعد أيام عقد نكاح عرفي بتوقيع شيخ وشاهدين . وطلب إلي أن أوقع عليه بدوري ، بعد أن خربش بدوره ما يمكن أن يعتبر توقيعه. أراحني العقد نسبيا رغم قناعتي أن كل ما فيه لا صحة له ، إلا انتهاك جسدي من قبل هذا العجوز!
لم يمكث طويلا بعد ذلك اليوم . فقد مرض مرضة الموت .. الشيء الوحيد الذي يمكن أن أذكره له أنه أعطاني مبلغ خمسمائة دينار وصرفني من العمل ، ربما ليضمن ابتعادي عن أسرته ومعارفه ، مما قد يدفعني إلى البوح ببعض أسراره .
بدأت ولأول مرة في حياتي أشعر أنني أملك نفسي ولا أحد يستغلني ، وتمنيت لو أظل كذلك مدى حياتي . أقبلت على قراءة الروايات بنهم ، أعادتني رواية " الهجرة إلى الجحيم " لمحمود شاهين إلى تفاصيل مجزرة دير ياسين ، وخلال قراءتي لتفاصيل المجزرة كنت أتخيل طفولة أمي قابعة في عمق خم الدجاج ، وهي ترتجف وبالكاد تتنفس . ثمة تفاصيل لجرائم فظيعة اقشعر لها بدني. لم أتعاطف كثيرا مع هذا المهاجر البولندي وطفليه ، لكني تعاطفت مع الفنان الفلسطيني أبراهام ومع محبوبته التي ذبحت ( إيريس) ! وأحببت الفدائي فداء وراحيل التي غرقت في حبّه . تعيش تحررا تحسد عليه ..
أدهشني دوستويفسكي وهو يغوص في أعماق شخصياته لينشرها على الملأ .. حزنت على سونيا العاهرة في الجريمة والعقاب .. أحسست بمأساتها وعذاباتها .. وتعاطفت مع راسكولنيكوف رغم قتله للعجوز.
يأبى القدر أن يبقى بعيدا عنّا يا سيدتي ، فيحيك لنا مصائرنا في غيبة منّا .. كنت أشاهد خلال مروري أمام مقهى رصيفي مجاور لحارتي ، رجلا يجلس أمام كنبة صغيرة على زاوية المقهى يدخن الأرجيلة . ما أن أطل من رأس الحارة حتى أحس بعينيه ترقبانني. مرة واحدة أدرت وجهي قليلا نحوه وأنا أمر من أمامه فابتسم لي . تابعت طريقي دون أن أبتسم له طبعا ، لكن بالمقابل لم أرسم على شفتي ما يشير إلى أنني ضد أن يبتسم لي. فالإبتسامة تظل ابتسامة مهما كان ما تخفيه .. بعد بضعة أيام من تلك الابتسامة، زارتني سيدة مسنّة ادعت أنها خطّابة . سألتها عن عمر العريس وماذا يعمل . أجابت أنه في الخامسة والثلاثين وأنه يعمل في قصارة البناء.
قلت لها أن لا مانع لدي أن أتعرف إليه. فاجأتني حين قالت لي أنني أعرفه، فهو رجل الأرجيلة إياه . طلبت إليها أن تحضره معها في زيارة ثانية . وهذا ما تم . يلتقي الرجل معي بانتمائه إلى أسرة فلسطينية استشهد معيلها في حرب 48، ونزحت الزوجة مع ابن وابنة إلى الضفة الشرقية . وهو ابن لهذه الابنة . أما الابن فقد استشهد في عملية فدائية . والأب كذلك . ولم يبق من الأسرة غيره على قيد الحياة . ربما كان لمجموعة هذه النقاط النكبوية بيننا، دور في موافقتي على الارتبا ط به . لم ينل من التعليم إلا الابتدائية ، وليس لديه أي اهتمامات ثقافية . لم يكن وسيما ، غير أن شكله كان مقبولا . يدخن بشراهة، وهذا أول شيء كرهته فيه بعد الزواج . أما الشيء الثاني الذي كرهته فيه، فكان شبقه ، يمارس الجنس مرتين في اليوم كحد أدنى. ودون أي اعتبار لوجودي معه كشريكة في العملية، إلا بما يؤجج رغبته ، كأن أقوم بأوضاع معينة يحبها ، أو أتلفظ بتعابير وقحة يطلبها، تشير إلى سلطته المطلقة على كل عضو في جسدي، ليغدو جسدي مجرد وعاء يطفئ شهوته فيه خلال دقائق محدودة ، دون أي اهتمام لحاجات هذا الجسد. وحين أكون مريضة يلجأ إلى الاستمناء على جسدي أو يرغمني على ممارسة فموية، أو يبحث عن عاهرة عبر صديق له، عرفت فيما بعد أنه قواد . ومن أغرب وأعجب وأفظع ما حدث لي أن يصبح هذا القوّاد، قوادا لي أيضا، بعد أن ضاقت الحياة في وجهي وجاع أولادي على أثراعتقال هذا الزوج البائس بعد محاولته اغتيال الكاتب محمود أبو الجدايل .
قد ترغبين في أن أتعجل السرد يا سيدتي لتعرفي التحوّل الذي طرأ على زوجي حتى تحوّل إلى مدافع عن الله . وها أنا أفعل ياسيدتي ، ولإحساسي أنني أطلت عليك في المقدمة .
لم يكن لزوجي البائس أي اهتمامات دينية على الاطلاق ، إلى أن تعرف إلى شيخ يدعي أنه من أصحاب الدعوة ، ومن دعاة العودة إلى الاسلام الصحيح الذي لم يعد يتبعه أحد ، ولذلك ضاعت فلسطين ، كما ضاعت انتصارات المسلمين حسبما يرى .. لا أعرف كيف استطاع هذا الرجل أن يقلب حياة زوجي رأسا على عقب . كان أول شيء فعله هو أنه حطم التلفاز ، وقال إنه لا يريد أن يرى صورا أو يستمع إلى موسيقى وأغان . فكل هذه المسائل محرمة في الاسلام ! وفرض علي وعلى طفلتنا الحجاب خارج البيت . وأدمن الصلاة وقراءة القرآن، وغير نوع لباسه إلى ما يعتقد أنه لباس صحابة النبي. وراح يستشعر في نفسه أنه صحابي ومن صحابة الرسول . أما عن سلوكه الجنسي فلم يتغير شيء على الاطلاق . بل ازداد الأمر سوءا ، حين أقنعه الشيخ ، أنه يحق للمسلم أن يبيح لصديقه المسلم، ممارسة الجنس مع زوجته . وهكذا أصبح الشيخ يضاجعني على مرأى عيني زوجي أحيانا ، وبوحشية فاقت وحشية زوجي ، إلى حد أنني أشعر بالاختناق في كل مرة يضاجعني ، بينما زوجي يتمتع وهو يراني أكاد أختنق بسوأة هذا الفاسق!
لم أكن أعرف أنني امرأة ضعيفة إلى هذا الحد يا سيدتي . وأن المقاومة السلبية مهما بلغت من الشدة تبقى سلبية ، وأنه لا مجال في هذه الحال إلا للرفض المطلق ، وليس تقبل الأمر بالإكراه أو على مضض! ربما كان للأطفال دورفي تقبل هذا الذل، فلم أكن أتصور أن أرى أطفالي مشردين.
كانت هذه حالي قبل عملية الاغتيال . أما بعدها فقد كانت أسوأ بكثير . فقبل عملية الاغتيال لم أكن مسؤولة عن إعالة الأطفال . أما بعدها فقد أصبحت أنا المسؤولة في مجتمع لا يرحم يا سيدتي .
كثر الحديث في المجتمع عن الكفر والإلحاد ، وكثرت بالمقابل عمليات الإرهاب التي كان من أبرزها اغتيال الكاتب ناهض حتر. وبدأ اسم محمود أبو الجدايل يتردد بين زوجي وأصدقائه كملحد لا بد من قتله دفاعا عن الله ، لينعموا بدخول الجنة حيث الحياة الأبدية مع حور العين في ظلال العرش الإلهي !! الربط بين الأمرين لم يكن يتم علانية ، لكن حديث الجنة وحور العين كان أمتع الأحاديث في سهرات زوجي مع أصدقائه المؤمنين . فجأة أصبح هؤلاء البشر على استعداد لبيع الدنيا بما فيها مقابل ذلك .. والطريق إلى الجنة ليست إلا الجهاد في سبيل الله ! ولا شك أن قتل ملحد ، أو كافر، جهاد ، حسبما يعتقدون .
فاجأتني محاولة اغتيال محمود أبو الجدايل كما فاجأت كثيرين . كان أبو بشير يملك مسدسا منذ بضعة أعوام . ابتاعه لنفسه كهواية .. ولم يلمح أمامي إطلاقا إلى ما سيقدم عليه . ولم يبد عليه أنه قلق علي أو على أولاده ، فنحن لم نعد أكثر من متاع دنيا لا حاجة له به !
هنا بدأت مصيبتي الفظيعة يا سيدتي. لم يترك أبو بشير مالا لدينا إلا ما يكفينا لبضعة أيام .. وكان علي أن أتدبر الأمر بسرعة . فكرت في البحث عن عمل مهما كان ، لكني احترت في أمر الأطفال. فكيف سأوفق بين العمل وتربية الأطفال؟ ومع ذلك حاولت ، إنما دون جدوى، لم أعثر على أي عمل . لجأت إلى هذا الشيخ الفاسق الذي يضاجعني ويفرض علي ما لا يتصوره عقل خلال الممارسة . خصص لي مبلغ ثلاثين دينارا في الشهر، واشترط علي أن أمتعه أكثر ليزيد المبلغ .. آه آه يا سيدتي ، ماذا أفعل لهذا الفاسق لأمتعه أكثر، فجسدي كله مباح له ليعبث به كيفما يشاء، هل أسجد لقضيبه ؟ سجدت يا سيدتي ولم يبق إلا أن أصلي له ، وأقول فيه شعراً! إنه يلمح إلى افتراس الطفلة والطفل !! إذا ما أرغمني على تقديم أحدهما له، سأقتله يا سيدتي وليكن ما يكون! كفرت بالحياة ، وبالآلهة ، وبالدول ، وبالبشر، يا سيدتي ، ولم يمنعني من الانتحار إلا وجود الأطفال ، رغم أن إعالتهم بهذه الطريقة ليست إلا شكلاً آخر للإنتحار، بل أسوأ أنواع الانتحار.
زارني القواد الذي لم أكن أعرف أنه قواد، محتجّاً بالإطمئنان على أحوال زوجة صديقه في غيابه في السجن . أعطاني عشرين دينارا ، ولم ينصرف قبل أن يضاجعني يا سيدتي..
أحمد الله أن هذا البائس الأحمق زوجي استطاع أن يتملك هذا المكان الصغير من الأرض وأن يبني فيه كوخا ، وإلا لأصبحت حياتنا جحيما ، فنحن على الأقل سلمنا من دفع أجرة بيت ، ولا ندفع إلا مقابل الكهرباء والماء وضريبة التلفاز المحطم ! وما تبقى لا يكفي لوأد جوع أسرة من أربعة أشخاص .. بدأ سوء التغذية يظهر عليّ أولا لأنني كنت أفضل صحة الأطفال على صحتي، لكنه لم يتأخر كثيرا حتى بدأ يظهر عليهم .
كان بعض أصحاب زوجي قد زاروني وضاجعوني ، بدافع من القواد نفسه، أو بدافع منهم ، ولم يكن من بين جميع من يعتبرون أصدقاء زوجي من زارني بدافع انساني ، كلهم كانوا يرغبون في مضاجعتي ، مقابل بضعة دنانير، ولم تكن الصداقة إلا وهما لا وجود له على الإطلاق. والأمر نفسه لا يختلف عن أخوة الإيمان. إنه مجرد هراء. كهراء هذا الشيخ الفاسق .
صارحني القواد بأنه لم يطلب مني أتعابا مقابل مضاجعة بعض الأشخاص ، نظرا لظروفي الصعبة ، لكن من الآن فصاعدا لا بد من أتعاب إذا ما أحببت الاستمرار في العمل معه .. وافقت .. فالظروف قد تزداد سوءا .. وقد لا تصدقين أن حقوق القواد هي مناصفة معي يا سيدتي. ألقى عليّ محاضرة في أصول المهنة ، التي لم تعد مجرد فتح ساقين لرجل يقضي أربه خلال لحظات وينصرف . لا، فالممارسة أنواع ، والرغبات أنواع وأشكال ، ولكل سعره . ويمكن تلخيصها في ثلاثة أنواع: فرجي ودبري وفموي. ولكل ممارسة وما يتبعها سعر . فوجئت بأن سعر الممارسة الفرجية هو الأرخص بين الممارسات .. يأتي بعدها الممارسة الدبرية ومن ثم الفموية !
لن أطيل الحديث يا سيدتي فثمة الكثير مما يتبع هذه الممارسات وقد يتطلب زيادة السعر .. وثمة ما يتعلق بالوقت الذي يمكنني أن أستقبل فيه زبونا أو أذهب إلى بيته ، ومسائل أخرى كثيرة تتعلق بالكم والكيف والزمن وغيرذلك ..
هذه حياتي باختصار يا سيدتي . لتعرفا مدى ما شكلته زيارتكما ومساعدتكما لي من انقاذ كان أشبه بحلم أسطوري لا يصدق . فهل تلومانني إذا ما اعتبرتكما إلهاً وإلهة ، وسط عالم وحشي أعيش فيه !
وإني لآمل يا سيدتي أن تتمكنا من مساعدتي لإنقاذي من براثن الفاسقين والقوادين والمتاجرين بالدين . وترك هذا المكان الذي لم أعد أحتمل بقائي وأولادي فيه ، لما شكله من أيام قهر وذل ومعاناة عشتها فيه . علما أنني سأقدم كل مساعدة ممكنة تطلبها مني القوى الأمنية، تتعلق بمعلومات عن هؤلاء الأشخاص الذين كان يتعامل معهم زوجي.
محبتي واحترامي سيدتي .
بشرى ابنة الغيب !
*******


(11) أحلى وأجمل وأعظم أخ !
" يا إلهي يا إلهي ! هل يعقل أن توجد حياة مثل هذه في هذا الزمن ؟! " هتف محمود أبو الجدايل ملتاعا ، حين فرغت لمى من قراءة رسالة أم بشيرالتي تنضح بفظاعة الألم والمعاناة .
- وربما تكون حياتها رغم مأساويتها أفضل من غيرها ، فهي تعيش في كوخ يأويها وأولادها ولا تدفع أجرة مسكن . عقبت لمى .
- ماذا يمكن أن نفعل لها ؟
- لا بد من الرحيل عن الكوخ حتى لا تظل تتعرض لمضايقات من كانت تتعامل معهم .
- هل نبحث لها عن منزل؟
- ممكن . ويمكن بيع الكوخ والأرض المقام عليها بمبلغ مقبول يفيد في شراء شقة أو دفع أجرة لمسكن .
- ما رأيك أن تتصلي بها لنطمئن عليها .
- سأرى! وسارعت إلى الاتصال:
- مرحبا أم بشير.
- أهلا يا سيدتي.
- كيف حالكم أنت والأطفال.
- نحن بخير منذ أن نعمنا بفضلكم يا سيدتي . استطعت أن أبدي قدرا من الشجاعة، وأن أكف أيدي الأشرارعنّا ولو مؤقتاً، وامتنعت عن استقبال أحد ، وهددت الشيخ والقواد وغيرهما بإبلاغ الشرطة إذا ما تمادوا في الإصرار على زيارتي. لكن لا بد من تدبر الأمر قبل أن يكيدوا لي ، وخاصة بعد أن عرفوا بالنعمة التي أغدقتموها علي . وضعت النقود في البنك وشرعت في البحث عن شقة بعيدا عن وادي الحدادين . للأسف لم أعثر حتى اليوم يا سيدتي . وآمل أن يكون في مقدوركم أنت والسيد مساعدتي في هذا الأمر.
- سنعمل كل جهدنا أم بشير، اصمدي ليومين أو ثلاثة أيام على الأكثر. سنباشر منذ الآن البحث عن شقة لكم . حاولي أن تحضري الأشياء غير الضرورية للرحيل . وانتظري مني هاتفا في أي وقت .
- ألف ألف شكر سيدتي . إلهي يحفظك . أقبل يديك . سلمي لي على السيد . أقبل يديه .
- الله يسلمك أم بشير . لكن دون تقبيل أيدي.
- أرجوك سيدتي دعيني أعبر عن شعوري تجاهكم بالحد الأدنى الذي يرضيني .
- طيب أم بشير كما تشائين. إلى اللقاء .
- في حفظ الله سيدتي. إلى اللقاء.
******
" عظيم أنها تمكنت من ردع شلة الأوغاد " عقب محمود وقد استمع إلى الحوار.
- سأتصل بسليم لعل إحدى شققنا المؤجرة قد فرغت .
- أنت هائلة لمى !
شرعت في الاتصال بأخيها.
- مرحبا سليم
- هلا لمى.
- كيفك يا أحلى وأجمل أخ !
- مشتاق لك وللأستاذ !
- تشتاق لك العافية . حبيبي بدي منك خدمة .
- اؤمري . بس ما تكونوا مقطوعين في هضاب البحر الميت ؟!
- لا حبيبي .. مسألة مختلفة .
- شو هيّه؟
- بلاقي عندك شقة فارغة من شققنا المؤجرة ؟
- آه فيه شقة فرغت من أسبوع ولم تؤجر بعد !
- يا حبيبي ما أروعك ! فيه أسرة فقيرة صديقة لنا تبحث عن بيت !
- ليشرفوا .. الشقة جاهزة لأسلمهم إياها .
- حبيبي انته ! ليس عندهم أحد . هم سيدة وثلاثة أطفال . سأعطيك العنوان . أرسل لهم شاحنة وعاملين لتحميل عفشهم .. وسيارة لتقلهم .. لا تعمل عقد إيجار مع السيدة أنا مسؤولة عن كل شيء.
- ألف تكرمي . أنا كم أخت عندي ؟!
- يخلي لي إياك يا أعظم أخ !
- متى يمكن أن تبدأ في الأمر؟
- فورا يا أختي . دعيهم يجهزون أنفسهم للرحيل خلال ساعة على الأكثر .
- حبيبي . ربي يسعدك ويحقق لك كل أمانيك !
عانق محمود لمى وراح يشكرها لكرمها ولهذه السرعة التي حلت بها المشكلة . مبديا اعجابه وتمنياته لهذا الأخ العظيم ، الذي يبدو أنه يحمل ثقافة انسانية مغايرة لثقافة المجتمع .
خابرت لمى أم بشير وطلبت إليها أن تجهز هي والأولاد للرحيل .
******
لم تصدق أم بشير نفسها .. ربما تعيش في حلم منذ أن زارها محمود أبو الجدايل وهذه السيدة التي لا تعرف نوع علاقتها به . فبعد قرابة ساعتين من محادثة السيدة معها ، وجدت نفسها تسكن مع أولادها في شقة في الطابق الثاني في بناء من أربعة طوابق في أحد أحياء جبل عمان !! السيد أبو الجدايل ليس عندها لتسجد على قدميه وتقبلهما ، والسيدة كذلك ، ليس هناك إلا الله في سمائه ، هو لا شك من أرسلهما لها ، إذن لتسجد له وتقبل أرض الشقة تقرّباً إليه. وهكذا فعلت وطلبت إلى الأطفال أن يفعلوا .. سجدوا وقبلوا الارض وشكروا الله ، وتضرعوا إليه أن يحفظ السيد والسيدة . ضمت الأطفال وراحت تحتضنهم وتقبلهم وعيناها تختلجان لأول مرة في حياتها بدموع الفرح، وليس دموع الألم والحزن .
******
محمود أبو الجدايل . التقى ضابط الأمن الجنائي وأخبره بأن أم بشير ستدلي بكل ما تعرفه عن الرجال الذين كان زوجها يلتقي بهم ، ورجاه أن لا يقوموا باستدعائها إلى قسم الأمن ، ليذهب عنصر أمن إلى بيتها ويأخذ أقوالها هناك ، فهي سيدة ضعيفة وقد لا تحتمل أعصابها استدعاء. وهذا ما تم ، حتى أن أبو الجدايل ولمى استبقا دورية الأمن إلى بيت أم بشير وأخبراها أن ضابط أمن سيزورها خلال وجودهما عندها ليأخذ أقوالها . وحين جاءت الدورية . اختلى ضابط بأم بشير وأخذ ما لديها من معلومات وأسماء بعض الأشخاص . وعلى أثر هذه المعلومات تم اعتقال الشيخ والقواد وخمسة آخرين ، ليخضعوا للتحقيق.
*******

(12 مذهب وحدة الوجود حسب الصوفية الحديثةّ!
استقبلت محمود أبو الجدايل بالعناق والقبل ، لأدخل البهجة إلى نفسه ، ولأنشط ذهنه لتقبل أسئلتي التي قد لا تخلو من تعقيد هذا اليوم . بدا على محمود أنه انتشى بالقبل حين أشارإلى أن تقبيل الخدود الأسيلة أجمل صلاة للتقرب إلى الخالق وتلمس جماله ! فما كان مني إلا أن أشرعت له خدي مرة أخرى ليأخذ قبلة عميقة! غيرأنني قلت :
- لكن أليس التقبيل هو تقبيل الخالق لنفسه حسب فلسفتك؟
- آه منك ! أحسنت . بمعنى أدق :هو تقبيل جزء يتجلى فيه قدر من الخالق، لجزء آخريتجلى فيه قدرآخر من الخالق ذاته! لأن الذات الخالقة متعددة في تجلياتها وتمظهراتها رغم وحدانيتها ! ولا يجوز إطلاقا أن تتجلى بكليتها في كائن بعينه، بل بالوجود بكليته، فالكمال إن وجد، لها وحدها.
- مسألة التجزؤ هذه إذا جاز التعبير قد تكون صعبة على فهم المشاهد. فكيف تكون الذات الإلهية وحدانية ومجزأة .
- االأمر يكمن في السر الواحد الذي جاء منه الخلق، لا يمكن فهم ترليونات ترليونات الأجزاء التي تشكل الوحدة الكلية إلا إذا فهمنا الأصل الواحد الذي جاءت منه . تقول ملكة السماء في ملحمة " غوايات شيطانية " حين يسألها الأديب عما إذا يتوحدون بالذات الإلهية وتتوحد الذات بهم :
واحدية الله هي الأصل
هي الأساس والنبع
هي رعشة الروح
السارية حياة في الكون
هي نقطة الماء
في النهر والبحر
في التراب والجسد
في النبات والحجر
لولاها لما توحدنا
ولولاها لما تعددنا
ولما كان تعددنا
في توحدنا
وتوحدنا الأبدي في تعددنا
هي الكل في الكل بالكل
والكل في الكل بالكل هي !
تسري بحركة دائبة
في غيهب الكون
والكائنات
***
- الله ! المدير طلب أن يراك قبل أن ندخل إلى التسجيل .
- ماذا هناك ؟
- شاهد جميع الحوارات التي أجريناها . وربما يريد أن نبدأ بث الحلقات .
استقبلنا المدير بوجه باش ورحابة صدر. وراح يثني على محمود لفلسفته الرائعة وأفكاره الجميلة :
- حقيقة أستاذ محمود أنني أعجبت جدا بفلسفتك رغم أن المرء قد لا يتفق مع بعض ما جاء فيها . يكمن جمالها في أنها فلسفة انسانية ، تنشد غايات انسانية نبيلة ، لذلك لا يستطيع أحد أن يرفضها .. قد تعتبر فلسفة مغرقة في المثالية من قبل بعض الناس ، لكن ذلك لن يضيرها . وأعتقد أن كثيرين سيقدمون على متابعتها ما أن نشرع في بثها . وإنّي لآمل أن تساهم بشكل جيد في تنوير عقول الاجيال الجديدة الصاعدة . مع حلقة اليوم يكون لدينا مجموعة حلقات جاهزة .. بذلك يكون لدينا متسع لتسجيل المزيد من الحلقات .. ما رأيك أن نبدأ البث اعتبارا من الأسبوع القادم .
- ممكن .
- وأي ساعة نبث الحلقة ؟
- اعتقد أن الحادية عشرة قبل منتصف الليل وقت مناسب جدا .
- ما رأيك أسيل ؟
- وأنا أيضا أعتقد ذلك .
- هل يكون البث اسبوعيا أم نصف شهري أم كل عشرة أيام مثلا .
- أفضل اسبوعيا وفي يوم محدد . ويمكن أن يعاد في اليومين التاليين خلال أوقات محددة .
- وهو كذلك ؟ وسنبدا الاعلان اعتبارا من اليوم . كنتما أنت وأسيل رائعين .. أحييكما..
*****
احتسينا القهوة في مكتب المدير . ومن ثم دخلنا إلى الأستوديو . ما أن انتهيت من المقدمة حتى شرعت في الحديث إلى الأستاذ محمود أبو الجدايل :
- أستاذ محمود . رغم تطرقنا إلى الأسس التي يقوم عليها مذهب وحدة الوجود ، إلا أن فهم المذهب ما يزال صعبا ، فوحدانية الخالق والخلق ، عسيرة على فهم معظم المشاهدين من نواح مختلفة ، فكيف يكون الخالق في قرد مثلا ، أو بعوضة ، أو ذبابة ، أو ما شابه ، هذا ما يخطر ببال المؤمنين لإيمانهم بخالق منزه عن الوجود والخلق ، حين يتم التطرق إلى مذهب وحدة الوجود ، وأنه ليس في الوجود إلا الله . ماذا نقول لهؤلاء الناس ؟ وكيف نُفهمهم؟
- المشكلة تكمن في عدم فهم الناس للمذهب، وخاصة بعد أن صوّر الاعتقاد التقليدي الله منزها عن الوجود بجلوسه على عرش في سماء سابعة ، وأن عملية خلق الكائنات تتم بأمر إلهي ، ليكن كذا فيكون ، وفي هذه الحال قد يتقبلون خلق الله للقرد والبعوضة والذبابة ، لغاية لا يعرفها إلا الله نفسه ، وقد لا يتقبلون ، فبعضهم أو حتى معظمهم يكرهون ويحتقرون هذه المخلوقات وغيرها مع أنها من خلق الله حسب فهمهم . ولو أنهم فكروا في عملية الخلق لوجدوا انها لا تتم بشكل فوري ، بل يحتاج بعضها إلى سنين طوال ليكتمل خلقه، كخلق الانسان مثلا . فهو يحتاج إلى أكثر من تسعة أشهر في رحم المرأة ، ويحتاج إلى ثمانية عشر عاما خارجه ليكتمل نموه. ولم يتم الفعل بأمر إلهي بل نتيجة مواقعة بين ذكر وأنثى. وبالتالي فإن عملية خلق قرد وبعوضة وذبابة لم تتم كذلك أيضا ، وربما تمت خارج إرادة إلهية . لكن وانطلاقا من فهمهم المستند إلى أوامر إلهية عليا، لا يتقبلون أن يكون الله مجسدا في قرد أو بعوضة ، وهذا ما لا أتقبله أنا أيضا ، فحسب هذا الفهم يكون في الوجود آلهة بعدد ترليونات ترليونات المخلوقات . وأنه يحق لكل مخلوق أن يقول أنا الله ، كما سبق لبعض المتصوفة أن قالوا . المسألة ليست هكذا .. الخالق طاقة عقلانية غير طقمادية كما أسلفنا بثت في الكون منذ نشأته ، تتم بها عملية الخلق دون التحكم المطلق بها ، لأن مسألة التحكم المطلق لم يتم تحقيقها أو التوصل إليها بعد ، ما حصل خلال أربعة عشر مليار عام من عمر الوجود هو تحكم نسبي وليس مطلقا . والحديث هنا عن طاقة وليس عن خالق أو إله ، وما استخدام التعبيرين إلا مسألة مجازية . لذلك نشأ في الكون وسينشأ كائنات كثيرة لا ضرورة لها . وإذا ما أردنا أن نخضع هذا الفهم إلى تجسد أو تجلّ لخالق أو ألوهة في الكائنات ، فإنه يمكن القول أن الخالق لا يرى نفسه في البعوضة والذبابة، وربما في القرد أيضا ، كما لا يرى نفسه في انسان قبيح وشرير ، رغم أن هذه المخلوقات تمت بفعل طاقته الخالقة السارية في الكون. الخالق لا يرى نفسه إلا في الجمال والخيروالمحبة ولا يرى نفسه في الشر والقبح والظلم، فأينما وجد الجمال ، وجدت الألوهة في تجليات مختلفة في الطبيعة، من النهر إلى البحرإلى الجبل إلى الوردة إلى الشجرة إلى الانسان . هل وضحت المسألة ؟
- أعتقد أنها واضحة لي ، وأمل أن تكون واضحة للمشاهد .
- أنت يا أسيل جميلة جدا وتحملين قدرا ما من جمال الألوهة، لكنك لست الله ، ولن تكوني ، فكيف يمكن أن تكون البعوضة أو الذبابة أو القرد ، إلهاً . حتى الفهم الصوفي البدائي لا يقبل هذا الحمق. الوجود كله لله دون أن يكون كل كائن فيه يحمل قدرا من الالوهة، رغم سريان طاقة الألوهة أو طاقة الخلق فيه .
- يخطر لي تساؤل هنا حول فهم المتدينين لمسألة الوجود لله ، كيف يفهمونها؟
- على الاغلب لأن الوجود في نظرهم فان رغم أنه من خلق الله ، وحين يفنى الوجود لن يبقى غير الله في عليائه.
- لكن العلياء أيضا وجود وقد يفنيها الله مع الفانين إذا ما أراد .
- هم لا يرون ذلك .. ففي هذه الحال لن يبقى مكان للخالق ليجلس فيه ، ولن يبقى جنة ونار!
- لا أعرف . قد يكون روحا لا تحتاج إلى مكان!
- أصبحنا أمام فهم آخر أقرب إلى العدم ، فهل تكون الروح في العدم ؟ هذا إذا كان هناك روح! فالروح حسب فهمي هي طاقة الحياة . وليست حالة مجردة. وطاقة الحياة تسري في كون وكائنات وليس في العدم.
- وأنا أيضا لا أعتقد بوجود روح في العدم .. سندخل إلى عملية الخلق من باب آخر. لقد سبق لك أن قلت أن الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق الكلية السارية في الكون . إلى آخر القاعدة .. هل لك أن تضرب للمشاهدين مثلا يوضح هذه النظرية ؟
- لنأخذ خلق الانسان مثلا . خلق الانسان تم من مادتين تتمثلان في مني الرجل وبويضة المرأة . هاتان المادتان ينجم عنهما طاقة تتفاعل مع الطاقة الخالقة السارية في رحم وجسد المرأة وفي الكون . فإذا كانت المادتان صالحتين ينجم عنهما كائن انساني سليم ، وإذا كانت إحدى المادتين غير صالحة لسبب ما ،لن ينتج خلق عنهما ، أو ينتج خلق مشوه . ليس هناك مواد إلا وينتج عنها خلق ما .. وخاصة الكائنات الحية .. حبة تين أو أي حبة فواكه أو خضار في مطبخ بيتك ينتج عنها خلق ما إذا ما خمجت.. افتحي حبة التين ستجدين يرقات أو دودا قد تشكل فيها . ليس لأن الله قال ليكن كذا في حبة التين هذه ، بل لأن المواد التي تتكون منها حبة التين يتولد عنها طاقة تتفاعل مع طاقة كونية سارية ينجم عنها خلق . الأمر كله ينطبق على كل المواد في مطبخ بيتك وحتى على جسدك .. لا تستحمي لبضعة أشهر ستجدين أن القمل قد غزا جسدك .. وهذا القمل لم يأت من خارج جسدك بل من داخله. والأمر كذلك بالنسبة لكل ما يخلق من كائنات حسب المواد التي توفرت لها .. فلا تتوقعي أن يُخلق أرنب أو كلب في مجرى صحي ، ما سيخلق صرصار أو فأر أو كائنات أخرى . رغم وجود ستة عناصر أساسية تتوفر في جميع الكائنات الحية من البكتيريا إلى الإنسان ، ومع ذلك يكون الخلق مختلفا لوجود عناصر اخرى .
- ما هي هذه العنصر؟
- الكربون والكبريت والأكسجين، الهيدروجين والنيتروجين والفسفور.
- وماذا عن المواد الأخرى التي ينبغي أن تتوفر لخلق انسان مثلا؟
- مواد كثيرة .. من أهمها الكالسيوم المغنيزيوم البوتاسيوم الصوديوم الكلور الحديد.
الخلاصة في عملية الخلق، أنها لا تتم بشكل مباشر بين خالق وما يخلق، بل عبر طاقة سارية ، وليس هناك خالق يقف على رأس كل شبر في الكون ليخلق فيه كائنا أو كائنات ما .
- يبدو لي أن مشكلة العقل البشري أنه اعتقد بوجود إله دون أن يعرف ما هو الله ، وما هو جوهره ، وهل هو مجسد أم مجرد ، وإذا كان مجسدا ففي ماذا ، وإذا كان مجردأ ومنزهاً فكيف ولماذا؟ . ثم ما هي غايته من الوجود ومن الخلق ؟ وهل هو منفصل عنه أم مجسد فيه ؟ حين يجد الانسان اجابة لكل هذه الأسئلة وغيرها كثير، يمكن أن يؤمن بنوع الإله الذي اقتنع بوجوده !!
- هذا ما أحاول الاجابة عنه في فلسفتي . التي أدرك تماما أنها اجتهاد وليست حقائق مطلقة . لكنها اجتهاد قابل للنظر فيه كونه يستند إلى العلم والمنطق ، وليس إلى الأساطير والخرافات.
- استاذ محمود ، ما رأيك أن نختتم هذه الحلقة بقصيدة لك في مذهب وحدة الوجود.
- ممكن . كتبت قصيدة في المذهب قبل قرابة عشر سنوات وقد تحتاج إلى تغيير بعض التعابير فيها على ضوء ما تم من تأملات لاحقة لي.
القصيدة بعنوان :
إمّا أنت أو لا أحد .

أحسست بدنو الأمد
وأنا الوحيد دون أحد
هتفت باسمه من عمق الجراح
مثل لي بجلال مقتصد
همست: هل لي ببوح يعتمد؟
قال : قل ما لم يقله أحد
وأكمل رسالتك
فلن تعيش إلى الأبد .
*****
قلت : أشهد أن لا إله إلا أنت
إنك " الواحد الأحد "
وإنك " الله الصمد "
وإنك " لم تولد ولم تلد "
" ولم يكن لك كفوا أحد "
*****
قال: لقد قيل هذا من قبل!
أضفت : وأشهد أنك الطاقة
السارية في الخلق
فإما أنت أو لا أحد
****
وأن الإنسانية حبيبتك
وإنها إليك تستند
وأنت عليها تعتمد
عشق الأحبة متبادل
بنبض القلوب
وآهات الروح
ورعشة الجسد
*****
لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب
فلا اكتمال بحب منفرد
سعي الخلائق إلى الكمال
بسعي الخالق يتحد
فإما كمال يعم الخليقة
وإما انتهاء إلى الأبد
*****
قال: أحسنت إذ اجتهدت
فالإجتهاد حق معتمد
فأنا في الهي والنحن والهم كنت
والهي والنحن والهم
في أناي تتحد
فلا معزل لفرد عن كل
ولا معزل لكل عن فرد
تنزهت باسمي " الله"
ولا تنزيه غير ذلك يعتمد
*****
أنا في الهيولى البدئية كنت
دون أن يكونني أحد
أوجدت نفسي بنفسي لنفسي
دون أن أدري ما الغاية
وما القصد ؟
وبقيت دهوراً كامنا
لا أدري إن كنت أدري
ما اريد ، وما لم أرد
كجنين في رحم أم
غافل عما يستجد
*****
إلى أن ضاق بي الكمون
وضقت به، فانفجرت
محطما جدران الهيولى
التي عنها انبثقت
لأنتشر في كون شاسع
حدوده لا تحد
ولينبثق معي الخلق
كائنا من رحم المهد
فكل كائن كان في
وفي كل كائن كنت
فانا الكينونة دون حد
وآفاقي لا تحد
فليس للحد مني حد
ولا حد حيث كنت
أنا " الله " أل بلا حد
****
لا غنى للخليقة عني
ولا غنى لي عن الخليقة
فنحن الواحد في الكل
والكل في الواحد يتحد
*****
- كلام جميل ورؤيا أجمل . ونأمل أن يكون فهم مذهب وحدة الوجود قد وصل إلى المشاهد . شكرا استاذ محمود . وإلى مشاهدينا الأعزاء أقول دمتم بخير وإلى اللقاء بكم في حلقة قادمة.
*****


(13) جريمة شرف!
فزّ محمود أبو الجدايل من نومه مذعورا على صراخ فظيع للمى . كانت لمى قد استيقظت مبكرا لتذهب لتدقيق حسابات تجارية لأعمالهما هي وأخيها. تركت محمود يغط في نوم عميق وانصرفت ، وحين فتحت الباب لتخرج فوجئت بوجود جثة مخضبة بالدماء ملقاة أمامه .. صرخت وانكفأت إلى داخل البيت هارعة نحو غرفة النوم . التقاها محمود في الممر. ألقت نفسها على صدره وهي تصرخ وترتجف . راح يربت على ظهرها مهدئا ومتسائلا " شو فيه شو فيه " لم تكن قادرة على الكلام من شدة الرعب الذي انتابها " ج ج جج جه جث جثة جثة " " أف يا إلهي " أدخلها إلى الصالون وأجلسها .. أحضر لها كأس ماء . أسقاها جرعة وانصرف نحو الباب . تبين أن لمى أعادت إغلاقه وهي تصرخ . فتحه . كانت الجثة مطروحة بالعرض أمام الباب. وبدا أنها لفتاة شابة ذات شعر طويل. ترتدي بنطال جنز وقميصا مخضبين بالدماء، وقد ذبحت كما تذبح الشاة دون أن يُفصل رأسها عن جسدها . من الواضح أنها فتاة حقيقية وليست دمية كما كان الرأس المقطوع . بدت الدماء غير جافة على وجنتيها وجبينها وفمها. لم يكن هناك دماء على الأرض ما يشير إلى أنها لم تذبح هنا ، بل جيء بها مذبوحة .. ولم يكن هناك رسالة انذار جديدة لمحمود أبو الجدايل . فقد بات يعرف المصير الذي ينتظره من هؤلاء القوم . كان بعض سكان البناية قد هرعوا على صراخ لمى ووقفوا أعلى الدرج النازل إلى بيت محمود . أحضر محمود هاتفه واتصل بضابط الأمن ..
حضر الضابط نفسه مع دورية أمن . وسيارة اسعاف .. تم تصوير الجثة وأخذ بصمات عن جسدها، ومن ثم حملها من قبل رجال الاسعاف، ونقلها إلى المستشفى لإجراء فحوصات عليه، قد تساعد في معرفة دوافع الجريمة ، ولماذا تم وضعها أمام منزل محمود أبو الجدايل . وبعد اجراء الفحوصات ستوضع في ثلاجة الموتى إلى أن تعرف هويتها.
لم يشك الضابط اطلاقا في أن يكون محمود أبو الجدايل هو الفاعل أو أن له دوراً في الجريمة . كما أنه لم يشك في أي من سكان البناية ، الذين سبق وأن استجوب بعضهم حول الرأس المقطوع ، لكن الدواعي الأمنية قد تقتضي التحقيق مع بعضهم أيضا . جلس إلى محمود ولمى قليلا ، ليخبر محمود أن التحقيق مع المعتقلين قد يسفر عن نتائج مهمة تتعلق بتنظيم ارهابي اسلامي متطرف.
لمى باتت على يقين أنه لم يعد بإمكانها البقاء في هذا البيت ، فإذا استطاعت تناسي الرأس المقطوع ، لأنه كان بلاستيكيا ، فلن يكون في استطاعتها تناسي جثة فتاة شابة كانت مطروحة إلى جانب الباب . فكلما اجتازت الباب خروجا أو دخولا ستجد نفسها أمام الجثة، وقد تضطر إلى رفع قدميها لتتجاوزها دون أن تطأها .
- خلص حبيبي . أرجوك لم أعد قادرة على البقاء في هذا البيت ..
- حسنا حبيبتي سنرحل . بإمكانك الآن أن تنصرفي إلى عملك . ولا تعودي هنا وسألحق بك في المساء.
*** ****
لم تكن "شفق" طالبة الطب البشري التي كانت تنتظر تخرجها هذا العام ، تعلم بما يحمله القدر لها من مصائب، حين أقدمت على حب زميلها في الجامعة .. كان حبأ بريئا جميلا بين زميلين عاشقين . لم تتجاوز العلاقة فيه بعض القبل العابرة حين كانت الفرصة تتاح للعاشقين . لكن أحد الطامعين بشفق، أخفق في أن يجعلها تحبه، وحين توقع أن تكون على علاقة ما بأحدهم ، راح يراقبها كلما سنحت له الفرصة ، إلى أن رآها تجلس مع زميلها في مقهى رصيفي .. فأخبر أخاها "شفيق" أن اخته عاشقه !
وربما من المؤسف أن تكون شفق هي ابنة لذلك الشيخ "الفاسق" - حسب تعبير أم بشير- الذي يقبع في السجن الآن . حين علم شفيق بالأمر . انتظر أخته إلى أن عادت إلى البيت . لم يكن يقيم في البيت غيرهما . فالوالدة متوفاة . أدخل أخته إلى غرفة النوم . انهال عليها ضربا ، ثم قيدها من يديها ورجليها ، وكمم فمها ، دون أن تجدي مقاومتها شيئا أمام جسده الرياضي. زلق بنطالها واغتصبها ، دون أن يتنبه إلى أنها كانت عذراء، إلا بعد أن انتهى ، حيث رأى قليلا من الدم على سوأته .
كان شفيق في حاجة إلى من يساعده في التخلص من جثة أخته إذا ما قتلها ، فلم يكن مستعدا للسجن ولو ليوم واحد لاقتراف جريمة بدواعي الشرف . وكان يفضل التخلص من الجثة بشكل سري . اتصل بصديق له لا يقل حماقة وإجراما عنه .. وحين لمس شفيق أن صديقه " عقاب " يرغب في اغتصاب شفق أتاح له ذلك .
أخيرا حمل شفيق وعقاب شفق إلى المطبخ ، ليذبحها شفيق بسكين كما تذبح الشاة . تركاها تسبح بدمها وجلسا في الصالون يحتسيان العرق إلى أن يمضي الليل ليخرجا بجثتها قبيل الفجر .
كان عقاب من الجماعة الإرهابية إياها ، التي تلاحق محمود أبو الجدايل، وكان يعرف بيت محمود جيدا . فهو أحد الذين ذهبوا لوضع الرأس المقطوع أمام بيته . وحين سأله شفيق أين سنذهب بالجثة ؟ ضرب يده على صدره قائلا: هذه علي لا تفكر في الأمر .
- هل نلقيها في خرابة ؟
- لا لا !
- نذهب خارج المدينة ونبحث عن مكان نتركها فيه ؟
- رحت لبعيد . لن نخرج من المدينة اطمئن !
- لعلك تقصد أن نقطعها ونضع أشلاءها في القمامة ؟
- لأ يا أخي حرام ! خليك انساني !!!
- طيب طمني الساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل . أين سنذهب بالجثة !
- أريد أن أرعب أحدهم بوجود جثتها ، وإن أسعفنا الحظ ستتهمه القوى الأمنية بارتكاب الجريمة!
- نعم ؟ ومن هو هذا المتعوس ؟
- لا تعرفه ! لكن ربما سمعت عنه ، فهو مشهور!
- لعلك تقصد محمود أبو الجدايل ؟
- عرفت ! هو بالضبط !
ونظراً لأن شفيق أكثر غباء من عقاب ، فقد أعجبته الفكرة . فهو حاقد على محمود أبو الجدايل بعد أن حرمه من مضاجعة أم بشير التي كان يغزوها مقابل عشرة دنانير كلما تأججت شهوته . فقد دوولت شائعات في وادي الحدادين تبين أنها صحيحة ، تؤكد أن محمود أبو الجدايل هو من قام بإنقاذ أم بشير وأولادها من وضعهم الفظيع . ورغم أنه غير مرتبط (بجماعة الدعوة) إلا أن الفكرة راقت له ..
قبيل الفجر بقرابة ساعة ، لفا الجثة ببطانية ووضعاها في صندوق سيارة شفيق. انطلقا نحو جبل اللويبده . كانت الشوراع خالية والناس نيام . توقفا أمام البناء الذي يقطن فيه محمود أبو الجدايل . نزلا من السيارة واستطلعا المكان حولهما ، من الشارع إلى شرفات الأبنية والنوافذ . لم يكن هناك أحد . حتى القطط كانت نائمة . أنزلا الجثة . حملها شفيق على كتفه بينما سار " عقاب " خلفه . مددا الجثة أمام باب بيت محمود، وسحبا البطانية من تحتها، وانطلقا عائدين . ألقى شفيق بالبطانية في حاوية قمامه ، ودخل إلى بيته لينظف أرض المطبخ من الدماء . ومن ثم يذهب إلى غرفة النوم لينام وقد استفحل به السكر.
*******


(14) الألوهة المتجددة !
أثار بث الحلقة الأولى من الحوار مع محمود أبو الجدايل جدلا واسعا في أوساط المثقفين في مختلف البلدان العربية ، ممن أتيح لهم مشاهدة الحلقة ، وكان هناك شبه اجماع بين العديد من المثقفين على أن تحولا نوعيا في العقل العربي بدأ يشق طريقه إلى الاعلام المرئي.. وتناولت كتابات كثيرة في صحف مختلفة أهمية الفكرالوجودي الذي طرحته الحلقة ، كونه يأتي من عقل حر يستند إلى العلم والمنطق في فهم الوجود والغاية منه . وفي المقابل ظهرت كتابات قليلة تهاجم محمود أبو الجدايل وتتهمه بالإلحاد ، وتهاجم قناة "أفق المعرفة" التي بثت الحلقة وأعلنت عن حلقات لاحقة ستبث اسبوعيا . وطالب بعض هذه الكتابات إيقاف بث الحلقات ، وحتى اغلاق القناة نفسها. ترافق ذلك مع نشر أنباء عن العثور على جثة فتاة قتيلة أمام شقة محمود أبو الجدايل في عمّان. ولم ترجح الأنباء أن يكون محمود هو الفاعل ، بل وأشارت إلى أن الغاية هي ارهاب محمود واتهامه بالقتل.
وسط هذه الأجواء شرع محمود وأسيل في تسجيل حلقة جديدة للحوار . كانا مبتهجين رغم كل المضايقات ومحاولات الإرهاب التي يتعرض لها محمود . بدأت أسيل الكلام :
- يبدو لي أن مسألة وجود ألوهة أو عدم ذلك مسألة ما تزال في حاجة إلى التعمق فيها ، لصعوبتها ، حتى إذا ما انتقلنا في الحوار إلى محطات أخرى في الوجود ، تكون الرؤى واضحة في تصور المشاهدين . في قصيدتك التي ألقيتها في حوارنا السابق ثمة ما يوضح مسائل كثيرة ، دون أن يلغي وجود ألوهة ، إلى حد أنك تقول على لسان الله " أنا الله أل بلا حد "وهذا يعني وجود ألوهة فعلا ، وليس الأمر مجرد تعبير مجازي . وفي هذه الحال أين نضع آلاف المعتقدات البشرية التي تحدثت عن آلهة عبر التاريخ ، وأين نضع الفكر البشري كله ، فهل كل هذه المفاهيم والأفكار تنتمي لهذا الإله في مفهومه المطلق الذي لا حدود له ، أم أنه لا علاقة له بها ؟
- حين ننطلق من مبدأ واحد لوجود يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، فإنه ليس من العسير علينا وإن بدا صعبا ً، أن ندرك أنه لم يوجد معتقد أو فكر منذ بدء عملية الخلق إلى يومنا، إلا بفعل طاقة هذا المبدأ الخالق ، أو بفعل عقله ، كطاقة سارية في الكون والكائنات . وبناء عليه فإنّ أي معتقد مهما كان ، من عبادة عشتار إلى الله الذي لا إله غيره، وأي فكر مهما كان ، من أفلاطون إلى جان بول سارتر، هو من اجتهاده لمعرفة ذاته . وهذا لا يعني أن هذا الفكر جاء بالحقيقة المطلقة، فهو مجرد اجتهاد لا غير. وقد يأتي زمن تحل فيه مفردة الوجود محل مفردة الله . كما حلت مفردة الله محل مفردة عشتار مثلا، وحل المسجد والكنيسة محل المعبد .. ومفردة " الله " الواردة في القصيدة ليست خارج هذا الفهم المرتبط بزمننا المعاصر.
- هذا يعني أن هذا المبدأ الواحد خاضع لنظرية التطور.
- أكيد . ولو لم يكن الأمر كذلك ، لرأينا وجودا مختلفا .
- كيف ؟
- لا يمكن تصور ذلك إلا انطلاقا من فهم محدد وصحيح للقائم بعملية الخلق. وبما أن هذا الفهم غير موجود ، فإن تصور الأمر مستحيل .
- لكن هناك معتقدات ترى أن عملية الخلق قد تمت وانتهت ؟
- لكنها ليست صحيحة . إنها مجرد اجتهادات .
- لكن لماذا شاء هذا المبدأ الواحد أن يوجد هذا التنوع في الوجود ، بين العقل والشكل ، بحيث أصبح في الوجود ملايين الأشكال وملايين العقول ..؟
- في هذه المسألة يكمن الإعجاز في سر الخلق . فلو اختصر الشكل على شكل أو أشكال محددة للكائنات الحية كلها مثلا ، لانتفى الإبداع في مفهومه الشامل المطلق ، وأصبح محدودا ، والأمر نفسه ينطبق على العقل ، فلو كان العقل محدودا لدى جميع البشرمثلا ، لما تطورت عملية الخلق ، ولما كان هناك حضارة . لقد سبق وأن تطرقنا للمسألة . فتصوري لو أن عقل الانسان اختصر على وظائف محددة كما هي الحال عند بعض المخلوقات . وقد ضربنا مثلا بالنحل وإنتاجه للعسل . أجمل ما في الانسان أنه قادر على القيام بأعمال مختلفة ، ليصنع حضارة . في الانسان يتجلى المبدأ الواحد أو الوجود أو الألوهة ، بأرقى ما تجلت فيه .
- وهل تحقق هذا التنوع من الأساس بمشيئة من المبدأ الواحد أم أنه كان عفويأّ؟
- أنا أرجح المشيئة ، ولا أستبعد العفوية . لأن المبدأ الواحد بذاته لم يكن وجوده عفويا ، بل وجود لغاية ، ونظرا لان هذه الغاية لم تكن محددة بل منفتحة على المطلق ، فإن احتمال سريانها بديهيا في الكل الكوني فيما بعد أمر وارد .
- بماذا يختلف مفهوم الألوهة عندك عن مفهوم الإله واجب الوجود عند ابن سينا مثلا؟
- يختلف في مسائل كثيرة . عند ابن سينا واجب الوجود أو الله غير مادي، ونظرا لأن مفهوم الطاقة والمادة لم يكن متبلورا، فإنه يمكن اعتباره غير طاقوي أيضا ، أي أن الله خارج مفهوم المادة والطاقة عند ابن سينا ، أما عندي فهو ليس خارج المادة والطاقة رغم أن طاقته العقلانية غير طقمادية ، أي لا تنطبق عليها المواصفات المعروفة للمادة والطاقة ، وليس لأنها ليست طاقة . ويمكن القول أنه طاقة غير مكتشفة علميا حتى يومنا.. كما أن هذه الطاقة العقلانية ليس بالضرورة أن تكون إلها أو تحمل صفات ألوهية، فقد تكون أعظم من إله كما ذكرت من قبل .. فمفردات الله وألوهة وخالق وخلق ورب وما شابه ، كلها مفردات حديثة جدا تمّت بعد اختراع اللغات من زمن قريب جدا مقارنة بعمر الكون. فدون اللغات لم يكن في الامكان التعبير عن خالق وخلق والوهة ما .. كما أن هذا الخالق في فلسفتي غير كامل ولم يبلغ الكمال بعد ، رغم عظمته .. فهو خالق يخضع لنظرية التطور. كما أن عملية الخلق لدى هذا الخالق ما تزال في بداياتها ولا يعرف متى ستنتهي .. عدا عن أن هذا الخالق في فلسفتي ، غير منزه عن الوجود ، فهو يسري بطاقته في الوجود ويتجسد بكل كائن فيه. وهو كما أسلفت يدرك وجوده المادي لأنه يحتويه ويتمظهر فيه ، ويدرك وجوده الطاقوي لأنه ينتجه . وبذلك لا يمكن تنزيهه عن الوجود إلا بمفردة لغوية مثل : الله أو الخالق . أو الوجود.
- حسب هذا الفهم يمكن اعتبار كل المفردات اللغوية الدينية والفلسفية التي تعبر عن رؤية لعملية الخلق والقائم بها ، مجرد عبارات خاضعة لمرحلة معينة من عمر الخلق، قد يزول معظمها في المستقبل ،وقد تزول كلها ليحل محلها عبارات ومفردات مختلفة .
- أكيد . مرت عملية الخلق بمراحل مديدة لم يكن فيها لغات إطلاقا ، ولم يكن في الامكان التعبير عن وجود وخلق وخالق .. وهذه التعابير والأفكار ما تزال بدائية جدا لأن عملية الخلق الحقيقية المنشودة لم تبدأ بعد .
- لكن هذا الفهم ينطبق على كوكب الأرض فقط ولا ينطبق على حضارات كوكبية في الفضاء إن وجدت، وخاصة تلك الحضارات المتطورة جدا التي تطرقنا إلى إمكانية وجودها في حلقات سابقة .
- صحيح . نحن نتحدث عن كوكبنا فقط .
- وماذا عن حضارات متطورة في الكون . هل تظن أن الانسان في هذه الحضارات إن وجدت ، بات يدرك وجود ألوهة أو ما هو أقرب إليها في ذاته ، ويعيش حياته ويمارس وجوده على ضوء هذه المعرفة وهذا االفهم ؟!
- يفترض أن يكون الأمر كذلك .
- دون أن يرى أنه هذا العظيم القائم بالخلق.
- أكيد. هذا الشعور لا يمتاز به إلا المبدأ الواحد الأول الذي جاء منه الوجود.
- هل يمكن تصور هذا الشعور؟
- من قبلنا صعب إن لم يكن مستحيلا.
- وأشكال هؤلاء البشر أكيد ليست كأشكالنا .
- على الأغلب تكون أجمل من أشكالنا بكثير. فكلما ارتقى الانسان في معرفة نفسه ومعرفة قدر الوجود الكوني فيه وعلاقته بهذا القدر، ارتقى جماله بشكل تلقائي نتيجة لهذه المعرفة .
- يبدو لي أن الجمال هو الأساس في عملية الخلق .
- نعم الجمال هو الأساس في كل شيء وليس في الشكل فقط ، بل في المضمون أيضا ، فليس هناك خلق وإبداع ما لم تكن لهما غايات جمالية إنسانية تبعث البهجة في النفس، والمتعة للنظر، والتألّق للخلق . فلا خير دون جمال ، ولا عدل كذلك ، ولا محبة ، فعمل الخير بحد ذاته جمال ، وتحقيق العدل جمال ، والمحبة الانسانية جمال . وجمال الجمال من جمال الخالق القائم بالخلق ، ولو لم يكن هناك جمال لما كان للوجود معنى، ولو لم يكن لدى الانسان سعي للرقي بالحياة الانسانية بتحقيق ولو قدر يسير من الخير والعدل والمحبة ، لتوقفت الحياة ، بل وتوقفت الحاجة إليها .. فحتى المعتقدات الدينية تحض على العمل ، وخاصة عمل الخير.
انتهى وقت الحلقة . اختتمت أسيل الحوار بعباراتها وتشكراتها المعتادة لمحمود أبو الجدايل والمشاهدين .

(15) عقد نكاح !!
لم يكن من الصعب التعرف على هوية قاتل شفق، فبصمات أصابعه كانت منطبعة على أكثر من موضع في جسدها .. عدا بصمات لآخر يمكن أن يكون مشاركا في الجريمة. صديق شفق " رائد" افتقدها بعد تخلفها عن موعد، كانا سيبحثان فيه أمر طلب يدها من أبيها السجين، أو من ينوب عنه . وحين سمع من أخبار الصباح على الراديو العثور على جثة فتاة مجهولة قتيلة في اللويبده ، يمكن أن تكون قتلت بدواعي الشرف ، ارتاب في الأمر وسارع إلى شراء الصحف ، ليرى صورها وقد تصدرت الصفحة الأولى فيها .. شرع في البكاء وراح يلطم على رأسه نادبا حظه ... ومن ثم سارع إلى إخبار القوى الأمنية بهوية الفتاة ، مؤكدا أنها كانت صديقته وأنه كان يريد الزواج منها. وأكد أنه لا يعرف شيئا عن هوية القاتل.
وحين دقق ضابط الأمن في اسم الفتاة، حسب ما أدلى به رائد ، واسم أحد الرجلين الذي دلّت عليه البصمات على الجثة، تبين له أنه أخوها ..
كان تقرير الطبيب الشرعي قد أشار إلى اغتصاب الفتاة قبل ذبحها. لم يشك ضابط الأمن في رائد لأن البصمات دلت على الفاعلين . فلم يوقفه على ذمة التحقيق، وطلب إليه المساعدة في معرفة عنواني القاتلين .
كان شفيق نائما حين طوقت دورية الأمن بيته ، واعتقلته ، فيما كانت دورية أخرى تطوق بيت عقاب وتعتقله .
لم يصمد شفيق أمام التحقيق إلا لبضع دقائق، حاول فيها أن ينكراغتصاب اخته وقتلها، لكن، ما لبث أن انهار أمام بيانات الأمن ، ليعترف بجريمتي الإغتصاب والقتل دون الانتماء إلى " جماعة الدعوة "
عقاب اعترف بالاغتصاب دون القتل، وحاول أن يتهرب من الانتماء إلى جماعة الدعوة ، إلى أن أخبره ضابط الأمن عن المعجزة العجيبة التي أتت بالجثة من وادي الحدادين إلى بيت محمود أبو الجدايل في اللويبدة ، فمن وراء هذه المعجزة إن لم تكن أنت يا عقاب كونك كنت تعرف العنوان من قبل ؟
انهار عقاب واعترف بدوره بالاغتصاب والانتماء إلى جماعة الدعوة دون القتل ، وإن شارك في حمل الفتاة إلى المطبخ ونقلها إلى اللويبدة ووضعها أمام شقة محمود أبو الجدايل .
*****
في زنزانة مزدوجة ذات إنارة قوية في السجن، كان الشيخ أبو شفيق يطرق واجما في حال يرثى لها ، ومخيلته تستحضر إقدامه على غسل دماغ أبو بشير، ليقنعه بالذهاب إلى الجنة، ليحظى بالفاتنات من حور العين ، والحياة الأبدية ، بدلا من هذه الحياة البائسة الفانية. بينما هو في الحقيقة كان يسعى للتخلص منه ليحظى وحده بمضاجعة أم بشير، أكثر مما كان يسعى للتخلص من محمود أبوالجدايل . وها هو يقبع الآن في هذه الزنزانة ذات الإنارة القوية التي لا تتيح له النوم .
كان أبو شفيق على هذه الحال حين فوجئ بباب الزنزانة يفتح ورجل أمن يدفع بابنه شفيق إلى داخلها. صرخ متسائلا :
" شفيق" ؟!
انطرح شفيق على أرض الزنزانة منهكا دون أن يتفوه بكلمه.
أغلق رجل الأمن الزنزانة عليهما وانصرف .
- شفيق هل اتهموك بالانضمام إلى جماعة الدعوة ؟
وبدا أن شفيق يصر على عدم الكلام .
- لماذا لا ترد يا بني ؟
اضطر شفيق إلى الكذب ، فكيف سيقول لأبيه أنه قتل أخته ؟
- أجل يا أبي اتهموني !
- أيه بسيطة ما رايح يثبت عليك شي. كلها كم يوم وبتطلع من السجن .
لكن في صبيحة اليوم التالي جاء رجل أمن ليفرج عن أبو شفيق لمدة 24 ساعة مقابل كفالة مالية ليقوم بدفن ابنته ، فسأله :
- من ماذا ماتت البنت ؟
أجاب رجل الأمن :
- البنت لم تمت ، قتلها أخوها القابع معك في الزنزانه !
- نعم ؟! أنت ؟ يا مصيبتي!
وانهال على رأس ابنه صفعا فيما الآخر يصرخ :
- انتهكت شرفنا يا أبي والله انتهكت شرفنا وكان يجب قتلها.
واضطر أبو شفيق لأول مرة في حياته أن يعلن عدم وجود شرف لديهم :
- شرفنا ؟ وهل بقي لدينا شرف يا ابن الكلب ! الشرف مرمغناه من زمان في التراب والوحل ! إلهي يغضب عليك ..
وهكذا خرج أبو شفيق حزينا كئيبا نادما على حياته كلها .. شيع ابنته مع بعض الأقارب والأصدقاء وعاد إلى زنزانته منتظرا الحكم عليه ، بعد أن ثبت أنه يترأس جماعة صغيرة دعووية . ثبت أن القواد وعقاب وآخر من أعضائها. بينما لم يثبت على معتقلين آخرين أي انتماء، فأفرج عنهم .
*****
محمود أبو الجدايل لبّى طلب لمى بالإقامة في بيتها ولو لبعض الوقت .. استدعاه ضابط الأمن ليبشره بنتائج التحقيق.
- مبروك . لقد ألقينا القبض على بعض أفراد العصابة .
- بعضهم أم كلهم ؟
- في الحقيقة ثمة مسائل غير معروفة . فلم يعترف أحد من المعتقلين أنهم وراء تنفيس دواليب السيارة في سفوح جبال البحر الميت . اعترفوا بمحاولة اغتيالك ووضع الرأس المقطوع وجثة الفتاة أمام بيتك .. والأغرب أن أبو بشيرلم يكن يعلم بأنه كان مدفوعا من قبل الجماعة لاغتيالك ، بل بدوافعه الشخصية!
- ماذا يعني ذلك ؟
- هذا يعني انهم يعملون كمجموعات مستقلة عن بعضها ، كل مجموعة تعمل كتنظيم مستقل عن الآخر حتى لا ينكشفون ..
- من سيكون الرأس في هذه الحال؟
- ربما هناك أكثر من رأس !
- وهناك من يرسل لي التهديدات والصور على الهاتف أيضا .
- وهذا ما لم يعترف به أحد أيضا .
- ربما ينكرون .
- لكنهم اعترفوا بما هو أخطر من تنفيس دواليب أو ارسال صور لقتلى أو رسائل تهديد . لقد اعترف الشيخ بأنه يرأس مجموعة وأنه هو من دفع أبو بشير لمحاولة اغتيالك ،واعترف القواد بأنه هو من وضع الرأس المقطوع أمام باب بيتك وكان برفقة آخر يدعى عقاب، اعتقلناه أيضا ، وهو شريك في اغتصاب ابنة الشيخ وقتلها.
- وماذا عن ابن الشيخ هل ثبت عليه شيء؟
- لم يثبت أنه ينتمي للعصابة لكنه اعترف باغتصاب شقيقته وقتلها بذريعة الشرف!!
- كم هو فظيع هذا الشرف؟! أصبح مطية لكل أحمق وفاسق ومهووس وما شابه !
- معظم ضحايا الشرف منتهكات من قبل ذويهن . هذا واقع الحال.
- لا بد من قانون يردع الناس عن اقتراف الفعل، باعتباره جريمة قتل يعاقب عليها القانون كذلك، وليس كجريمة شرف تحتمل أقل عقوبة بالسجن لبضعة أشهر.
- أعتقد أنه سيتم قريبا بعد أن كثرت الجرائم.
- وماذا بعد .
- سننتظر الأيام القادمة إن كنت ستتلقى تهديدات أو يحدث أمر ما لك !
- آمل أن يبتعدوا عنا قليلا.. صديقتي تعبت كثيرا من الأمر.
- سمعت انك تقيم معها الآن .
- صحيح.
- ألا تتوجسان من العلاقة؟
- كثيرا وخاصة هي .
- اعتقد أن زواجكما أفضل لك ولها .
- في الحقيقة لا أعرف .. أنا رجل عجوز وهي شابة .
- لكنها تحبك كثيرا كما عرفت !
- تتجسسون علينا !؟
- علاقتكما مكشوفة !
- صحيح . الله يستر!
*****
عاد محمود إلى بيت لمى ليطمئنها باكتشاف العصابة من قبل الأمن ، مخفيا عنها الجانب الغامض في التهديدات وتنفيس الدواليب. سرّها النبأ ، ومع ذلك أصرت على أن يترك ذاك البيت ويظل مقيما معها في شقتها الواسعة التي كانت تحتل طابقا أرضيا كاملا محاطا بحديقة ، في بناية من أربعة طوابق من ضمن أملاكهما هي وأخوها . والأهم من ذلك أنها فاجأت محمود بما لم يتوقعه اطلاقا حين ضمت رأسه إليها وأعلنت أنها ستبوح له بسر عظيم :
- سر عظيم ؟
- أجل حبيبي سر عظيم جدا !
- وكنت تخفينه عنّي ؟
- لا لم أخفه أبدا ، لأنني لم أكن أعرف !
وهنا بات محمود شبه مدرك للسر ، حين هتف :
- لا غير معقول !!
- بل معقول يا حبيبي أنا حامل !
- يا إلهي يا إلهي !
ضم رأس لمى إليه . قبل شعرها وألقى رأسه على رأسها ، فيما انزلقت دمعتان على وجنتيه وشريط سريع من حياته يومض في ذاكرته، معلنا أنه سيعيش الحياة من جديد.
- كل الحق على كهف لوط !
- بل عليّ . عقبت لمى .
- ما الحل؟
- ما تريده أنت !
- وإرادتك ؟
- إرادتي رهنتها لك !
- هل تريدين الطفل ؟
- أفضل ذلك !
- سنتزوج إذن !
وراحت تضم محمود أكثر من قبل وهو يضمها بدوره .
- متى ؟
- في أقرب وقت حتى إذا ما ظهر الحمل يكون مبررا . لا نريد الخروج السافر على قوانين المجتمع.
- إن شئت سأفعل الأمر حالا .
- هيا !
وسارعت إلى الاتصال بأجمل شقيق في الدنيا حسب رأيهما:
- مرحبا حبيبي سليم .
- هلا خيتا كيفك ؟
- مشتاق لك حبيبي.
- اؤمريني!
- بدي منك خدمتين !
- وهما ؟
- الاولى أن توافق على زواجي من الاستاذ محمود أبو الجدايل !
- طبعا موافق موافق موافق!
- تسلم لي يا أجمل أخ .
- والثانية؟
- أن تحضر لي مأذونا وشاهدين لكتابة عقد الزواج.
- حالا حبيبتي.
وخلال أقل من ساعة كان سليم يحضر مع مأذون وشاهدين !
لا حظ محمود أن النموذج الذي يحمله المأذون معنون بعقد نكاح ! استاء من العبارة ! سأل المأذون :
- أليس في الامكان استبدال هذه العبارة بعقد زواج .
- نفس الشيء استاذ.
- لكن مفردة نكاح مفردة غير أخلاقية فالناس يتزوجون ليس من أجل النكاح وحده ، بل من أجل رباط مقدس لتشكيل أسرة وبناء حياة .
- المسألة مفهومة ضمنا استاذ !
وهكذا تم العقد .. وأصبح محمود أبو الجدايل ولمى زوجين . واتفقا على أن يقيما حفل زفاف في أقرب وقت . شيء واحد كان محمود أبو الجدايل يتمنى لو يحدث ، وهو أن ينقلب الواقع إلى خيال ويحدث لحمل لمى ، ما حدث لحمل الملكة نور السماء في ملحمة " أديب في الجنة "، بأن حملت وولدت في يوم واحد عن تسعة أشهر، وبلغ ابنها سحب السماوات سن الرشد في ستة أيام !
ضحكت لمى ومحمود يخبرها بذلك . قالت :
- سأكون سعيدة وأنا أرقب نمو ابني في رحمي .. أريد أن أشعر بأمومتي !
- مبروك حبيبتي .. للحمل وللزواج ..
- ألن نقوم بحفل صغير اليوم ؟
- ممكن !
- ليكن حفلا عائليا مع سليم وزوجته !
وهذا ما تم .
*****

(16) النّبلاء وحدهم سيتحدون بالألوهة في تجسدها الأرقى!
ما أن دردشنا قليلا حول مسائل مختلفة ونحن نحتسي القهوة ، حتى شرعت في تسجيل حلقة جديدة من الحوار مع محمود أبو الجدايل ، استهللت أسئلتي بالقول :
أستاذ محمود . تطرقنا في الحلقة السابقة إلى الإختلاف بين مفهوم الألوهة لديك عنه عند ابن سينا ، ولا شك أن ثمة ما هو مختلف في معظم الفلسفات ، وثمة ما هو متفق أيضا ، وهذه مسألة تحتاج وحدها إلى برنامج مطول ، لكن ذلك لن يثنينا عن طرق بعض الاختلافات الجوهرية في بعض الفلسفات ، وخاصة تلك التي تستند إلى مذهب وحدة الوجود ، كما هي عند ابن عربي وسبينوزا مثلا .. فبماذا تختلف رؤيتكم للألوهة عن رؤية ابن عربي ؟
- ابن عربي مدرسة كبيرة وقد تأثرت بفكره في وحدة الوجود واعتبار كل المعتقدات والأديان والفلسفات فكراً إلهيا ، وأن الا نسان مهما عبد يعبد الله ، لأن لا شيء في الوجود خارج الذات الإلهية .. وأكد كثيرا على مسألة الحب وأن دينه هو دين الحب حين أنشد قائلا :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
*****
غير أن لابن عربي شطحات كثيرة لا اتفق معه عليها .. فمن دينه دين الحب لن يتقبل وجود عذاب في جهنم ، وهذا ما لم ينفه ابن عربي.. فقد كان حريصا على عدم التناقض مع النص الديني في الدنيا والآخرة .. وإن تطرق إلى رحمة الله التي تشمل جميع البشر في النهاية ، لكن بعد أن ينال المذنبون عقابهم .
والذات الإلهية هذه كما هو الله نفسه عند ابن عربي، خارج الماهية والجوهر، فلا نعرف ما هو إلا عبر أسمائه كقادر وعليم وعظيم .. ألخ ، مجرد أسماء ؟ يحرص ابن عربي عبرها على عدم الخروج على النص الديني ( ليس كمثله شيء ) لذلك لا يقدم أي وصف للإله ليظل لغزا كما يقول نصرحامد أبو زيد :
".. يحرص ابن عربي على عدم اعطاء أي وصف لغوي أو فلسفي أو لاهوتي أو حتى سردي للذات الإلهية ، إنها خارج العلم وفوق أي معرفة ، ولا تطولها العبارة سلبا أو إيجابا .."
كما لم يقدم تعريفا لطبيعة الله سوى أنه الحقيقة ، لكن حين يقدم نفسه على أنه أحد أربعة يحملون العرش الإلهي ، فإنه يوحي للقارئ بأن الله يشبه ملكا يحتاج إلى عرش يجلس عليه ، وهذه صورة مختلفة عن الحقيقة الإلهية السارية في الكون من أعلاه إلى أدناه حسب رؤيته. كما أنه يقدم نفسه كركن من أركان الحجر الأسود ، وخاتم للولاية المحمدية ، عدا رؤيته بأن الوجود جاء من الحقيقة المحمدية ، كنور أزلي موجود من القدم في الرؤيا الإلهية . وحين يدخل ابن عربي في تفاصيل عملية إظهار الوجود من العماء إلى العلن يضعنا في متاهات معقدة ، فثمة "سكرتاريا"ا إلهية لا بد للممكنات أو " الأعيان الثابتة في العدم " (أي ما يمكن أن يعتبر وجودا افتراضيا حسب فهمنا) من التقدم عبرها إلى الله لإظهار الوجود ، وهذه السكرتاريا ليست إلا أسماء الله نفسه .
يقول نصر أبو زيد مقتبسا عن ابن عربي: ..ولأن طلب الممكنات كان مقنعا للأسماء من زاوية حاجتها هي لإظهارسلطان فعاليتها فقد اجتمعت وتشاورت وقررت التوجه للاسم الإلهي " الباري "طالبة منه أن يظهرأعيان الممكنات . لكن الاسم الباري يحتاج إلى الاسم " القادر " ليتمكن من القيام بمهمته، فيحيل الاسم " الباري " الأسماء الإلهية لتطلب من الاسم " القادر " اظهار فعاليته التي تمنح الاسم "الباري" القدرة لإظهار فعاليته بإظهار أعيان الممكنات..
لكن الاسم القادر بدوره يدل على مطلق القدرة – إن الله على كل شيء قدير- فهو يحتاج للمرجح والمخصص الذي يحدد له مجال ممارسة فعالية فعله – " القدرة "- على التحديد . وهذا الترجيح والتخصيص من وظائف ومهام الاسم الإلهي المريد . وهكذا يحيل الاسم " القادر " الأسماء الإلهية الأخرى لكي تتوجه بطلبها إلى الاسم الإلهي " المريد " . يقوم الاسم الإلهي المريد بدوره بإحالة الأسماء الإلهية لتتوجه للإسم الإلهي " العالم " الذي يطلب بدوره من الأسماء الإلهية أن تستأذن الاسم الإلهي الجامع " الله " . ورغم ان الاسم " الله " يمثل الجمعية - جمعية الأسماء الإلهية – فهو محكوم بسلطة "الذات" الإلهية طلبا للإذن بالفعل .
وهكذا نجد أنفسنا أمام بيرقراطية خلق ربانية عجيبة .. يتابع نصر بعد ذلك قائلا: لا يسرد لنا ابن عربي ما قاله الاسم " الله "للذات الإلهية .
ليس هذا إلا بعض اليسير عن عملية اظهار الوجود من العماء ( الخفاء ) إلى العلن كما هي عند ابن عربي .. ولن يفوتنا أن ننوه إلى أن الله عند ابن عربي، عربي ، طالما أنه يتكلم العربية دون غيرها ، وأسماؤه وصفاته بالعربية دون غيرها ، وإظهارالوجود بالعربية دون غيرها ، ومراتب الوجود وما يوازيها من الأسماء الإلهية يرمز لها بحرف من حروف العربية ال (28) فليس هناك حرف في اللغة العربية أإلا وله مرتبة وجودية ويرمز إلى أحد الأسماء الإلهية . فالهمزة ( الألف ) مثلا، ترمز إلى الاسم " البديع " ومرتبتها الوجودية هي : العقل الأول / القلم . والهاء مثلا : الباعث . النفس الكلية . اللوح المحفوظ .. والعين : الباطن . الطبيعة الكلية . اما اسم الرب فيتجلى في حرف الباء . ومرتبة الحرف الوجودية هي السماء الاولى/ كيوان . ويرمز هذا الحرف إلى اسم النبي ابراهيم ويوم السبت!! ألخ .. يبقى أن نقول إنّ شطحات ابن عربي كثيرة .. ومع ذلك يسجل له أنه حاول واجتهد ليقدم رؤية مختلفة للوجود وإن استندت بقدر ما إلى مذاهب وفلسفات مختلفة من هندوسية ويونانية وغيرهما .. كما أنها رأت أن الانسان لا يتجه لغير الله مهما كان إيمانه أو حتى الحاده ، الذي اعتبره ابن عربي إيماناً.
- هل هذا يعني أن ابن عربي كان يسعى إلى وحدة الأديان والأمم ؟
- أكيد ، وهذا من صلب مذهب وحدة الوجود . لقد سبق وأن قلت إن كل فكر ظهر في التاريخ ما هو( مجازا) إلا فكر إلهي ينتمي إلى زمنه .. وما أختلف حوله عن ابن عربي ، هو أن هذا الفكر لا يعبر عن حقائق مطلقة رغم أنه فكر إلهي جاء بطاقة إلهية ، فهو فكر مرحلي ، كما أن الله نفسه عندي مختلف، فهو كيان متطور وغير كامل .
- لكنه يسعى إلى الكمال؟
- نعم يسعى إلى الكمال الذي لا يعرف أحد ما هو ! فمعرفته مسألة نسبية تخضع لفهم زمنها . فالكمال الذي كان يتصوره انسان ما قبل ألف عام ، هو غير الكمال الذي يتصوره انسان اليوم ، وإنسان ما بعد ألف عام .
- يا ترى كيف سيكون انسان ما بعد ألف عام ، على ضوء التطور السريع والمذهل في مناحي الحياة ؟
- المشكلة ليست في انسان ما بعد ألف عام ، فهذا قد لا يكون بعيدا كثيرا عن انساننا الحالي ، المشكلة في انسان ما بعد عشرة آلاف عام أو أكثر !
- هل سيتاح لنا نحن أن نرى من آخرتنا الحال التي سيكون عليها انسان العصور القادمة ؟
- حسب فلسفتي سيتاح لمن سيكون متحدا مع الألوهة بشكلها الطاقوي العقلاني ، وكذلك تجسدها الأرقى في الانسان !
- والآخرون ؟
- تقصدين غير المتحدين أو غير المجسدين بشكل إنساني راقٍ ؟
-أجل !
- سيكونون من ضمن المادة الصلبة أو الجامدة أو مادة التربة أو المادة السائلة وغيرها، كمواد الحيوانات والحشرات ، ولن يتاح لهم معرفة ما وصلت إليه عملية التطور بأشكالها المختلفة ، رغم أن طاقة الخلق تسري في أجسامهم .
- يبدو أننا دخلنا في جانب آخر من فهم طبيعة الألوهة لديك ! فلماذا لم يحظ هؤلاء بالاتحاد بالألوهة ببعض جوانبها الأرقى ، كالطاقوية والإنسانية ؟
- لأنهم كانوا من مرتكبي الذنوب، من القتلة واللصوص ، و الكارهين ، والمسيئين والضارين ..
- وهل وجودهم هذا يكون عقابا لهم ؟
- أجل بمثابة عقاب مع أنه ليس عقابا تقليديا، فطاقة الخلق تسري فيهم ، كما أن تجسدهم لا يخرج عن التجسد الألوهي في الكون ، وقد يكون بعضهم حسب أفعالهم موجودين في النبات أو في الحيوانات أو في الطيور ويتمتعون بقدر ما من الحياة الجميلة ، لكن ليس كمن هو في الألوهة الطاقوية . وهذه مسألة تحتاج إلى توضيح.
- أرجو أن توضح فهذا من صلب موضوعنا في فلسفة الألوهة .
- لنأخذ البشر مثلا .. فأسوأ انواع البشرممن كانوا يسيئون إلى الآخرين ، تكون مادة أجسادهم سمادا للتربة لإثرائها ، ويحسون بوجودهم الإلهي حسب ذلك ، أي أنهم مصدر غذاء للتربة لكي تكون غنية ،ولا تفتقر إلى المواد المعدنية وغيرها ..
النوع الثاني من الذين كانوا أقل إساءة للآخرين قد يتجسدون حسب أعمالهم في كائنات من النبات أو الطير أو الحيوانات الأخرى .. ويحسون بوجودهم الإلهي كذلك .
- لنفترض أن أحدهم قد تجسد في فأر. فكيف سيحس بوجود ألوهة فيه؟
- بمكانته وبما يراه ويفعله ولا يستطيع أن يرى أو يفعل غيره ، كما لا يستطيع تغيير مكانته بمعنى طبيعته ، وحتى مكان اقامته في الجحور مثلا وفي الأماكن غير المكشوفة .
- وهل يشعر أن هذه المرتبة هي عقاب له على ما كان يفعله في حياته الانسانية ؟
- أجل . لذلك يكون راضيا بواقعه .
- هل هذا تصوف هندوسي ؟
- لا ليس تصوفا هندوسيا وإن كان قريبا منه في بعض الجوانب وليس كلها .. فالمسألة هنا ليست مسألة روح تنتقل إلى كائن يولد ، هنا المسألة قد تأخذ أعواما من التفاعلات حتى ينتج عنها كائن ما..
- وماذا عن الكائنات الأرقى مكانة ؟
- الأرقى مكانة ترى نفسها حسب مكانتها وما تتيحه لها . فتخيلي حيوان كالأسد مثلا كيف يرى نفسه ، وشجرة زيتون كيف تحس بوجودها ، ونسرا محلقا في السماء .. أكيد سيكون سعيدا بحجم الألوهة فيه وهو يحلق في الأعالي.
- وماذا عن الانسان النبيل الذي سيتحد بالطاقة الإلهية العقلانية الكونية ؟ ماذا سيشعر وماذا سيرى وكيف سيخلق ، وبمعنى أدق كيف يكون إلها ؟!

- لا تنسي أننا نوظف مفردة الله كتعبيرلغوي مجازي للخالق أو للقائم بالخلق ، فقد سبق وأن أشرت إلى أن القائم بالخلق أو الخالق ليس بالضرورة أن يعتبر نفسه إلها ، أو ما هو أكبر من إله ! فهذا التعبير تم بعد اختراع اللغات ليعبر عن ثقافة محددة ما تزال قائمة في المجتمعات البشرية ، وقد ينتفي التعبير بانتفاء مفاهيمه في المستقبل . الألوهة كطاقة سارية تسري في كل شيء، وتتجسد في كل شيء، وتبين لنا في ما سبق، أن تجسدها يختلف من كائن إلى آخر، وإن التجسد الأرقى لها كان في الانسان وبشكل خاص الانسان النبيل ، فهذا الانسان النبيل هو الوحيد الذي تتحد طاقة جسده الدنيوية بالطاقة العقلانية الخالقة بعد الموت ، ليكون في كل مكان وزمان في الكون. في الفضاء، في الكائنات، في الماء، في الهواء، في باطن الأرض، في الكواكب ، في النجوم ، في أعماق البحار ، يرى كل شيء بعيون خلقه ، ويحس بكل شيء بإحساس خلقه ، ويعقل بعقله الكوني وبالجانب المنبث منه في كل عقول الكائنات في الكون. يتمتع بما يتمتع كل كائن في الوجود ، ويتألم بما يتألم كل كائن في الوجود .
وثمة حال أدنى من هذه تكون لبعض البشر الذين كانوا في حياتهم فاعلين جيدين .. هؤلاء سيتجسدون في كائنات انسانية راقية تحمل قدرا من الألوهية أعلى بكثير من الكائنات الأخرى.
- إنه الخالق أو الله سبحانه ما أعظم شأنه . بهذه الكلمات سننهي حلقتنا لهذا اليوم . وإلى اللقاء بالأعزاء المشاهدين في حلقة قادمة .. نذكر مشاهدينا بتدوين أسئلتهم لتطرح على الاستاذ محمود في حلقة تعقب نهاية بث جميع الحلقات . دمتم بخير وسعادة . أسيل القمر !
*****

(17) حفل زفاف محمود أبو الجدايل ولمى !
" يتمايل جسد أم بشير، يتلوى ، يتثنى ، يهتز ، يرتج، يعصف ، يفجر مكنوناته ، يبعث كل آهاته ، يطرح كل آلام زمانه ، يمحو دنس السنوات الذكورية التي انتهكت قداسته ، يتطهر، يسمو، يحلق كنشيد أممي ،، تصطخب الموسيقى .. تتوجع . تئن .. تتأوه .. تجرح ، تبكي ، تلج الأعماق، تحز في النفوس ، تخفق القلوب. تنطلق الآهات من الحاضرين ، وتنحدر الدموع على الوجنات لرؤية جسد راح يوغل في عمق عذاباته ليحيلها إلى تحفة كونية ترقص على مسرح الحياة.
"إنها تفجر كل طاقات جسدها" !
همست لمى إلى محمود وهي تجلس إلى جانبه على مائدة العشاء في حفل الزفاف، مرتدية ثوب زفاف أبيض، وقد تألق جمالها لتبدو كحورية من عالم آخر ، فيما ارتدى محمود بدلة زفاف سوداء ، على قميص أبيض، وزين عنقه ببيون أسود ، ووضع قبعة سوداء أيضا على رأسه ، حيث بدا كبرجوازي حقيقي، حسب ما صرح به للمى وهو ينظر إلى نفسه في المرآة بعد ارتداء ملابس الزفاف . وقد جلس إلى مائدتهما هي ولمى أسيل القمر ومدير القناة التلفزيونية " سميح " إضافة إلى سليم شقيق لمى وزوجته " ناهد" .
أراد محمود ولمى أن يكون حفل زفافهما حفلا للمحبة الانسانية، فلقد حرص محمود على أن يجمع بين أسرتي القاتل والقتيل ، ممثلين بأم أمل وأولادها وأم بشير وأولادها.. إضافة إلى بعض الأقارب من أهله وأهل لمى ، والعديد من الأدباء والكتاب والفنانين بحيث زاد عدد المدعوين على المائة شخص .
مهد محمود للقاء الأسرتين بأن أخبر أم أمل وأم بشير أنه سيعرفهما على بعض ، رحبت أم أمل بالأمر وهي تدرك أن زوجة القاتل " أم بشير " لا علاقة لها بمقتل أبو أمل من قبل زوجها .. وتقبلت التعرف عليها بصدر رحب .. وحين استقبل الأسرتين قبل الحفل عانقت أم بشير أم أمل بحرارة واعتذرت لها عما جرى دون علمها..
أجلسهما محمود إلى مائدة عشاء واحدة مع أولادهما. وبهذا يكون محمود أبو الجدايل قد أقام أغرب حفل زفاف في التاريخ يجمع بين أسرتي القاتل والقتيل. عدا أنه حفل زفاف لرجل عجوز أشرف على السبعين من عمره ، على فتاة لم تتجاوز الثانية والثلاثين من عمرها .
" تريد أن تنسى كل الآلام التي مرت بها ، فترقص بهذا الإحساس الجارف"
عقب محمود على كلام لمى عن رقص أم بشير .
دخلت أم بشير في حالة شبه هستيرية راحت تشرع يديها وتحركهما بعنف كسيفين يمينا وشمالا، وكأنها تجتث بهما رؤوسا ، وهي في الحقيقة كانت تتخيل أنها تجتث أعضاء ّ بشرية من تلك التي كانت تنتهك جسدها دون أي رحمة أو شفقة، مقابل بضعة دنانير، تسد بها جوع أولادها ..
تدور حول نفسها وهي تضرب بسيفي يديها في كل الاتجاهات لتجتث أكبر قدر من الأعضاء الذكورية ، التي ملأت أرضية المسرح من حولها ، فراحت تركلها بقدميها أو تدوسها بعنف وكأنها تود أن تسحقها.
تعالت صيحات المعجبين برقص أم بشير:
" الله عليك يا أم بشير "
وأصطخبت الموسيقى بما هو غير مألوف من الألحان ، كرقص أم بشير المختلف عن الرقص كله .
راح جسد أم بشير يهتزبعنف من أعلى رأسها حتى أخمصي قدميها ، وسط موسيقى صاخبة ما لبثت أن أخذت تخفت شيئا فشيئا وجسد أم بشير يتناغم معها إلى أن كادت تتوقف لتضرب بعنف وتتوقف، لينتفض معها جسد أم بشير بدورة على نفسه ، ويتوقف .
هب جميع الحاضرين وقوفا وراحوا يصفقون بحرارة لأم بشير ، التي شرعت في
الانحناء تحية لهم .
- أبدعت يا أم بشير .. تسلمي!
خاطب محمود أبو الجدايل أم بشير.
- بفضل نبلك وكرمك يا سيدي الذي لن أستطيع مكافأته مهما فعلت .
ردت أم بشير.
******
حفلت الموائد بالكثير من المقبلات والموالح التي سبقت العشاء . وكان هناك مائدة طويلة عليها أنواع متعددة من الخمور والعصائر والمشروبات العادية ، وقف خلفها ثلاثة ندل لخدمة المحتفلين وسكب ما يطلبون في كؤوسهم.
نهض مجموعة من الشباب والفتيات وشرعوا يرقصون على موسيقى غربية .. كان من بينهم ابنتا ام أمل : سعاد وأمل وابنة أم بشير : زهرة .
لاحظ محمود أن الشباب والفتيات يرقصون منفردين دون أن يبدو أن أحدهم يشارك أحداً من الجنس الآخر الرقص ، وإن كان بعضهم يحاولون قدر الامكان أن يولوا اهتمامهم بالآخرين بالمشاركة في الرقص دون الاقتراب كثيرا منهم.
- يرقصون بتحفظ ! هتف محمود!
- حرام .. محظورات المجتمع تلاحقهم حتى في الرقص. هتفت أسيل! بينما راحت لمى تضحك.
وحين انتهت وصلة الرقص على موسيقى صاخبة .. أشار محمود أبو الجدايل إلى قائد الفرقة الموسيقية بأن تعزف الفرقة موسيقى هادئة راقصة .
صدحت الكمنجات بأنغام هادئة وسط أضواء خافتة، راحت تتسلل ببطء إلى مشاعر المحتفلين. أخذ مدير قناة التلفزة يد أسيل وأقامها لترقص معه ، وقام محمود ولمى بدورهما إلى الرقص.
صفق الحضور لمحمود وهو يضم لمى إلى حضنه ، فيما كان المدير يحافظ على قدر مقبول من عدم الالتصاق بجسد أسيل.
كان محمود يطمح بهذا الفعل إلى أن يثير الشباب والشابات ليرقصوا ويفرحوا .. لكن المحاولة لم تنجح ، فلم يجرؤ أي من الشباب على طلب يد شابة للرقص .. نهض بعض الرجال للرقص مع زوجاتهم أو مع قريبات لهم ..
كانت لمى تلقي رأسها على عنق محمود وتطوق جسده بيديها مستسلمة لأنغام الموسيقى غير آبهة بأية تقاليد قد يتطلبها هذا النوع من الرقص، وكان محمود يضمها بدوره مغدقا عليها كل حنانه .
لم يبد على أسيل أنها في غاية الانسجام خلال رقصها مع المدير، فقد كانت محافظة على حدود السنتمترات بين جسدها وجسد المدير.
انتهت وصلة الموسيقى الهادئة لتبدأ وصلة عتابا وميجنا:
ميجنا ويا ميجنا ويا ميجنا / يا روحي روحي سلمي عحبابنا!
تتمايل أم أمل وهي تردد من أعماقها بصوت شجي :
يا روحي .. رو.. حي .. سال لمي عا ح با بنا ....
أوف أوف أوف أوف أو .....ف.
نهض مجموعة من الشباب والشابات وشرعوا يدبكون على أغان لظريف الطول .. والملاحظ في الرقص الشعبي أن الفتيات تقبلن أن يضعن أيديهن بأيدي الشباب خلال الدبكة .
راح أحد الشباب يصدح بصوت شجي:
يا زريف الطول وقف لقلك / رايح عالغربة وبلادك أحسن لك
خايف ياولفي تروح وتتملك / وتعاشر الغير وتنساني أنا
يا ظريف الطول مر وما التفت / ولعت نيرانه بقلبي ما انطفت
بالله تقولوا لهالبنت إلي لفت / ما تمرش منهان تشغل بالنا !
يا ظريف الطول رايح عالكشاش/ محلا النومة بالحظين وعالفراشّ
لا تعطونا السمر ما نقبل بلاش/ سوسحنا البيظ بمشي الغندرا
" له له لا تزعلوا السمر" عقب محمود!
يا زريف الطول يمشي الحز الحز/ ما ادري من فراخ القطا ولا فراخ الوز
وفتحت لينا الصدر بين علينا البز / دكان تاجر فتح وبضاعة شامية !
راح بعض الحضور يضحكون ويعلقون على البز الشبيه بالدكان !
*****
جاء دور الدلعونا والدبكة على ايقاعها:
على دلعونا وعلى دلعونا من شوف الولف لا تحرمونا
على دلعونا وعلى دلعونا والله يحرمكم يلي أحرمتونا
على دلعونا وعلى دلعونا راحوا الحبايب ما ودعونا
على دلعونا يا مدلع وينك حطولي البحر ما بيني وبينك
لشق البحر ونام بحظينك ومص اخدودك مص الليمونا
بيقلن البيظ وحنا الحليب اليشرب منا بأمر الله يطيب
وبيقلن السمر أي وحنا الحنّا قهوة حجازية وغالي ثمنا!
******
حضرت مناسف العشاء. عشرون منسفا وضعت على مائدة طويلة . كل منسف عليه لحم خروف كامل. وقد رش فوقه مقدار من اللوز والصنوبروالبندق. دعا محمود جميع المحتفلين إلى تناول العشاء، فنهضوا ليملأ الندل صحونهم بما يشتهون. وليستخدموا السكاكين والشوك والملاعق في تناول المنسف ، عكس ما جرت عليه العادة بأن يتم تناول الطعام باليد ومن المنسف مباشرة .
ما أن ملأ الضيوف صحونهم وجلسوا يأكلون حتى ملأ محمود ولمى صحنيهما وجلسا إلى مائدتهما . فوجئا بأن الجالسين على مائدتهما ما زالوا ينتظرونهما ليأكلا..
" تفضلوا تفضلوا .. آمل أن يعجبكم الطهي " هتف محمود حاثا إياهم على تناول الطعام ..
تذوق محمود المرق ثم قطعة من اللحم وملعقة من الأرز مع المكسرات.. كان اللحم ناضجا بشكل جيد ، غير أن النكهة لم تكن كما يريدها ، لقد طغت عليها نكهة اللبن الجميد الذي طهي به اللحم ، لكنها كانت مقبولة . وقد أحبتها لمى وضيوف المائدة ..
استؤنف الغناء والرقص بعد العشاء .. ودام الحفل إلى ما بعد منتصف الليل .. حيث بدأ المحتفلون يسلمون على محمود ولمى .. يباركون زفافهم وينصرفون ..
******

(18) عن سبينوزا وابن عربي ووحدة الوجود مرة أخرى.

أدرك تماما أن محمود أبو الجدايل كان يمارس الحب مع لمى قبل اعلان الزواج ، الذي لم يضف إلى العلاقة الجسدية بينهما ما هو جديد .. لكن ما لا أفهمه أن اشتهاء محمود لي في هذا اللقاء بعد الزواج ، قد انتفى تماما ، حتى أن معانقته لي كانت باردة وجافة وليست كما في كل مرة .. كنت أشعر أنه يتمتع بتقبيلي حين يصافحني .. أما اليوم فقد بدا وكأنه يؤدي واجبا تقليديا.. وهذا ما دفعني إلى التساؤل ما إذا كان الزواج قد دفعه إلى ذلك ،ولو من باب احترام شروط المؤسسة ، متخلياً عما كانت العلاقة الحرة تتيحه له .. حتى أنه لم يغازلني ولو بكلمة ، ولم يتحدث عن جمالي ، رغم أننا أمضينا بعض الوقت خارج الاستوديو ونحن نحتسي القهوة . ولم يبد عليه أنه يدرك أنني أشتهي ممارسة الحب معه ، وأنني قد أنتهز أية فرصة لأجعله يفعل ذلك .. المؤسف أن الفرصة لم تأت رغم مرور أشهر على تعارفنا وعملنا معا ..تمنيت لو أتيح لي أن أراقصه في حفل الزفاف .. كنت محرجة من المدير الطامح في معاشرتي رغم عدم رغبتي فيه. أعرف من كتابات محمود أنه ضد المؤسسة الزوجية ضمن الشروط القائمة. وأن إقدامه على الزواج من لمى دافعه تلبية رغبة لها لأنه أحبها ، ولأنها وقفت معه في ظروف صعبة وابتاعت لوحات له بأسعار جيدة . لا أشعر أن رغبتي فيه مفتعله بل نابعة من حب وشهوة حقيقية ، رغم سن الرجل ، الذي قد لا يشجع أي امرأة على التفكير فيه . المشكلة أن محمود ابو الجدايل ليس أي رجل ، إنه رجل مختلف ، ولا شك أن ما يقدم عليه في الغرام مختلف ، وإلا ما هو السر في تعلق شابة جميلة كلمى به ؟ هل هو مسألة ثقافة فحسب ؟ أشك في ذلك ! تخيلت نفسي للحظة في وضع جنسي مثير معه في السرير، ويبدو أنه تنبه إلى أنني سرحت بخيالي بعيدا، فسألني:
- ألن نبدأ الحوار اليوم؟
نفضت رأسي لأطرد صورة الوضع من خيالي .
- بلى لننهض .
دخلنا الاستوديو .. أخذنا أماكننا ..
- أستاذ محمود تطرقنا في الحلقة الماضية إلى بعض الجوانب في فهم ابن عربي لمذهب وحدة الوجود الذي يختلف فيه عن فهمك أو يتفق. .. وفي هذه الحلقة نود لو نعرف بعض جوانب الاختلاف والاتفاق بينك وبين سبينوزا .
- لا شك أن سبينوزا شكل طفرة نوعية في الفكر الديني .. غير أنه وكمعظم الأفكار الصوفية وبعض الفلسفات الميتافيزيقية لم يقل لنا شيئا واضحا عن جوهر الإله ، فهل هو مادة أم طاقة ، وإذا كان مادة فما هي وما شكلها ، وهل يتجسد في كل شيء أم في شيء محدد أو أشياء محددة. وإذا كان طاقة فما هي، هل هي طاقة عقلانية أم غير عقلانية ، وهل هي طاقة كأي طاقة أخرى عرفها البشر أم أنها طاقة خالقة لم يكتشفها العقل البشري بعد . كما لم يقل كيف تتم عملية الخلق ، ولماذا هناك خلق ضار وخلق نافع . يلاحظ في بعض كتابات سبينوزا، أن الحديث يتم من خالق إلى مخلوق هو الإنسان " توقف عن الصلاة وعن ضرب صدرك ، فما أريده أن تفعل هو أن تخرج إلى العالم ، وأن تتمتع بالحياة . أريدك أن تتمتع وتغني وتعمل . أريدك أن تستمتع بكل ما قمت به من أجلك " ليس هناك خالق يتحدث عن نفسه . وهذا يعني أن الخالق منفصل عن المخلوق ، أي أن هناك طرفين. خالق ومخلوق ، وقرأت بعض الأبحاث التي تدافع عن سبينوزا والفهم الخاطئ عند البشر لمذهبه في وحدة الوجود ، فالله غير متحد بالوجود عند سبينوزا ، بل هو من خلقه ، وعند ابن عربي الوجود تجل للذات الإلهية لكنه ليس الله ، فابن عربي نزه الله عن الوجود ، وشجب الحلول الذي اعتقد به بعض المتصوفة ، حتى ابن عربي نفسه لم يتحد بالذات الإلهية .
ثمة مسائل أخرى في مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا ، فلم يقل لنا سبينوزا ولا المتصوفة ما هي الغاية من الوجود وبالتالي ما هي الغاية من خلق الإنسان ، بل إن بعضهم كما قرأت عن سبينوزا ، أنه لا يرى غاية للوجود ولا يرى غاية من خلق الانسان ، وهذا يعني أن الوجود عبثي كما يرى الفلاسفة الماديون ، ليعش الانسان كما يريد ، إنها وجودية سارتر وغيره ، فأين خصوصية التصوف ؟
منذ أن أدرك الانسان وجوده وهو يفكر في الغاية من الوجود ومن القائم به وماهي الغاية من وجوده كإنسان .. لذلك نشأت المعتقدات التي رأت أن الغاية من الوجود هي الخلق ، وأن الغاية من المخلوقات والإنسان في مقدمتها هي خدمة الآلهة وعبادتها وإطاعتها وتنفيذ شرائعها، ولا أظن ان العقل البشري تخلى عن هذه الأسئلة حتى يومنا ، وإن أي فكر حديث يجب أن يقدم للوعي البشري ما يغني وعيه في هذه المسائل الجوهرية ، حتى لو كان الأمر مجرد اجتهاد ، وليس حقائق مطلقة ، لكنه قد يستند إلى المنطق والعلم ليقول ما هو أقرب إلى الحقيقة . لذلك قلنا : الخالق أو القائم بالخلق : طاقة خالقة عقلانية تسري في الكون والكائنات وتتجسد فيهما .. وفصلنا في ذلك كثيرا .. وأجبنا عن كل ما طرح من تساؤلات من قبل القراء ، في معظم المنتديات التي شاركنا فيها.. وفصلنا ذلك في بعض مؤلفاتنا المنشورة ورقيا أو على النت.
- يقال أنه حينما كان آينشتاين يلقي محاضراته في العديد من الجامعات الأمريكية ، كان السؤال الذي يتكرر من طرف الطلاب هو :
"سيد آينشتاين ، هل تؤمن بالله ؟ "
وكان جواب آينشتاين دائما هو : " أؤمن بإله سبينوزا " فما الذي فهمه آينشتاين من إله سبينوزا؟
- طبعا سبينوزا كان يبحث عن الإله المحب للحياة وللإنسان ، ويرفض العبادات التقليدية ، والمفاهيم التقليدية للألوهة، وحين يتحدث عن ألوهة تسكن الجبال والأشجاروالوديان والبحيرات والأنهار، نشعر أنه يتحدث عن طاقة سارية في الكون ، دون أن يعرّف ذلك سوى أنه ألوهة.
لم يكن إله سبينوزا يرى في الجنس عملا قبيحا مثلا . من كلمات سبينوزا التي قد أتفق معه إلى حد كبير عليها، سأورد ما كتبه على لسان الله إلى الإنسان :

" توقف عن اتهامي بالمسؤولية عن فقرك . لم أقل لك أبداً أن هناك شيئا ما شريرا بداخلك ، كما لم يسبق لي أن قلت لك أنك ارتكبت الخطيئة .."
"لم يسبق لي أن قلت أن ممارستك الجنسية أو أن فرحك يشكل عملا قبيحا .. إذن لا توبخني على كل ما قيل لك أن تؤمن به .."
"توقف عن ترديد القراءات المقدسة التي لا علاقة لها بي ، فإذا لم تتمكن من قراءتي أثناء الفجر في منظر طبيعي ، في نظرة صديق ، في زوجتك ، في نظر طفلك ، في جارك ، في فقير دق على بابك ، فلن تتمكن من أن تجدني في أي كتاب .."
- يذكرني هذا الكلام بمقولة لي " ابحث عن الله في نفسك وفي قلبك فإن لم تعثر عليه ، لن تعثر عليه على الإطلاق"
" توقف عن الخوف مني ، فلن أحاكمك ، ولن أنتقدك . أنا لا أغضب ، ولا أعاقب .. أنا هو الحب الخالص .. ملأت قلبك بالإنفعالات ، بالرغبات ، بالأحاسيس ، وبالحاجيات غير المنسجمة .. وفي نفس الوقت منحتك الإرادة الحرة ، فكيف يمكن لي أن أوبخك حين تستجيب لما وضعته أنا فيك ؟ ..
كيف يمكن لي أن أعاقبك وأنت على هذا الحال الذي جعلتك عليه .. ؟ "
هل تفكر بشكل حقيقي وواقعي .. أنه يمكن لي أن أخلق مكاناً لأحرق فيه كل أبنائي ، وإلى ما تبقى من الأبدية ، الذين يتصرفون بشكل قبيح ؟ .. "
- لاحظي التنكر لجهنم . ولا حظي النظر إلى البشر كأبناء لله . وهذا تأثير مسيحي طبعا .
"أي نوع من الإله هذا والقادر على أن يقوم بذلك ..؟
فإن كنتُ بهذا الشكل فإنني لا أستحق أن أكون محترما ..
لو كنت أرغب فقط في أن أطاع ، لعمرت الأرض كلابا .."
" احترم الشبيه ، ولا تفعل ما لا تريده لنفسك ..
كل ما أطلبه منك هو أن تنتبه لحياتك ، وأن تكون إرادتك الحرة هي موجهك.
إنك تشكل مع الطبيعة عنصرا واحدا ، إذن لا تعتقد أن لك سلطة عليها ، إنك جزء منها ..
اعتن بها وستعتني بك "
" لقد وضعت فيك كل ما هو خير لك وجعلته في متناولك ، كما أني جعلت من الصعب الوصول إلى ما ليس كذلك .. فلا توظف عبقريتك عن ما هو سيء فيها لأجل الحفاظ على توازنها لصالحك ..
عليك بالحفاظ على هذا التوازن متماسكا ، فالطبيعة نفسها تعرف جيدا الحفاظ عليه ، فقط ينبغي عليك عدم إزعاجها "
" لقد جعلتك حرا بشكل مطلق . أنت حر في أن تخلق من حياتك جنة أو جحيما . لا أستطيع أن أقول لك إن كان شيء بعد هذه الحياة ، لكن أستطيع أن أعطيك نصيحة :
توقف عن الإيمان بي بهذا الشكل الذي أنت عليه والذي لقنوك إياه ، فأن تؤمن هو أن تفترض ، أن تتخيل ، وأن تتكهن .. "
" لا أريدك أن تؤمن بي .. أريدك أن تحس بي في ذاتك ، حين تهتم بأغنامي ، حين تحتضن طفلتك الصغيرة ، حين تداعب كلبك ، وحين تستحم في النهر ...."
"عبر عن فرحك ، وتعود أن تأخذ فقط ما تحتاجه .. "
" إن الشيء الوحيد اليقيني هو أنك هنا ، والآن ، وأنك حي ، وأن هذا العالم مليء بالعجائب التي بإمكانك أن تتعرف عليها ، وبشكل حقيقي ، على ما تحتاجه فيها .."
- لا تبحث عني بعيدا ، فلن تجدني .. إنني هنا : في الطبيعة ..
إن الكون هو أنا " ..
- يلاحظ من هذا التعبير" إن الكون هو أنا " انتفاء وجود خالق ومخلوق ، وخاصة خالق هو الله ، ومخلوق هو الإنسان . ومع ذلك لا تتوضح هذه الصورة في حديث الله الانسان .
- يبدو لي أن معظم المتصوفة قد وقعوا في هذه الإشكالية ولم يعرفوا كيف يمكن أن يتخلصوا منها . إنّ فكرة وجود خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، مهما تعددت أشكال الخلق ، كانت صعبة على فهمهم الفلسفي .. لاحظي أنني أعود لأذكرك حين نتحدث عن خلق وخالق أو عن خلق وإله ، أننا أمام خالق يخلق نفسه ولسنا أمام خالق ومخلوق ، وأننا نستخدم بعض المفردات كتعبير مجازي لا غير.
صحيح.. لا حظت أن الفلاسفة الماديين لا يقتنعون بوجود غاية للإنسان من الحياة " لأنه وجد نفسه على هذه الكرة، ولا إرادة أو دور له في ذلك. وسيغادرها،إذا لم ينتحر، ولا رغبة له في ذلك" كما يقول الاستاذ أحمد ماهر.
- الفلاسفة الماديون لا يقرون بوجود خالق ، فكيف إذا كان الوجود نفسه هو الخالق ؟ إن من لا يعرف الخالق لا يعرف الغاية من الوجود .
- ويا ليتهم يتساءلون كما تساءلت أنت ، فلماذا وجد الوجود أصلا إذا لم يكن له غاية ؟
- هل قرأت ردي على أحمد ماهر؟
- قرأته ؟
- هل أعجبك ؟
- كثيرا ! وخاصة حين قلت أن للوجود غاية ، وأن لوجود الإنسان غاية هي غاية الغايات كلها. بإقامة الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. وطرحت رؤيتك لطريق ثالث في الفلسفة يفيد من العلوم والفلسفة بشقيها المثالي والمادي. وكذلك تساؤلاتك عن الغاية مما يصنعه الانسان.
وتأخذ أسيل ورقة من مجموعة أوراق كانت قد طبعتها ،وتقرأ :
"يبني الانسان المدن ، ويصنع الطائرات والسفن ، ويشق الجسور ويبني السدود ، ويقيم حضارة ، لا لغاية بل من أجل العبث !! فهو ليس في حاجة إلى حضارة ! غريب وعجيب هذا المنطق ، فلماذا الحضارة إذن ، ليبقى الانسان على العيش في الكهوف ، وركوب البغال والحمير ، والحياة على ضوء السراج ، بل ولماذا تم خلقه ووجوده في الأساس إذا لم يكن لوجوده غاية ؟ لينتحر ، أو يموت ، وليذهب إلى الجحيم . هذا هو منطق الفلسفة المادية ! لكن لماذا يطالب بعض الفلاسفة الماديين بالحرية والعدالة والمساواة بين البشر إذا لم يكن لوجود الإنسان غاية ؟ ولماذا يرى انسان مثلي أن لكل كائن في الكون غاية ، بدءا من الكون بشموسه وأقماره وكواكبه ونجومه ، مرورا بنباتاته وحيواناته وأنهاره وبحاره وجباله ،وأخيرا بإنسانه . لو كان الوجود عبثيا وبلا غاية لافتقر إلى النظام ،وافتقر إلى الجمال ، ودمر الكون والكائنات أو شوهت . ولما حرصت الوردة على أن تكون جميلة . ولما حرصت الشجرة على أن تمنحنا ثمارا ناضجة ، ولما حرص الانسان على أن يكون جميلا ، وأن يظهر بمظهر جميل.
لماذا لا تنبت الشجرة زقوما أو سماً، ولماذا لا تريد الورود أن تكون بشعة . لماذا تحرص الكائنات كلها على الجمال ، ليبدو الجمال وكأنه غاية لكل الكائنات، وهو كذلك بالفعل ، لما يبعثه في نفوسنا من أمل بحياة أجمل ، وراحة نفس، ومتعة نظر، وحب للحياة والأمن والسلام والمحبة ..
قد نتفق مع بعض العلماء حين يتنكرون لبعض حقائق العلوم لأنها تكاد تكون فوق مستوى العقل البشري ، فحين ثبت عبر الفيزياء الكوانتية أنه لا يمكن رؤية المرصود دون أن يكون هناك راصد له ، وأن حالاته تتغيربنوع الراصد، استغرب آينشتاين الأمر قائلا : هل يعقل أن يكون القمر غير موجود طالما لم أنظر إليه ؟ والأمر نفسه كان مع قصة الإلكترون الذي يمكن أن يكون في اكثر من مكان ، وأن هناك تناغما بين هذه الالكترونات وأن مايحدث لإلكترون منها يمكن أن يحدث للإلكترونات الأخرى في الوقت نفسه حتى لو كانت المسافة التي تفصل بين الالكترونات ضوئية !وهذا ما صدم آينشتاين لا عتقاده أن سرعة الضوء هي السرعة القصوى ، وهذا الأمر( التناغم اللحظي ) يعني أن هناك سرعة أكثر من سرعة الضوء ! ولم تتوقف الأمور مع آينشتاين عند هذا الحد ، فقد كان يعتقد أن معادلته في النسبية هي خاتمة المعادلات.. إلى أن جاء بول ديراك وكشف نقص المعادلة .. ولولا معادلة ديراك لما كنا نرى التلفاز والحاسوب والفيديو والراديو والهاتف كما هي عليه اليوم ..
هذا الأمر وارد في العلوم ومع ذلك تم تجاوز أو تطور معظم النظريات السابقة وما زال الأمر في تطور مستمر .. أما أن لا يتقبل الفيلسوف المادي فكرة أن للوجود غاية وأن لوجود الانسان غاية أيضا فهذا أمر لا يتقبله العقل .. لا يتقبل العقل المادي الغايات الدينية للخلق من عبادة وغيرها،وهذا أمر يمكن تقبله أمّا أن لا يتقبل الغايات الانسانية فهذه مأساة !"
- أشكرك أسيل .. لقد أرحتني من الإجابة بقراءتك هذه لما كتبته .
- العفو.. إذا تحب أن تضيف شيئا ، ممكن.
- لا . كفيت ووفيت !
- وقد أدركنا الوقت .. شكرا أستاذ محمود . شكرا أعزاءنا المشاهدين .. وإلى اللقاء.
*****


(19) أم بشير تتبتل إلى الله !
أم بشير قررت أن تتخلى عن متعة الجسد، وأن تقتل الشهوة ما استطاعت ، وتتبتل إلى الله . فقد رأت من ذكورالرجال ما أثار اشمئزازها وسخطها إلى الأبد .. تحجبت وارتدت الزي الأسود الطويل . ولم يعد يبدو من جسمها غير وجهها وكفيها. تصلي الصلوات في أوقاتها وتتضرع إلى الله أن يبعد عنها كوابيس ليالي الزمن الزنيم ، ورؤية غابة من السوءات الذكورية تحاصرها وتشرع في الانقضاض عليها لتنهش جسدها دون رحمة ، متوغلة فيه إلى ما هو أبعد من حدود الممكن، إلى ما هو فظيع جداً ، مقابل بضعة الدنانيرالتي تسكت بها جوع أولادها .. حين تدهمها هذه الكوابيس توقظها من النوم ولا تدع إليه سبيلا .. وكانت تأمل من الصلاة والتبتل ما يبعدها عنها.. محمود أبو الجدايل طلب إلى أم أمل أن تعلمها الخياطة ، ليفتح لهما مشغلا تعتاش الأسرتان منه ، ويشغل بضع عاملات أيضا .. رأى محمود التبدل في حياتها ولم يتدخل فيها ، مدركا ما عانته في السنين السابقة، ودوره في هذا التحوّل.. تستمع بشغف إلى الحوارات معه على قناة أفق المعرفة، وتقرأ بعض أفكاره وكتبه على الشبكة العنكبوتية ، وتعرف أن فهمه للألوهة مختلف ، ومع ذلك لم تستطع إلا أن تصلي ، وحين سألته رأيه في تبتلها ، قال لها بعض ما قاله لأم أمل ذات يوم " تبتلي طالما أن التبتل يريحك نفسياً" وهذا ما جعل إيمانها بفكره يزداد، فراحت تنذر صلاتها إلى إلهه، رغم أنها تقوم على طقس ومفردات يعودان إلى الإله في مفهومه الاسلامي.
*****
تتحسس لمى بطنها في محاولة لتلمس الجنين في رحمها والتودد إليه ، غير مصدقة أنها ستصبح أمّاً . تخاطب محمود:
- حبيبي هل تتصور أنني سأكون أمّاً ناجحة !
- ولماذا لا ؟ ماذا ينقصك لكي تكوني أمّا ؟
- لا أعرف ! أشعر أن الأمومة مسألة صعبة لا تقدر أي امرأة عليها !
- أكيد تتطلب مسؤولية وعناية بالمولود وما إلى ذلك ، لكن الأمر ليس بهذه الصعوبة .. المسألة تتعلق بالتكيف مع وضع جديد لم تعتادي عليه.
- آمل أن أنجح في الأمر.
- ستنجحين حبيبتي .. ليس في الأمر معجزة . وسأساعدك قدر استطاعتي .. وقد نحضر مربية للمولود إن فشلنا في العناية به !
- مربية ؟! مسألة لم تخطر على بالي ..
- قد تخطرفي وقتها !
- ماذا سنسمي المولود إن كان ذكرا ؟
أطرق محمود للحظات قبل أن يهتف بما فاجأ لمى :
- آدم!
- نعم ؟ آدم ؟!
- أجل حبيبتي آدم الثاني ، الذي ستبدأ به رؤية جديدة لعملية الخلق ! طالما أنا أتحدث عن هذه الرؤية في حوارات متلفزة وفي مقالاتي وكتاباتي ..
- وإذا كان المولود أنثى ، أكيد ستقول لي أننا سنسميها حواء!
- أكيد !
راحت لمى تضحك وهي تردد "آدم وحواء جدائليان ولميائيان، يا لغرائب وعجائب الزمن "
*****
مرت أسابيع لم يتلق فيها محمود أي تهديدات أو محاولات ارهابية ،وكأن اعتقال الشيخ ومن معه قد وضع حدّاً لها . إلى أن تلقى رسالة على الهاتف
تنذره بأن ساعته آزفة لا محالة ما لم يعلن توبته وعودته إلى الله ، ويوقف بث حلقات الزندقة على قناة أفق المعرفة . لم يخبر لمى بالرسالة ، ليبقيها بعيدة قدر الامكان عمّا يواجهه من مخاوف ، لكنه أخبر مسؤول الأمن الذي وعده باستمرار البحث عن هذه الجماعات الارهابية ، إلى أن يتم القضاء عليها.
الأحكام صدرت بسجن الشيخ خمسة عشر عاما مع الأشغال الشاقة لاتهامه بتشكيل خلية تخريبية وتحريضه على اغتيال محمود أبو الجدايل ! وصدرت بسجن القواد واثنين من الخلية عشرة أعوام مع الأشغال الشاقة . أما عقاب فقد حكم عليه ثلاثة عشر عاما مع الأشغال أيضا ، لانتمائه للخلية إياها ، ولاشتراكه في قتل شفق واغتصابها مع أخيها .. شفيق لم يثبت عليه الانتماء للخلية الارهابية التي يرأسها الشيخ الاب، لكن ثبت أنه اغتصب أخته شفق مع عقاب ومن ثم قام بذبحها ، فحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما مع الأشغال الشاقة. هذا الحكم أرضى كثيرين لأنه لم يأخذ بقصة القتل بدواعي الشرف ، وتجاهلها تماما، غير أنه لم يرض آخرين أيضا، كونه لم يصدر بالإعدام .
*****
أسيل وهي تطالع مقالات محمود أبو الجدايل على الشبكة العنكبوتية ، في محاولة للتحضير للحلقة القادمة من الحوارمعه ، رأت مقالاً تحت عنوان " التذبذب الكمي" يرد فيه على أحمد ماهر، تتوضح فيه نشأة الخلق وتطوره ، ربما بقدر أكبر مما جاء في الحوار مع محمود أبو الجدايل ، ومما جاء فيه :
"حين لم يكن في الوجود إلا العقل الطاقوي المطلق الذي يعبر عنه في الفيزياء التقليدية بالعدم أي الخلاء الخالي من العناصر المادية والزمكان ( الزمان- المكان ) قرر أن يكون شيئا فقام بعمل ما يعرف بالتذبذب الكمي في الفيزياء الكوانتية " وهو "عبارة عن النشاط الذي تتأرجح فيه الطاقة في الفراغ كأمواج البحر، راقصة بين نشوء الجسيمات واندثارها في دورة مستمرة من الحياة والموت، تتفاعل فيها الأجسام الافتراضية التي تنتج من العقل الطاقوي في عربدة صاخبة مكتظة بالحياة " وهو ما يطلق عليه الفيزيائي الفلكي سليم زاروبي "التموج الهادر من نقطة لأختها" أي التذبذب الكمي . من هذا التذبذب وصراعاته نشأ الانفجار الكوني الذي جاء منه الوجود . أي نحن، أمام وجود شبه عدمي ينشئ ذاته من عقل طاقوي. غير أن هذا العقل له قدرة على أن يوجد ذاته في مادة وطاقة مختلفتين . رغم أنه عقل غير متطور. ويمكن القول أنه عقل بدائي .. وظل هذا العقل يعمل ويطور نفسه بنفسه طوال مليارات الأعوام قبل التذبذب الكمي وبعده ، وما عرفه العلم هو ما بعد الانفجار ولا يعرف ما قبله غير الخلاء العدمي ،إلى أن اكتشفت الفيزياء الكوانتية التذبذب الكمي .دامت عملية خلق العقل الطاقوي لأجسام مادية يتجسد فيها قرابة أربعة عشر مليار عام بعد الانفجار . وكان أفضل ما تجسدت فيه حتى يومنا هو الانسان . الذي منحه العقل الطاقوي الكوني الخالق عقله ليكون مشاركا له في عملية الخلق . فقد وجد العقل الطاقوي أنه غير قادر على بناء مدن وإنشاء صناعة وتطورعلوم وإقامة حضارة وخلق ثقافة . فكان لا بد من خلق الانسان ليضع عقله فيه، ليرى الخالق ( العقل الطاقوي ) ذاته فيه وليعمل معه على تطوير عملية الخلق نفسها، بما في ذلك فهم الخالق لنفسه . فعملية الخلق أصبحت تكاملية – بعد خلق الانسان - بين العقل الطاقوي والعقل الانساني الذي هو جزء من العقل الطاقوي الكوني .. وهذا يعني أن الوجود واحد وليس وجودين خالق ومخلوق . نحن أمام خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه . وأن غايته من الخلق -التي لم تكتمل بعد، بل إنها ما تزال تحبو- هي بناء حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. وما الأفكار التي يطرحها البشرحول الأمر نفسه إلا أفكار الخالق نفسه . وكل فكر ظهر في التاريخ البشري هو بفعل طاقة هذا العقل الطاقوي .. وقد شاء هذا العقل الخالق أن يكون العقل مخيرا لا مسيرا لإغناء العقل الكلي الكوني ، فالحضارة لا يمكن أن تنشأ من عقل منغلق على نفسه . مشكلة الانسان أنه لا يدرك حتى يومنا الغاية من الوجود، وبالتالي الغاية من وجوده، وأن الألوهة (إن تقبل العقل الخالق أن تطلق عليه ) موجودة فيه "
وبعد أن قرأت أسيل المقال فكرت في أن تعيد طرق بعض مسائل العقل والغايات وبناء الحضارة ، في الحلقة القادمة مع محمود أبو الجدايل. فهذه المسائل قد تحتاج إلى الكثير لفهمها واستيعابها.. وخاصة ما يتعلق منها بفكر الانسان وكيف يكون فكرا للقائم بالخلق في الوقت نفسه.
****
(20) محاولة اغواء أسيلية !!
" فكرت في خلق فرصة تتيح لي أن أغوي محمود أبو الجدايل ليقدم على ما هو أكثر من مجرد غزل معي ، أرغب في رؤيته يعريني من ملابسي قطعة قطعة ، ويلثم كل بقعة في جسدي ، ومن ثم يحتويني لأغرق معه في لجّة الغرام . المؤسف أن كل ما فكرت فيه بدا لي مبتذلا وسخيفا ، كأن أدعوه لتناول الغداء أو العشاء في بيتي دون مرافقة لمى له ، فماذا سأقول له إذا ما سألني عن عدم دعوة لمى معه ، هل أقول له بغنج ودلع " أريدك أنت وحدك .. أريد أن أشم رائحة أنفاسك وهي تتكسرعلى شفتي، وبين مفترق نهديّ، وعلى حلمتيهما. يا إلهي هل أجرؤ على ذلك فعلا ؟ ألن أبدو له سخيفة إلى حد غير معقول؟! لكن لماذا لا أدع الأمر يجري بشكل عفوي .. لأفك زرين من القميص عن صدري ليبدو أكبر قدر من نهدَي! ولأحسر التنورة عن فخذي لأحرك رغبته .. أوه حماقة .. حماقة يا أسيل .. هل تريدين أن تسقطي من نظر الرجل الذي يحترمك ويتغزل بجمالك ، إلى الهاوية .. قولي لمحمود أبو الجدايل شعورك تجاهه بشكل مباشر ودون لف أو دوران ، وستعرفين ردة فعله "
وسارعت إلى شبك الزرين اللذين فككتهما عن صدري كما أعدت سدل التنورة إلى ما تحت ركبتي ، للتخلص من أثر (البروفا) الفاشلة التي فكرت فيها. ونهضت لاستقبال محمود أبو الجدايل .
راعيت أن تكون المصافحة غير تقليدية بأن اقتربت من تقبيل طرفي شفتيه وأنا أردد بقدرما من الوله " اشتئت لك" بحيث شعر هو بذلك ، وطبع قبلتين على خدّي وهو يهتف متجاهلا بقدر ما كما يبدو، ما شعر به:
" تشتاق لك العافية"
وحين أحسست أنه يحاول تجاهل شعوره ، أردفت :
" بحبك " همستها بشهوانية وكأننا في سرير الحب!
بدا لي أنني باغته بالأمر فبدا محرجا بعض الشيء.. أبقى على حدود الأمر العادي!
" أشكرك وأنا أحبك "
وحين وجدت أن إمكانية تجاوز الوضع أكثر مما فعلت ، ستبدو مفتعلة للغاية ، سألته أن ندخل الأستوديو ونشرع في التسجيل دون تريث ، فوافق على الفور وكأنه كان ينتظر مخرجا من تدفق مشاعري المفاجئ له.
******
" استاذ محمود . التفكير في مسألة الخلق بين أن تكون مسألة ذاتية لخالق يخلق نفسه ، وبين أن تكون مفروضه من خالق يقوم بعملية خلق مستقلة عنه ، مسألة معقدة جدا ، بحيث تبدو الحالة الثانية أقرب إلى الفهم من الأولى ، وخاصة بتأثير المفاهيم الدينية التقليدية ، التي زرعت في العقل البشري وجود خالق ومخلوق ،
ويزداد الأمر صعوبة وتعقيدا، حين نتجاوز التجسد المادي إلى ما هو فكري وعقلاني ، فكيف يمكن اعتبار المعتقدات كلها والأفكار الفلسفية كلها ، فكرا لهذا الإله الذي يخلق نفسه، وإن بشكل غير مباشر منه ؟!"
- سأجيب من الآخر لأقول: الفكر ينتج بفعل الطاقة العقلانية السارية في الكون، والمجسدة فيه، ومن ضمنها الانسان، التي يعبر عنها مفهوم الألوهة بشكل مجازي .. فالحديث عن طاقة سارية وليس عن إله بالمفهوم الديني .. وليس بالضرورة أن تأخذ هذه الطاقة بكل ما أتت به المنظومة البشرية منذ أن وجدت ، لتخزنه في الأرشيف الكوني كفكر. قد تأخذ ببعضه لحقبة ما إلى أن يتم تجاوزه .. من هنا تأتي الصعوبة في الفهم . لنأخذ مثلا انسان يبدأ بمعرفة نفسه منذ الصغر، فهو كلما كبر كلما نمت معرفته لنفسه وللوجود من حوله ، وكلما محا ما تكون من قبل ليحل محله ما هو جديد . هذا على صعيد الانسان كفرد وقدرات محدودة ، فما بالك بطاقة كونية سارية في الكون تفكر بملايين العقول ، لتجد نفسها أمام ملايين الأفكار، المتحولة والمتطورة بين فترة وأخرى؟!
كما أن الإشكالية في العقل البشري تكمن في استكانته إلى فكرة الخالق مطلق القدرة ، الذي في استطاعته أن يقول للأشياء كوني فتكون ، ليكن كذا فيكون خلال لحظة .. هذه الفكرة يسهل استيعابها على العقل الانساني رغم عدم معقوليتها ، فهي تريحه من التفكير في نشأة الخلق وتطوره ومن يقف خلفه . ورغم أن العلوم كلها والفكر الفلسفي بأهم جوانبه ، قد أثبتت خطأ هذا التفكير ، إلا أن العقل البشري في غالبيته مازال يتشبث بهذه الأفكار لأنها الأقرب إلى فهمه .
- طيب في هذه الحال يمكن أن نعتبر الطاقة الخالقة طاقة متخلفة كون هذا الفكر السائد يعبر عنها .
- لا تنسي أننا حين نتحدث عن بشرية فنحن نتحدث عن بشرية كوكب الأرض ، وليس بشرية كواكب الفضاء إن وجدت، والتي سبق وأن تطرقنا إلى حضاراتها المفترضة ، التي قد تشكل ذروة متقدمة جدا في تمثل الألوهة ، وقلنا أن الفرق بين حضاراتها وحضارتنا كالفرق بين حضارتنا وحضارة النمل ! هذا إذا كان لدى النمل حضارة ..
- بناء على هذا الكلام ، نستنتج أن الطاقة الخالقة أو الله لا يأخذ بمعظم فكر أبناء كوكب الأرض لتخلفه إلى حد كبير.
- صحيح . لم يعد يأخذ بمعظم ما جاء من فكرعلى الكوكب. ولا تنسي أن الخالق عندي طاقة متطورة لم تبلغ الكمال بعد ، فكيف ستكون عليه الحال مع هذا الانسان الذي ما زال يعتقد بوجود جن وشياطين يرجمهم بالحجارة دون أن يراهم ! ويعتقد بوجود آلهة تحتاج إلى أن يعبدها ، ويؤدي لها طقوس صلاة وعبادة عدة مرات في اليوم الواحد.
- متى تتصور أن انسان كوكب الأرض سيرتقي بحياته وسلوكه وفكره إلى مستوى قريب من انسان الفضاء المتطور المفترض.
- بالضبط لا أعلم ، ربما يحتاج إلى مليون سنة . ومسألة وجود انسان متطور جدا في الكون ، تظل مجرد تصورات علماء ليس في الامكان الجزم بها.
- ماذا لو انتقلنا إلى مفهوم الحضارة . كيف يمكن أن نقنع انسان كوكبنا ، أن الغاية من الوجود هي رؤية الخالق لنفسه مجسدا في أجمل وأرقى وجود ، وإقامة حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال ؟!
- لنبدأ من الآخر أيضا ! تصوري لو أن ما حققه الانسان المتخلف على كوكبنا من حضارة في بعض المجالات، كبناء المدن مثلا ، ليس موجودا، فماذا ستكون عليه الحال؟
- تقصد عدم وجود مدن ، واكتشاف النار والكهرباء .. وصناعة الطائرات والحافلات والجسور والسدود وغيرها؟
- أكيد !
- لا يكون للحياة معنى.. نكون كقطعان الحيوانات نعيش في الغابات نفتك ببعضنا ..
- إذن من هنا يكون بناء الحضارة بحد ذاته غاية للوجود.
- هل هذا يعني أن الانسان الذي يعتقد أنه يبني الحضارة لنفسه ، لا يدرك أنه يقوم بغاية للوجود أيضا ؟
- ندرة من البشر يدركون ذلك . ولو أن الانسان أدرك معنى وجوده والغاية منه ، كجزء صغير من منظومة كونية، لاختلف الأمر، ولسارت الحياة في اتجاه غير الذي سارت عليه ؟
- هذه الفكرة تحتاج إلى توضيح للمشاهدين .
- لو أدرك الانسان منذ البداية أن وجوده جزء من وجود كوني (إلهي) له غاية، يرى ذاته فيها على الوجه الأكمل ، بإقامة حضارة إلهية ، تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . لأقصر عمله على هذا الأمر وعلى تحقيق هذه الغايات ، ولما كان هناك حروب ، ولكانت الأرض كلها للبشر كلهم ، ولكانت البشرية أمة واحدة وليست أمما ، ولسعى الجميع لرؤية الألوهة في ذواتهم على وجهها الأكمل .. ولبنيت المدارس والجامعات بدلا من المعابد ، ولأقدم الجميع على أعمال الخير وتحقيق العدل ، وتعميق الشعور بالمحبة في ما بينهم ، ولسموا بالجمال في كل شيء.. لتغدو الحياة أجمل وأرقى وأروع .. المؤسف أن الانسان سار على النقيض من ذلك .. وراحت كل أمة تفكر في نفسها دون غيرها . بل وتغزو أمة أمما أخرى وتفتك بها .. أو يأتي دكتاتور ويحكم أمة ويذلها .. وكثرت المعتقدات ،وأنواع الآلهة ومتطلباتهم .. ليضيع الانسان في النهاية ..
- هل تعتقد أن انسان الكواكب الأخرى في الفضاء ( المتطور ) إن وجد ، قد عرف هذه الأفكار وآمن بها وعمل على تحقيقها ، لذلك حقق هذه الطفرات النوعية المذهلة التي رقت به وقربته من مفهوم الألوهة ذاته.
- أكاد أجزم بذلك .
- طيب لو شئنا أن لا نغرق مشاهدينا في اليأس من انسان كوكبنا الأرضي ، وأن نغرس في أنفسهم بعض الأمل ، ولو بصيص شمعة في هذا الظلام ، فماذا نقول لهم ألم يعد هناك خير على كوكبنا ، ولم يعد هناك محبة وجمال وحد أدنى من العدل ؟
- نعم . ما يزال هناك أمل .. فلو لم ينتصر الخيربقدر مقبول على الشر حتى الآن على كوكبنا لفنيت الحياة . ولما بقي الانسان حتى اليوم. وهذا يعني أن الحياة ما تزال تتفوق على الموت بكل اشكاله ، الطبيعية وغير الطبيعية .
وما يزال هناك حد أدنى من العدالة الاجتماعية ، لكنه حد متدن جدأ .. فنسبة الفقراء على الكوكب أضعاف أضعاف نسبة الأغنياء ، عدا العدالة غير المحققة في مناح كثيرة في الحياة أيضا .. كاستغلال الشعوب واحتلال أوطانها .. وسيادة القوي على الضعيف ، والغني على الفقير.
الأمر نفسه ينطبق بقدر أكبر على المحبة . فثمة أمم لا تحب إلا نفسها ، ولا تطلب الخير إلا لها ، ومع ذلك لم تعدم المحبة بين جميع البشر. فثمة بشر يحبون الآخرين كونهم بشرا أيضا .
بالنسبة للجمال . الفضل يعود للطبيعة بالدرجة الاولى . فهي لا تتخلى عن جمالها ، بل وتغطي به قبائح أفعال الانسان .. وعدا جمال الطبيعة بكائناتها وكواكبها ونجومها وأشجارها ونباتاتها وزهورها وحيواناتها وجبالها وأنهارها وبحارها، وحتى جمال انسانها والأنثى بشكل خاص ، هناك جمال الفنون والآداب والعمارة ، وجمال العمل وجمال الخير والمحبة... مما يبقي على الجمال في الحياة وضرورته لها. ولذلك يمكن القول أن الأمل ما يزال قائما في حياتنا رغم كل نذر الشؤم .
- استاذ محمود متى يمكن لإنسان كوكب الأرض أن يرقى إلى هذه القيم التي تؤمن وتنادي بها ؟
- لن يرقى الإنسان إلى هذه القيم ، ما لم يدرك إلى حد ممكن ومقبول ، أن وجوده جزء من وجود إلهي كوني ، وأن الألوهة تكمن بقدر ما فيه، بقدر ما هي في غيره ، وأنه ينبغي عليه أن يعمل على قدر هذه الألوهة فيه ، ليكون على مستواها. ويكون فاعلا ايجابيا في عملية الخلق بحد ذاتها.
- شكرا أستاذ محمود. بهذا مشاهدينا الأعزاء نكون قد وصلنا إلى ختام حلقتنا لهذا اليوم. طاب ليلكم وتصبحون على خير.
(21) في حضرة ربّة الجمال.. ربّة الكون!
يستلقي محمود أبو الجدايل في هدأة الليل السابق لانبلاج الفجر ، على أرجوحة في حديقة بيت لمى ، تحيط به نباتات لأزهار من الجوري والريحان وعباد الشمس ، وأشجار ليمون وياسمين وسفرجل ، تفوح منها روائح عطرة تتضوع في المكان، وسط سكون مطبق من حوله . ينظربعيدا في الفضاء متأملا النجوم التي طالما تأملها كثيراً قبل النوم في بطاح برية القدس إبان طفولته، حين كان يخلد إلى النوم صيفا في العراء إلى جانب قطيع الأغنام .. يطلق العنان لخياله ليحلق بينها ، مبتدئا بالتجرد من ثقل جسده متوغلا في أعماق نفسه، ليغدو بوزن الريشة .. يطير متجولا في الفضاء تحف به أسراب من نجوم سماوية ، يبحربعيدا في أغوارالكون، ممتطيا متن سرير ملائكي.. يسبح في هالات من الأنوارمختلفة الألوان.. يتلون جسده بكل الألوان التي يمر سريره عبرها ..يهتف صوت مألوف له ، طالما سمعه كثيرا وهو يغرق في تأملاته .. إنه صوت الله دون شك :
" إلى أين أنت ذاهب يا محمود " ؟
"أبحث عنك يا إلهي "
" تبحث عني ؟ أنت تعرف أنني في كل مكان "
" أريد أن أراك مجسّداً"
" وتعرف أنني مجسد في كل شيء، فليس هناك من هو مجسد بغير مادتي "
" أريد أن أراك مجسّداً أمامي في أجمل جسد تحبه "
" لماذا تريد ذلك ؟"
" لأراك كإله مجسدا في ما هو أجمل ، ولأتحدث إليك بشكل مباشر "
" الأمر ليس سهلا علي كما تعلم ، فلو كان تجسدي يتم بهذه البساطة ، لما مرعلى عملية الخلق أربعة عشر مليار عام دون أن تكتمل "
" هل حاولت يا إلهي "؟
" لا ! لم أحاول ، لاستحالة الامر كما أعتقد"
" وهذا الصوت الذي تخاطبني به ، أليس من جسد يصدر عنه؟"
" بلى .. ثمة جسد "
" أين هو ؟"
" إنه جسدك "
" جسدي أنا "؟
" أجل "
" لم أفهم "
" صوتي يأتيك من ألوهيتي فيك !"
" يأتيني من ألوهيتك فيّ "؟
" أجل "
" إلهي أرجوك لا تدعني أشعر وكأنني اتحدث مع نفسي، حاول أن تكون شيئا يمكنني الجلوس في مواجهته ومخاطبته "
" قلت لك أن الأمر أقرب إلى المستحيل"
" يفترض أن لا يكون ثمة استحالات أمام الآلهة "
" بل هناك استحالات ولو إلى حين "
" ماذا لو حاولنا معا يأ إلهي . أنت بألوهيتك المطلقة ، وأنا بألوهيتي المحدودة منك"
"من أجلك سأحاول يا محمود.. هيا لنفعل معا"
هتف محمود في سريرته " ليكن ما يريده الله أن يكون " وهتف الله " لأكن ربة الجمال التي لم تخلق بعد "
وخلال لحظات رأى محمود هيكلاً من ألوان متلألئة تنبثق في فضاء من النجوم المتوهجة ، راحت الألوان تنحسر عن الهيكل شيئا فشيئا لتتجلى عن فتاة ملائكية خارقة الجمال ترفل بثياب من السندس والاستبرق ، تجلس على كرسي وثير، تحيط بها هالة نورانية، تضفي على وجهها جمالا ساحرأً، وتضع على رأسها تاجاً مرصعا بالجواهر، مطلقة شعرا طويلا على جانبي صدرها وعلى ظهرها .
انبهر محمود للحظات بجمالها الخلّاق وراح يهتف "ما أجملك يا إلهتي" وأحنى رأسه تحية واحتراما لها ، وخاطبها كإلهة طالبا إليها أن تتيح له تقبيل يدها. مدت الربة يدها فأخذها محمود وقبلها .. خاطبها متسائلا عما إذا كانت إلها أم إلهة. قالت :
- بل أنا الألوهة التي تكمن فيها الذكورة والأنوثة! أو الربوبية بشقيها الأنثوي والذكوري! دون أن تكون ذكرا أو تكون انثى .
- ماذا تكونين اذن يا ربتي ؟
- أكون الألوهة أو الله إن شئت !
- وبأي صفة سأخاطب جلالك ؟
- كما تشاء ، يمكن أن تخاطبني كربة أو كرب ، الأمرجائز ..
- ألا تفضلين جلالتك الأنوثة كونك اخترت جسدا وشكلا أقرب إلى الأنثى منه إلى الذكر؟
- صحيح . أنا أفضل الأنوثة فيّ على الذكورة ، وإن كانت غير انثوية !
- لكن كيف تكون الأنوثة غير أنثوية يا ربتي؟
- أنسيت انني طاقة يا محمود وأنني مصدر كل الأشياء كما أكون في كل الأشياء، دون أن أكون شيئا محدداً، فأنا كل شيء: أنا مصدر البصر مثلا دون أن يكون لي عيون ، ومصدر السمع دون أن يكون لي آذان ، ومصدر العقل دون أن يكون لي دماغ، ومصدر الكلام دون أن يكون لي لسان، وبالتالي أنا مصدر الذكورة دون أن يكون لي عضو ذكورة ، ومصدر الأنوثة دون أن يكون لي عضو أنوثة . وهذا الشكل الأنثوي الطارئ الذي ظهرت فيه بمساعدتك أحببت أن أظهر فيه لمحبتي للأنثى في الكون.

- وأنا أحب الأنثى يا ربتي وأحسنت جلالتك إذ فضلت أن تظهري بجسد أنثى. أفضل أن تظلي كذلك يا ربتي !
- سأظل من أجلك يا محمود!
- أشكر جلالك يا ربتي.. هل أفهم من كلامك طالما أنك مصدر الأشياء ، أن ثمة جانبا كبيرا من معرفتك يأتي عبر معرفة الأشياء التي تتجسدين فيها، فلو أخذنا العقل مثلا ، فلا تكتفين بما يتوصل إليه عقلك كمصدرللعقول بل تفيدين مما ينتج عن مليارات مليارات عقول الكائنات ..
- هذا صحيح يا محمود. فلو اقتصر الأمر على عقلي كمصدر لما وصلت عملية تطور الخلق إلى ما وصلت إليه .
- ولهذا تعتبرين كل فكر وكل معتقد هو فكرك انطلاقا من هذا المبدأ .
- صحيح . كالوجود نفسه ، فهو وجودي كونه جاء من مادتي وطاقتي.
- وهذا الفكر لا يظل ثابتا ، بل يتحول أو يتطور كلما جاء فكر جديد .
- أجل . ودون ذلك لن يكون هناك تطور. ألهذا كله كنت تبحث عني؟
- أجل يا ربتي .. وهناك أشياء أخرى أريد معرفتها ؟
- ما هي؟
- الألوهة مثلا .. هل كنت تعتبرين نفسك إلها أو إلهة منذ أن وجدت ، أي منذ البدء قبل عملية الخلق !
- لم أكن إلا طاقة لا تعتبر نفسها إلا كذلك . وفكرة الألوهة جاء بها العقل البشري ، ونطقها بعد اختراع اللغات، ونظرا لأن هذا العقل جزء من عقلي، فقد أخذت بها، وإن كنت أحب الألوهة بمفهومها الأنثوي أكثر من الذكوري ..
- وهل تأخذين بكل هذه المفردات المختلفة التي أطلقتها البشرية على طاقتك القائمة بالخلق عبر لغاتها..
- آخذ بها في حينها .. وحين ينتهي حينها أتخلى عنها، كما تخليت عن عشتار ورع وزيوس وغيرهم كثر.
- وهل تتقبلين في هذا الزمن أن تكوني إلهاً أو إلهة ؟
- طالما لم تجد لغات البشرية أو لغاتي إن شئت مفردات ترقى عليها ..
- والآن يا إلهتي سأسألك عما هو أهم !
- اسأل !
- متى ستنتهي عملية الخلق؟
- عملية الخلق لن تنتهي يا محمود!
- ستظل قائمة إلى الأبد ؟
- نعم ستظل قائمة ما دامت الحياة قائمة. لكنها قد تبلغ مراحل متقدمة جدا يكون فيها التطور شبه متوقف.
- كيف تكون هذه المراحل؟
- تكون عملية التكامل الوجودي قد بلغت ما هو الأقرب إلى الذروة.
- لم أفهم يا ربتي!!
- تكون الألوهة قد تجسدت في أرقى أشكالها ، وتجلت في وحدة متكاملة تجمع بين ما كان يعتبر خالقا وما يعتبر خلقاً .
- تقصدين تجلي وحدة الوجود في أرقى أشكالها؟
- أجل. بحيث يشعر كل كائن في الوجود أنه جزء من ذات إلهية كونية واحدة.
- وهل ستبقى الكائنات الضارة وغير الجميلة وما إلى ذلك !
- لا هذه ستكون قد انقرضت منذ زمن ..
- هل هذا يعني أننا سنكون في الخير المطلق والعدل المطلق والمحبة المطلقة والجمال المطلق ؟ أو ما عبرت عنه شعرا ذات يوم بالحديث عن أمم تصنع تاريخها بالقبل وترسم خيوط فجرها بالسنابل؟
- الأقرب إلى ذلك . لأن بلوغ المطلق في كل شيء يعني توقف عملية الخلق.
- لتتوقف إذا كانت ستبلغ المطلق.
- المطلق الكلي يصعب تصوره ، خاصة وأنه قد يحتاج إلى أكثر من أربعة عشر مليار سنة أخرى ليتحقق ..
- هل في الامكان وصف العالم حينذاك يا ربتي؟
- المسألة ليست سهلة ، فما يبدوعليه الوجود اليوم لم يمكن تصوره قبل ملايين السنين، فكيف قبل مليارات، وبناء على هذه الحال كيف لنا أن نتصورعالما أقرب إلى الكمال المطلق يقوم بعد مليارات السنين ؟
- هل سينتهي الموت مثلا وبكل أشكاله ، من مرض أو شيخوخة أو حتى قتلا أو انتحارا ؟!
- نعم يفترض أن الموت سينتهي ، ولن يكون هناك موت على الاطلاق، كما لن يكون هناك شيخوخة . لن يكون هناك إلا الشباب والسعادة والعمل والمحبة.
- ولن يكون هناك جوع ومال وتجارة واستغلال للناس.
- أكيد لن يكون هناك أي شيء من هذا.
- آه يا ربتي ! ليت هذا العالم يتحقق بسرعة فائقة !
- للأسف غير ممكن يا محمود.
- لنعد إلى الحاضرإذن يا ربتي .
- ماذا تريد من الحاضر ؟
- ألن تتوقف الحروب ويعم السلام الأرض ، وينتهي الظلم والفساد والجوع وينقرض النفاق . ويقترب البشر من بعضهم بالمحبة . وتسود أنظمة تنشد العدالة للجميع. وتتحد شعوب كوكب الأرض كأمة وأحدة ؟
- أنا مع أحلامك الكبيرة يا محمود ، لأنها أحلامي .. لكن للأسف لن يتحقق شيئ من ذلك على المدى المنظور.
- آه ثم آه يا ربتي ! طيب طمئنيني عن الموت . الناس يخافون الموت ويكرهونة ، ألن ينتهي الموت ؟
- للأسف لن ينتهي الموت يا محمود طالما لا يوجد مكان يتسع للبشر، ولم يوجد الانسان المدرك لوجوده والغاية منه . والتكاثر يزداد كل يوم بما لا قدرة لكوكب الارض على استيعابه..
- أليس من حل ما يطيل العمرعلى الأقل؟
- العمر يطول كما ترى، فبعد أن كان معدل عمر الانسان لا يتجاوز الأربعة عقود، ها هو الآن يتجاوز الثمانية في بعض البلدان .. وقد يتجاوز العشرة في القرون المقبلة ، لكن ذلك يتطلب تقليل النسل ، فكوكب الأرض فاض بالبشر ليصبحوا أكبر من طاقته الاستيعابية كما ذكرت ، وخاصة في ظروف ينعدم فيها وجود عدالة اجتماعية بين الدول على الكوكب ، وفي الدول ذاتها أيضا ..
- وكيف يمكن تحقيق ذلك يا ربتي؟
- إنها مسؤوليتكم كأبناء للكوكب ..لا يمكن تحقيق شيء مهم ما لم يتفق البشر على وحدة شعوب كوكب الارض ، واستغلال ثروات الأرض بقدرما من العدالة بين الشعوب .. يمكن تشكيل مجلس منتخب يقود العالم أو يشرف على قياداته المحلية.. وتفتح كافة أقطار العالم لأبناء العالم، وتلغى الحدود بقدر ما ، ليصبح كوكب الأرض دولة واحدة ، ولتكن دولة كوكب الأرض مثلا ..
- آه يا ربتي ما أجمل هذه الأحلام لو أنها تتحقق..
- ستتحقق إذا توفرت الإرادة.
- للأسف ليس هناك من يفكر في ذلك اليوم . الدول تفكر في مصالحها فقط . لكن يا ربتي فيما يتعلق بالموت ، لي رؤيتي له ، كونه مرحلة تحول في حياة متجددة ، تذهب فيه المادة بشكلها المادي إلى المادة ، وتذهب فيه المادة بشكلها الطاقوي العقلاني إلى طاقتك ، أي الطاقة الخالقة السارية في الكون .
- هذا صحيح أيها الحبيب ! كل شيء مآله إلي، إن كان مادة وإن كان طاقة غير مادية !
- أشكرك أيتها الربة لمخاطبتي بالحبيب!
- أنت حبيبي أيها الحبيب وستظل كذلك!
انطلق فجأة صوت أذان من مئذنة مسجد قريب ، داعياً الناس إلى صلاة الفجر، مخرجاً محمود أبو الجدايل من أجمل تأمل مر به ، ومن أجمل لحظة فيه ، عرف فيها أنه حبيب للألوهة، ما جعله يشعر بسعادة لم يشعر بها من قبل في حياته . فتح عينيه ببطء ، وراح يخرج من تأملاته شيئا فشيئا، ليعود إلى نفسه ، جاهدا قدرالامكان أن يحتفظ بصورة الربة التي ظهرت له في ذاكرته .
****

(22) عن الحب والموت والحياة مرة أخرى !"
" لا أنكر أنني اشتهي أسيل ، كما يمكن أن يشتهيها أي رجل آخر، فهي صبية جميلة تجسدت فيها الألوهة بأكبر قدر ممكن ، غير أن عمري وزواجي من لمى يحولان دون تحقيق هذه الرغبة ، وهذا أمر ليس غريبا .. الغريب أن تشتهيني أسيل إلى هذا الحد الذي لم أتوقعه ، فأنا ككهل ليس فيّ ما يثير المرأة أو يرغبها فيّ ، وأشك أن ثقافتي المحدودة تشكل دافعا لأي أنثى لأن تعشقني.. لمى عشقتني لأنها وجدت في رجلا مختلفا تفهم واقعها المؤلم ووقف معها وأعاد لها الثقة في نفسها .. فما الذي فعلته لأسيل لكي تحاول استدراجي إلى سريرها.. أكيد مجرد نزوة عابرة لن تدوم .. ولو أتيح لها أن تحظى بي ، لتخلت عني بعد أول لقاء، فلن تجد فيّ غير عجوز يحتاج إلى أنثى تتقبل وضعه وتعرف كيف تعامله، وهذا أمر لم يفهمه إلا لمى، وأشك في أن أنثى غيرها قادرة على فهمه... فاجأتني أكثر مما فاجأتني في لقائنا السابق.. استقبلتني بأحضانها في مكتبها، ضغطت بنهديها الجامحين على صدري وعبقت رائحة عطرها في أنفي وهي تقبلني من شفتي .. لم يكن عناق مصافحة .. كان عناق غرام، وكدت أن أدخل معها في قبلة عميقة ، بل وألج لساني في فمها، أو أدعها تلج لسانها في فمي ، لولا أنني كبحت رغبتي ورغبتها بأن اكتفيت بتقبيل شدقيها بشهوة ما.. تذوقت فيها لذة تقبيلها، ثم همست لها : يكفي يا مجنونة ! وأنا أدفع جسدها برفق ليفترق جسدانا"
جلسنا .. مرت لحظات دون أن يتفوه أحدنا بكلمة . بدت وكأنها مترددة في قول شيء ما ترغب في قوله ، غير أنها لم تقله ، وسألتني بدلا من ذلك إن كنت أريد قهوة . قلت:
" أجل بعد هذا الاستقبال أريد قهوة لأستعيد وعيي"
" أنا آسفة حبيبي .. لم أستطع اخفاء ما يعتلج في نفسي تجاهك "
وضغطت على زر جرس ليدخل شاب تطلب إليه فنجاني قهوة.
" أسيل أنا أكبر من أبيك على الأغلب.. ليكن حبنا أبوياً "
" سأحاول " قالتها على مضض!
دخل الشاب ليضع فنجاني القهوة على منضدة بيننا .
" عن ماذا سنتحدث اليوم "
" عن الحب والموت والحياة في فلسفتك "
" هذه ثلاثة مواضيع كل منها يحتاج إلى حلقة ، إذا أردنا أن نفيه حقه "
" سأحاول أن نختصر "
نجحت في تحويل الحوار إلى الحلقة ..احتسينا القهوة على عجل ونهضنا إلى الاستديو..
شرعت أسيل في الحديث:
" أعزاءنا المشاهدين . بعد أن تطرقنا في الحلقات السابقة إلى الوجود والغاية منه ومن جاء به ، وإلى مسائل مختلفة تتعلق بماهية الخالق والخلق ، ومذهب وحدة الوجود، يسعدني أن نطرح في هذه الحلقة من الحوار مع الأستاذ محمود أبو الجدايل بعض المسائل المهمة لكل انسان في الحياة ، تتعلق بالحب والحياة والموت . أستاذ محمود أهلا ومرحبا بك"
- أهلا بك وبالمشاهدين !
- أستاذ ما هو الحب وما الفرق بينه وبين المحبة ؟
- الحب عاطفة شعورية تجاه الآخر، يمارسها الانسان والكائنات الحية كلها، وهو أنواع . منه المحبة بمعنى المودة , وهي ما يحتاجه البشر تجاه بعضهم في علاقاتهم المختلفة ،ومنه العذري ، وهو ما يربط بين رجل وامرأة دون جنس ، ومنه الحب الجنسي ، القائم على الجنس ، ولذلك يعبر عن ممارسة الجنس بممارسة الحب لإضفاء معنى أجمل على العلاقة أو على الممارسة . هذه الأنواع الرئيسة من الحب ، وثمة تفرعات كثيرة تنتج عن كل نوع من هذه الانواع . كحب الحيوانات كالقطط والكلاب والخيول وغيرها .. وحب الورود والطبيعة والفنون والآداب والجمال وغير ذلك ، كحب الألعاب والهوايات ..

- هل هذا يعني أنه لا فرق بين الحب والمحبة ؟
- لا فرق إلا من حيث الحالة . فأن نقول حب البشرية نعني محبة البشر. أما أن نقول حب المرأة فقد لا نعني المودة فقط بل الجنس والأمومة أيضا ، أو أن نقول فلان يحب فلانه فهذا يعني أنه يعشقها..وأن نتحدث عن حب الآباء للأبناء أو العكس أو نتحدث عن حب الأقارب فهذا يعني المحبة .
- وماذا عن الحب العذري ؟ هل هناك حب عذري فعلا ؟
- أنا شخصيا أشك في المسألة .. ومعظم ما وصل إلينا من أشعار وقصص عن حب عذري تتعلق بحب بين محبوبين لم تسمح الظروف لهما بأن يلتقيا علناً أو يتزوجا، كقيس وليلى ، وجميل وبثينة ، وروت القصص أن جميل كان يلتقي بثينة سرا ، وهي من قبيلته ( عذرة ) التي جاءت تسمية الحب العذري منها ، والتي قيل أن أفرادها كانوا ينظمون الشعر العفيف والطاهر في المرأة ! وبثينة تزوجت من غير جميل بعد أن رفض أبوها تزويجها منه ، فراح يلتقي بها سرا ، فمن في مقدوره أن يعرف أنه لم يواقعها.. كما أنه لا يستطيع البوح بذلك في أشعاره حفاظا عليها ..
- أستاذ محمود سندخل في السؤال الأهم المتعلق بالحب الجنسي. وعلاقة الانسان بجسده وحاجته إلى هذا النوع من الحب . كيف يمكن النظر إلى هذا النوع من العلاقة؟ خاصة وأن المجتمعات البشرية قد أوجدت أشكالا مختلفة لهذه العلاقة ؟
- إن أردت رأيي يمكنني أن أبدأ من الآخر لأقول : إن حرية الانسان في جسده حق له ، فإذا كان الانسان لا يملك حرية حتى على جسده ، فهذا يعني أنه ليس حرا ، ولن يكون كذلك، فكيف يمكنه أن يلبي رغباته في الحب بأي طريقة يرتئيها دون أن يسيء إلى أحد . وهذا ما بدأت بعض المجتمعات البشرية تطبقه ولو بحدود قد تقتصر على فترة ما قبل الزواج، وإن كان هناك أفراد قلائل في بعض المجتمعات يطبقونه بحدود حتى بعد الزواج إنما وفق طقوس خاصة متفق عليها، أو حتى دون زواج على الاطلاق ، كالعلاقات الحرة أو المثلية .
- وماذا عن مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الاسلامية وغيرها ..
- هذه مجتمعات مكتوب عليها أن تعيش الكبت الجنسي بشكل أوآخر. وخاصة على المرأة المحاصرة بأشكال مختلفة من الحصار، الذي بدأ بظهور الملكية الخاصة في التاريخ ، وتطور بتطورها ، ليحل نظام الأبوة محل نظام الأمومة إلى أن بلغ ذروته في العقائد الدينية المتزمتة ، التي منح بعضها الحرية للرجل بتعدد الزوجات وامتلاك الجواري.. وحرم ذلك على المرأة ، ما عدا البغاء ، لأن فيه متعة للرجل وحلاً لمشاكله الجنسية .
- مسكينة المرأة في مجتمعاتنا.. هل تعتقد أن المجتمعات البشرية قد تعود إلى عصور المشاعية ، التي كانت المرأة تسود فيها على القبيلة.. وهي من تختار الرجال الذين تمارس معهم الحب ؟
- يصعب أن تعود هذه الحقب ، فقد انتهت منذ أن تمرد جلجامش على عشتار وبدأ بسحب الألوهة منها ، ليبدأ عصر نزع الألوهة من الأنوثة لتحل في الذكورة التي توجت بتحويل المعتقدات كلها إلى آلهة ذكورية ، والتخلي شيئا فشيئا عن طقوس الجنس المقدس ، ليحل محلها طقوس تمجد الإله الذكرالقادر على كل شيئ ، وتمجد أنبياءه الذين أرشدوا الناس إليه !
- أليس من حل أمام المرأة؟
- الحل أن تثور إذا في استطاعتها.
- وإذا لا تستطيع ؟
- لتمارس بالسر ما يمكنها أن توفره لنفسها إن كانت في حاجة إليه .
- هل تعتقد أن العلاقة الزوجية تكفي لملء فراغ العاطفة أو الرغبة التي يحتاج إليها الرجل والمرأة ، خاصة في مجتمعات كمجتمعاتنا لا تعرف المرأة فيها الجنس قبل الزواج ؟ وربما بعض الرجال أيضا؟
- حتى في المجتمعات التي قطعت شوطا بعيدا في التحرر لا تكفي الحياة الزوجية لتملأ الحياة العاطفية أو الرغبة الجنسية لكلا الطرفين ، غير أن تقبل الوضع يكون أسهل في هذه المجتمعات ، نتيجة للعلاقات والممارسات الجنسية قبل الزواج. سألت ذات يوم صديقة أوروبية عن عدد الشباب الذين مارست معهم الحب من سن المراهقة إلى أن تزوجت؟ قالت ستة عشر ! فتاة كهذه يمكن أن تكون علاقتها بزوجها كافية لها . والأمر نفسه ينطبق على الرجل الذي عاش مراهقته وشبابه بشكل طبيعي. لي قول حول المسألة يرد على لسان الملك لقمان في ملحمة " الملك لقمان " جاء فيه " ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل وليس هناك رجل يملأ حياة امرأة، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال، والجسد لا يسمو إلا بالمتعة والكمال، فنوّعوا النكاح ، ومارسوا الحب بالتراضي والقبول، ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة ، فإنكم بذلك تتقربون إلى الله "
" وهنا بالضبط سرحت أسيل للحظة تخيلت نفسها عارية على سرير ومحمود أبو الجدايل يمارس صلاته متقرباً إلى الله عبر تقبيل كل جزء في جسدها.."
تنبه لها محمود وقد سرحت .. خاطبها :
- ألن ننتهي من الحب ؟
ابعدت الصورة من مخيلتها وهي تستجمع ذهنها:
- آه ممكن . لو لم يكن لدي سؤال..
- ما هو ؟
- إذا لم يكن هناك عودة إلى المشاعية فكيف ستكون عليه الحياة الجنسية في المستقبل .. بعد مائتي أو ثلاثمئة سنة مثلا ؟
- دون تحديد زمن . يمكن القول أن النموذج السائد في الغرب سيسود ، إنما بحرية أكثر ، قد تشمل الحياة الزوجية أيضا .
- كيف ستشمل الحياة الزوجية ؟ هل سيسمح بالخيانة الزوجية مثلا ؟
- المؤسسة الزوجية نفسها قد تنتهي بشكلها التقليدي، إلا من قبل فئات قد تتمسك بها .. وهي في الحقيقة بدأت تنتهي منذ اليوم في بعض المجتمعات.. قد يتشكل أنماط مختلفة من العلاقات الاجتماعية لا نستطيع أن نحددها منذ اليوم.. لكن في الامكان القول أنها تلبي رغبات الانسان بقدر ما.
- هل ننتقل بحوارنا إلى الموت ؟
- ممكن خاصة وأن مسألة الحب بعيدة نسبيا عن موضوعنا.
- استاذ محمود تقول في بعض مقالاتك أن الموت ضرورة لتجدد الحياة واستمرارها. فلماذا الموت ضرورة ؟
- كي تدركي ضرورة الموت تخيلي لو لم يكن هناك موت على الكرة الأرضية منذ أن تم خلق الكائنات الحية .
- تقصد منذ خلق آدم ؟
- آدم ، وبغض النظر عن عدم وجوده خارح المعتقدات الدينية ، ليس بداية الخلق ثمة كائنات حية سبقت خلقة بملايين السنين .
- لنقصر الأمر على الانسان لأنه ليس في الامكان تصور بقاء كل الكائنات الحية على قيد الحياة .
- ليكن يا ستي . تصوري عدم وجود موت منذ خلق آدم المفترض حتى يومنا . ماذا ستتخيلين ؟
- سيكون هناك مليارات البشر أضعاف أضعاف عددهم اليوم.
- وماذا أيضا ؟ هل تظنين أن كوكب الأرض سيتسع لهم ؟
- أكيد لا.
- وهل سيجد الجميع مأوى لهم ؟
- أكيد لا أيضا .
- وماذا سيأكلون ؟ هل يكون هناك غذاء يكفيهم ؟
- أيضا لا فالبشرية اليوم يعاني ملايين منها من نقص الغذاء رغم وجود الموت !
- وماذا عن كم المرضى والمقعدين والمسنين والعجزة هل سيكون هناك مأوى لهم ؟
- فعلا الوضع يكون مرعبا .
- الأمر لا يتوقف على هذا الأمر.
- ماذا أيضا ؟
الأرض تتغذى على جثث الموتى والكائنات الحية وما هو مستهلك من المنتجات البشرية، وحين لا يكون هناك موت ، ويكثر استخراج المعادن والصخور لبناء المدن والجسور، والأسلحة وغيرها، ستصبح الأرض فقيرة بموادها ، ويصبح منتوجها من الغذاء أكثر فقرا ، عدا أنه لا يكفي لاشباع عشرات المليارات .. وقد نصل إلى موت ليس البشر فقط ، بل الحياة نفسها . ولذلك نستنتج أن الموت ليس مسألة فائضة عن الحاجة ، بل ضروروة حتمية لا غنى عنها لاستمرار الحياة.
- فعلا إنه ضرورة لا بد منها .
- ومع ذلك يمر كوكب الأرض بأزمات مختلفة، كالمناخ نتيجة التلوث، والفائض في عدد سكان الكوكب ، والفقر في انتاج الغذاء الكافي ، ولا بد من معالجة كل هذه المسائل ، وتحديد النسل، لجعل سكان الكوكب في حدود خمسة مليارات..
- يا إلهي هل ستنقصهم مليارين؟
- إذا تبين أن الأمر ضرورة لا بد منها لتوفير غذاء للجميع ، يجب العمل على ذلك .
- أمر لا يصدق.
- وأن يموت ملايين البشر من الجوع كل عام أمرلا يصدق وغير مقبول أيضا .
- طيب في هذه الحال هل يمكن تصور مستقبل دون موت لسكان كوكب الأرض في المستقبل.
- ممكن بعد ملايين السنين إن لم يكن مليارات . وهذا يتطلب توفر شروط كثيرة .
- مثلا ؟
- أن يعرف الانسان أنه جزء لا يتجزأ من ذات عقلانية طاقوية كونية خالقة ، وأن الوجود واحد وليس وجودين ، وأن الغاية من وجوده أن يكون فاعلا في بناء الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال.
- هل هذا يعني أن يرى الانسان الألوهة في ذاته ؟
- أكيد .
- أي أن يكون الله .
- بل جزء يسير من ذات إلهية كونية ، سبق وأن تحدثنا عن الأمر يا أسيل!
- لكي نفيد المشاهد.
- ماذا أيضا يا أسيل ؟
- ما هي الشروط الأخرى التي ينبغي توفرها لتوقف الموت في المستقبل البعيد؟
- طبعا توقف الانجاب أو الحد منه ، إلا إذا كان في المقدور نقل فئة من البشر للإقامة على كوكب أو كواكب أخرى . حتى لا يختل توازن الكوكب ، وهو هنا كوكب الأرض كون الحديث عنه.
- وماذا عن أعمارهم ؟
- تقصدين من حيث الكبر؟
- يفترض أن لا يشيخوا ويبقوا في سن يبدون فيه شبابا !
- وماذا عن جمالهم ؟
- إذا كان جمال الخلق والانسان بشكل خاص قد فاق التصور في زمننا فما بالك بعد ملايين السنين ؟ سيكون الجمال خارق ، يبهر النظر.
- أتمنى أن يحيينا الله حينذاك لنعيش في هذا العالم . شكرا أستاذ محمود ، شكرا مشاهدينا .. طابت ليلتكم وإلى اللقاء .
***


(23) عشق ومحبة وحزن!
فاجأت محمود أبو الجدايل بإنهاء الحلقة كما فاجأته بأن طلبت مرافقته ، حين عرفت أنه سيخرج ليتمشى ويحرك ساقية بناء على نصائح الطبيب .. بدا مسرورا للفكرة ، فهو سيجد من يؤانسه خلال مسيره ، أما أنا فمسرورة ليس للمرافقة فحسب بل لاقتناص الفرصة ودعوته إلى بيتي..
انعطفنا من الدوار الثالث يسارا عبر الشارع الموصل إلى اللويبدة والعبدلي والشميساني..
كنّا نسير بخطوات متمهلة ليس فيها ما يشير إلى غايات رياضية تنشد الصحة :
- هل تعتقدين أن هذا السير يساعد على تحسن الصحة ؟
- على الأقل يساعد على تنشيط حركة الدورة الدموية وهذا جيد !
- أشك في أنه يساعد! ما رأيك أن نسرع قليلا ؟
- ممكن !
- هيا ..
المؤسف أنني أحتذي كعباً عالياً ويتوجب علي أن أسير بحذر شديد. تنبه محمود للأمر وحاول قدر الامكان أن يسير بما يتناسب مع خطواتي.. سرنا قرابة ستمائة مترلننعطف يمينا وندخل أحياء جبل اللويبدة.
- أحب أحياء اللويبدة أكثر من أي أحياء أخرى في عمان . قال محمود .
- ربما لأنك لم تعش إلا فيها .
- لا أعرف . أجد أنها ليست مكتظة كغيرها . وبناياتها القديمة جميلة .. وتعجبني أشجار التين المثمرة التي تزرع على أرصفتها .. كثيرا ما أكلت منها .. وكذلك ثمة أشجار ليمون وتوت تفيض عن بعض أسوار المنازل ليقطف منها المارة .. عدا أشجار الياسمين التي تتدلى أغصانها خارج الأسوار أيضا .. أما أشجار السرو العملاقة فتكاد تكون هي الأجمل بطولها الباسق الذي يتطاول ليعلو أعلى البنايات ..
بلغنا ساحة متحف الفنون الجميلة . دخلنا إلى الحديقة . جلسنا لبضع دقائق على مقعد . كان ثمة تمثال حجري على مقربة منا .. لم يكن في التمثال ما يشير إلى شيء محدد .. ومع ذلك راح محمود يتأمله . سألته إن رأى فيه شيئا . قال:
- يبدو أن ناحته أراد له أن يكون كحجر طبيعي صقلته مياه الأمطار والعوامل الطبيعية .
- وعلى ماذا يمكن أن يدل ذلك ؟
- ربما على الطبيعة أصل الأشياء كلها .. وربما على غموضها رغم وضوحها .
- كيف تكون غامضة وواضحة ؟
- كوجودنا واضح لكنه غامض من حيث الغاية منه ، لذلك ضاع الناس في آلاف الأفكار والعقائد والمذاهب.
- لكن ذلك أغنى الثقافة البشرية حسب ما أعتقد.
- أغناها في جوانب وأساء إليها في جوانب أخرى .
- ما الثقافة التي يمكن أن تسود المجتمعات البشرية بعد مئات أوآلاف الأعوام ؟
- رغم كل ما نراه في العالم من سلبيات، فإن الوقائع تشير ولو بقدر ضئيل، إلى تفوق نوازع الخير على نوازع الشر في المجتمعات البشرية بشكل عام . والدليل على ذلك هو الزيادة في تكاثر المجتمعات البشرية رغم كل المآسي .. هذا في زمننا فكيف بعد مئات أو آلاف الأعوام .. على الأغلب أن ثقافة المحبة والتسامح والتعاون بين البشر سينجم عنها دين انساني أو ثقافة انسانية تسود بين البشر.
أطرقنا للحظات دون أن أن نتكلم .. لا يبدوعلى محمود أنه يفكر فيّ غرامياّ ، بينما أنا تخيلت نفسي للحظات عارية معه في السرير وأنا أداعبه لأجعله يتأوه من أعماقه ويذوب بين يدي. كدت أن ادخل في حالة شبقية تخرجني عن طوري، لولا أنني طردت الصورة من مخيلتي في محاولة يائسة لأن أبدو طبيعية ، ورحت أفكر في الطريقة التي سأستدرجه فيها إلى بيتي. تساءلت لنقطع الصمت:
- ألن نتغدى ؟
- لمى تنتظرني على الغداء ويجب أن أخبرها إذا ما فكرت في تناول غدائي في الخارج.
- أخبرها لأنني سأدعوك إلى تناول الغداء في بيتي !
- لماذا لا تذهبي معي ونتغدى مع لمى . ستفرح بقدومك . لم ترك من أشهر.
يبدو أن محمود لم يدرك نواياي أو أنه تجاهلها . وضعت يدي على فخذه وقلت بتوسل لا يخلو من غنج :
- حبيبي . دعني أكون معك وحدي ولو لساعة واحدة في العمر!
لم يبعد يدي عن فخذه . فرك جبينه بأصابع يده اليسرى . لا شك أنني فاجأته بوضع محرج للمرة الثانية هذا اليوم .
- أسيل .. اقدر محبتك لي وشعورك تجاهي.. لكن ليس في وسعي أن البي رغبتك بالحد الذي تفكرين فيه ، رغم أنني أشتهيك . وثقي أنك ستكتشفين أنك كنت مخطئة باندفاعك نحوي ، فأنا رجل عجوز ليس في جسدي ما يغري ، بل ما يثير القرف، وقد تؤدي الممارسة إلى كرهي. حاولي أن تنسي الموضوع . هيا لننهض . نحن على مقربة من بيتي الذي لم أره منذ أن انتقلت إلى بيت لمى. سنذهب للإطمئنان عليه.
نهضنا وأنا أحاول أن أنسى شبقي ولو قدر الإمكان.. والحق أنني قد أكره نفسي يوما لذلك .. لا أعرف إن كانت شهوتي تفوق شهوة بعض النساء ، ما أعرفه أنها حين تجتاحني لا أستطيع أن أخرج منها بسهولة . أضطر إلى ممارسة خاصة مع نفسي لأكثر من مرة .. لا أفضل البحث عن أي رجل .. أشعر أنني لا أحب الرجال العاديين، ويندر أن ألتقي شابا يعجبني .. معظمهم خاوون وجوف ! قد تكون الممارسة مع حمارأو كلب أفضل من الممارسة معهم ! أعشق الحرية لذلك رفضت الزواج لأنه يقيدها .. أريد أن أبقى حرة مدى حياتي.. وإن احتجت إلى طفل سأحاول الحصول عليه من علاقة حرة ، مع أنني أشك في حاجتي إلى الأمومة حاليا وفي المستقبل .. أشعر أنني لم أخلق لحياة عادية ، بل لحياة متمردة، لا أعرف إن كان ما أعيشه يشكل شيئا منها .
سألت محمود ونحن نقترب من بيته كما يبدو:
- إذا كنت تشتهيني فلماذا تمنع نفسك عنّي!
- لم أمنع نفسي ألم أقبلك ولو بالحد الأدنى من المتعة !
ضحكت ..
- ولماذا تكتفي بهذا الحد الأدنى وأنت ترى أنني متولعة بك ؟
كنا قد بلغنا مدخل بيته فلم يجب. دفعني برفق لأنزل أمامه الدرج النازل إلى بيته في الأسفل. يتفرع الدرج إلى درجين، أحدهما ينتهي إلى ممرمستطيل والآخر ينزل إلى أسفل . أشار إلي محمود أن أسلك الممر .. انعطفت مع المستطيل إلى مدخل البناء ثمة درج يصعد إلى الطوابق العلوية في البناء ودرج آخر ينزل إلى بيت محمود على اليمين أسفل البناء ، أشار إلي محمود أن أنزله . وما أن نزلت درجتين ونظرت إلى إلى اليمين حتى رأيت حنشا كبيرا يربض متلوًّياً على نفسه أمام بيت محمود. ندت عني صرخة خافتة وأنا أرتد إلى الوراء ليتلقاني محمود بين ذراعية . لا تخافي إنه حنش بلاستيكي على الأغلب وضعه هؤلاء الأوغاد. دفعني إلى الوراء أعلى الدرج ونزل هو على مهل متفحصا وضع الحنش. نزل الدرج ليقف على بعد قرابة مترين من الباب . لم يبد على الحنش أي حركة . اقترب محمود أكثر وصفق بيديه .. لم يتحرك الحنش. دنا منه . كان بلاستيكيا بالفعل. حمله محمود من ذنبه وألقاه خارج الباب الموصل إلى بيته من أسفل الدرج الثاني .. حيث فسحة تنزل منها مياه الأمطار لتذهب عبر مصرف إلى أسفل حيث الطابق الأرضي.
دعاني إلى النزول وهو يخرج مفتاح البيت من حقيبة كتفه.
دخلنا .. جدران البيت تعج باللوحات . أحجام مختلفة .. نسيت رغبتي في محمود ورحت أتفرج على اللوحات .. قال: تفرجي سأعمل قهوة .. ضعت بين ما هو تجريدي، وما هو انطباعي تراثي، وما هو رومانسي .. بعض اللوحات التجريدية أعجبتني أكثر من غيرها .. الأشكال التي فيها مدهشة .. لا أعرف كيف رسمها .. حتى اللوحات التراثية التاريخية مرسومة بطريقة مميزة . جلت في مختلف غرف البيت وممراته . بينما هو يعد القهوة .. في غرفة نومة عادت الرغبة تراودني وأنا أتأمل سريره .. تخيلت نفسي عارية على السرير وهو يمارس طقوسه على جسدي.. ناداني من الصالون معلنا أن القهوة جهزت .. حاولت طرد الصورة من مخيلتي وأنا أخرج من غرفة النوم وألج الصالون .
جلست إلى جانبه على أريكة مستطيلة . كان الجو حارا بعض الشيء .. فككت زرين من القميص عن صدري ليبدو نهداي في حمالتيهما النهديتين، وزرين من تنورتي ليبدو فخذاي في أوج تألقهما، ووضعت ساقا على ساق لينكشف أكبر قدر من فخذي ، في آخر محاولة لإثارة محمود أبو الجدايل واستدراجه إلى ممارسة الحب معي. لم يبد عليه أنه أثير مما فعلته، أو أنه تجاهل الأمر. كان قد سكب القهوة في فنجانين ..قلت بعد أن أخذت رشفة قهوة :
- لم تجبني على سؤالي ؟
- أي سؤال؟
- سؤال ما قبل الدخول إلى البناء!
- تقصدين لماذا أكتفي بتقبيلك بالحد الأدنى من المتعة؟
- أجل .
- لأنني لا أريد ان أنقاد خلف شهوة خادعة ، كما أنني لا أريد أن أجرح شعور زوجتي.
- ليس من الضروري أن تعلم !
- لا أستطيع أن أخفي ما أقوم به عمن أصبحت شريكة عمري..
- لماذا أنت حريص على مبادئك إلى هذا الحد ؟
- لأنني كذلك .
- وماذا تقصد بشهوة خادعة ؟
- ما تشتهيه النفس قد لا يتفق مع قدرة الجسد على القيام به .
رن هاتفه . كانت لمى . يبدو أنها سألته أين هو فقد أجاب:
- هلا حبيبتي أنا في بيتي مع أسيل . كنا نتمشى وأحببت أن أطمئن على البيت . ماذا لدينا غداء هذا اليوم؟
" أم بشير أحضرت لنا طنجرة ورق دوالي! وأم أمل طنجرة محاشي!"
- ياه ! سأدعوا أسيل معي لتناول الغداء.
- أهلا وسهلا .
- باي حبيبتي.. سنحضر حالا.
يبدو أن محمود قطع أي أمل لي في مواقعته . سواء بقدرة جسده على القيام بما قد يعتمل في نفسه ، أو بإخباره لمى أنني معه ودعوته لي على الغداء.
لو لم يكن الرجل الذي يجلس معي محمود أبو الجدايل لركلته بقدمي وقلت له : من أنت يا حثالة حتى ترفضني ، بينما المئات يسعون ولو إلى كلمة حلوة مني ، وحتى تقبيل قدمي أو لعق مؤخرتي من قبل بعضهم؟
وجدت نفسي في حال غير قادرة حتى على مبادلة محمود القبل التي نتبادلها في مكتب القناة. أخذ الفنجانين ودلة القهوة إلى المطبخ . غسلهما وعاد ليطلب إلي النهوض.
كنت في وضع لا أعرف كيف أصف نفسي فيه .. أراوح بين الإحراج والكسوف والخيبة والسفاهة. شعرت للحظات أنني أريد أن أبكي ، بل هممت للبكاء ، نهضت وألقيت نفسي على صدر محمود ورحت أغرق بالبكاء..
راح محمود يحتويني ويربت على ظهري، ومن ثم يمسح دموعي ويقبلني على جبيني وخدّي قبلات أبوية ولا أجمل ، تمنيت لو أبقى في حضنه إلى الأبد .
قال بعد أن رآني أستعيد وضعي الطبيعي.
" هيا، لمى تنتظرنا "
ومد يده إلى لوحة للقدس معلقة على الحائط . نزعها وقدمها لي قائلا " هذه هدية لك " سأكتب لك اهداء عليها فيما بعد .
****

(24) سهرة في السماء !!
تناقلت وكالات الأنباء أخبارا عن مقتل ثلاثة رجال أمن على أيدي داعشيين متطرفين .. أحد رجال الأمن كان له دور في إلقاء القبض على بعض الداعشيين المتهمين بملاحقة محمود أبو الجدايل وإرهابه بوسائل مختلفة . تم اغتياله بمسدس كاتم للصوت أمام باب بيته حين خرج في الصباح ليلتحق بعمله .. القتيلان الآخران قتلا بالهجوم على مركز أمن.. كما أصيب بعض رجال الأمن بجراح .. أجهزة الأمن أصيبت بصدمة من جراء ما حدث ، فكثفت من دورياتها وانتشار عناصرها في المدن المختلفة .
محمود أبو الجدايل تحدث مع صديقه ضابط الأمن الذي يتولى ملاحقة مهدديه ، وعزّاه مبدياً حزنه على استشهاد (النشاما) من رجال الأمن ، وقلقه من عدم تمكن قوى الأمن من وضع حد لهؤلاء القتلة . الضابط أبدى شكره لمحمود وأسفه لمقتل وجرح العناصر، مؤكدا أن الإرهابيين يعملون وفق مجموعات صغيرة مستقلة عن بعضها، تظل رابضة في خلايا نائمة مما يصعب كشفها دون تحركها للقيام بأعمال تخريبية أو اغتيالات أو هجمات ..
كان محمود جالسا إلى جانب لمى في صالون بيتها، يتابعان الأخبار المختلفة في العالم على التلفاز ، دون أن يعلقا عليها ، بدأت لمى تتثاءب ، فاستأذنت محمود للذهاب إلى النوم ، وسألته عما إذا يريد أن ينام ، فأجاب :
- كلا حبيبتي نامي أنت ، عندي رغبة شديدة في سهرة تأملات مديدة مع الله قد نسمر فيها معا ، وقد يصحبني إلى آفاق مجهولة لا أعرفها ..
- ليتكما تصحباني معكما!
وقبلت محمود قائلة " تصبح على خير"
- تلاقي خير .
******
أغلقت التلفاز ونهضت . دخلت إلى الحديقة داعبت نبتة ريحان لأشتم عطرها الفواح .. عبق الجو وأنفي برائحتها . استلقيت على الأرجوحة التي تذكرني بأرجوحة الطفولة التي كانت أمي تضعني فيها . يسمونها الحِذل، غير أنني كنت أبكي حين أكون يقظا ، لأن اهتزازات السقف يمينا وشمالا مع الحذل كانت ترعبني ، فأشرع بالصراخ ، وحين تدرك أمي أنني لن أتوقف عن البكاء كانت تحملني وتضمني إلى حضنها وتربت على ظهري وتغني لي" محمود ويا ظمة حريري/ لحطك بين جنحاني وطيري/ وهدي بك على برج الخليلي/ " وتظل تكرر على برج الخليلي مع خفوت صوتها شيئا فشيئاً، حتى أهدأ وأنام لتعيدني إلى الحذل.. هنا لست في حاجة إلى التأرجح لأرى السماء وربما النجوم تهتز يمينا وشمالا مع أرجحتي.. ربما حركة خفيفة لا غير تساعدني على الاسترخاء والذهاب بعيدا في المطلق ، حيث يكون الله . حبيبي الله آمل أن تظهر لي بهذا الجمال الخارق الذي ظهرت فيه في سهرتنا السابقة. ما لا يصدق يا إلهي أن يرفد طلبي أمرك لتتجسد في ربة خارقة الجمال ، ياه يا إلهي لو تطل على سكان الكرة الأرضية بهذا الجمال وتطلب إليهم أن يتبعوا الخير وينبذوا الشر لفعلوا ، أنا واثق أن جمالك سيدفعهم إلى تلبية رغباتك . لماذا لا تفعلها يا إلهي؟
" ألن أحتاج إلى قدرة خارقة أيها الحبيب لأستطيع أن أُري وجهي إلى كل انسان ومن كل مكان "؟
" إلهي الحبيب ! هل حضرت أم أحضرتني؟ أو لعلني أحضرتك ؟"
" إن أحضرتني أحضرتك وإن أحضرتك أحضرتني ، فنحن في الحضور سواء "
" أعطني يدك أقبلها يا إلهي "
" بل قبل خدّي"
" إلهي!"
عبقت في أنفي رائحة عطر لم أشم أطيب منه في حياتي، فيما الله يبادلني القبل بما هو أجمل منها :
" وأنت تبادلني القبل يا إلهي "؟
" إذا لم أقبل من عرفني كما لم يعرفني أحد من قبل، فمن سأقبل؟! هيا اجلس إلى جانبي "
" أشكرك يا إلهي "
" ولا تنس أنك أول انسان دفعني إلى التجسد في جمال انساني محدد وخارق ، وساعدني على تحقيق الأمر"
" أشكرك لاحتفاظك بهذا التجسد يا إلهي"
" أحببته أيها الحبيب ولن أتخلى عنه "
" وهل ستأكل وتشرب مثل البشر يا إلهي "
" لا لن آكل ولن أشرب . سأعمل على أن أبقى دون طعام وشراب"
" وهل هذا ممكن ؟"
" هذه مسألة سهلة علي كخالق فوجودي لم يبدأ بطعام وشراب ، بل بطاقة كما تعلم "
" وبماذا تتمتع يا إلهي إذا لا تتمتع بالطعام والشراب والنساء وغير ذلك"
" أتمتع بما يتمتع به خلقي المجسد فيه، من طعام وشراب وحب . من غناء وموسيقى وفنون مختلفة . أتمتع بجمال خلقي ، وجمال ما يخلق ، أتمتع بجمال المدن والحدائق والبساتين والجسور والسدود والورود والأشجار، أتمتع بكل ما هو خيراني وجميل من أعمال خلقي.. أتمتع بجمال البحار والمحيطات والأنهار والشلالات ، أتمتع بجمال الجبال والهضاب والسفوح والصحاري.. أتمتع بفصول الربيع والخريف والشتاء والصيف "
" هل أنت راض عن خلقك يا إلهي"
" تسألني ما أعتقد أنك تعرف إجابتي عنه "
" أعرف يا إلهي أنك لا ترضى إلا عمّا يرضيك، لكني أريد أن أستزيد معرفة منك "
" أنت تعرف أن عملية الخلق ما تزال في بداياتها ، رغم مرور أربعة عشر مليار عام على بدايتها ، وخمسة عشر مليار عام على كموني في الهيولى البدئية . فحتى الآن لم أحقق إلا ما هو أقل من الحد الأدنى الذي أريد . لم أستطع خلق الانسان الكامل مثلا ، الذي تتجسد فيه كل قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. لم أستطع التحكم المطلق بعملية الخلق رغم أن طاقتي تسري فيها. فالكائنات الضارة ما تزال تتكاثر ويخلق ما هو جديد ، والأشرار يولدون كل يوم ..فالهيمنة والغزو والحروب على كوكب الأرض ما تزال قائمة .. والتعصب الديني والعنصري والقتل والإرهاب والسجون وهدر حقوق الانسان واضطهاد المرأة والتعذيب ،والكره ، والحقد والفقر والجوع ، كل هذه المسائل ما تزال قائمة بين البشر ، رغم بعض بوادر الخير عند قلة منهم ، فكيف سأرضى عن خلقي وهذه حاله أيها الحبيب.
" إنه لأمر مؤسف يا إلهي، لكن ألم تحاول أن تسخر طاقتك السارية ولو في الانسان دون غيره أن لا يقوم إلا بأفعال الخير مثلا "؟
" هذه هي الغاية الأسمى لوجودي أصلا ، والتي بثثت طاقتي في الكون لتحقيقها، المشكلة في الانسان وفهمه للخير، هذا ما لم أستطع التحكم به ، فثمة من يرتكب قتل الانسان الآخرالمخالف لدينه بدعوى الايمان وعمل الخير، دون أن يدرك أنه يقتل شيئا منّي وفيّ بقتل هذا الآخر"
" هل أفهم من هذا الكلام يا إلهي أنك لست راضيا عن كل ما جاء في المعتقدات البشرية ، رغم أنها جاءت بتوظيف طاقتك في الانسان ، ويمكن اعتبارها معتقداتك أو كلامك ولو مجازا "
" أنت قلتها يا عزيزي ولو مجازا . أنا في حاجة لفكرالانسان لإغناء فكري، وقد منحت الكائنات القدرة على الخلق والتفكير، وبشكل خاص الانسان أكثر من غيره ، ليكون خالقا بدوره ، لنكمل معا عملية الخلق .. أمضيت مليارات الأعوام وأنا أقوم بعملية الخلق وحدي ، إلى أن قطعت شوطا هائلا في خلق الكون وما فيه من كواكب ونجوم ومذنبات.. فكان لا بد من خلق مَن في مقدوره أن يساعدني في عملية الخلق وبناء الحضارة الانسانية التي يمكنني أن أرى ذاتي فيها على أكمل وجه ، فمنحت الانسان ما لم أمنحه للكائنات الأخرى، حرية العقل ، لبناء الحضارة ، المؤسف أن الانسان لم يتوصل حتى اليوم إلى الغاية من وجوده ، ولم يعمل على تحقيقها، رغم كل ما فكر فيه ، أصاب حينا وأخطأ في أحيان كثيرة .."
" يخطر ببالي أن أسألك يا إلهي إن كنت سعيدا " ؟
افترت شفتا الله عن ابتسامة يستحيل أن تكون هناك ابتسامة أجمل منها ، خاصة وأن الله ما يزال متجسدأ في شكل أنثى ربّانية .
" لقد سألت أيها الحبيب وانتهى الأمر.. السعادة المطلقة غير موجودة وقد لا تتحقق بسهولة حتى في المستقبل. الموجود سعادة نسبية . أشعر بها حين أرى عملا خيرانيا يقوم به انسان ما . لحظة حب جميلة بين محبوبين . أطفال يمرحون في حديقة جميلة .. ومع ذلك يختلج هذا الشعور بالسعادة النسبية بشعور آخر محزن ومؤسف ، حين أرى أطفالا وبشرا يموتون قتلا أوغرقا في بحار ، أو جوعا .. حين أرى مدنا تهدم على رؤوس ساكنيها .. هذه هي سعادتي التي يختلج فيها الحزن والفرح "
" أحزنتني يا إلهي كنت أظن أنك سعيد ، وثمة أسئلة كثيرة تدور في مخيلتي"
" اسأل أيها الحبيب فلن نلتقي كل يوم"
" هل أنت سعيد بلقائنا يا إلهي"
" أكيد .. سعيد إلى حد يذكرني بسعادة شعرت بها، يوم أن اكتمل خلق كوكب الأرض "
" هذا ما لم أكن أتوقعه يا إلهي.. وثمة سؤال أتخوف من أن أسألك إياه "
" أعرف أنك لست راضياً عما وصلت إليه عملية الخلق حتى اليوم ، لكن ألا ترى أن ثمة عمليات خلق كانت خطأ من أساسها "
"مثلا .. رغم أنني أعرف ما ترمي إليه "
" خلق الحيوانات المفترسة مثلا ، التي تفترس الحيوانات الأخرى أو الانسان .. أتألم كثيرا حين أرى حيوانات قوية تفترس حيوانات ضعيفة .. ألم يكن في مقدورك أن توجه هذه الحيوانات للحفاظ على بقائها في اتجاه أكل الثمار والنباتات وليس في اتجاه افتراس الأضعف"؟
" أنت تحدثت عن قوانين الخلق المنبثة في ذرات الكون التي تتم بواسطتها عملية الخلق"
" صحيح يا إلهي "
" واختيار نوعية الكائن يأتي من الذرات نفسها.. ودوري يكمن في الطاقة الخالقة السارية في الذرات، وتفعيل الاختيار، أي لتنفيذ ما قررته الذرات ، إذن فمسؤوليتي ليست مباشرة ، فأنا لست من يقرر ، أنا من ينفذ اختيار الذرات من المواد التي توفرت لها .. وهذا يعني أنني لا أرضى عن كل عملية خلق تتم ، رغم أنها تتم بطاقتي الخالقة.. ولهذا أنا أحزن مثلك لافتراس حيوان أو لمقتل انسان .. فأنا وكما تعلم لست مصدر الخلق فقط بل مصدر كل شيئ بما في ذلك العواطف والمشاعر من حزن وفرح وألم وما إلى ذلك، فكيف لا أحزن حين أرى أفعالا لكائنات لست راضيا عن خلقها "
" هل هذا يعني يا إلهي أن بعض هذه الكائنات سينقرض في المستقبل ، وتخلق كائنات غيرها ، أو تتوقف هي عن الافتراس وتعيش على النباتات والثمار"
" أجل .. كل شيء قابل للانقراض والاستبدال .."
" المشكلة أن الانسان أيضا يفترس الحيوانات ، فهل سيأتي انسان يعيش على النباتات وثمارها؟ .."
" ممكن .. فأنت من رأى أيها الحبيب أن عملية الخلق ما تزال في بداياتها ،وقلت ما هو أبعد من ذلك "
" أجل يا إلهي قلت أن عملية الخلق الحقيقية لم تبدأ بعد ، وأن كل ما يجري هو واقع افتراضي يدور في الخيال الإلهي ، أريد لنا أن نراه حقيقة لنساهم بدورنا في عملية الخلق وبناء الحضارة .. "
" لقد قاربت الحقيقة أيها الحبيب رغم تطرقك إلى آراء بعض المتصوفة والفلاسفة"
"أجل يا إلهي فابن عربي رأى أن الوجود وهم ، وليس هناك وجود حقيقي إلا لك .. وجورج باركلي قال أن الوجود فكرة في عقل الإله ، ولا وجود للمادة إلا بمقدار ادراك عقلنا المحدود لها، وهذا ما أكدت عليه النظرية الكمومية في الفيزياء فيما بعد. والله بعقله غير المحدود هو القادر على ادراك الوجود المادي بكليته والحفاظ عليه"
" للأسف أيها الحبيب أن عقلي ما يزال محدودا رغم قدراته العظيمة، وجورج باركلي لم يفلح في هذه المسألة، رغم ادراكي الشامل للوجود .. وقد يمر زمن مديد دون أن أبلغ العقل مطلق الفعل والتفكير، ولهذا بثثت طاقتي العقلية في عقول الكائنات والعقل الانساني بشكل خاص لإغناء عقلي ، ولمنح الانسان القدرة على الخلق والابداع"
" لكن يا إلهي طالما أن عقولنا تستمد طاقتها من عقلك ، فلماذا لا يكون لنا قدرتك على الإدراك والتفكير والخلق وتطوير قوانين الخلق ؟"

" لأن ما لدى عقولكم هو قدر قليل من طاقتي العقلية الكونية ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية أنتم لا توظفون عقولكم بأقصى طاقتها ، ولو وظفتموها لصنعتم معجزات أكثر مما صنعتم ، ولتقدمنا أسرع في عملية الخلق واستشرفنا آفاق الخلق المنشود"
" متى سيوجد هذا الخلق يا إلهي ؟"
" بالضبط لا أعرف ، لكن ليس أقل من مليون سنة!"
" آه يا إلهي .. مليون سنة؟ هل سيرى بعض البشر هذا الخلق ، وكيف سيكون"؟
" من ستتحد طاقتهم الخالقة بعد موتهم بطاقتي الكونية سيرون ذلك بالتأكيد ، فهم مشاركون معي في خلقه "
" كم أعداد هؤلاء يا إلهي؟"
" ليسوا كثيرين على الأغلب.. وجميعهم من أصحاب الحكمة والفضيلة ومن كبار الأدباء والعلماء "
" من مثلا مِن الأدباء اتحدت طاقتهم بطاقتك بعد موتهم . ؟"
" دوستويفسكي .. هوجو ، شكسبير، المتنبي. شارلوت برونتي. كازنتزاكي . دانتي. غوته. نجيب محفوظ"
" هل أنا من الذين ستتحد طاقتهم بطاقتك بعد موتي يا إلهي ؟"
وهنا ضمني الله وهو يهتف :
" أجل أيها الحبيب ، انت أهم هؤلاء"
ألقيت رأسي على صدر الله وأنا في غاية الفرح، ورحت أشكره من أعماقي:
" أشكرك يا إلهي سعادتي بلقائك ورؤيتك لي أكبر من الكلام لأن يعبر عنها "
" أنت تستحق كل ذلك أيها الحبيب ، أسمعني مقطعا شعريا كتبته أنت ذات يوم ضمن مطولة شعرية تحاور فيها درويش. أحب ذاك المقطع لأنك تنبذ فيه العالم القائم وتتطرق إلى العالم المنشود .
سأسمعك ألمقطع الأخير يا إلهي :
" لا خير في فجر
يرسم بقنبلة تقابلها قنبلة
ولا خير في أمم
صنعت التاريخ بالسيوف
فصار حاضرها مهزلة
وأهلا بأمم قد تأتي يوما
لتصنع تاريخها بالقُبل
وترسم خيوط فجرها بالسنابل
كل سنبلة تقابلها سنبلة .
*****
" ما أجملك أيها الحبيب.. هذا هو العالم الذي أنشده "
" أشكرك يا إلهي.. ثمة تساؤل مهم خطر على بالي "
" ما هو ؟"
" تحدث بعض العلماء عن امكانية حياة متقدمة جدا على بعض الكواكب، فهل هناك حياة فعلا على بعض الكواكب ؟"
" نعم توجد حياة على كواكب كثيرة ، لكن معظمها ليست متقدمة على الحياة الموجودة على كوكب الأرض .. فهي ما تزال في طور النشوء "
صمتنا للحظات لم يتكلم فيها الله . شعرت برغبتي في كأس. قررت أن أصارح الله رغم أنه لا يرغب في أن يأكل ويشرب:
" عندي رغبة لأن أتناول معك كأسا يا إلهي "
" من أجلك سأفعل "
" ياه ... ما أجملك يا إلهي .. من أين سنحضر الخمر"
" لا عليك سأتصرف "
وخلال لحظات وجدت نفسي مع الله نجلس على بساط طائر متكئين على وسائد حريرية تحف بنا بعض الزهور وتعلو سماءنا نجوم صغيرة متراقصة وسط غيمات بيض ملونة ، انبعثت من أرجائها موسيقى هادئة يرافقها لحن ناي شجي، فيما كانت نافورتان تبثان رذاذ ماء أقرب إلى البخاريختلط بالغيوم فوقنا ، وقد انتصبت أمامنا على مائدة زجاجة خمرإلى جانب كأسين ، وبعض المقبلات من المكسرات الشهية وأطباق الفواكه.
أشار ألله بيده إلى الزجاجة فانفتحت من تلقاء نفسها ونهضت لتسكب لنا الخمر في كأسينا ، ليحلق الكأسان باتجاهنا.. مدد ت يدي وأخذت الكأس من الفضاء ، فيما كان الله بجماله الرباني الآخاذ يمد أجمل يد شاهدتها عيناي ويأخذ كأسه ليقرعه بكأسي ولنتبادل الأنخاب.
" بصحتك أيها الحبيب"
" بصحتك إلهي "
ثمة مسائل كثيرة تدور في مخيلتي ولا أعرف إن كانت سهرتنا ستطول خاصة وأن الفجر بزغ كما يبدو ، ولا أعرف ماذا سأسأل الله الذي لن ألتقيه كل يوم بالتأكيد .. لذلك سألت الله :
" إلهي هل لي بسؤال "؟
" لك أن تسأل ما تشاء أيها الحبيب"
" لو أنك وجدت نفسك كلي القدرة ، وأن أوامرك ستنفذ فورا مهما كانت اعجازية ، فما هو أول شيء ستفعله ؟"
" سأفعل ما فعله الملك لقمان في ملحمتك الأدبية " الملك لقمان " حين وجد نفسه أمام جني يقدرعلى فعل المعجزات يتبعه ملايين الجن"
" يا إلهي أنت تعرف ماذا أكتب "؟
" ألا تكتب بوحي مني يا محمود؟ "
" هل ستطلب إلى الجن أن ينزعوا السلاح من كوكب الأرض ويلقوه على القمر؟"
" ليس لدي جن كما تعلم . سأطلب إلى السلاح نفسه أن يستجيب إلي وأن يقذف نفسه في الفضاء ليستقر على المريخ أو غيره "
" السلاح كله ؟"
" كله من المسدس والبندقية إلى الدبابة والصاروخ إلى البارجة وحاملة الطائرات"
" آه لو يحدث هذا يا إلهي ونرى أنا وأنت سلاح كوكب الأرض ينقذف في الفضاء وكأن ريحا عاتية تعصف به في الفضاء الكوني"
" قد يحدث هذا يوما أيها الحبيب"
" آمل ذلك يا إلهي.. وماذا عن الخطوة الثانية "
" سأطلب إلى قيم الخير والمحبة أن تسود، وسأطل بوجهي هذا من كل مكان على كل انسان على الكرة الأرضية، واقول له أنني أنا الله وأنه جزء مني ، وأن جسمه من جسمي، وأن عقله من عقلي، وأن الطاقة السارية فيه طاقتي، وأنه ينبغي عليه أن يعمل معي لتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الانسانية كي أرضى عنه ، وأطيل عمره"
" يا إلهي الحبيب هذه أفكاري "
" أيها الحبيب ألم تدرك بعد أن معظم أفكارك تتم بوحي مني أو بمساعدتي عدا دورك فيها "؟
" آسف يا إلهي .. يبدو أنني أنسى أو أتجاهل !"
" لا داع للأسف أيها الحبيب "
" وماذا أيضا يا إلهي ؟"
" سنحول كوكب الأرض إلى جنة حقيقية ينعم فيها البشر جميعا بالمحبة والسعادة والعدل"
" وماذا عن الدين يا إلهي ؟"
" هذا هو الدين .. تحقيق القيم التي تحدثنا عنها "
" والأديان القائمة ؟"
" تصبح من مدونات التاريخ "
" ألن تحتاج إلى عبادة؟"
" عمل الخير عبادة . المحبة عبادة . الإبداع في الجمال عبادة . تحقيق العدل بين الناس عبادة "
" ألن تحتاج إلى دور عبادة "
" الكون كله مسكني ومعبدي إن شئت، عدا أنه جسدي! "
" وماذا نفعل بدور العبادة المختلفة وهي كثيرة في العالم وخاصة لدى المسيحيين والمسلمين والهندوس والبوذيين وغيرهم "
"تتحول إلى متاحف ومدارس ومعاهد ومسارح وجامعات وحتى مصانع إن أمكن، ولا ما نع أن يبقى بعضها، كتراث انساني شاهد على ما مر من عصور "
ثمة مشكلة وضعني الله أمامها حين تجسد لي في شخص أنثى ربّانية تستوي فيها الأنوثة والذكورة، يستحيل على من يراها أن لا يشتهي تقبيلها.. ورغم أنني قبلت الله عند لقائنا إلا أن رغبتي في تقبيله ظلت قائمة ، ولا أعرف كيف وجدت نفسي أعود لمخاطبته كربّة ، كما حدث في سهرتنا السابقة. ربما بتأثير الخمر التي نشربها . همست وأنا ألقي رأسي على كتفه وأبسط راحة يدي اليمنى على خده الأيسر لأقرب رأسه مني :
" أريد أن أقبلك يا ربتي الحبيبة "
أعطتني الربة خدها لأمطرها بقبل ليس ثمة ما هو أجمل وأمتع منها على الاطلاق.
" ربتي حبيبتي .. تقبيلك يطيل العمر.. بصحتك "
" بصحتك أيها الحبيب "
وقبلتني بضع قبلات زادتني متعة ونشوة .
" ربتي ؟"
" ماذا أيها الحبيب "
" ما هو اليوم الأكثر فرحا في حياتك ؟ "
" هذا اليوم "
" معقول يا ربتي ؟ "
" أجل معقول "
" لماذا ؟ "
" لأنني لأول مرة منذ أن وجدت ، أتجسد في شكل انساني مختلف ، وأجالس انسانا مختلفا أحبه"
" يا ألله يا ربتي كم أنا سعيد لأنني شريك في يوم فرحك وسعادتك "
" لك الدور الأهم في هذا اليوم أيها الحبيب .. لأنك كنت تبحث عني "
" أشكرك يا إلهتي الحبيبة.. "
شربت نخب ربتي ربما للمرة العاشرة، وتبادلنا القبل كثيرا .. وبدأت أشعر بنشوة فريدة لم أعشها من قبل ، ولم أعرف أوأسمع عن مثيل لها في حياتي ، وربما بدأت أثمل . سألتها ؟
" هل هذا الخمر مسكر يا ربتي "
" لا لا يسكر ، لكنه يثير النشوة"
" أشعر بنشوة تملأ كياني كله، لا أستطيع أن أصفها "
" أنا سعيدة لشعورك بذلك "
" ربتي الحبيبة ، هل أزعجك لو سألتك عن أسوأ يوم في حياتك ، حزنت فيه كثيرا "
"لقد سألت حبيبي وانتهى .. أسوأ يوم في حياتي .. هو اليوم الذي جعلني أفكر في تدمير الكون وإعادة الوجود إلى الصفر المطلق .."
" ما هو هذا اليوم يا ربتي "؟
" إنه اليوم الذي ألقى فيه الأمريكيون القنبلة النووية على هيروشيما"
" ياه ياه يا ربتي الحبيبة .. لنشرب نخب ضحايا هيروشيما ، وضحايا الحروب كلها .."
شربنا نخب هيروشيما.. ولم أعرف أنني بتذكير إلهتي إلهي بيوم حزنه سأذكره بالحزن وأدخله فيه .. فلم أتنبه له إلا ودمعتان تنزلقان على وجنتيه وهو يحاول أن يلقي رأسه على صدري . احتضنته بدوري ورحت أمسح دمعتيه ، وأملس على أجمل شعر رأته عيناي، بل وأمطره بالقبل وقد تفوح عطره الأخاذ ليعبق في أنفي كما لم يعبق من قبل :
" عذرا إلهتي الحبيبة لتذكيري لك بالحزن .. كنت أظن أن الحزن للبشر وحدهم ، ولم أدرك أنك مصدر كل شيئ في الوجود حتى العواطف والأحزان ..
" آه أيها الحبيب لو تعرف مقدار الأحزان التي مررت بها منذ أن وجدت ، لطار عقلك ! البشر يحزنون لمسائل محددة يسمعون بها أو يرونها ، أو يمرون بها، أما أنا فأحزن لكل شيئ: لسجين تحت التعذيب في أقبية السجون ، لطفل يتضور جوعا ولا أستطيع أن أمده بالطعام .. لغريق يبحث عن طوق نجاة .. لرجل يعذب امرأته .. لفتاة تغتصب . لأجساد تحت دمار جراء ألقاء قنبلة ما على بناء ، لقتلى في معركة جراء حرب مشتعلة ، لعواصف وزلازل وبراكين وأعاصير تودي بحياة بشر وأملاكهم .. مصادر حزني لا تعد .. وما يزيد من حزني أنني كإله لا أستطيع أن أفعل شيئا إزاء ذلك .. لمحدودية قدراتي .. "
" آه يا يا إلهي الحبيب .. لكل هذا أنت في حاجة إلى الانسان المحب للخير والجمال، ليخفف من أحزانك ، ويعمل معك على تقدم الخلق "
" أجل أيها الحبيب ، لهذا خلقت الانسان الذي لم يعرف بعد الغاية من وجوده ، ويظن أن عملية الخلق قد انتهت "
" ألن يعرف في المستقبل القريب يا إلهي ؟"
" القريب لا .. قد يعرف بعد بضعة قرون "
شعرت أن الله يريد أن يرتاح ويغفو على صدري لبعض الوقت ، وقد بدأت خيوط الفجر تنبثق في الأفق الشرقي .. فقلت لله أن الفجر بزغ ، وسيطلع النهار ، وأنا لا أريد ذلك يا إلهي لأطيل سهرتي الممتعة معك .
" النهار لا بد أن يطلع أيها الحبيب ، لكني سأوقف الزمن على الفجر لبعض الوقت قبل ذلك ، لنبقى معا فترة أطول .. ويراودني احساس أن لقاءنا هذا بجسدين لن يتكرر.. "
" هل هذا يعني اننا لن نلتقي إلا كطاقتين في المستقبل يا إلهي ؟ "
" أجل أيها الحبيب ،وإن كنت لا أجزم بذلك "
ورحت أملس على شعر الله بيد وأربت على ظهره بالأخرى، وهو يغفو في أجمل نوم رأته عيناي .. وبدت لي خيوط الفجر التي كانت مرتسمة في الشرق وقد توقفت على حالها . فأدركت أن الله أوقف الزمن في الكون كله . قبلت شعره . وألقيت خدي على رأسه .. لنذهب معا في نوم عميق بين أحضان السماء.
*****


(25) حبيب الله!
استيقظت من النوم في حدود الثامنة صباحا .. لم يكن محمود نائما إلى جانبي . هل يعقل أن يكون قد نام على الأرجوحة في الحديقة ؟ أو أنه ما يزال غارقا في تأملاته الصوفية مع الله .. لا أعتقد .. سأعمل قهوة وأذهب لأوقظه .
عملت القهوة.. فتحت الباب المؤدي إلى الحديقة ودخلت إليها.. يا إلهي ! لم يكن محمود على الأرجوحه ! أين ذهب في هذا الوقت المبكر دون أن يعلمني .. أو يترك لي ورقة أو رسالة على الهاتف .. لعله نام تحت شجرة ما .. نظرت تحت الأشجار.. لا أحد .. عدت إلى الداخل لأرى الهاتف ، فربما ترك لي رسالة .. تنبهت إلى ملابسة معلقة على الحائط .. لا يمكن أن يخرج بملابس النوم .. ربما غير ملابسه .. لكن الحذاء الذي يرتديه ما يزال مكانه . أخذت الهاتف .. لا رسائل عليه .. هل أتصل به .. اتصلت .. هاتفه يرن في الصالون حيث أمضينا سهرتنا على التلفاز .. اللعنة. انتابني احساس أنني لم أنظر جيدا إلى الأرجوحة .. سخرت من نفسي .. هل أصبح محمود نملة بحيث لم أتمكن من رؤيته على الأرجوحة . ومع ذلك عدت إلى الحديقة دون أن تفارقني السخرية من نفسي.
" يا إلهي! وأنا أقترب من المرجوحة شاهدت محمود مستلقيا عليها. اقتربت منه . كان نائما باطمئنان شديد وطيف ابتسامة ولا أجمل يرتسم على شفتيه ، وتفوح منه رائحة عطر نفاذة لم أشم ما هو أزكى منها .. هل يعقل أنني لم أره .. مستحيل ! لم يكن على الأرجوحة . من أين جاء؟ وأين كان ؟ لا أظن أنني جننت "
- محمود حبيبي ! همست ببطء!
اتسع طيف الابتسامة.
- حبيبي..
شقشق عينية باسما. وما أن رأى وجهي حتى هتف :
- أهلا حبيبتي!
- أين كنت حبيبي؟
- كنت سهران أجمل سهرة مع أجمل حبيب وأجمل معشوق حبيبتي !
- أكيد تقصد الله ؟
- طبعا وهل هناك معشوق لي خارج الدنيا غيره ؟
- عن جد ؟
- طبعا عن جد!
- كنت سهران بجسمك أم بروحك ؟
- ماذا تقصدين حبيبتي؟ طبعا بجسمي وروحي ؟!
- لكن السهرة الاولى كانت مجرد تأملات روحانية ، ولم تغادر السرير كما قلت لي.
- وهل غادرت السرير هذه المرة ؟
- أنت لم تكن في السرير قبل قليل ! وهذا يعني أنك غادرته وعدت إليه قبل لحظات!
- شكرا لله .. في الحقيقة لا أشعر أن جسدي يفارقني سواء في التأملات أو اللقاءات، بحيث لا أكاد أميز بينهما .. ما أنا متأكد منه أنني كنت مع الله وأنه ألقى رأسه على حضني وأوقف الزمن ، وقد ألقيت خدي على شعر رأسه وغفونا معا وأنا أتنسم رائحة طيبه.. وربما أعادني إلى أرجوحتي قبل لحظات ..
- وهل هذا العطر الذي تفوح رائحته منك هو الطيب الذي شممته ؟
- أجل إنه عطر الله حبيبتي!
ورحت أبسمل وأذكر اسم الله أكثر من مرة وأنا أتلمس خدي محمود ورأسه .. أحس أنني غير مصدقة أو متخوفة مما يقوله ، فقال لي :
- لا تخافي يا حبيبتي والله لم أجن ، وكنت مع الله فعلا لا قولا !
يا إلهي .. يا إلهي ! لم يعد أمامي إلا أن أصدق ، فأنا على الأقل أعرف محمود أكثر من أي انسان آخر على وجه الأرض ، وأعرف مدى صدقه وعمق إيمانه ، وإن لم أتوقع يوما أن يظهر له الله ويدعوه إليه ، أما وقد جرى الأمر فليس أمامي إلا أن أصدق . ألقيت رأسي على صدر محمود . قبلت عنقه وهتفت :
- هنيئا لك حبيبي بلقاء الله ، وهنيئا لي بان جعلني الله محبوبة وزوجة لأحب البشر إليه .
ونظرا لأنني لا أستطيع أن أبلغ السماء لأقبلها ، فقد انحنيت إلى الأرض وقبلتها وأنا أشكر الله .
- آمل أن تحدثني عن هذا اللقاء حبيبي.
- سأحدثك .
- والآن هيا إلى الصالون لنشرب القهوة فقد بردت !
*****
رن هاتف محمود . كانت أسيل :
- هلا أسيلو! كيفك روحي ؟!
- مشتاءة حبيبي!
- تشتاء لك العافية ؟
- كيفها أحلى لمى ؟
- بتسلم عليك .
- الله يسلمك ويسلمها .. بدي أمر لعندك لنتحاور حول الحوار.
- هل طرأ ما هو جديد ؟
- أجل . سأقول لك عندما أحضر.
- ليكن .
- هل في الامكان أن أحضر بعد قليل ؟
- طبعا ممكن ..
- إلى اللقاء.
****
- أظن أنك تطرقت لكل شيء حبيبي ! وآن الأوان لأن تفرغوا من هذه اللقاءات . هتفت لمى .
- والله لا أعرف ، أنا في الغالب مقيد بالإجابة عن أسئلة أسيل ، ولا أعرف إلى أي حد شملت أسئلتها الجوانب المختلفة لفلسفتي، وحتى أكاد أشك في أنني أجبت كما يجب.
حضرت أسيل . عانقتها لمى على الباب . وعانقها محمود في الصالون. اشتمت العطر الفريد الذي يفوح منه . هتفت :
- يا ألله شو هالعطر محمود ؟ بحياتي ما شميت متله !
وجد محمود نفسه محرجا . فقد لا تصدق أسيل أنه التقى الله وأنهما تحاضنا وتعانقا بحيث علق عطره النفاذ بجسد وملابس محمود. نظر إلى لمى لعلها تنقذه بحل ما، لكنها فعلت العكس حين قالت :
- أعتقد حبيبي أن أسيل خبيرة في العطور وقد لا تصدق أي كذبة نختلقها!
- شو الحكاية يا جماعة فعلا هذا العطر فريد ؟
وقربت رأسها من عنق محمود وراحت تشم المزيد .
- يا الله كأنه عطر من عطور الجنة !
ضحكوا.. قال محمود :
- هل لديك خبرة بعطور الجنة؟
- يقولون انها فريدة ، لكن لماذا لا تريدان أن تبوحا لي بسر هذا العطر؟
سكبت لمى فنجان قهوة لها . قالت :
- - لأنك قد لا تصدقين أسيل !
- وهل يعقل أن لا أصدق محمود ، شو بك حبيبي ؟
- وإن قلت لك إن هذا عطر الله نفسه وليس عطر الجنة!؟
- نعم ؟! هتفت أسيل متسائلة !
أجابت لمى :
- محمود التقى الله في السماء أسيل ، وأمضى معه سهرة ممتعة . وتعانقا طويلا ليعلق عطره به .
- يا الله يا ألله يا ألله !
وراحت تتلمس رأس محمود وكتفيه وتقبل ذراعيه.
- لا يليق لقاء الله إلا لأمثالك حبيبي ، فلم لا أصدق ؟
- أشكرك !
وراحت لمى تحدثها عما حصل معها حين ذهبت إلى الحديقة لإيقاظ محمود فلم تجده في الأرجوحة.
- يا إلهي قصة العمر . يجب أن تدون للتاريخ . ويجب أن ترويها لنا بكل تفاصيلها .
سأفعل في سهرة قادمة.. لكن ليس اليوم .
- هل تعدنا بذلك ؟
- أعدكما.والآن ماذا لديك ؟
- قبل أن أبدأ الحديث عمّا جئت من أجله سأتحدث عن أمرين . الأول . سمعت أخبار الصباح تتحدث عن القاء القبض على الداعشي الذي وضع الحنش أمام باب بيتك!
- ممتاز ! لقد اكتشف النشامى كل من وضع شيئا مرعبا أمام بيتي !
- الأمر الثاني أن أحد الجيران قتل ابنته بدواعي الشرف . سمعت صراخ الفتاة وأنا أفطر. هرعت إلى النافذة . كانت الفتاة قد خرجت بملابس النوم وراحت تعدو في الشارع وهي تصرخ ، وشاهدت رجلا عرفت فيما بعد أنه أبوها يهرع خلفها وهو يجاهد ليحشو مسدسه ، وما أن حشاه حتى أطلق النار عليها ، غير أنها كانت بعيدة نسبياعنه، فلم يصبها.. سارع من عدوه ليلحق بها ، لكنه لم يلحقها ، وحين أدرك أنه لن يلحقها توقف وسدد جيدا وأطلق النار.. يبدو أنه أصابها في ظهرها فقد تعثرت دون أن تقع ، أطلق الأب النار ثانية وثالثة .. راحت الفتاة تتعثر ومن ثم تترنح إلى أن وقعت على طولها .. لحق بها الأب وأفرغ كامل طلقات مسدسه في جسدها .
جلس الأب على مقربة من رأس ابنته مزهوا بجريمته، فيما امتلأت شرفات المنازل بالناس .. وحال نفوس كثيرين منهم، والفتيات والنساء منهم بشكل خاص ، تهتف بلوعة وأسى " إلى متى يستمر هذا الحال ، إلى متى ؟ هل المرأة رخيصة ومهدورة الدم إلى هذا الحد ؟ " وعدت لإكمال فطوري الذي لم يعد لي رغبة فيه ..
- مأساة .. مأساة حقيقية . هتف محمود .
- هل لي أن أسألك سؤالا كإنسان مختلف وصاحب فلسفة انسانية .
- لكن لا تصعبي السؤال أسيل !!
- لا أظن أنه صعب عليك لكنه قد يكون صادما.
- اسألي :
- ما ذا تفعل إن اكتشفت أن ابنتك أو زوجتك على علاقة غرامية مع أخر؟
- أسيل هل أنت واثقة أنك استوعبت بعض فلسفتي ولو بالحدود الدنيا؟
- يفترض أن يكون الأمر كذلك !
- ولهذا يفترض أنك تعرفين إجابتي!
- ربما لأستنير أكثر على ضوء تجربتك في الحياة .
- لا شيء . فقد سبق لي أن اكتشفت أن لابنتي علاقة غرامية مع آخر .. خطبته وتخلت عنه إلى غيره ، كما تخلت عن الثاني أيضا بعد الزواج.. هي كانت مسؤولة عن حياتها بعد أن بلغت سن الرشد ، وما تزال .
- وماذا عن زوجتك ؟
- زوجتي أم زوجاتي؟
- في الحقيقة لا أعرف إلا القليل عن ماضيك مع الزوجات والنساء.
- تزوجت مرتين قبل زواجي من لمى . عربية وأوروبية. الأوروبية كانت حرة قبل الزواج وبعده بحدود كما كنت أنا .. ويمكن القول أن زواجنا كان حرا نسبيا .. لم ننجب إلى أن افترقنا.. العربية استطاعت ان تمارس حريتها ولو بحدود ، تم ذلك بموافقتي طبعا ، أو بغض الطرف من قبلي، لأنني كنت في بعض أوقاتي على علاقة ما بامرأة ما ، والعربية كانت شبه مهجورة بالنسبة إلي.. وأدرك أنها انسانة مثلي وقد لا تقل رغباتها عن رغباتي. خاصة وأنها تعرف عدم التزامي زوجيا!
- ألم يكن الأمر صعبا عليك ؟
- كان صعبا ومؤلما إلى حد فظيع ، فالتربية الذكورية مسألة ليس من السهل التخلص منها أو تجاهلها أو التخلي عنها ، ومع ذلك احتملت لفترة طويلة انسجاما مع مبادئي ، وكان لا بد من الطلاق في النهاية. فأن تعيش المرأة الشرقية تحررا، في مجتمع غير متحرر، مسألة لا يمكن لعقل سوي أن يستوعبها.. للتحرر شروط وظروف يجب أن تتوفر. وخاصة حين لا يرى الذكرالآخر في المرأة المتحررة تحررا وحقوقا مشروعة ، بل زنى وعهر ودعارة !!
- وما هي الخلاصة التي خرجت بهاعبر تجربتك في الحياة ؟
- خرجت بأن المؤسسة الزوجية بالظروف القائمة عليها مؤسسة فاشلة. ولا أحد يعرف بالضبط ما هو الحل الأفضل . لذلك ليس أمام البشر حتى اليوم إلا هذه المؤسسة . طرقت الأمر في بعض رواياتي ، وتخيلت مجتمعات تنتج الأطفال صناعيا !
- وماذا عن زواجك الحالي بلمى؟
- هذا الزواج تم برغبة لمى بالدرجة الاولى ، ووافقت عليه من أجلها ولمحبتي لها. وبالتأكيد أنا لم أعد في حاجة إلى علاقات غرامية خارج المؤسسة الزوجية ، وفي الوقت الذي تشعر فيه أنها في حاجة ماسة إلى علاقة ما خارج زواجنا قد اوافق لها، وإن لم أستطع قد نفترق لأساعدها على تحقيق رغباتها..
- لكن المراة الشرقية في مجتمعاتنا ما تزال في حاجة إلى حماية ، ولا تستطيع أن تمارس حريتها المطلقة أو شبه المطلقة دونها .
- تستطيع بقدرما إذا كانت مستقلة اقتصاديا كما هي الحال مع لمى ، ليبقى دور الحامي ثانويا أو شبه ثانوي ، وهذا لم يكن متوفرا لزوجتي العربية مثلا ، لذلك انتهى تحررها ما أن طلقتها ، لتعود من منتهى التحرر إلى الانغلاق، حيث البيئة التي نشأت فيها : الحجاب والجلباب وما إلى ذلك من مظاهر التحفظ والتدين، ولو أمام الناس .
- ألا يؤدي هذا إلى انفصام في الشخصية ؟
- المجتمعات الشرقية معظمها إن لم يكن كلها تعيش شكلا ما من الإنفصام بين ظاهر حياتها وبين باطنه. كان لدي صديقة محجبة ذات يوم . لم تستطع حسم أمرها بالتخلص من الحجاب . فكانت تنزعه لبضعة أيام أو أسابيع وتعود إليه ، ليظل الصراع في دخيلتها قائما دون حسم .
- بماذا تنصح الأجيال الآن ؟
- المشكلة معقدة جدا ، لأن المعتقدات بالإضافة إلى الثقافة المجتمعية ، عقدت الحياة إلى درجة فظيعة وخاصة بالنسبة للمرأة . وأعتقد أن أفضل الممكن هومحاولة الاكتفاء بهذا المتيسر، وكبح الرغبات ولو بحدود مقبولة، وعدم الانجرار وراء الأهواء. هذا الأمر قد يؤدي نسبيا إلى تأسيس أسرة متماسكة اجتماعيا .. وهو بعض أو معظم ما هو قائم .
- يا إلهي .. الحياة تبدو كما لو أنها معركة، كل انسان يخوضها على طريقته . ولا بد من شحذ الهمم لخوضها . ما رأيك حبيبتي لمى ، لم تدلي برأيك ؟
- أنا مستمعة جيدة ، أعجبتني جرأتك في طرح الأسئلة وجرأة محمود في الإجابة عليها .
- هل توافقينه على آرائه ؟
- أكيد .
- هل لديك رغبات غرامية خارج علاقتك الزوجية ؟
- أوه ! هل جاء دوري معك ؟
- آسفة إذا السؤال أزعجك !
- لا لم يزعجني. ليس لدي رغبات على الاطلاق . أنا لا أستطيع تخيل نفسي في وضع غرامي مع رجل لا أعرفه . ويمكن القول أن رغباتي معدومة في هذه المسألة . لا أعرف غراميا إلا محمود ومكتفية بعلاقتي معه .
شعر محمود أن حديث أسيل قد ابتعد عما جاءت من اجله . قال .
- تحدثنا كثيرا عن مسائل غير التي جئت من أجلها. ماذا جرى بشأن الحوار؟
- أيوه . يا عزيزي المدير يرى أن ننهي الحلقات بحلقة أخيرة يكون من ضمنها الرد على أسئلة المشاهدين !
- كما ترون. لا مانع لدي.
- هل ترى أننا أعطينا الموضوع حقه ؟
- أعتقد إلى حد ما !
- أليس هناك أشياء مهمة لم نتناولها أو لم نتطرق إليها ؟
- أظن أننا تطرقنا ولو باختصار إلى معظم المسائل الهامة. ويمكن للإجابة عن أسئلة المشاهدين أن تغطي جوانب لم نتطرق إليها ..
- إذن سأعود لمراجعة الحلقات . وآمل أن أعثر على ما هو ضروري للتطرق إليه ..
وسأخبرك عن موعد الحلقة حين أنتهي .. وثمة حلقة لم تبث بعد .. سنعلن في نهايتها عن الحلقة الأخيرة القادمة. ونطلب إلى من يرغب من المشاهدين أن يحضر نفسه لطرح الأسئلة عليك .
- هذا جيد . وفقك الله .
- بالإذن .. سأنصرف .
- ابق لنتغدى معا .
- الوقت مبكر على الغداء ، قد أعمل بعض الأشياء قبل ذلك .
- حسنا . إذا أحببت خبرينا .
- تشكروا .. إلى اللقاء.
*******


(26) نهاية البداية !
لم يكن محمود أبو الجدايل يوما ضد الخالق أو ما يعبر عنه بأي مفردة لغوية إن كانت دينية أو فلسفية أو علمانية ، إنه وكما يعرف جميع قرائه ومتابعيه ، ضد ما تخيلته عقول بدائية كالكاهن عزرا وغيره من كتبة التوراة الكثر، تجاوز حدود الاجتهاد الممكن إلى الافتراء والكذب على الله ، فلا يعقل أن يكون الله العظيم حسب التخيلات غير المنطقية التي قدمه بها الكتبة التوراتيون ، وغيرهم فيما بعد . ورغم ذلك أدى نشر الحوارات المتلفزة حول الوجود والقائم به والغاية منه، ونشر بعض الفصول من رواية " قصة الخلق" التي يقوم محمود أبو الجدايل بكتابتها ، إلى تعرضه للمزيد من الهجمات والتهديدات والشتائم على صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة من قبل متعصبين اسلاميين جعلوا من أنفسهم وكلاء لله على الأرض، فطالب بعضهم بشنقه أمام جامع الحسين في عمان ، وآخرون ارتأوا قتله برصاصات صائبة هذه المرة . أحدهم اكتفى بقطع رجله ويده من خلاف كمرتد. والمقصود بالخلاف أن تقطع رجله اليمنى ويده اليسرى أو العكس. شخص طريف اكتفى بتطليق زوجته منه كمرتد . فهو الآن كافر وملحد ولا يحق له الزواج من مسلمة مؤمنة تقيّة ، رغم أنها لا ترتدي النقاب! آخر ترك الأمر لله وتمنى عليه أن يرسل سهمين ليخترقا قلب وعنق محمود أبو الجدايل ليكون عبرة لكل زنديق !
لم يفاجأ محمود أبو الجدايل باشتداد الهجمات عليه على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الثقافية .. بل رأى في الأمر ما هو أفضل من الرؤوس المقطوعة والجثث المذبوحة والأحناش الملقاة أمام باب بيته ، أو تنفيس دواليب سيارته وإرسال صور قتلى على هاتفه .. غيرأن ذلك لا ينفي أنه كان يعيش في قلق شبه دائم ، وإن حاول أن يخفيه ويتجاهله قدر الامكان.. وخاصة أمام لمى التي لم تتخلص من قلقها حتى بعد أن انتقلت هي ومحمود إلى بيتها ...
أسيل القمر راجعت حلقات الحوار ووجدت الكثير مما يمكن أن تسأله لمحمود في الحلقة الأخيرة، غير أنها فضلت أن تترك الأمر للمشاهدين ليسألوا عنه ، وارتأت أن تدخل في حوار مع محمود حول السبل الممكنة لجعل الناس يعتقدون بهذا الفكر، وأنه الأقرب إلى المنطق والحقيقة ، طالما أن محمود يصر على أنه اجتهاد وليس حقائق مطلقة .
اتصلت بمحمود لتخبره عما خلصت إليه .. وافق على الأمر. اتفقا على اللقاء وإجراء الحوار الذي سيكون على الهواء مباشرة ، بدءا من الحادية عشرة مساء ، إلى وقت غير معلوم تتوقف فيه أسئلة المشاهدين .
استقبلت محمود بقبلات لا تخلو من حرارة عشق ، وإن صممت على أن يظل هذا العشق بريئا وعذريا بناء على رغبة محمود ، واحتراما للمى التي أصبحت صديقتها .
دخلا إلى الأستوديو بعد أن شرب محمود قهوته . وما أن حان الوقت حتى شرعت أسيل في الكلام :
" أعزاءنا المشاهدين . أهلا ومرحبا بكم في الحلقة الأخيرة من أفق المعرفة والحوار مع الفيلسوف والمفكر محمود أبو الجدايل . تعرفون أو يعرف معظمكم على الأقل كم أثارت الحلقات السابقة ردود فعل مختلفة من جمهور المشاهدين ، معظمها مؤيد ومشجع لفكر الأستاذ محمود وبعضها معارض وشاجب بالمطلق ، عدا ما جرته هذه الحوارات عليه من تهديدات وشتائم يندى لها الجبين كما يقال ، إضافة إلى محاولات الاغتيال والارهاب التي تعرض لها جراء فكره الانساني النيّر ، وكأن هؤلاء البشر لا يريدون فكرا انسانيا ، يرى الألوهة في أسمى تجلياتها ، منزهة عن العذاب ، وعن كل ما هو شراني، وتسعى إلى تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال، وبناء الحضارة الانسانية. ويصرون على الاحتفاظ برؤية أسلافهم لألوهة تعذب وتنتقم من البشر بأبشع عذاب وأفظع انتقام . والأسوأ أن يرى هؤلاء في مفاهيم أسلافهم، الفهم الصحيح للألوهة، الذي لا يرقى عليه أي فهم مهما كان. وأن آلاف الديانات والمعتقدات والأفكار البشرية الأخرى خطأ، وبالتالي فإن أتباع هذه الأفكار والمعتقدات كفرة وملحدون ، ينبغي محاربتهم وقتلهم إذا أمكن !!
سنبدأ حوارنا مع الأستاذ محمود حول السبيل الذي يمكن أن يقود مجتمعاتنا ولو إلى الاعتراف بمعتقد الآخر كحد أدنى مما نطمح إليه ، فمعظم الامم تسعى إلى التعاون والتسامح في هذا العصر، ولا يعقل أن لا نسير بركب الحضارة الانسانية . وآمل من المشاهدين أن يحضروا أسئلتهم لطرحها على الأستاذ محمود عبرالاتصال بأرقام الهواتف التي ستظهر على الشاشة ، ما أن ننتهي من الحوار حول المقدمة .
أستاذ محمود لنتفق أولا على أن أي استخدام لمفردات من نوع الله أو الخالق أو القائم بالخلق ، أو المبدأ الأول أو المحرك الأول أو المصمم الذكي ، كلها تشير إلى معنى واحدا ، هو الله .
- وأضيفي الطاقة ، أوالعقل الطاقوي ، أو الطاقة العقلانية ،أوالطاقة/ المادية أي ( الطقمادية ) إلى هذه المفردات ، لتشمل بذلك معظم المصطلحات الدينية والفلسفية والعلمانية .
- ليكن . أسئلة كثيرة قد تخطر على البال حسب النصوص التوراتية التي وردت إلينا ، بدءا من خلق السموات والأرض والكائنات في ستة أيام ، وكيف تم ذلك ، مرورا بالخالق الذي لم يكن يريد معرفة وخلودا للإنسان الذي خلقه، ويضع سر المعرفة في شجرة يحرم على الانسان الأكل من ثمرها، ويهدده بالموت إذا ما أكل:
2/17 وأما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت.
ويضع سر الحياة والخلود في شجرة أخرى ، يخاف الله أن يأكل الانسان منها ويصبح خالدا مثل الآلهة.. وانتهاء بالعبادة وتقديم القرابين للإله . كيف يمكن أن نقنع مجتمعا ما أن هذا الكلام اغراق في خيال غيرمنطقي يتناقض مع العلم والمنطق، وأي فكر مهما كان ؟ وأنه مجرد اجتهاد لعقل بشري بدائي لمعرفة الوجود والغاية منه ، وأنه تجاوز حدود الاجتهاد الممكن إلى الافتراء على الله كما ترى أنت .
- ها أنت تنجحين في زج المعتقدات في حوارنا.
- يبدو أنه لا مفر من ذلك أستاذ .. على الأقل لا بد من التطرق للمعتقد السائد لدينا.
- لا بد من تغيير مناهج التدريس أولا .. فالتسليم بكل ما جاء في الكتب حتى غير الدينية ، مسألة لم تعد موجودة في التعليم الحديث في العالم ، فكل مادة مهما كانت خاضعة للتفكير فيها .. أما أن نقول لطلابنا ولإنساننا أن الله خلق الخلق في ستة أيام منذ قرابة ستة آلاف عام ، أي بعد قرابة ثلاثة آلاف عام من بدء عصر الزراعة وتدجين المواشي حسب الكتاب المقدس اليهودي المسيحي، والقرآن فيما بعد ! فهذا قتل لأبنائنا ومحاولة يائسة لبرمجة عقولهم على التسليم بالخرافات والأساطير، بحيث لا يصدقون العلم حين يكبرون ويعرفون أن عملية الخلق بدأت منذ مليارات السنين ولم تنته بعد ، أي ما تزال قائمة .
ولا بد من القول لهم إن عملية الخلق في ستة أيام وردت في قصص الخلق السابقة على الديانات المعاصرة ، كما في قصة الخلق البابلية كما سبق وأن تحدثنا، حيث خلق مردوخ السموات والأرض والكائنات في ستة أيام . غير أن مردوخ يختلف عن إله العقائد السماوية المعاصرة ، بأن خلق السماء والأرض من جسد جدته الإلهة تيامة ، وخلق الانسان من هذا الجسد لكن بعد أن عجنه بدمه . وبهذا يكون الانسان مخلوقا من جسد آلهة ، وأن دماء الألوهة تسري فيه . ولا يقتصر الأمر على الانسان ، بل على الوجود كله الذي جاء من جسد آلهة ، لنصبح بذلك أمام وحدة وجود . وهذا يقارب الفلسفة الوجودية الصوفية العلمانية المعاصرة التي أتبناها، والتي تشير إلى أن الوجود واحد وجاء من مصدر واحد بغض النظرإن كان إلها أو طاقة عقلانية ، قد تقبل بالألوهية وقد لا تقبل .
هذا الاجتهاد الفكري التراثي البابلي متقدم بما لا يقاس على الاجتهاد اليهودي وما تلاه من اجتهادات مسيحية وإسلامية ، نقلته بصورة مختلفة فيما بعد. ويمكن التطرق إلى اجتهادات أمم أخرى كثيرة سعت لأن تقدم فهما للوجود والغاية منه .. بذلك نضع الطلاب أمام أفكار وتصورات تاريخية للوجود والقائم به والغاية منه، تجعلهم يخلصون إلى رؤى مختلفة .. وأن المسألة مسألة اجتهادات لا غير دون أن يصل أي منها إلى حقيقة مطلقة ، بذلك أيضا يسعى الطلاب بدورهم إلى التفكير لعلهم يقاربون الحقيقة المطلقة . لا يمكن تقبل خالق لم يكن يريد معرفة للإنسان ، باعتبار المعرفة من اختصاص الآلهة، وخاصة معرفة الخير والشر، حتى تأتي أفعى لتدله على ذلك .. كيف يمكن للانسان ان يعيش دون معرفة ؟ كيف له أن يعبد الله نفسه دون معرفة .. ثم كيف كانت الأفعى تملك معرفة ؟ من أين جاءت المعرفة للأفعى ؟ وهل الانسان مدين للأفعى أو للشيطان بالمعرفة ؟ ( إذا كانت الأفعى شيطانا في زي أفعى كما يرى المفسرون المسيحيون ) وإذا كان الله لا يريد معرفة للإنسان فلماذا قام بتعليمه الأسماء بعد أن أكل من التفاحة أو من ثمر الشجرة ، حسب نصوص دينية لاحقة. وصار عارفا للخير والشر؟ هل اضطر الله أن يخضع لإرادة الأفعى أو لإرادة الشيطان ؟ وبالتالي ما الذي أرادته الأفعى من هداية الانسان إلى المعرفة بأكل التفاحة أو ثمر الشجرة التي لا نعرف ما هي، وإن أصبح شبه اجماع ديني على أنها شجرة تفاح؟ هل هو تمرد على الله ؟ الطريف في الأمر حسب النص التوراتي أن الله أتى بالحيوانات والطيور إلى آدم ليطلق أسماء عليها، قبل أن يأكل التفاحة ، وقبل أن يكون لديه معرفة على الاطلاق . فكيف أصبح لديه لغة ومعرفة بالحيوانات والطيور؟ :
2: 19- وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا
2: 20- فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ
كان هذا الكلام في الإصحاح الثاني كما هو واضح في النص. بينما لم تؤكل ثمار الشجرة حاملة أسرار المعرفة إلا في الإصحاح الثالث:
4:3 فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا!
5 بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ».
6 فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ.
7 فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ.
فكما ترين لا يكاد يخرجنا كاتب النص من معضلة إلا ليوقعنا في معضلة أكبرمع الله .. فالله لم ينفذ تهديده بأن يميت آدم وحواء إذا ما أكلا من ثمار الشجرة ، واكتفى بطردهما من الجنة على فعلتهما، إضافة إلى تخوفه من أن يمدا أيديهما إلى شجرة الحياة ويأكلا منها فيصبحا خالدين كما الآلهة .. فهل هناك ما هو أسوأ من هذا التشويه لمفهوم الالوهة؟ بالتأكيد كان الله مسرورا لأن آدم وحواء لم يأكلا من ثمارشجرة الحياة، وإلا لأصبحا خالدين مثل الآلهة. هذا ما يراه عزرا، فالله لم يكن يريد معرفة وخلودا للإنسان ..أي أن الله ضد الانسان بالمطلق ! هل يعقل أن يكون الله على هذه الصورة التي جاد بها عقل الكاهن الكاتب !؟ وهل يعقل أن يصدق معظم الناس هذا الكلام لأكثر من ثلاثة آلاف عام وحتى يومنا ؟
3 :22 و قال الرب الاله هوذا الانسان قد صار كواحد منا عارفا الخير و الشر و الآن لعله يمد يده و ياخذ من شجرة الحياة أيضا و يأكل و يحيا إلى الابد
لقد تطرقت بقدر أكبر من التفصيل لقصة الخلق التوراتية، في روايتي " عديقي اليهودي " وفي دراستي للتوراة في مجلد من عشرة أجزاء، وغيرها من مؤلفاتي.
أثبتت أن النصوص التوراتية ، نصوص متخيلة ومشوهة لنصوص أسطورية سابقة عليها ، لفقتها عقول بدائية ، لا علاقة لها بالمنطق ولا بالتاريخ ، ولا بالعلم ، ولا بفهم الألوهة ، والوجود والغاية منه .
- شكرا أستاذ محمود . ونأمل أن تستفيق أممنا من هذا السبات الطويل على هذه الأفكار.. يمكن أن نفتح الآن باب الأسئلة للمشاهدين . ولمن فاتتهم بعض الحلقات
أو الحلقات الرئيسية في هذا الحوارالمطول ، أشير إلى أن فلسفة الاستاذ محمود أبو الجدايل الوجودية تستند إلى مذهب وحدة الوجود، أي أن الوجود واحد وليس وجودين : خالق ومخلوق ، إنما حسب رؤيته هو ، وهي رؤية حديثة ، ولذلك أسماها الصوفية الحديثة، أو مذهب وحدة الوجود الحديثة . وتقوم على مبدأ أن الخالق طاقة عقلانية سارية في الكون والكائنات ومجسدة فيهما ، وأن الغاية من الخلق هي أن يرى الخالق نفسه مجسدا فيه ، وأن يقوم بدوره في عملية الخلق لتبلغ غاياتها المنشودة ، بإقامة حضارة انسانية ، تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال.
وبناء على هذا الكلام ، يرى الأستاذ محمود أن عملية الخلق ما تزال في بداياتها ، بل إنها ما تزال تحبو حسب تعبيره أيضا ، رغم مرور أكثر من أربعة عشر مليار عام على بدايتها .
نحن في انتظاراتصالاتكم وأسئلتكم .
********
- معنا اتصال . هلو .
- هلو . مرحبا أخت أسيل .
- مرحبا .. مين معنا ؟
- أنا فادية مصباح من لبنان . أود أن أشكر الأستاذ محمود على هذه الأفكارالانسانية النيّرة ، وهذا العقل الخلّاق الذي جعل الخالق في الانسان نفسه وفي الكون والكائنات ولم يعزله عنهما .. كم نحن في حاجة إلى فكرانساني حديث كهذا، يخرجنا مما نحن فيه من تخلّف ويلحقنا بركب الحضارة الانسانية . وأشكرك أخت أسيل على ادارتك الممتعة لهذا الحوار الفلسفي الممتع.
- ألعفو أخت فادية . وشكرا إلك مني ومن الأستاذ محمود . ونأمل من الأخوة المتصلين أن تقتصر اتصالاتهم على الأسئلة حتى لا يطول اللقاء ويدركنا الوقت .
هل لديك سؤال أخت فادية ؟
- نعم لدي سؤال خارج المسألة الوجودية . أريد أن أسأل الاستاذ محمود عن امكانية مساواة المرأة مع الرجل في كل شيء ؟
- ماذا تقول استاذ؟
- امكانية المساواة الشاملة في زمننا تبدو شبه مستحيلة ، لتخلف معظم المجتمعات. لكن يمكن تحقيق المساواة في بعض المجالات . وعلى المرأة أن لا تتوقف عن المطالبة لتحصل على كامل حقوقها ، بما فيها الحرية الجنسية قبل الزواج ! فلا يعقل أن تقتل الفتاة غريزتها الجنسية إلى أن يتسنى لها أن تتزوج!
- وماذا عن ما بعد الزواج؟
- هذا الأمر يصبح مسألة خاصة تخص الزوجين ، فهما من يتفقان على نمط حياتهما المشتركة . والأفضل هو الالتزام . أو غض الطرف عما يمكن أن يفعله أحد الزوجين .
- شكرا أستاذ.
سؤال فاديا عن حقوق المرأة أشعر أسيل أن أسئلة المشاهدين قد تنصب على مسائل اجتماعية فاضطرت أن تنبه إلى الأمر:
- أرجو من المشاهدين أن تقتصر أسئلتهم قدر الامكان على المسألة الوجودية وفهم الوجود والغاية منه . هلو نعم .
- معكم عاصي العريان من دمشق.
- أهلا عاصي. ماذا تريد أن تسأل ؟
- أريد أن أسأل الأستاذ محمود عن كيفية سريان طاقة الخلق في الكون والكائنات وتجسدها فيهما كألوهة ؟
- يبدو أن عاصي سأل أصعب سؤال يمكن أن يسأل أستاذ محمود .
- صحيح . هذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه بشكل صحيح تماما أو أقرب إلى الصحة، إلا من قبل الخالق نفسه . فهو الوحيد القادرعلى معرفة ذلك أكثر من غيره . بغض النظر إن كان يعتبر نفسه إلها أو خالقا دون ألوهة ما . لكن يمكن القول إن سريان الطاقة في الكون قد تم من لحظة الانبعاث من الهيولى البدئية ، وهو ما عرّفه العلم بالانفجار الكبير الذي بدأت به عملية الخلق . وما أعتقده هو أن الانفجار قد تم بفعل حالة عقلانية كانت كامنة في الهيولى البدئية. وكما نعلم أن هذا السريان في الكون والكائنات ما يزال قائما حتى يومنا ، وأن التجسد لا يتم إلا بعد المرور بتفاعلات على مدى عصور مديدة ، ويكفي أن نعلم أن أكثر من تسع مليارات عام مرت على الوجود دون أن يكون هناك إلا النجوم والفضاء وربما بعض الكواكب البعيدة والشهب والمذنبات ، ولم يكن هناك كوكب أرض مثلا ، الذي ثبت علمياً أن عمره لا يتجاوز أربع مليارات ونصف عام . على ضوء هذه الحقائق العلمية يمكننا أن نتصور مدى صعوبة السريان والتجسد.. ومدى التفاعلات التي حدثت في الكون وعلى كوكب الأرض حتى تم التجسد في الكائنات الحية ، التي توجت بخلق الانسان، ليرى الخالق أو المصمم نفسه في أرقى شكل يمكن أن يتجسد فيه . وهو ليس الشكل النهائي بالتأكيد . فلا أحد يعرف إلى أين سيصل الجمال بالخلق بعد آلاف أو ملايين الأعوام .
- ألو نعم ,
- أنا مشعل الطرفان من الأردن ! أريد أن أسأل السيد محمود كيف يمكن أن يكون كل شيء بحد ذاته، إلها، طالما أن طاقة الألوهة تسري في كل شيء.
- استاذ محمود ؟
- لقد تطرقنا للمسألة خلال حوارنا ، هذا الفهم خطأ بالمطلق . طاقة الألوهة أو طاقة الخلق تسري في كل شيء دون أن يكون أي شيء بذاته إلها، ودون أن تكون الطاقة السارية بدورها إلهاً .. فأنا مثلا تسري طاقة الخلق في جسدي كما تسري في جسد غيري ، لكني لست إلها ولست خالقا بالمعنى الإلهي.. وأشرت أكثر من مرة إلى أننا نوظف تعبير الله والالوهة بشكل مجازي للتعبير عن القائم بالخلق أو مصمم الوجود. وإذا كان ثمة من يحق له أن يعتبر نفسه إلها ، فهو الوجود كله وبكل ما فيه من أكوان وكائنات . وآمل أن لا يخرج علينا سائل جديد ليسألنا كيف تكون البعوضة إلهاً؟
- استاذ محمود، ماذا لو سألنا أحدهم عن امكانية أن تكون الطبيعة هي الخالق أو الله ؟
- هذا سؤال معقول إذا كان المقصود بالطبيعة الوجود كله . فالوجود كله بما فيه من كائنات هو تجسد كوني كلي لذات الخالق.
- هلو نعم .
- معكم علي الخرفان من فلسطين . استاذ محمود ما هو إله العلماء؟
- أي علماء منهم ؟
- علماء الذرة والفيزياء مثلا ؟
- هؤلاء مثلي يدركون أن الوجود مكون من مادة وطاقة ،ولا شيء غير ذلك ، وإذا كان ثمة إله أو خالق أو مصمم ذكي للوجود ، لا يمكن أن يكون خارجهما .
- هلو.. معكم سري المكشوف من برلين.. أستاذ محمود هل يمكن أن يشبه الله انسان ضخم بحجم جبل مثلا، يجلس على كرسي عرش في السماء ويدير العالم من هناك ؟
- لا لا يمكن .. هذا تصور يحاكي تصور بعض المتدينيين .
- هلو نعم .
- أنا علياء الوزان من الرباط أريد أن أسأل الأستاذ عن إله سبينوزا ولماذا قال آينشتاين أنه يؤمن به .
- تطرقنا لمفهوم الإله عند اسبينوزا ضمن الحلقات ، فهو قريب من مفهومي في بعض الجوانب كونه يستند إلى مذهب وحدة الوجود.. وآينشتاين كعالم فيزياء يمكن أن يؤمن به. فهو كعالم يفضل إلها أقرب إلى العلم منه إلى الخيال الأسطوري والتفلسف الديني .
- هلو .. معكم فريال حموده من تونس. هل يحتاج إلهك إلى عبادة كالصلاة مثلا ؟
- العبادة عند إلهي هي العمل الصالح وفعل الخير والمحبة الانسانية والسعي لتحقيق الغايات النبيلة ، وهذا لا يمنع من أن يكون للانسان طريقته الخاصة في التقرب إلى الله إذا ما أحب ، كالتأمل مثلا ، أو الدعاء إلى الله .. فليس من السهل على الانسان أن يرى سريان طاقة الألوهة في جسده ، ليرى ألوهة في ذاته ، خاصة وأن الألوهة لا تتجسد فيه وحده ، بل بالوجود كله كما أسلفنا .
- هلو نعم مين معنا ؟
- أنا علي فاسي من المغرب. أسأل الأستاذ أبو االجدايل . إذا كان الله طاقة عقلانية ، أي أنه عقل . فلماذا لم يضع عقله كله في كل شيء، بما في ذلك الانسان ؟
- هل تريد لكل شيء أن يكون إلها بحد ذاته يا علي .. سبق وأن تحدثنا أن الله طاقة سارية ، ولا وجود لكائن مستقل اسمه الله، منزه عن الوجود ، ويوزع طاقة على كائنات وهو جالس في مكان ما.. المسألة ليست كذلك .. المسألة بث لطاقة دفعة واحدة لتنبعث في الوجود. أو تُحول من حال كامنة في ما يشبه العدم إلى حال مجسدة في وجود. هذا ما أحدثه هذا العقل الطاقوي حين قرر أن يبعث نفسه . ولم تكن هذه الطاقة قد بلغت الكمال، وحتى يومنا لم تبلغ الكمال المنشود .. فهي في حال متطورة باستمرار. إن أول ما فعلته هو تشكل ذرات وجزيئات الكون .. التي نتج عنها فضاء ونجوم وكواكب فيما بعد . لقد دام الأمر مليارات السنين حتى وجدت أحماض أمينية وخلايا حية نتج عنها خلق ما .. راح يتطور حسب المواد التي توفرت له ، إلى أن بلغ ذروته في الانسان منذ زمن قريب جدا مقارنة بعمر الكون.
كان ثمة تفاوت في قدرة الطاقة العقلية في الكائنات المختلفة. فهي في الانسان ذات قدرة أكثر مما هي في الحيوان والنبات .. لأن الطاقة الكلية بحاجة إلى هذا التنوع لإغناء ذاتها. فإن اكتفت بأن يكون للحيوان أو للنبات قدرة على انتاج شيء محدد، كالثمار بالنسبة للنباتات ، والعسل والتكاثر بالنسبة للحيوانات، فإنها جعلت للإنسان عقلا غير محدود ليكون مساهما فعالا في عملية الخلق، وذا قدرة فائقة على الاختراع. لذلك يمكن القول إن أفضل تجليات الألوهة الطاقوية ليس في شكل الانسان فحسب ، بل في عقله أيضا وهذا هو الأهم .. طبعا لا يخلو الواقع الانساني من عقول بائسة نتيجة وجود جينات وراثية غير متطورة في تكوين عقولها .. وثمة كسل وبلادة لدى بعض البشر تدفعهم إلى عدم توظيف عقولهم إلى ما هو أفضل وأجمل وأرقى ..
- هلو نعم .
- أنا علياء زهران من الجزائر أسأل عن عملية الخلق ، فلماذا لم تكتمل حتى يومنا، أو ما تزال تحبو حسب تعبير الأستاذ؟
- ثمة مجموعة مسائل لم تتحقق حتى يومنا من مجموع المسائل المنشودة التي تسعى إليها عملية الخلق ، والتي لخصناها في إقامة حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. فلم يتحقق أي شيء من هذا .. ثمة تحقق نسبي ضئيل لبعض المسائل .. وعلى صعيد الخلق البيولوجي أعتقد أن ثمة أخطاء كثيرة في عملية الخلق لم يتم التخلص منها كخلق مخلوقات ضارة أو لا ضرورة لها .. والانسان بحد ذاته أعتقد أن عملية تخلقه في تسعة أشهر في رحم الأم، وأكثر من ثمانية عشر عاما ليكتمل نموه ، مسألة في حاجة إلى النظر فيها .. وثمة مسائل قد تتعلق بجمال الانسان أيضا ، أنا أعتقد أن الانسان ينبغي أن يكون في شكل أجمل وقدرات بيولوجية أكبر .. وخاصة ما يتعلق بالرجل أكثر منه بالمرأة .. كذلك يجب وضع حد للشيخوخة ، وإطالة عمر الانسان إلى مائتي عام على الأقل.. رغم أنني أطمح بشباب وخلود دائمين لمستقبل الوجود. إن عملية التكاثر هذه بالحمل والانجاب والتربية أصبحت عملية مملة ومرهقة للبشر وخاصة للمرأة . ثمة مسائل كثيرة في حاجة إلى تطوير..
- أنا معك أستاذ محمود في كل ما طرحته وخاصة في عملية الحمل والانجاب والتربية المرهقة للمرأة .. هلو نعم ..
- هلو أنا ناديا عبد اللطيف من القاهرة .
- أهلا يا ناديا ماذا لديك ؟
- استاذ محمود يهمني في البداية أن أشكرك لأنك أضأت لنا الطريق وعرفتنا بما نحن عليه من جهل .. أريد أن أسألك حول مسألة محيرة تحدثت عنها، حين قلت أن كل اللغات هي لغة الله مع أن الله لا يتحدث ولا لغة ، فكيف يكون ذلك ؟
- نعم يا عزيزتي . ألله كطاقة سارية هو مصدر كل شيء من الحياة إلى الموت وما بعده، فدون طاقة الله السارية في كل ذرة في أجسادنا وفي الكون وأجساد الكائنات، لا نستطيع أن نفعل شيئا مهما كان .. لقد سبق وأن تحدثنا عن الله كمصدر للبصر دون أن يكون له عيون ، وكمصدر للسمع دون أن يكون له آذان ، وكمصدر للعقل دون أن يكون له دماغ، وبناء على هذا الكلام يمكن القول أن الله هو مصدر النطق والكلام دون أن يكون له لسان ، فلسانه هو ألسن خلقه ، فكل لغات خلقه تكون لغته ، وكل مؤلفات خلقه تكون مؤلفاته ، وكل ما ينطقه خلقه ، يكون مجازا نطقه ، دون أن يكون هو مسؤولا عما جاء على لسان البشر .. لذلك قلنا أن الكاهن عزرا بالغ في الاجتهاد المتخيل حتى افترى على الله كذبا.. فالصدق والكذب يتم بقدرة الله وبطاقته ، دون أن يتحمل هومسؤولية الفعل.
- معنا اتصال . هلو نعم .
- هلو أسيل مساء الخير لك وللأستاذ محمود. أنا أسيل عثمان من الكويت .
- أهلابك يا سميتي ماذا لديك؟
- ما لدي هو على ضوء ما يقوله الاستاذ محمود عن الله أو الخالق أو الطاقة الخالقة، فهل القتل يمكن أن ينسب إلى الله مجازا ؟
- نعم مجازا ممكن ، لأن فعل القتل تم بطاقة الله ، لكن واقعيا لا .. لأن الله كطاقة سارية كالوقود بالنسبة للسيارة ، يحركها دون ان يحدد اتجاهها ، الذي يحدد اتجاهها هو السائق وبالطاقة السارية فيه أيضا ، فإن صدم جداراً أو انسانا، فالمسؤولية تقع على السائق وليس على الطاقة في الحافلة أو في السائق نفسه .
الأمر نفسه ينطبق على أي فعل مهما كان إن كان كلاما أو كان اختراعا أو كان فعلا مختلفا. وقد سبق وأن تحدثت عن الله القتيل مجازا أيضا .
- لكن لماذا عدم التحكم بعملية الخلق حتى الآن ،؟
- لقد سبق وأن أجبت على ذلك يا أخت اسيل عثمان . وأكرر :
أولا، لأن هذا ما توصلت إليه عملية الخلق حتى اليوم . وثانيا لأن الخالق في حاجة
إلى عقل المخلوق ليغني عقله ، وفي حاجة إلى عمله كعمل مساعد في عملية الخلق وبناء الحضارة ، ودون ذلك لا يمكن للعقل أن يتطور ولا لأي تقدم أن يحصل، وبالتالي لا يمكن لأي حضارة أن تقام . لقد سبق وأن قلنا أن الله لا يبني مدنا ، ولا يشق طرقا ، ولا يقيم جسورا وسدودا ، ولا يؤسس لحضارة راقية دون مخلوقه العظيم المتجلي فيه ، أي الإنسان .. المؤسف أن الانسان لا يعرف قدره حتى الآن ولا يدرك أن الألوهة تكمن فيه .. لذلك قلنا للإنسان " ابحث عن الله في قلبك وفي نفسك ، فإن لم تعثر عليه ، لن تعثر عليه على الاطلاق "
- شكرا أستاذ محمود وآسفة للإطالة .
- هلو نعم . مين معنا.
- أنا عليم عبد الحليم من حلب. أسـأل :
إذا ليس عند الله جهنم ، فمن سيحاسب المجرمين . وإذا ليس لديه جنة فبماذا سيكافأ المؤمنون وفاعلو الخير؟
- المجرمون تحاسبهم دولهم حسب القوانين الموضوعة . والحساب والعقاب مسألة ليست من شأن الله كمحبة وخير وعدل. ومع ذلك تطرقنا إلى شكل من الحياة الآخرة يمكن أن يكون عليه كل نوع من البشر بعد الموت .. فالأخيار بالمطلق أو شبه المطلق سيتحدون بطاقتهم مع طاقة الألوهة ، والأقل درجة يمكن أن تحل طاقتهم في كائنات ومواد انسانية .. والأقل من ذلك بكثير يمكن أن تحل طاقاتهم في كائنات أدنى مستوى. يمكن مراجعة الحلقة التي تحدثنا فيها عن ما بعد الموت .
ويمكن للدول أن تكافئ المبدعين في دنياهم . أما في آخرتهم ، فيكفيهم اتحاد طاقاتهم بالطاقة الإلهية ، فليس هناك تكريم أفضل من هذا ..
- هلو نعم .
- معكم سارة شمعون من بيت لحم .
- أهلا يا سارة ماذا لديك ؟
- إذا كانت المعتقدات هي اجتهاد العقل البشري لمعرفة الوجود والغاية منه، فهل اجتهادك أستاذ محمود هو كذلك ، أم أنه حقيقة مطلقة ؟
- الحقيقة المطلقة قد لا تكون موجودة ، وإذا كانت موجودة قد لا يتوصل إليها أحد ، حتى القائم بالخلق نفسه ، ولهذا كل ما أقوله لا يتعدى الاجتهاد إنما على ضوء مفاهيم العصر . لقد ولى عصر الأنبياء وعصر الحقائق المطلقة إلى غير رجعة ، ولن يعود .. العصر عصر العلم والمنطق وما يتماشى معهما.
- هلو نعم .
- حنا خوري من الناصرة. أستاذ شاهين ألا ترى أنك في بعض الأحيان تتجاوز العلم والمنطق وتطلق العنان لخيالك ؟
- ليتك تضرب لي مثلا يا حنا لأعرف كيف أجيبك . ومع ذلك يمكنني القول أن للخيال ضرورة أدبية أحيانا ، حسب ما تقتضيه الحال المعبر عنها .
- في أحد الفصول المنشورة على النت من روايتك " قصة الخلق " تتحدث عن لقائك مع الله في السماء وقد ظهر لك في جسد ربّة ، وتحدثتما معا وتناولتما خمرا قدم لكما بطريقة خرافية .. ألا ترى أنك بذلك خرجت عن الواقع وولجت عالم الأساطير الذي تنتقده .
- أجل يا عزيزي، أنا اكتب نصا أدبيا بالدرجة الأولى وليس بحثا علميا ، لذلك لا بد من اعطاء النص الأدبي حقه قدر الامكان ، حتى لا يظل غارقا في البحث العلمي والفكر الفلسفي.. لقد رأيت ضرورة لإدخال الله في النص ففعلت .
- هلو نعم .
- هلو . أنا حمد مثقال الزين من اربد. أستاذ هل تؤيد نظرية التطور بأن الانسان تطورعن نوعين من القردة هما الشمبانزي والغوريلا ؟
- نعم أؤيدها دون أن أجزم أن الانسان تطور عنهما فقط ، يمكن أن يكون الانسان قد تطورعن كائن أو كائنات أخرى ..
- هلو نعم .
- هلو . أنا محسن حسن . من الرياض. أسأل الأستاذ إن كان يرى أن آدم وحواء هما أول الخلق الانساني، وأن آدم كان نبياً ؟
- آدم وحواء شخصيتان أسطورتيان ليس لهما أي وجود تاريخي. أما عن النبوة في حال افتراض وجودهما، فكيف يكون آدم نبيا ولم يوجد قبله أحد يكون نبيا عليه؟ إلا إذا كان نبيا لنفسه وعلى اسرته فيما بعد ، لكننا لم نر من آدم ما يشير إلى أنه نبي!
- هلو نعم .
- أنا ماري ميخائيل من بغداد. استاذ هل يعقل أن يكون الله طاقة عاقلة؟
- إذا لا يعقل أن يكون الله طاقة عقلانية تتصف بالوعي والحكمة فماذا يمكن أن يكون يا ماري ؟
- يمكن أن يكون ليس كمثله شيء.
- الطاقة العقلانية ليس كمثلها شيء ، وهي ربما الوحيدة التي لا يشبهها شيء. وقد سبق وأن قلنا انها ليست الطاقات الأربع الناظمة للكون ، إنها طاقة مجهولة تقوم بعملية الخلق ، لم يتوصل العقل البشري إلى معرفتها حتى يومنا .
- يبدو أن الوقت أدركنا . وربما لم يعد هناك اتصالات .. شكرا أستاذ محمود لكل ما بذلته معنا في هذه الحوارات . وشكرا لكم مشاهدينا الأعزاء. وإلى اللقاء بكم في برامج قادمة .
****
هاتف محمود يشير إلى اتصال . يقول لأسيل:
ثمة اتصال يبدو أنه ضابط الأمن .. آمل أن يكون لديه أخبار سارة .
- مرحبا أستاذ محمود .
- هلا عزيزي .
- تابعت الحوارات معك بشغف .
- تشكر عزيزي .
- لك نبأ هام لدي .
- آمل ذلك يا عزيزي .
- بإمكانك أن تطمئن إلى أن مضايقتك وتهديدك وإرهابك قد ينعدم من اليوم فصاعدا.
- الله يبشرك بالخير. هل من جديد ؟
- بالتعاون المثمر بين مختلف القوى الجنائية والأمنية تم القاء القبض على أعضاء أكبر خلية ارهابية في البلد ، واعترف رئيسها أنهم وراء معظم ما جرى لك .
- ألف شكر عزيزي وتحياتي لكم ولجهودكم المشكورة ..
- العفو أستاذ محمود هذا واجبنا .. وأنت من خيرة أبناء ومثقفي البلد ، وأمنك وراحتك هي مسؤوليتنا ..
- اكرر شكري عزيزي . إلى اللقاء.
- إلى اللقاء .
*****

الروائي والفنان محمود شاهين في سطور
من مواليد السواحرة- القدس 1946
درس الصحافة في القاهرة ( في معاهد إعلامية وصحفية )
ودرس الأدب العالمي والعربي والأسطورة والعقائد البشرية والفلسفة دراسة خاصة .
روائي . قاص . فنان تشكيلي . باحث . ناقد .مفكر. ويكتب الشعر كهواية .
*أعمال أدبية :
1- نار البراءة – قصص – دار ابن رشد – 79 ( ترجم منها إلى الانكليزية : نار البراءة . ضمن مختارات من الأدب العربي. والنهر المقدس. ضمن مختارات من الأدب الفلسطيني . الترجمتان بإشراف الدكتورة سلمى الجيوسي.
2- الخطار – قصص – دار القدس – بيروت – 79 . ترجم منها قصة "العبد سعيد " إلى الانكليزية والويلزية والفرنسية والألمانية وغيرها.
3- الأرض الحرام – رواية – وزارة الثقافة – دمشق – 83 ( ترجمت إلى التركية عام 2002 )
4- الهجرة إلى الجحيم – رواية – المؤسسة الجامعة – بيروت – 84
5- الأرض المغتصبة – رواية – دار الشيخ – دمشق – 89
6- غوايات شيطانية – رواية ملحمية - نثر وشعر (ترجمت إلى الألمانية عام 99 ) ( نشرت بالعربية على شبكة الإنترنت) وصدرت عن دار نينوى في دمشق عام 2008)
7- موتى وقط لوسيان – قصص – وزارة الثقافة الفلسطينية – رام الله – 98
8- رسائل حب إلى ميلينا . دار البيروني -عمان . بدعم من وزارة الثقافة الأردنية
9- ألملك لقمان . ملحمة روائية .جزءان.نشرت على شبكة الإنترنت أولا ثم صدرت عن دار نينوى في دمشق 2009)
10- أبناء الشيطان – رواية قصيرة دار البيروني . عمان 2014
11- أديب في الجنة . ملحمة روائية فلسفية تكمل ملحمة الملك لقمان . مكتبة كل شيء . حيفا أب 2017
12- أيوب التوراتي وفاوست جوته . بحث مقارن . مكتبة كل شيء .حيفا . 2018
13- عديقي اليهودي. رواية . مكتبة كل شيئ . حيفا .2018
14- زمن الخراب . رواية . مكتبة كل شيئ . حيفا . 2019
* منشورات على النت:
15 - الخالق . الخلق . الغاية . دراسات في العقائد والأساطير الشرقية .وتقديم فهم معاصر لماهية وجوهر الخالق،والغاية من الخلق.تخلص إلى أن الخالق محبة مطلقة وطاقة سارية في الخلق ومتجلية فيه ، وأن الغاية من خلق البشرهي أن يكونوا خالقين ، لمساعدة الخالق في عملية الخلق ، فعملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق عند محمود شاهين ، وأن الغاية من الخلق هي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية التي لن تكتمل عملية الخلق إلا بها .
20- شاهينيات : مقولات وخواطر في الفكر الإنساني والمعرفة والخلق والخالق ،تكمل موضوع شاهين عن الخلق والخالق والغاية من الخلق : 1424مقولة ومقالة منشورة حتى 30 آذار 2020
( نشرت في خمسة أجزاء في دار كتابات جديدة للنشر الالكتروني )


21- ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة . ( بحث تاريخي نقدي في عشرة فصول يتطرق إلى تاريخية شخصية المسيح ونشأته ومن ثم رسالته ومن ثم إلى فلسفة الألوهة ومن ثم النظرفي شخصية المسيح من وجهة نظر صوفية )
22- قراءة نقدية للتوراة . عشرة أجزاء.
- دفاعا عن محمد ( رد على كتاب العفيف الأخضر 32 -" من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ ")
33- السلام على محمود درويش . ( أشعار عن ديوان محمود درويش ، لماذا تركت الحصان وحيدا )
- مقالات في الألم الإنساني والمعرفة منها :
34- تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة
35-التحالف بين يهوة والشيطان
36- فصول من روايات
37- قصص قصيرة وأشعار.
38- صلاة الفذاذة العظمى . رواية قصيرة
39- أم الشهداء. رواية قصيرة
* أبحاث أخرى نشرت في مجلات وعلى النت :
40- هيكل سليمان بين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي.
41- القدس تاريخيا بين منطق العقل ومنطق الجهل والخرافة .
42- القدس مدينة السماء في بعض النثر قديمه وحديثه.

*أعمال صحفية :

43- فلسطين أرض وحضارة – الدار الجماهرية – طرابلس – 85
44- حرب المواجهة في لبنان – الاعلام الموحد – دمشق – 83
*- دراسات ومقالات نقدية في صحف ومجلات شهرية وفصلية أهمها :
45- التحول من البداوة إلى النفط في مدن الملح
46- الحزن الدفين - دراسة في قصص الأديبة الفلسطينية سميرة عزام
47- مقالات في الرواية الفلسطينية
48- مقالات في الرواية العربية
49- مقالات في الرواية العالمية
50- مقالات في القصة الفلسطينية
مخطوطات لم تنشر :
51- الأرض المغتصبة – جبل المنطار, رواية
52-الأحزان المتعانقة – رواية
كما ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والروسية وغيرها, وبيعت بعض قصصه إلى السينما والتلفزيون .
- حولت قصته "نارة البراءة" إلى المسرح وعرضت في عمان عام 1991
*أقام محمود شاهين خلال سني حياته الفنية ما لا يقل عن ثلاثين معرضا شخصيا في العديد من مدن العالم منها باريس وبرلين وفينا والقاهرة ودمشق والناصرة والشارقة وعمان ووارسو ،عدا معرضه الدائم في دمشق لقرابة خمسة عشر عاما ، بحيث أصبح له قرابة ثمانية آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا في العالم . و أقام معرضه الشخصي االرابع في عمان منذ أن عاد إليها منذ تموز 2012 ، في منتدى الرواد الكبار خلال شهري تموز وآب 2016

*مر شاهين بأكثر من مدرسة فنية خلال مشواره الفني إلى أن انتهى إلى أساليبه التي تنتمي إليه وحده . وأصبحت تقنيته في الرسم الجداري مميزة جدا ، فهو يمارس الرسم والحفر والزخرفة في معظم أعماله المستوحاة من الأساطير والتراث القديم والشعبي الحديث. وتزخر بعض لوحاته الكبيرة بما لا يقل عن أربعة وعشرين تشكيلا مختلفا ‘ فيما يزخر بعضها بقرابة أربعين .

لجأ شاهين إلى الرسم الذي كان هوايته ،حين تعثر نشر بعض أعماله الروائية لجرأتها وصداميتها مع الواقع . وقد نشر بعض أعماله التي كانت ممنوعة فيما بعد ، ك" غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس "و ملحمة ( الملك لقمان ) عن دار نينوى في دمشق .

*مقتنيات عامة لبعض الأعمال الفنية :
المتحف الوطني بدمشق – لوحتان (70*100 )
وزارة الثقافة الفلسطينية
صحيفة الأخبار – مصر
سفارة فلسطين – دمشق
المركز الثقافي السوري - باريس
متحف القدس
المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة – عمان
******


الفهرس
1) إرهاب وحب ورأس مقطوع !
(2) عقل طاقوي !
(3) لوحة فنية تحاكي المطلق.
( 4) زيارة لأسرة أم أمل زوجة الضحية!
(5) الخلق الحيوي مسودة لوجود افتراضي!
(6) غرام يحاكي الأسطورة في كهف لوط !
(7) عقل الخالق مصدر عقول الكائنات !
(8) الرزق على الله !!
(9) لماذا كان للوجود غاية ؟
(10) فاسق وبغي وقوّاد!
(11) أحلى وأجمل وأعظم أخ !
(12) مذهب وحدة الوجود حسب الصوفية الحديثةّ!
(13) جريمة شرف!
(14) الألوهة المتجددة !
(15) عقد نكاح !!
(16) النّبلاء وحدهم سيتحدون بالألوهة في تجسدها الأرقى!
(17) حفل زفاف محمود أبو الجدايل ولمى !
(18) عن سبينوزا وابن عربي ووحدة الوجود مرة أخرى.
(19) أم بشير تتبتل إلى الله !
(20) محاولة اغواء أسيلية !!
(21) في حضرة ربّة الجمال.. ربّة الكون!
(22) عن الحب والموت والحياة مرة أخرى !"
(23) عشق ومحبة وحزن!
(24) سهرة في السماء !!
(25) حبيب الله!
(26) نهاية البداية !
(27) الروائي والفنان محمود شاهين في سطور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عبد الوهاب الدوكالي يحكي لصباح العربية عن قصة صداقته بالفنان


.. -مقابلة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ-.. بداية مشوار الفنان المغ




.. الفنان المغربي عبد الوهاب الدوكالي يتحدث عن الانتقادات التي


.. الفنان محمد خير الجراح ضيف صباح العربية




.. أفلام مهرجان سينما-فلسطين في باريس، تتناول قضايا الذاكرة وال