الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزائر: حرب ذاكرات أم أزمة مشاعر؟

سعيد هادف
(Said Hadef)

2021 / 6 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


الكلمات هي أعجب شيء ابتكره الإنسان، وأخطر ما في الكلمات سحرها الأيديولوجي والريتوريكي (rhétorique) وثنائياتها المتعالية: المقدس والمدنس، البطولة والخيانة، الكفر والإيمان، نحن وهم.. وقس على ذلك. وإذا كان التاريخ بمعناه العلمي كوْنيًّا بالضرورة، ممتدا في البدايات ومفتوحا على النهايات، فإن الذاكرة تبقى محلية، محدودة في الزمن وفي المكان، وكلما حاوَلتْ أن تتطاول على التاريخ وجدَتْ ذاكرات أخرى لها بالمرصاد، تتصدّى لها بشراسة. بمعنى آخر، ذاكرات الجماعات البشرية متعددة بينما التاريخ البشري واحد. ولأن التاريخ لا يعترف بالثنائيات الميتافيزيقية والخرافات، بل يعترف بالأفعال والأحداث الموثقة، فليس فيه أبطال وخونة ولا قديسون وملاعين، بل فيه فاعلون بشريون تميزوا عن غيرهم في مجالات متعددة، وتركوا آثارا كانت مصدر إلهام أو مصدر سخط أو إعجاب.

البراديغما التاريخية تختلف عن براديغما الذاكرة من حيث أنلكل جماعة ذاكرتها، ولكل ذاكرة أبطال وخونة، أما التاريخ فلا يعترف بهذه الثنائية، التاريخ أحداث وفاعلون، هزائم وانتصارات، مكاسب وخسارات...
هناك من يرى الأمير بطلا بينما هناك من يراه خائنا، وكذلك هو شأن ماسينيسا، وبن باديس ومصالي الحاج وفرحات عباس وآخرين. عميروش "مجرم حرب" من وجهة نظر قانونية، لقد ذبح أكثر من ألف شخص فيهم نساء وشيوخ وأطفال، لكنه من وجهة نظر تاريخية أحد أبرز الفاعلين في مسرح الأحداث التي انتهت باستقلال الجزائر.
من وجهة نظر تاريخية هؤلاء فاعلون صنعوا التاريخ. الأمير شخصية عالمية اعترفت به بلدان عظيمة، بريطانيا وأمريكا وحتى فرنسا، أما ما تبقى مجرد تفاصيل قد تصلح لعمل أدبي أو تاريخي أو لمشروع سياحي.

هؤلاء (الأسلاف، الموتى)، لم يعودوا في حاجة إلى حياتهم، ولم يعد يعنيهم موتهم، ولم يعد يعنيهم إن كانوا جزائريين أم لا مثلما يحلوا لهواة الوطنية الجزائرية توزيعها على هواهم.
لكن السؤال الذكي هو ماذا نفعل بموتانا؟ كيف نستثمرهم بذكاء في بناء حاضرنا ومستقبلنا وكيف نستثمرهم في البحوث العلمية وفي السياحة وكيف نجعل منهم قنوات تواصل مع الأمم الاخرى؟
ولأن الواقع الذي نريد لن يتحقق إلا بفهم الواقع الذي نعيش(ميلز)، فإن القراءة الغائبة، في هذا السياق، هي تلك التي تستحضر التاريخ كما هو، دون آلهة، دون قديسين ودون أبطال أسطوريين؛ من منطلق أن لدراسة التاريخ العلمي وظيفة أخرى، إنها تساعد المواطن على تبين النسيج الذي نسجته العملية التاريخية في الماضي بحيث يستطيع أن يتبين طريق امتدادها في المستقبل القريب.
آيت حمودة، لا أعتقد أنه يحمل حقدا على الجهات الجزائرية الأخرى، ولا على الرموز العربية إلا كإنسان يسعى إلى فك العزلة عن ذاكرته، وافتكاك قسط من الاعتراف، إنسان يشعر بالغضب ككل جزائري، يشعر بالغبن، وإلا كيف نفسر امتداحه لأحمد بن بلا؟ لقد كان حديثه عن هذا الأخير بعبارات مفعمة بالمشاعر؛ لماذا يا ترى؟

لكن ما هو غريب في هذه الحملة الشرسة التي قادها خصوم آيت حمودة والحملة المضادة التي قادها المتعاطفون معه، كلهم سواء، يشعرون بالغبن ويبحثون عن الاعتراف وعن مشاعر دافئة تقيهم موجة صقيع ضربت ما تبقى من الوجدان الجزائري ففقد إحساسه بالزمن وبالمكان وبكل ما يربطه بمحيطه الاجتماعي في بعده السياسي، التاريخي والإنساني.

ـــــــــــــــــــــــــ الأمير في ذكرى وفاته: متى نضحك من وجهنا الذي خاننا في المرايا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ

تحت هذا العنوان، أعددنا ، العام الماضي (2020)، بالأسبوع المغاربي، العدد الثامن، ملفا حول الأمير، ولا بأس أن أعود إلى بعض فقراته، وأستعيد من خلال ذلك ما دار من جدل حوله، فهو الجدل ذاته، نجتره كل مرة بلا كلل ولا ملل.

مر قرن وسبعة وثلاثون عاما على وفاة الأمير. منذ أيام، فقط، مرت علينا ذكرى وفاته، وخلّفت جدلا واسعا في وسط المثقفين الجزائريين الذين استغربوا من تجاهل الدولة الجزائرية لهذا الحدث القومي. تزامنت ذكرى وفاته مع حروب عديدة نعيشها هذه الأيام، يقودها فَسَابِكةٌ على أكثر من جبهة، حروب هي أقرب إلى حرب العصابات وحرب الأزقة. حروب سريعة وخاطفة وقصيرة النفس سرعان ما تنطفئ وينسحب أبطالها إلى التخوم بحثا عن خطط أو عن خراتيش. اندلعت حرب الشوارع هذه المرة بسبب جداريات الغرافيتي حيث اعتبر البعض رسوماتها حربا على الهوية، فتحركت الجبهة المضادة دفاعا عن حرية الفن والتعبير، وما كادت هذه الحرب تضع أوزارها حتى نشبت في شارع مجاور حرب أخرى أشعلها شريط وثائقي، ومع أن مخرج الشريط وضيوفه كلهم من صلب الجزائر، شبان في مقتبل العمر يحلمون بجزائر في مستوى تطلعاتهم، إلا أن الفئة الغاضبة طاردتهم في أزقة الفايسبوك بدعوى أنهم اقترفوا جرما في حق الحراك وعكسوا عنا صورة مشوهة ليست صورتنا، وقد بذلت هذه الفئة جهدا خرافيا حتى تحط من قدر هؤلاء الشباب وأن تثبت أن الشريط رديء شكلا ومضمونا. في غمار هذه الحروب نادرا ما أصادف قناصة محترفين يعرفون كيف يسددون طلقاتهم على الجهل الثاوي خلف هذه الحروب التي تعكس نفسية بالغة الضحالة تجد لذة كبيرة في الهلوسة ومطاردة الأشباح في شوارع الفايسبوك.

نعم هذا هو واقع الحال، تربينا على الخوف من أعداء محاطين بهالة من الظلام، وحملنا عن أنفسنا صورة بالغة الغموض ما إن تنعكس أمامنا بما لا يرضينا حتى يصيبنا مس من العصاب ونشرع في تكسير وجهنا المعكوس في المرآة. وجْهُنا المتخيل وجْهان أنتجتهما نفسية منفصمة: واحد مقدس والآخر مدنس، وبينهما يضيع وجهنا الواقعي. فما إن ينطلق الحديث عن شخصية من الشخصيات التاريخية، حتى ينحرف الكلام بين تقديس وتخوين؛ سواء كان الحديث عن ماسينيسا أوالأمير أو ابن باديس أو مصالي الحاج أو عبان رمضان أو هواري بومدين.

في مقال تحت عنوان "الرئيس لنكولن والأمير"، كتب عبد العزيز بوباكير وهو أحد المثقفين الأكثر غزارة واشتغالا على التاريخ الجزائري: "مازالت شخصية الأمير عبد القادر تكشف لنا يوما بعد يوم عن جوانب مثيرة ومشرقة في آن واحد، ويبدو أن ما نعرفه عن الأمير لا يمثّل إلا القليل مما كُتب عنه في القرنين التاسع عشر والعشرين"، ويرى في ذات المقال أن حياة الأمير تكتنفها ظلال عديدة. بينما عبر عادل بلغيت وهو مثقف شاب عن استغرابه من تحامل فئة من المثقفين على شخص الأمير: "ما يضحكني فقط ..هو خيبة من أرادوا التطاول والتطاوس على شخصه ...وهم يملكون نصف يوم من النضال"، وفي محاولة تمثله لشخصية الأمير كتب: "الأمير لم يكن فرنكوفونيا لكنه جعل فيكتور هيغو يخصه بقصيدة،... ولم يكن مسيحيا لكنه جعل العالم المسيحي يبجله ويعترف بفضله، ولم يكن علمانيا لكنه جعل الكثير من المفكرين يصفونه بالحداثة،... ولم يكن فرنكوبربريست لكن الشاعر الفرنسيرامبو وصفه في إحدى قصائده بيوغرطة العصر". واستعاد البعض أبرز الأعمال التاريخية والروائية التي خلدت سيرة الأمير.

وككل ذكرى أثار البعض مسألة استسلام الأمير وسعى البعض إلى تفنيد ذلك. في هذا السياق يرى أصحاب الأطروحة التي ترفض وصف الأمير بالاستسلام، كما جاء على لسان حميدة عبد القادر وهو مثقف شاب، أن الأمير لم يكن مجرد محارب عادي، بل كان رجل علم وأدب، "وهذا ماجعل رجاحة عقله تنظر الى الأفق البعيد، فمن المؤكد أن معطيات معينة التي كانت بحوزته جعلته يتخذ هذا القرار بحكمة".
عبدالقادر الجزائري أو الأمير عبد القادر، يوصف بمؤسس الدولة الجزائريةالحديثة. فقيه، شاعر، فيلسوف، سياسي و محارب في آن واحد. وهو فيريعان الشباب، وجد نفسه في قلب معركة مفتوحة الجبهات جغرافيا، تاريخيا،وسياسيا. الصراع الروسي العثمانيكان على أشدهوكان قد مضى على الثورةالفرنسية حوالي نصف قرن وعلى استقلال أمريكا ما يناهز ذلك. الأمير بطل إشكالي بامتياز، حالمايُذكر اسمه تُذكر الجزائر والمغرب وفرنسا دفعة واحدة وبنكهة غامضة، وحينمايذكر اسمه يذكر عبد القادر المسلم الشاب الذي حارب إخوانه في الدينالتيجانيين كما يذكر عبد القادر المسلم المحنك الذي انتصر للمسيحيين ونالالثناء من العالم. رغم كل الأبحاث والدراسات التي حاولت الكشف عنتاريخه وشخصيته إلا أنه يبقى مجهولا، لأنه جزء من التاريخالذي لا ينفكيقدم نفسه عبر رواته، بهالة من الغموض.
وجد الأمير نفسه في سياق تاريخي كان من الصعب أن يتمثله بشكل صحيح؛ فالزمن الفرنسي بدا في غاية الحيوية ولميكن يشبه أبدا الزمن الجزائري العثماني، فسارعت الجزائر لتسد ثغرا آخر أكثرفداحة من ثغر سيدي فرج، إنه ثغر دستوري، ثغر الحكم والتدبير السياسي.سارعت الجزائر زمنئذ من جهتها الغربية إلى بيعة أمير شاب تحت شجرة الدردار بمدينة معسكر، أملا في صد الغازي الفرنسي.
الأمير عبد القادرعمل باستماتة وفتوة، لكنه وجد جزائر أخرى لم تتجاوب معه. وبعدحرب خاضها لمدة سبعة عشر سنة اقتنع بلا جدواها، وهذه القناعة جاءته بعدحالة ارتياب اعترته في غمار الحرب، ليس مع فرنسا ولكن في حربه مع الرأيالجزائري المخالف له. إن فرنسا قدر إلهي ولا راد لمشيئة الله، هكذا كان يردّ عليه بعضهم، فكانت حيرته حيرتين: حيرته في أمره وحيرتهفي حيرته:
-الأولى وهي حيرته في المصير الذي آل إليه أمره وأمر أمته، وهي "حيرة محدودة".
-والثانية وهي حيرته في علة حيرته الأولى، ولأنها حيرة في الحيرة فهي إذن"حيرة لامتناهية"، وتلك هي الحيرة التي مازالت تعيشها جزائر القرنالواحد والعشرين.غير أن السؤال الذي طرحته على نفسي منذ أن وضعت حياة الأمير تحت ضوء التأمل هو: ألم يكن للأمير مواقف من قضايا عصره؟ أم تم طمسها، ولم تصلنا؟ لم أجد له موقفا من الوهابية، ولا رأيا في رواد النهضة العربية الذين عاصرهم:رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني. كما لم يكتب عن الفترة التي قضاها في السجن ولا عن الفترة التي قضاها في الشام ولا عن رؤيته للمصير الذي كان يجب على الجزائر أن تسير في سبيل تحقيقه. ربما لم يكتب، وربما لم تصلنا كتاباته. تلك هي الأسئلة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا وليس على الأمير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل