الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(البهلوان) لأحمد خلف سردية تغتال السأم

داود السلمان

2021 / 6 / 18
الادب والفن


منذ الوهلة الاولى لطرق باب (البهلوان) تمهيدًا لدخول عوالم هذه السردية، كي تستطلع لما فيها وترى بأم عينك: الكنوز والمجوهرات والأثاث، وما تحتويه من معالم أخرى (إن تعتقد أن ثمة معالم)؛ ستجد أمامك بحور من المفردات الفياضة، والجمل المنسقة والوصف المتزن، ما يشدك الى الغور في أعماق ما انت بصدده لتصل الى ما يثير حفيظتك أو يلبي غرورك المتمثل بالاطلاع والمعرفة. وبالتالي ما يريد أن يقوله الكاتب أحمد خلف، وما يروم البوح به من خلجات ومعانٍ. هكذا رأيت بأم عيني وانا اتجوّل في عوالم هذه المدونة السرديّة. الامر الذي اغراني بمواصلة طريقي حتى الوصول الى تلك النهاية، لأعلن، بعد ذلك، عن رحلة ممتعة رسمها الكاتب بريشة ابداعه.
ما استشفيت في الرواية، إن الكاتب انتقد مجموعة من القضايا والاجتماعية والاخلاقية السياسية، وكذلك من قيم قد تعد دخيلة على مجتمعنا، ونعاني منها في الوقت الراهن، وخصوصًا في العقدين الاخيرين من عمر الزمن. القضايا والقيم هذه شكلت منعطف سلبي ادى، أخيرًا، الى زعزعة ثقة المجتمع العراقي بنفسه، وتولدت حالة نفور وانعزال نفسي واجتماعي معًا.
ويمكن لنا أن نستعرض هذه القضايا التي نوهنا عليها، وعلى شكل نقاط، لنرى كيف طرحها الروائي أحمد خلف، ثم نقدها ووضع الحلول المناسبة لها.
1: البنوة. وهي متمثلة بشخصية طه جواد، وهو مقاول كبير، وشخصية طموحة وله هيبة ووقار، وحلمه أن يكون له ابنًا يخلفه بعد أن يموت ويترك ميراثا لا بأس به. وقد تزوّج من فتاة جميلة، تعرّف عليها إذ سرقت قلبه بجمالها ووداعتها، لكنه اكتشف بالتالي إنها لا تلد، إذ كانت عاقرًا. الامر الذي دعاه الى أن يتزوّج عليها، فتصبح لها ضرة، والمرأة مهما يكن الامر لا يمكن أن تقبل بذلك، وهذه الغيرة موجودة عند النساء قاطبة، وخصوصًا لدى المرأة العربية منها. لكنها بالتالي قبلت بالأمر الواقع، بعد الحاح من زوجها. وفعلا تزوج عليها زوجها طه جواد، فاسكن الزوجة الجديدة بعيدًا عنها، في مسكن نائي مناسب. وظلت زوجة طه الاول (أم غايب) تتحسر وتتألم، وتتمنى من كل قلبها يكون لها مولودًا من رحمها، تستأنس به في وحدتها ويكون لها منزلة سامية في قلب زوجها. لكن الامر يعود الى الله فهو الذي خلق ارحامًا تلد ابناء، وهو الذي خلق ارحامًا جافة عقيمة، كشجرة خاوية لا يصلها الماء، ولا تعطف عليها السماء بمزنة. وظل الامل يحدو بـ (أم غايب) في حصولها على ولد حتى لو كان عن طريق الحرام!، أي من بعل غير زوجها، فالامر غير هام عندها البتة، المهم أن تحمل ثم تلد، فتضع ذلك المولود في حجرها ليكون انسها، وذخرها عند عوائد الزمن.
2: قضية الجنس. والجنس السرد الروائي يعتبره كثير من الروائيين وحتى من بعض النقاد، أمر ضروري في الرواية، حتى إن يوسف زيدان، في روايته "عزازيل" وهي رواية تتحدث عن حياة راهب وكيف أن الشيطان اغراه في يوم من الايام وخيل اليه ثمة فتاة، فنام معها هذا الراهب حتى الصباح فحقق ما يروم، ونال منها وطره، وكانت هذه المعالجة قد عالجها القاص بفذلكة وخيال خصب وابداع ينم عن مهارة وخبرة في المضمار الروائي.
وأما كولن ويلسن فقد بالغ في طرح مسألة الجنس، في روايته "رجل بلا ظل" بل الصحيح إن الرواية هذه هي موغلة في الجنس، حيث تعمد الكاتب أن يعالج المسألة بدقة وكثافة، وأن يكون موضوع الرواية هو الجنس نفسه. يقول كولن ويلسن "كان أحد الازواج الذين تزوجوا حديثا، حذلا للغاية من لمس امرأته، فاضطرت الى أن تقود يده الى المنطقة الجنسية، ثم قالت: افعل شيئا قذرًا الآن. فتبرز على الفور". (رجل بلا ظل: ص 40).
والروائي أحمد خلف عالج مسألة الجنس، في طريقة ذكية ومشوقة بعض الشيء، فهو لم يقحم الموضوع اقحامًا لغرض تسويق نتاجه هذا، بل جاء الموضوع في حالة انسيابية، اكمالاً للسرد القصصي، الذي هو بصدده. فقد كان "مراد" سائق (طه جواد) الخاص، يتحاين الفرصة ويقتنص الاوقات، للانفراد بـ (أم غايب) ولأخذ ما يريده منها، لاسيما وأنه لاحظ بعض الاهمال غير المقصود من زوجها طه. والمرأة بطبيعة الحال تروم من زوجها أن يكفيها بالفراش، وطه جواد تفرغ فراغا كاد أن يكون تامًا لزوجته الثانية بلقيس، خصوصًا وإنها صغيرة وجميلة، ويحبها حبًا جمًا ويأمن منها أن تلد له الوليد الذي حرمته منه (أم غايب) المرأة العاقر غير الولود. فما لبث مراد الا أن يصيد (أم غايب) بشباكه ويروح يتردد عليها، فينال منها وطره، المرّة تلو الاخرى، و(أم غايب) من جانبها لم تعتبر ذلك خيانة لزوجها، ابدًا، بل هدفها السامي هو أن تحصل على الوليد المؤمل عن أي طريق كان. وبعد أن ايأست من مراد وأنه لم يحقق لها مرامها، خاصمته وطردته شر طردة، وطلبت منه مرة اخرى أن لا يطرق بابها ولا يعود لها البتة، وبعكسه سوف تشكوه الى زوجها، لينال منه بل وقد يقتله. وفي اول لقاء مراد بأم غايب، وفي سرد طويل للكاتب نجتز منه... "امتدت يده التي زال منها الارتباك الى اسفل بطنها واقترب بدوره وغدا لصق الجسد الذي كان يخشى مجرد التفكير بملامسته، الآن هذا هو جسدها يستجب لاندفاعاته الجنونية في ايلاج مشعله في ارضها الناشئة" (البهلوان: ص 92).
وظل الامل يحدو بـ (أم غايب) في الحصول على ولد يأنس وحشتها ويسد فراغ حياتها.
وفي يوم من الايام سمعت صوتًا لفتى سلب لبها ذلك الصوت لأول سماعها، والصوت لبائع خضار متجوّل لا يتجاوز عمره الواحد والعشرون عامًا، فاقتربت منه وعرفت منه إن اسمه (خضر)، فتهللت طربًا وشوقا، فتحايلت عليه بطريقة أو بأخرى فصادته في شباكها، وقضت معه ساعات طويلة، فعاشرها خضر كما يعاشر الزوج زوجته، وكلها أمل بإنها ستحمل منه، وستنحل كل مشكلاتها في الحياة. وفجأة اختفى خضر من حياتها، وعلمت فيما بعد أنه قد قتل في ظروف غامضة.
3: الفساد. ومن الجوانب الاخرى، التي عالجها الروائي أحمد خلف في (البهلوان) هي قضية الفساد المالي والاداري، الذي اصبح مستشريًا في البلاد، بعد مجيء الديمقراطية المزعومة، التي صدرتها لنا امريكا فور الاحتلال البغيض للعراق، وعلى اعتبار إن (طه جواد) مقاول عراقي كبير وله خصوم وحساد، فكان محط انظار الفاسدين والمنتفعين والمتسلقين والذين يتصيدون بالماء العكر، وكلها على حساب البلد والمواطن، فتحدث هناك صفقات مشبوهة واخرى يطالها الفساد. فيصور لنا الكاتب شخصية (السيد)، والسيد هذا هو عنوان لبعض الفاسدين، المتلبسين لباس الدين من الذين يحصلون على صفقات ومن ثم يعطون تلك الصفقات الى مقاولين، فيأخذون حصصهم بدون وجع رأس( وهي عمليات ابتزاز لا غير). وكان لقب هذا الرجل الفاسد والذي ادعى نفسه سيدًا، لقب أبي الخير، وبالتالي فأن طه جواد لم يحصل منه حسوة من الخير، بل كان رجل نصاب بمعنى الكلمة، وتقف ورائه جهات اكثر فسادًا منه، فكان يحلب جيوب طه جواد حتى اقعده على اريكة الافلاس.
وكان احمد خلف قد عالج هذه القضية بتقنية عالية، وبانسيابية لا تكاد أن تشعرك بملل ولا يسيطر عليك السأم، وأنت تتجول في هذه المدونة، التي هي تاريخ حي نابض وشاهد لما مرّ به البلد من مآس ومن آلام مبرحة هزت كيانه في حقبة مريرة من الزمن، وستكون شاهدًا للأجيال القادمة.
4: قضية الدين. وللدين ثمة حصة متواضعة في "البهلوان"؛ وقضية الدين بطبيعتها تتناقض مع المسائل الاخرى والافكار المتعددة، والاطر العقلية، ومنها على سبيل المثال قضية الشيوعية التي ينفر عند سماعها كثير من المتدينين، فهي عند اغلبهم (كفر والحاد). ويرسم لنا الروائي هذه الحوارية الطويلة، التي جرت بين "سالم علوان" الذي سُجن ثلاثة ايام بتهمة السرقة زورًا وبهتانًا، وبين طه جواد الذي هو صديق سالم قديمًا، وكان سالم يحدثه عن الشرطي الذي استجوبه داخل السجن.
"شيوعي وتعيش من كدي وعملي الذي تكرهه، لابد من تقديم مساعد العائلة وأنا أريد أن اتزوج، سيصبح عمري هذا العام سبعة وثلاثون عامًا، وهذه الافكار لا تنسجم مع مجتمعنا وأنا اكره الشيوعية لأنها ضد الدين، وكل شيء ضد الدين أنا اكرهه هل تفهم؟.
-لكنني لست شيوعيًا، والشيوعية ليست ضد الدين.
-كيف عرفت أن الشيوعية ضد الدين، ما لم تكن شيوعيًا يا كافر؟.
-أنا لا اخاف منك، حتى لا اكذب عليك، الشيوعية يقول اصحابها الكبار ليست لدينا الوقت لمعاداة الله.
-أنت تكذب هذا كلامك انت، اصحابها اغلبهم يعرفون أنهم ملحدون.
-هذا في زمن ولّى، الآن الشيوعية تعني عمل الخير لكل الناس.
ساعتها انفجر الشرطي بضحكة مجلجلة، ارغمته ان يصرخ بوجهي:
-يا للسخرية، كل هذا الدفاع عن الشيوعية، وتقول لي إنك لست منهم؟. (البهلوان: ص 198).
وعلى أية حال، الرواية سردية تمتاز بإسلوب جذاب وممتع، سرد غير ممل فيه سياحية فكرية ادبية، تمتاز باللغة السهلة البسيطة، غير المعقدة، ليست فيها متاهات، او دخول في ازقة مظلمة ن الحيرة والضياع، كما فعل ماركيز وغيره من الروائيين. فكما نريد أن يستمتع القارئ بهذه السياحة الفكرية، لا نريد أن نوغل اكثر في بيانها وتبيانها، حتى نترك للقارئ المتعة في هذه السياحة. وعليه نحيله الى تلك المدونة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو