الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن جيمس بوند وشاه إيران ومنزل بائعات الهوى!

طارق حربي

2021 / 6 / 18
الادب والفن


يوميات مضيق الرمال
(22)
عن جيمس بوند وشاه إيران ومنزل بائعات الهوى!
تشرق الشمس وتغرب على المدينة السياحية الصغيرة المحاطة بالتلال والغابات والمراعي، والمطلة على البحر الزاخر بسمك السلمون والقد والماكريل وأصناف أخرى لذيذة.
وعلى القاعة الرياضية الكبيرة الواقعة في غابة في ضواحي المدينة، المخصصة للتطعيم بلقاح فايزر ضد كورونا، وما زلتُ أشعر بألم خفيف في زندي الأيسر رغم مرور ثلاثة أيام على التطعيم.
وعلى البواخر الراسية في المرفأ والمضيق المؤلفة من ثمانية طوابق، وما عجبتُ إلّا من فيروس لا يُرى بالعين المجردة كيف عَطَّلَ الهياكل الجبارة عن العمل؟! ولم تبحر منذ حوالي عام ونصف إلى السويد؟
بخراطيم المياه المتدفقة بقوة يصعد عمال التنظيف والصيانة بين وقت وآخر إلى سطحها ويقومون بتنظيفها. وكلما أُطلقَ صوتُ بوقِها هزَّ المدينة الهادئة هزّأً، فألتفتُ إلى جهة المرفأ، أينما كنتُ في الشقَّة أو في الشارع أو في المقهى المطلِّ على الساحل، وأقول في نفسي
- لعلها إشارة على عودة الحياة إلى طبيعتها بعد تطعيم أكثر من نصف سكان النرويج باللقاح، وتخفيف القيود لمنع انتشار كوفيد – 19 ومتحوراته الخطيرة، وربما نشهد قريباً عودة البواخر إلى الإبحار؟!
وإذا كانت البواخر الضخمة لا تبحر، فإن العشرات من الزوارق المحيطة بها يمنة ويسرة، المملوكة للبعض من السكّان، يبحرون بها في المضيق لمسافة بضعة كيلومترات لغرض النزهة، ثم العودة بها قبل الغروب إلى مراسيها. أو يجلسون مع أصدقائهم على سطحها وهي في مراسيها لاحتساء البيرة احتفاءً بشروق الشمس. زُيِّنَ البعضُ منها بوسائد ملونة وكراسي وَثُبِّتَ في حيازيمها أعلام نرويجية! ويُعدُّ ذلك من بين التقاليد الوطنية لأن القوم يقدرون علم بلادهم أعظم تقدير، ولهم الحق في ذلك لأن النرويج لم تحكم بينهم إلّا بالعدل والمساواة. احترمتْ مؤسساتها إنسانيتهم ووزعتْ ثرواتهم الطبيعية بالعدل فيما بينهم، فلماذا لا يحبون بلادهم ورايتها البيضاء وكل شيء فيها؟! وإذا كانت الأعلام الكبيرة ترفرف في الشرفات في المناسبات الوطنية، فإن الصغيرة منها توضع أحياناً على طاولات الطعام في المطاعم. إنه تقليد رائع فطن إليه عمال المطاعم في دول السياحة، ولأجل استحصال البخشيش والنرويجيون كرماء في منحه، أخذوا يضعون العلم على طاولاتهم قبل تقديم الطعام لهم!
أصبحتْ ملامح المنازل المطلية بالألوان الأبيض والأسود والقهوائي، على سفوح التلال المشجرة الخضراء وقممها منذ شهر نيسان الماضي، أكثر وضوحاً وجمالاً، وبدتْ تحت أشعة الشمس مثل لوحات مرسومة بدقة مقاسات لوحات عصر النهضة. كما بدأ موسم فتح النوافذ على مصاريعها لتهوية المساكن، ووضع اللحاف فيها.
قالت لي عشيقتي الطبيبة في السنة الأولى على إقامتي في النرويج
- يجب غسل الشراشف مرة كل أسبوعين على أكثر تقدير. ووضع اللحاف في النافذة للتهوية بين وقت وآخر.
اتَّبعْتُ هذا النظام منذ سبعة وعشرين عاماً وما زلتُ حتى اليوم.
منذ شهر نيسان أيضاً بدأ العمال القادمون من دول البلطيق للعمل الصيفي في النرويج بالصعود فوق سقوف المنازل لإكسائها بقرميد جديد، أو لتنظيف مداخنها. إنهم لا يجيدون اللغة النرويجية وهي صعبة لكنهم يبتسمون من فوق السقوف المائلة للمارَّة وكثيراً ما يدخنون. بعد انتهاء العمل وفي أيام العطل يتجمع البعض منهم على الساحل ولا يتقيدون بارتداء الكمّامة، التي أوصتْ بها السلطات الصحية منذ بدء الجائحة قبل عام ونصف! ولا يحتاج المرء إلى دليل على أنهم غرباء! فطرز ثيابهم قديمة كالتي شاهدتها في العديد من دول أوربا الشرقية. يجلسون على المقاعد قبالة المسبح الخشبي الجديد، وكم أشعر بالأسف لأني لم أستمتع بالسباحة في هذا العام بعد إصابتي بالتهاب في أذني! أو يفترشون العشب الناعم ويحتسون البيرة ويدخنون! وما يزال الصيادون الصامتون الصبورون من أجانب ونرويجيين يرابطون على رصيف المرفأ، ويرمون بصنّاراتهم في ظل الباخرة الكثيف بينها وبين الرصيف عند انتصاف النهار وينتظرون، منهم من يصطحبون معهم أطفالهم وعشيقاتهم. يا له من شعور رائع أن تصطاد سمكة فيما حبيبتك تجلس بجانبك وتراقب الخيط والصنّارة، وتشجعك على صيد المزيد من السمك بعدما ضمنتْ وجبة غداء لذيذة بيدِ رجُلِها!
لا شيء يجعل السكان أكثر انفتاحاً ويُكثر لهوهم ومرحهم ويُشيعُ ابتسامهم مثل شروق الشمس! لكن حظ النرويج منها قليل فالصيف ليس قصيراً جداً بل فوق الركبتين! وتكفيني في الحياة الحلوة القصيرة من حِسان النرويج ابتسامة حتى لو كانت بريئة، أراهن بثلاث زجاجات من البيرة المحلية اللذيذة نوع (رنكنس) أن أكثر من تسعة أعشار الإبتسامات في النرويج بريئة!
وأخذ الأطفال بوجوههم المبتشرة بِمَقْدَمِ الصيف الذي يُحيي العظام وهي رميم، الرافلون بأجمل الثياب وطرزها العالمية، يُحيُّون المارّة في الشارع ويبتسمون لهم بلا سبب! ولا شكَّ أن الشمس التي تبعد عن الأرض بحوالي 150 مليون كم وتجعل الحياة ممكنة فيها أعظم الأسباب! نُصبتْ خيام الفايكنغ الصغيرة في حدائق الفلل والبيوت الواسعة، لعبَ فيها الأطفال المجهزون بأحدث العاب الطفولة، من دراجات هوائية وسيارات ملونة تعمل بالبطاريات حُرمتُ منها للأسف في طفولتي! وملئتْ مسابح صغيرة مصنوعة من النايلون بالمياه حتى فاضتْ من حوافِّها على العشب، ونُصبتْ أجهزة القفز البلاستيكية الدائرية المحاطة بالشِباك للحيلولة دون سقوط الأطفال على العشب. ومن كانتْ في حديقته نافورة وتمثال فينوسي نظفهما من ذرق الغربان والنوارس والعصافير فتدفق ماء النافورة بلا حساب. ومن كان يربّي خيولاً أخرجها إلى المراعي، وبدتِ المنازلُ الريفيةُ على بساط العشب الممتد على مئات الهكتارات أشبه ما تكون بألعاب اللوغو الملونة، شاهدتُ ذلك من نافذة حافلة نقل الركّاب المتجهة إلى مدينة تونسبيرغ في الأسبوع الماضي للقاء صديق مقيم فيها.
وأُخرجتِ الكلابُ بأنواعها إلى الساحات والحدائق وساحل البحر، كلاب نظيفة تغسل بالشامبو ويقدم لها أجود أصناف الطعام ولها أطباء يسهرون على راحتها وحلاقون يقصون شعورها، بعضها مُزَيَّنٌ بشرائط ملونة في شعر رأسه أصحابها في الغالب من النساء المسنّات، شاهدتُ من تضع كلبها الصغير في سلة صغيرة مثبتة على دراجاتهنَّ الهوائية وهنَّ يَقِدنَها في شوارع المدينة النظيفة إلّا من الكمّامات! وقد يلتقي كلب وكلبة مربوطان بوثاقين في شارع أو زقاق فينبحان قليلاً، ثم يشتمّان بعضهما البعض وقد يمهد ذلك إلى تعارف أصحابهما!
أنظر إلى تأثير الحيوان على الإنسان عزيزي القارىء، فالمدينة التي رفعتْ مداخيل صيد الحيتان في السابق من مستواها الاقتصادي، وأصبحتْ هي وبلداتها الصغيرة حولها من أغنى المقاطعات، استطاعت الكلاب اليوم مدَّ جسور التعارف بين الكثير من سكانها!
ظهر يوم أمس سألني الدكتور تور ونحن نتشمس في وسط المدينة التي يُسمعُ فيها صياح الأطفال في ملعبهم
- كيف أحوالك وبماذا أنت مشغول في هذه الأيام؟
- أنا بخير شكرا. مشغول بكتابة تأملات عن بواكير انتباهة الإنسان للطبيعة في القرون 4 و 6 ق.م كما حددها الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز، وبدء التفلسلف. وأقرأ كثيراً في علم الفلك وأسرار الكون، وأسباب وصول الإنسان إلى المريخ!
- أتمنى لو أني أجيد اللغة العربية لأقرأ ما تكتب؟
- سأعمل على ترجمة ما ذكرته إلى اللغة النرويجية بعد الإنتهاء من كتابته.
وبينما نحن نتحدث إذ أقبلَ من جهة المطعم البلقاني ثلاث من صديقات الدكتور وجلسنَ بجانبنا يتشمَّسنَ
قالت مود
- الطقس رائع هذا اليوم.
قلتُ
- أجل، صيف يعقبه شتاء والزمن يمرُّ!
قالتْ صديقتها
- الطقس الرائع يبعث على الاسترخاء وسرد الذكريات في مدينتنا الصغيرة.
قالت مود
- نعم مدينة صغيرة لكنها تجذب المشاهير؟ في العام 1961 مثلاً زارها شاه إيران محمد رضا بهلوي وزوجته فرح ديبا، وزارا المستشفى الكبير الذي لم يعد له من أثر في مدينتنا عدا الطبيب الخفر، ويجب على المرضى زيارة المستشفى الكبير في مدينة تونسبيرغ التي تبعد عشرين دقيقة بالقطار السريع!
قلتُ
- نعم قرأتُ ذلك وشاهدتُ في الصور المحفوظة في أرشيف المدينة، أن الشاه وزوجته استمتعا خلال تلك الزيارة في رحلة تزحلق على الجليد.
اتكأتْ مود على مسند المقعد الحديدي أخضر اللون، ثم وضعتْ نظارتها الشمسية سوداء اللون على عينيها اتقاء أشعة الشمس وقالت
- في عام 1965 زار المدينة النجم السينمائي جيمس بوند (الممثل الإنكليزي روجر مور) . كان شاباً وسيماً وقَّع لنا أنا وصديقاتي على الأوتوغرافات.
قال تور
- وزارها أيضاً وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في العام 1976 بعد زيارته إلى أوسلو، وكان محاطاً بالكثير من رجال الجيش والشرطة والخدمة السرية بطبيعة الحال.
قلتُ
- نعم وكانت الحرب الفيتنامية في أوجها وهو مهندسها! في أوسلو وبعد لقائه بالملك أولاف في القصر الملكي لأمر يتعلق بقمة الناتو، وخروجه مع سفير الناتو في النرويج حينذاك وجميع مساعديه وعملاء الخدمة السرية، وُوجِهَ كيسنجر بتظاهرة قادها اليساريون بزعامة (Henning Dahl) الذي تنكر بزي محارب قديم عَصَّبَ رأسه وعينه بضماد مُدَمّى وسار إلى جانب كيسنجر بعكازتين، معرباً عن رفضه للحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضد الشعب الفيتنامي!
قال تور لصديقاته
- أنا أكبر منكنَّ سنّاً وأتذكر هنا.
وأشار بيده إلى المبنى الذي يضم مكتب عقار ومتجر بيع لوازم الكلاب والقطط ومطعم (SUBWAY) وقال
- كان هنا بيت لسكن بائعات الهوى تم هدمه في خمسينيات القرن العشرين!
قلت له
- لعل الفقر والجهل هما اللذان دفعا بالنرويجيات إلى بيع الجسد والروح!
على أي حال تغير وجه النرويج منذ اكتشاف النفط وتصنيعة في سبعينيات القرن الماضي، وساعد المهندس العراقي فاروق القاسم على وضع خطوط الإنتاج الأولى في النرويج وكوفىء بوسام الملك أولاف.
غير بعيد عنا ما يزال الأطفال النرويجيون والسوريون والعراقيون يلعبون في ملعبهم. لا شيء في زمن الجائحة يبعث على الأمل في الحياة مثل صياحهم ومرحهم. اليوم يلعبون معاً وغداً عندما يكبرون سوف يحكون لأصدقائهم النرويجيين وفي مدارسهم وجامعاتهم، ما عاشوه مع عوائلهم من قصص الفقر والحروب في ظل أنظمة وحشية في البلدان العربية. وهذا هو بشار الأسد ذو الوجه الذي بانتْ عليه علامات الهرم وفضحته الجراحة التجميلية، أعلن في شهر مايو الماضي عن فوزه في الإنتخابات وبقائه رئيساً لسوريا للمرة الرابعة! مدعياً أنه فاز بنسبة 99% كما ادّعى الدكتاتور صدام حسين نفس النسبة سابقاً وحكم العراق 35 عاما بالنار والحديد!
ومن جاء من بعده لحكم العراق مجرمون وفاسدون بلا حدود أيضا! _______________________________
* فاروق القاسم عالم جيولوجي نفطي عراقي (مواليد البصرة في 8 أيلول عام 1934) كان محورياً في تطوير صناعة النفط النرويجية من عام 1972 إلى عام 1990 عمل مديراً للموارد في مديرية البترول النرويجية.
حصد العديد من الجوائز كان آخرها تقليده من قبل الملك النرويجي هارالد بجائزة فارس من الدرجة الأولى وسام القديس أولاف لجهوده في الأنشطة النفطية النرويجية.
Sandefjord
18/6/2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل