الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاهد

ملهم جديد

2021 / 6 / 19
الادب والفن


"الشاهد"

" في القاعة الواسعة للمحكمة الموروثة عن المرحلة الإستعمارية ، لم يكن يُسمع سوى صوت المروحة الوحيدة التي تدور ببطء فوق صلعة القاضي الذي بدا عليه الملل و هو يقلِّب صفحات اضبارة على قوس المحكمة . بينما كان الميزان النحاسي المثبت على الحائط خلفه حائل اللون ، و مائلا قليلا كما تركه المستعمرون الذين غادروا البلاد منذ عشرين عاما . و على المقاعد المخصصة للحضور ، لم يكن هناك سوى عدة أشخاص ، بعضهم أتى لرؤية الطريقة التي تعمل بها العدالة ، و بعضهم لمجرد الفضول ، و منهم من دخل القاعة و جلس هربا من شمس الظهيرة . و غير بعيد عن قفص المحكمة الذي يقف فيه المتهم ، وقف شرطي يوزع نظراته بين القاضي و بين الحضور . فجأة ، دوت الطرقات الثلاث معلنة بدء الجلسة "

القاضي : بعد أن رفضت توكيل محام و قررت الدفاع عن نفسك ، ماذا تقول بشأن الشهادة الكاذبة التي أدليت بها أمام المحكمة !"

الشاهد : سيدي القاضي ، مع أن ذاكرتي قوية ، غير أني لا أتذكر الأشياء كما حدثت بالضبط ، لذلك ، و مع أني صادق ، فإني لا أروي الأشياء كما حدثت بالضبط ،و للأمر سيدي القاضي علاقة باختلاط الذاكرة بالمخيلة حيث يصعب علي أن أعرف أين تنتهي إحداهما و أين تبدأ الأخرى ، و إذا كان البعض يسميه كذبا فأنا أسميه سعة خيال . قد يكون مرضا ،لكنه ليس كذبا

القاضي : لكنك اسْتُدعِيت إلى المحكمة و أقسمت كي تقول الحقيقة و ليس لرواية حكاية !

الشاهد: صحيح سيدي القاضي ، و أنا لم أذكر ذلك كأساس لدفاعي من أجل رد التهمة ، ذكرته فقط لإبعاد شبهة الكذب . و أرجو أن تعطيني الفرصة لتوضيح الأمر

القاضي : إذا ادخل في الموضوع و ادل بدفوعك فيما يتعلق بالتهمة . و تذكر بأن عليك قول كل ما تود قوله في هذه الجلسة ، و هذه الجلسة فقط ، فالمحكمة لن تسمح لك في هذه المحاكمة بتضييع وقتها كما فعلت سابقا ، عندما مثلت أمامي كشاهد في المحاكمة السابقة ، و أدخلتنا في دهاليز حكاية استمرت على مدى عشر جلسات و تقريب السنة ،بينما تبين للمحكمة بأن المشاجرة الجماعية موضوع شهادتك التي تُحاكم عليها الآن لم تأخذ في الواقع سوى سبع دقائق ، و كانت بين خمسة متشاجرين فقط ،وليس بين نصف سكان الحارة كما شهدت !

الشاهد : أمرك سيدي القاضي ، سأحاول الإختصار قدر الأمكان

القاضي : تفضل ، ادخل في الموضوع

الشاهد :مع احترامي للحقيقة ، و احترامي أيضا لسعيكم المحموم للكشف عنها ،فإني أود لفت انتباهكم إلى أنها ، أي الحقيقة ،ليست بالأهمية التي تحاولون اسباغها عليها في قضية المشاجرة الجماعية التي كنت أحد شهودها ،و التي أدت شهادتي التي تحوم حولها الشكوك من قبلكم إلى مثولي أمامكم ، و بغض النظر عن صدق شهادتي من عدمه ، سؤالي هو؛ ما النفع المرتجى من قول الحقيقة التي تتهمني بالكذب بشأنها ، طالما أن المتخاصمين قد تصالحوا تحت إشرافك ، و هم على وشك الدعوة إلى وليمة عشاء بمناسبة الصلح . و للمفارقة ، أنا أحد المدعوين إلى العشاء ، و سوف يسعدني الحضور إذا تكرمت و برأتني !

القاضي : لكنك أقسمت على قول الحقيقة تحت قوس المحكمة و كذبت ، و هذه جريمة يعاقب عليها القانون

الشاهد: سيدي ، أولا ؛ المحكمة هي التي أجبرتني على أن أقسم ، و أنا عادة لا أقسم ، الأمر الثاني سيدي القاضي ؛ أنا أقسمت على كتاب الله الذي و إن كان جلّ و علا مثلكم لا يهمل ، لكنه بعكس سيادتكم فإنه يمهل ! الأمر الثالث ؛طالما أن الكتاب كتابه ، فهو وحده سبحانه من يحق له محاكمتي حصرا ، إلا إذا كنتم موكلين بالتحدث باسمه ، و في هذه الحالة ،فإنه يتحتم عليكم إبراز وثيقة تثبت ذلك ! ، و أخيرا ؛ لماذا تصبح الحقيقة بهذه الأهمية عندما يتعلق الأمر بي و أنا مجرد شاهد ، بينما لم يهم سيادتك أمرها كثيرا عندما تعلق الأمر بالمتخاصمين ! "

القاضي ( و قد بدا عليه الغضب ): أنت هنا لتحاكمني أم لأحاكمك !

الشاهد ( مخفضا صوته ): عفوا سيدي القاضي ، ما أود قوله هو أن المتخاصمين ادعوا على بعضهم البعض ، و من المستحيل أن يكون جميعهم على حق ، أو استندوا في ادعاءاتهم على قول الحقيقة ! و بإشرافك على الصلح ، تغاضيت عمن يمكن أن يكون الكاذب فيهم ! أي بصراحة تغاضيت عن الحقيقة ! أما عندما تعلق الأمر بي ، و أنا لست سوى شاهد لا علاقة لي بخصامهم ، فإنك تصر على معرفة الحقيقة ، الحقيقة سيدي القاضي حمل ثقيل ، فمن أين لشخص فقير مثلي أن يحملها وحده ! أمر آخر سيدي القاضي ، أليس من الممكن أن يكون عدم قول الحقيقة موضوع الاتهام هو الذي أدى إلى المصالحة التي سعيت أنت نفسك لتحقيقها بينهم ! و بذلك قد يكون الكذب الذي تتهمني به قد تمخّض عن خير ربما كانت الحقيقة عاجزة عن تحقيقه!

القاضي ( مازال غاضبا ): أرجو أن تقتصر دفوعك على الاتهام و من دون فلسفة! المتخاصمون لم يقسموا على قول الحقيقة ، بينما أنت أقسمت

الشاهد ( و قد علا صوته قليلا ): أعيد و أكرر سيدي ؛لو كان لي الخيار لما أقسمت ، ثم أين المنطق في أن تأتوا بي إلى المحكمة ، و تجبرونني على أن أقسم ، ثم تستخدمون القسم الذي أُكْرِهت عليه كحجة في محاكمتي بتهمة الكذب !

القاضي( محاولا تمالك نفسه ) : لست هنا للدخول في جدل منطقي ، أنا هنا لتطبيق القانون ، استدُعيت لتقول الحقيقة ، أقسمت و كذبت و هذه جريمة يعاقب عليها القانون . هل عندك دفوع أخرى !

الشاهد : ألا تعتقد سيدي القاضي ، بأن للقانون علاقة بالمنطق !

القاضي (غاضبا بشدة و ممسكا بالمطرقة من دون أن يُعرف إذا كان ينوي إنهاء الجلسة أم قذفها باتجاه المتهم ): نظريا نعم ، عمليا ليس دائما ، و قبل أن تتفلسف مرة أخرى ، أنا هنا لتطبيق الجانب العملي من القانون

الشاهد( مترجيا بصوت خفيض ): إذا كنت سيدي مصرا على معاقبتي ، و طالما أنك وافقت على أن للقانون علاقة بالمنطق على المستوى النظري على الأقل، فإني أرجو من سيادتكم استعمال الظروف التخفيفية فيما يتعلق بالعقوبة . و آمل ، إذا لم تستطيعوا الإقتداء بالله و تمهلوني ، فعلى الأقل اقتدوا به و ارحموني

القاضي : في الحقيقة كنت أفكر في هذا الأمر قبل الإدلاء بدفوعك ، غير أنك ، بالإضافة إلى كونك كذاب ، فإنك شخص غليظ و ثقيل الدم و مخادع و طويل اللسان أيضا . لذلك لن أمنحك ما سألتني عنه . و قبل أن تبتئس ، قد يكون الأمر لصالحك ، إذ سيتوفر لك الكثير الكثير من الوقت ، و الكثير الكثير من الهدوء ، لتفكر بعلاقة القانون بالمنطق و التفلسف بشأن الحقيقة ، و سأكون سعيدا بمقابلتك و الإستماع إلى خلاصاتك بهذا الشأن في المقهى الذي تختاره ،و لسوف أكون مسرورا أيضا بدفع الحساب ، طبعا ، بعد أن تكون أنت قد دفعت حسابك في السجن ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا