الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحجية أم فاضل … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 6 / 17
الادب والفن


فاضل .. من الآخر كما يقولون .. سكير ( أگشر ) لا يمنعه من تناول ربع العرق كل يوم شيئاً أو أحداً .. مهما عظمت مراتبه ، ومهما علا شأنه .. أما موعد تناوله ، والطريقة وشكل الجلسة ونوع النديم .. إن جازف احد وشارك فاضل سهرته وتحمل ثرثرته وقبح صوته ، وهو يغني الغناء الريفي الحزين .. كل هذه الطقوس يعتبرها فاضل من المقدسات التي لا يجوز القفز فوقها او التلاعب بها .. كتأجيلها مثلاً او تقديمها او تأخيرها أو إلغائها لا سمح الله ، وهذا لا يمكن ان يحدث الا في الظروف الاستثنائية فوق العادة والنادرة جداً جداً .. !
لا يخلو بيت في ذلك الزمان من متعاطٍ للعرق الا فيما ندر ، تجمع ربات البيوت الارباع الفارغة ، وتبيعها على أُناس يتجولون في الشوارع لشراءها ، وهو ما تفعله زوجة فاضل بين فترة وأخرى ! يعيش فاضل وزوجته بدون اطفال رغم مرور سنوات على زواجهم .. يلقبونه بأبو غايب وزوجته بأم غايب وتسكن أمه معهم ، وهي امرأة مسنة تعيش على هامش الحياة بانتظار الرحيل .. !
عند الانتهاء من العمل ، ولكي يلفظ عناء يوم عمل شاق يتناول فاضل على السريع ربع العرق الذي جهزه مسبقاً ، فيأخذ منه رشفة أو أثنين ليطفئ مؤقتاً اللظى المشتعل في داخله ، وليخرج شيئا من تعب اليوم قبل ان تبدء السهرة في المساء ، خاصة اذا كان على موعد مع صديق عزيز ، وعندها يتحول فاضل من عامل بسيط أمي بالكاد يفك الخط الى شاعر ، وأحياناً الى مطرب ، واذا تناول ( پيك ) بعد الربع سيتحول الى أديب وأديب كبير ، يظل يتكلم شروي غروي لا تمسك لكلامه بداية ولا نهاية .. الخلاصة كانت الحياة عبارة عن كوميديا سوداء ، مضحكة مبكية ، والناس عموماً يحملون قلوباً صافية نظيفة بين أضلاعهم !
اما الحجية أم فاضل بطلة قصتنا هذه ، فهي في شغل شاغل عن العالم المحيط بها بسبب معاناتها المزمنة التي لا تنتهي مع الامساك - مرض الفقراء - فهو عدوها اللدود الذي سيقضي عليها كما تقول وتولول كل يوم ، فكانت تسحب نفسها مضطرة بين فترة وأخرى الى المستوصف القريب .. في زمن كان فيه دواء واحد لعلاج كل الامراض مهما كانت مستعصية ، ولا يحتاج من الطبيب الى كشف او معاينة او أي جهد آخر .. !
على طول بمجرد ما ينظر اليك الطبيب من بعيد هذا ان نظر اليك ، وانت واقف قرب الباب ، وقبل ان يسألك عن علتك يكتب لك الدواء المعجزة ( المسهل ) .. فالمعدة كما يقولون هي بيت الداء ، والامساك هو المرض الاكثر شيوعاً بين الفقراء لسبب بسيط انهم لا يعرفون للفاكهة ، وغيرها من ملينات الامعاء الغالية الثمن طريقاً .. ومن أين لهم المساكين بالفاكهة ، وهم بالكاد يوفرون ضروريات المائدة الأساسية من تمن ومرق وخبز .. المهم .. !
كانت العادة السائدة آنذاك ان يطلب الصيدلي الحكومي من المريض دون ان يكلف نفسه قراءة الوصفة لانه يعرفها مسبقاً قنينة ربع عرق فارغة تُباع عند مدخل المستوصف بعشرة فلوس ، يملؤها له بالدواء الساحر ( المسهل ) قاهر الامساك ومسلك الامعاء وسباكها ، وبمجرد ما يأخذ الواحد منه رشفة أو أثنين ستفتح أمعائه أبوابها على مصراعيها ، وتنزل جميع القاذورات فيشعر بالراحة المؤقتة !
عادت الحجية ام فاضل وهي تحمل ( ربع المسهل ) .. ثم تلفه في كيس وتضعه فوق الدولاب ، وتذهب الى النوم دون ان تشعر انها قد وضعته بجنب ( ربع العرق ) المخصص لسهرة فاضل المسائية ، وبعد سويعات قليلة تستيقظ المسكينة على ثقل لا يحتمل في امعائها يكاد يشل كل اطرافها ، وصداع شديد لا يطاق يكاد يحطم جمجمتها ، تمد يدها الى الدواء وبدلاً من ان تقع يدها على ربع المسهل تقع لسوء الحظ على ربع العرق ! وتبدء عندها الحكاية :
تفتح الحجية القنينة ، وتتناول منها رشفة ، ثم تتبعها بأخرى .. يأخذها الطمع فثالثة ورابعة ، حتى تجهز على كامل القنينة ، تتجشأ .. تشعر بالدوار لكنه من ذلك النوع اللذيذ الذي لم تألفه سابقاً .. تبدء عيونها تزغلل .. لا تكاد ترى الأشياء بوضوح ، ويثقل لسانها وتبطئ حركتة ، ثم يتسلل خدر منعش كزحف أسراب من النمل الى كل جسدها حتى باتت غير قادرة على التحكم بأطرافها .. ويستمر مفعول العرق بالتصاعد تدريجياً ، ويفعل فعلته بها كما يفعلها بابنها كل يوم ، وكما يفعلها بأي متعاطٍ آخر .. حتى يتمكن السكر منها تماماً !
وبشكل مفاجئ ، وبدون سابق انذار تجهش الحجية بالبكاء ، فقد تذكرت المرحوم الحجي أبو فاضل ، الذي لم يخطر على بالها يوماً منذ وفاته ، ويا للصدفة فقد تذكرت أيضاً بيت من الشعر الشعبي الذي كان يتلوه على مسامعها عندما كان يغازلها ، ويتقرب اليها طامعاً في الحصول منها على ما يطفئ هيجان ذلك الذي بين فخذيه .. وتبدء بتلاوته بكلمات غير مفهومة ، وهي تبكي بدموع وتنوح من الشجن والتأثر ، ثم تأخذ بغناء أبيات من طور المحمداوي الشجي الحزين بصوتها الخشن ولسانها الملتوي ، ودموعها تسبق لسانها .. تقطع غنائها بين حين وآخر .. لتتجشأ ثانية وثالثة .. يتحول السكر بعد ذلك الى قوة دافعة ، فيدب فيها نشاط مفاجئ .. تنهض وتخرج تتقاذفها جدران الغرفة .. !
تقابلها ام غايب زوجة فاضل مصدومة ، والدهشة تعقد لسانها :
— حجية .. أنتِ سكرانة ؟
فقد الفت أم غايب هذه الاعراض ، وكثيراً ما كانت تراها بادية على زوجها عندما ينتهي من سهرته .. لم تتلقى جواباً من الحجية ، فتبدء بضرب الخدود وهي تولول :
— ( صخام .. يمى يمى )
وتضع كلتا يديها على رأسها وتربت عليه بحنية ، وكأنها تلطم .. تحاول أن تسيطر عليها لكن الحجية ترفض بعناد طفولي ، وهي تترنح وتغني تارة وترقص تارة أخرى وال ( شهيقة ) تلازمها .. تستغل فرصة ذهاب ام غايب الى المطبخ لتكمل الطعام .. فتسوقها اقدامها الى الشارع لتجد الاطفال ، وهم يلعبون كرة القدم .. تتدافع معهم وهي تترنح .. لا تستطيع ان تكمل خطوتين مستقيمتين .. تكاد سيقانها النحيلة أن تلتف حول بعضها البعض .. تتملك الأولاد الدهشة والمفاجئة ، فيتوقفون عن اللعب .. تصرخ بهم بلسان ملتوي ان يدفعوا بالكرة باتجاهها ، وهي تدور حول نفسها ، ولا تتوقف عن اطلاق الشتائم ، والسباب .. لا يصدق الاولاد ما يرون ، ولا ما يسمعون .. ثم تتقدم نحو اكبرهم واجملهم شكلاً ، وتهمس في اذنه كلمات ، وهي تتغامز وتتلمض ، يصرخ الطفل مصدوماً :
— حجية .. ما هذا الكلام ؟
ماذا قالت له الحجية ام فاضل التي لا تبعد عن القبر سوى سنتمترات معدودة .. ؟ لا احد يعرف !
تخرج أم غايب كالمجنونة .. تحملها كما تحمل طفلاً صغيراً .. بدا وجهها ذابلا .. وعينيها تائهتين تكاد اجفانهما ان يتلاقيا من فرط السكر والنعاس ، وتُسرع بها الى الفراش ، تدثرها وتنتظر فاضل على أحر من الجمر !
وعندما يعود فاضل من العمل تستقبله زوجته من الباب وهي تلطم وتولول :
— لن تصدق ما سأقوله لك .. بلوة .. مصيبة .. فضيحة .. يبوووي ! أمك مدام خاشوگة على آخر الزمن .. سكرانة !
ترتسم بعض من ملامح الغيظ والضيق والدهشة على وجه فاضل ، فيصفعها قبل أن تُكمل .. ثم يقول بنفاذ صبر مستفهماً عن الموضوع الغريب …
— اللهم طولك يا روح .. بهدوء يا مرة وحدة وحدة خليني أفهم …
تحاول زوجته ان تتكلم …
— طرگاعة .. ماذا سيقول الناس ..
يوقفها باشارة من يده .. تصمت رغماً عنها !
ثم تعود بعد ان هدءت الامور ، وتسرد له بالتفصيل الممل كل ماجرى ، لا يستوقفه شئ في كل الحدوثة العجيبة التي ذكرتها زوجته الا شئ واحد ، يجب ان يعود حالاً لتعويض ربع العرق الذي شربته أمه ، وفعلا وقبل ان يطمئن على الحجية يغادر البيت لشراء قنينة أخرى …
وعند خروجه يستقبله الاولاد في الشارع ، ويقدمون له نشرة مفصلة إضافية ، عما فعلته الحجية ذلك اليوم ، ويزيدون على ما قالته زوجته الكثير .. ثم يتقدم ذلك الفتى الذي همست في أذنه الحجية الكلمات إياها ، ويسرها في أذن فاضل .. يلتفت اليه فاضل ، والشرر يتطاير من عينيه ، ويصفعه فوراً صفعة قوية .. مستنكراً ، وغير مصدق .. يعوي الفتى ويصرخ ، وقد تحجرت دموعه في مقلتيه ، ويهتف باكياً :
— والله العظيم .. هذا هو ما قالته لي الحجية .. ما ذنبي أنا !
ماذا قالت الحجية للفتى ، يا ترى … ؟
الله أعلم … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: تكريمي من الرئيس السيسي عن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: نفسي ألعب دور فتاة




.. كل يوم - دوري في جمال الحريم تعب أعصابي .. والمخرجة قعدتلي ع


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بنتي اتعرض عليها ب




.. كل يوم-دينا فؤاد لخالد أبو بكر: أنا ست مصرية عندي بنت-ومش تح