الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تزوج … لتتعلم الحكمة ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 6 / 19
الادب والفن


تلتقي ثُلة من اصدقاء العمر .. كما تعودوا منذ سنين .. قبل التقاعد ، وحتى بعده ، ومنهم الاستاذين توفيق و شاكر في مقهى دجلة ، والتي تضم أمثالهم من المتقاعدين ، والمنسحبين من الحياة العامة ، وأولئك الذين لا يزالون في النزع الاخير من خدمتهم ، يتسامرون ويتحدثون في كل شئ تقريباً ، فمنهم من أدمن الحديث في السياسة ، والخوض في دهاليزها ، ومنهم من فضل الحديث في الدين والفقه ومتاهاتهما ، والبعض يكتفون بلعب الطاولة والدومينو لمجرد قتل الوقت وتجنب الملل ، والناس .. على أي حال فيما يعشقون مذاهبُ !
يبدو الاستاذ شاكر غارقاً في صمته .. إلا من انفاس هادئة تتردد في حناياه ،
يبدء توفيق الحديث مبدداً غيمة السكون .. في محاولة منه لاخراج صديقه من حالة الضيق التي تعصف به :
— كيف حال الاولاد ؟
— بخير …
— ولماذا تقولها ببرود ومن غير نفس …
— لقد تعودنا يا صديقي أن نقول اننا بخير حتى ولو كنا نحتضر !
— خفف قليلا من حزنك .. اذا كان في صدرك شئ تريد ان تقوله .. تفضل كلي آذان صاغية …
يبدو الاستاذ شاكر مهزوماً كسير القلب حزين النفس ، وكأن صديقه قد نكأ جرحاً ، وهيج المواجع :
— ابني محمد أصغر أولادي .. ستكون نهايتنا أنا وأمه على يده .. ( يقاطعه توفيق قائلاً : يا ساتر .. ! ) .. يدخل في مشكلة ، ويخرج بأسوء منها ، ولا نعرف كيف نتصرف معه .. الناس في المنطقة وحتى الجيران قد صاحوا منه الغوث الغوث ، جزع الكل من جنونه وأذاه .. لا أحد يحبه لفظاظة طباعه وسوئها ، يقضي جُل وقته في الشوارع والمقاهي ، وغيرها من أماكن اللهو والضياع ، ولا يتوقف لسانه عن فاحش القول وسقط الكلام حتى في البيت ، نتكلم معه ننصحه لا يفيد ، وكأننا نحرث في البحر ..
قبل يومين دخل في شجار مع ابن الجيران .. بالأسلحة البيضاء ، تصور .. ولولا ستر رب العالمين ، وتدخل الخيرين لقتل احدهما الآخر ، والسبب القمار ، والكبسلة .. يلعبون النرد ويراهنون بمبالغ كبيرة ، ولا أدري من أين يأتون بالمال .. نكاد أنا وأمه نجن ، ولا ندري ماذا نفعل ، والمشكلة أننا بتنا نخاف على بقية الاولاد من أن يتأثروا به ، ومن جاور الحداد اكتوى بناره .. أعوذ بالله من هذا الجيل ، لقد تشرب العنف والسرسرة من الحروب والسينما والمخدرات ، اين ما يولوا وجوههم فثمة عنف وفساد يلاقيهم .. ولو بقي على هذا الحال سيورد نفسه مورد الهلاك حتماً … !
ينصت اليه الاستاذ توفيق بعمق ، وهو غارق في لجة من الافكار ، وقد طاف في ذهنه في تلك اللحظة موقف ، وظرف مشابه حدث له مع ابنه الاوسط أسامة ، ولم يحل المشكلة الا الزواج .. استيقظ على لكزة خفيفة من صديقه يستحثه فيها العودة للحديث ويسأله النصيحة :
— اين ذهبت ؟ انا في عالم وانت في عالم ثاني .. طبعاً اللي يده في الماء ليس كمن يده في النار !
— على رسلك يا صديقي ، خفف عنك .. هونه وتهون .. انشاء الله ، انا معك قلباً وقالباً .. والحل لمشكلتك عندي …
— الحقني به .. الله يطول في عمرك …
— الزواج …
— نعم … ؟! يطلقها شاكر وكأنه يخرجها من وادٍ سحيق …
— أزوج هذا السرسري ، ومن هذه الانتحارية الشهيدة التي تتحمل هذا النوع من البشر ؟
ثم يبدء توفيق يحدثه عن ولده أسامة الذي كان أسوء من محمد بأضعاف مضاعفة ، ولم يضعه على جادة الصواب الا الزواج .. فيقول :
— اخترنا له زوجة تكبره بسنتين لكنها غاية في العقل والرزانة والجمال ايضاً ، وكما يقولون الرجل المجنون بحاجة الى امرأة عاقلة … كأن هذه الفتاة قد نفثت في روحه حكمتها وعقلها واخلاقها ، واليوم ترى أمامك انسان جديد يختلف كلياً عما كنا نعرف … هل تتصور معي مفعول الزواج السحري .. ؟
ثم لا تنسى لكل جيل شطحاته .. حتى نحن كانت لنا شطحاتنا ولم نكن أنبياء ، ولكنها بالتأكيد لا تتدنى الى هذا المستوى الذي عليه هذا الجيل .. أتذكر يوم أكثرنا من شرب خالد الذكر الزحلاوي ، وأصريت حضرتك ان نسبح في شط العرب ، ونحن في منتصف الليل ، وانت ثمل ولولا رحمة رب العالمين لكنتَ من الراقدين تحت التراب …
يقول شاكر مستنكراً :
— أدري .. انت جاي اطببها لو تعميه ، خلينا في اليوم .. يا شط العرب ويا زحلاوي .. !
يجيبه توفيق :
— لا تضع راسك في الرمال .. ابنك طالع عليك مع قليل من التعديل والاضافات بحكم الواقع الجديد المختلف كلياً عن واقعناً البسيط والهادئ والمسالم .. كنا نميل الى الهدوء والقراءة والتفكير .. نحلم احلاماً بسيطة كأحلام العصافير .. دائمي التطلع الى الحياة والمستقبل ، لا نؤمن بالعنف هذه الثقافة الدخيلة على مجتمعنا .. كان جيلنا رومانسي حالم .. جيل رائع لا اعتقد ان الزمان سيجود بمثله .. ! أتذكرْ كيف كنا نبكي لمجرد سماع ام كلثوم في مقطع من رق الحبيب وهي تنشد : ( وايه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال ….. ) .. أتذكر .. ؟
يحتج شاكر :
— أولاً .. كنا سكارى .. لعبت الخمرة في رؤوسنا .. ثانياً أرجوك توفيق لا تعصر قلبي .. وتوقد فيه الحنين ، أنا مو ناقص .. صدقني .. أنا لا أزال أعيش في ذاك الماضي العزيز وأجواءه الساحرة ، وما عاد الحاضر يعنيني في شئ .. لا يمر يوم إلا وأسمع فيه شيئاً من هذا الغناء الأصيل ، وسأبقى هكذا حتى أموت … !
يكمل توفيق :
— انظر الى هذا الجيل الذي يسير باتجاه مضاد لما سرنا عليه .. لا أريد أن أُعمم طبعاً ( يصمت قليلاً ) صحيح لكل جيل ثقافته ، لكن يجب أن لا يعيش غربة ، وقطيعة مع ماضي أهله واجداده وثقافتهم !
يقول شاكر مستنكراً على صديقه تشبيهه بأبنه :
— أنت دائماً هكذا .. تشيطني ، وتضع نفسك في قالب ملائكي .. ستجبرني يوماً على ان أخوض في خرابيطك وما اكثرها ، وكما يقولون صديق المرء مثله .. والحال من بعضه … ( يضحك ضحكة جافة )
— إيه .. اضحك يا رجل .. انها دنيا فانية ، وكلنا الى التراب نصير .. فليطمئن قلبك ، يا عزيزي .. محلولة صدقني .. سنتعاون ، ونزوج هذا العفريت ابن العفريت ، وسترى النتيجة بعينيك .. ثق بما اقول ! سأكلم زوجة ابني أسامة وأسألها إن كان عندها قريبة أو صديقة بنفس مواصفاتها ، وربنا يجيب القبول انشاء الله … !
— اتمنى ان يكون الحال كما تصوره ، ويعتقني لوجه الله ، اريد أن ارتاح فقد تعبت …
يفترق الاصدقاء على موعد في الاسبوع القادم .. يذهب شاكر الى البيت ، وهو يحمل شيئاً من أمل .. يطرح الموضوع على زوجته ، ترحب المرأة بالفكرة ، وتؤيدها بل وتتحمس لها ، وهي تقول :
— من يدري قد يضع سره في اضعف خلقه .. قد تنجح هذه الزوجة في تغييره .. يا رب !
وعند اللقاء في الأسبوع التالي .. يقدم الاستاذ توفيق البشرى لصديقه ، ويخبره بانهم قد عثروا على فتاة ممتازة .. متدينة ، وعقلها كبير ، وأم بيت ، ومن بيئة بسيطة ..
— نأمل ان يحبها وتحبه ، فأنت تعرف كيف يصنع الحب المعجزات .. وسترى !
يجيبه شاكر مستسلماً :
— على بركة الله !
يبقون جالسين الى وقت متأخر .. لوضع اللمسات الاخيرة على اتفاقهم هذا … !
تمر الايام مسرعة مرور السحاب ، و يتزوج محمد ، وينشغل في حياته الجديدة ، ويقع في عشق الفتاة حتى اذنيه ، ويتحول في فترة قصيرة الى انسان هادئ صامت متأمل .. كأن صحوة ضمير مفاجئة قد انتابته ، ثم تتلاحق الأيام ، فترى فيه بعد ذلك انساناً جديداً تماماً ، وعندما تنظر اليه تكاد لا تعرفه .. تطالعك من جبينه زبيبة سوداء من كثرة السجود ، ولحية مرسلة ، وبيده مسبحة يعبث بحباتها ، وهو يتمتم بكلمات محفوظة من كثرة تكرارها !
يقول شاكر لصديقه :
— اتدري ماذا قال خاله سمير عندما رآه بصورته الغريبة الجديدة هذه .. بعد أن ظل يتفرسه بنظرات ثاقبة للحظات ؟
— وماذا قال هذا العلماني الكافر .. ؟! ( ينطق توفيق الجملة مضخِماً الكلمات .. مقلداً الشيوخ )
— قال : شاكر .. هذا ابنك لو باقي سرسري وقمرچي وحشاش هواي أحسن !
( ينفجر الاثنان بالضحك طويلاً حتى تدمع عيناهما )
ثم يقول شاكر بنبرة لا تخلو من قلق :
— اللة يستر .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال