الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار الصعيد .. حضور شعبي يحاكم غياب التنمية العادلة

عصام شعبان حسن

2021 / 6 / 22
حقوق الانسان


في الحادث المروّع في سوهاج (جنوب مصر)، اصطدام قطارين أودى بحياة 19 شخصاً بحسب وزارة الصحة، وأصيب فيه عشرات الجرحى، دلالات عن ظلم سنواتٍ لم ينفها تعاقب حكومات وسلطات طالما استمرّت في تطبيق سياساتٍ غير عادلة، تؤجل المهام الملحّة، ومنها ما يتعلق بإصلاح خدمات النقل، وغياب خطط تنمية تعالج الخلل. كما يذكّر الحادث السلطة والمجتمع بسيادة نمط حياة قاسٍ في جنوب مصر وريفها، ضمن جوانبه تراجع أنشطة وقطاعات إنتاجية، وارتفاع نسب البطالة، ونقص في الخدمات وسوء حالتها أو تهالكها.
وتضاف نتائج السلطوية، وما تتضمنه من استبعاد الكفاءات واستبدالها بدائرة من الموالين محدودة العدد، أغلبها غير مختص، وتفتقد لرؤية تنموية تعالج أوجه الخلل، هذا النمط من الإدارة، والذي يمثل عودة بيروقراطية أهل الثقة، يتضمّن في كل موقع منخفضي الكفاءة. ومع غياب هيئات منتخبة ديمقراطياً بشكل حقيقي تقوم بمهام وضع السياسات التي تنبثق عنها الخطط، وتتم مراقبة تنفيذها ومتابعته، لا يمكن أن تحقق جهود الإصلاح أو التنمية مستهدفاتها النهائية، ولا يعقل، في ظل هذا النمط من الإدارة، أن يراعي متخذو القرار ترتيب الأولويات، وهو الذي يهمّش رأي الناس ومطالباتهم، ويرفض حتى الاسترشاد بما يقولونه، أو يستمع، في أحيان كثيرة، إلى خبراء. وبالتالي، تكون الأزمات مرشّحة للتكرار، خصوصاً مع اقتران السلطوية بسياسات الظلم الاجتماعي. وهنا يصبح مشهد انتهاك حقوق المصريين مكتمل الأركان، سياسياً واجتماعياً، لا تخطئة العين، ولا تنفيه محاولات الإنكار أو تفضيل جانب على آخر.
تسقط مع الصدمات الأكاذيب، ويبقى الواقع يتحدّى الدعاية. ومع الأزمات تتكشف النواقص، فشل السياسات وعجز الإدارة، وسوء التقدير وخلل ترتيب الأولويات، ونقصان التدبير في توظيف الموارد. وهنا ليس من المبالغة أن يوصف الحال بأن مصر محزونة بإدارتها حين تخفق، وفرحة حين تحقق أي انتصار يعيد ثقة مواطنيها بنموذج الدولة، القادرة على الإنجاز والتي تراعي الأولويات وتتبع عدالة في التنمية، ويعتذر فيها المسؤولون ومتّخذو القرار، ويعاودون التفكير في سياساتهم، ويعترفون بالأخطاء بشجاعة. ولكن من الغريب أن يطرح رئيس وزراء مصر، مصطفى مدبولي، ويتحدث كمواطن مصري متسائلاً متى تنتهي حوادث القطارات؟ وهو تصريحٌ يتناقض مع مسؤوليات صاحبه، ومع ما ينبغي قوله من إجلاء للحقيقة ومصارحة بشأن التقصير، أو حتى الوعد بإنهاء المشكلة في مخطط زمني محدّد، حتى وإن كان الوعد محل تشكّك. ولا يختلف هنا موقف وزير النقل، كامل الوزير، الذي يرى نفسه جندياً مقاتلاً يرفض الاستقالة والهرب من الميدان، بما يوحي بأنه لم ينتقل بعد إلى مفهوم واضع السياسات والخطط، الا إذ كان المسؤولون يعتبرون أنفسهم متلقي أوامر. ولا يختلف الأمر كثيراً، فيما يتعلق بأداء الوزراء خلال المؤتمر الصحافي التالي على الحادثة، راح كل وزير يكرّر ويؤكد، على توجيهات مؤسسة الرئاسة وتوصياتها ومتابعتها، وكان المؤتمر عقد خصيصاً للدفاع عنها، وكاستجابة سريعة تنفي بحضور الوزراء غياب عدالة السياسات وترتيب الأولويات وتخلي ساحة كل مسؤول.
تنتج حالات الصدمة مكاشفة ووضوحاً في التعبير على مستوى الرأي العام، أو ما يمثل تياراً عاماً، وهو خلال الحادثة يطالب بإخضاع منظومة الإدارة للمراجعة والمسألة. ولا يكفي مع كل حادثة أن يتم اختصارها باعتبارها نوعاً من الخداع في شكلها الجنائي، وأن تقدم اعتذارات (برو عتب) بهدف تهدئة الغضب واستيعابه، والتحذير من استباق التحقيقات. وكأن الحادث وكأن الأزمة تمثلان حالة جنائية، والمتهم فيها شخص، وليست سياساتٍ تطبقها الحكومة وسلطات سابقة، وهي معلومة الجذور، ومعلنة، سكك حديد تحتاج إلى إصلاح تأخر كثيراً يتكلف مليارات. لذا ليس حل الأزمة بتقديم كبش فداء مع كل حادثة، أياً كان موقعه، سائقاً أو عاملاً بمزلقان، أو حتى وزير النقل، بوصف هؤلاء الأشخاص أسباباً وحيدة للحادثة، من دون مراجعة السياسات وخطط التنمية المتعلقة بالخدمات والبنية التحتية، بل ومسار التنمية ككل وخياراته.
ومما تكشفه الحوادث المتكرّرة في مصر ضعف الاستجابات الفورية للكوارث، وتخلف نظم إدارتها، وهذا النقصان هو ما دفع جهود أهالي مركزي طهطا والمراغة إلى ملء الفراغ بعد الحادثة بمحاولاتٍ لا تنقصها شهامة وبسالة، لكنها ليست، في النهاية، بديلاً عن نظم إدارة الكوارث والحد من خسائرها البشرية والمادية. وللمتابع أن يدرك حجم الأزمة، حين تتوزع أعداد المصابين والضحايا (وفي ظل جائحة كورونا) على مستشفيات وأطقم طبية من محافظات أسيوط وقنا والأقصر.
وفي المشهد تظهر تكنولوجيا التواصل الحديثة إمكاناتها، لتكون صوتاً معبّراً عن أحوال الناس واستجاباتهم في أثناء الكوارث. يصنع الناس صوتهم وتأثيرهم على الرغم من محاولات التضييق والترصد والتخويف. تظهر قوتهم الكامنة، التعبير حزناً أو فرحاً أو غضباً، يصنع نوعاً من الرقابة والتوجيه لمتّخذي القرار، ويساهمون في إيجاد رأي عام، ففي الحادث شغلت مشكلات التهميش وإهمال الصعيد والريف وندرة فرص العمل، ومشروعات التنمية، مساحة ملحوظة. وباتت موضوعات متكرّرة في النقاش حول الحادث، غير رصد التناقض بين ما يراه الناس ضرورياً وعاجلاً وعادلاً وخطط لبنى تحتية بعيدة عنهم ولا تخصهم، أو على الأقل ليست أولوية، ويمكن تأجيلها لصالح إصلاحاتٍ أهم، تمثل أولويات مهمة داخل كل أولوية.
وفي السياق، يمكن تأمل جانب من ردود الأفعال، وما يقوله الناس عن الحادث، وهو أحد انشغالات أنثروبولوجيا الإعلام بما تتضمنه من دراسة التفاعل بين المنتجين والمستهلكين للمواد الإعلامية، ودراسة عمليات الاتصال، وتوزيع القوة الناتجة عنها. وفي عصر الشبكات، أصبحت صناعة المحتوى وإنتاجه وتوزيعه فعلاً فردياً، يحاول النفاذ متخطّياً الحجب والقيود. وتترك الرسائل آثارها التي لا تتوقف عند الصدمة والحزن، بقدر ما أنها تستدعي إحساساً جمعياً، يشكل خطاباً شعبياً موازياً للخطاب الرسمي وينتقده، وبالطبع يتجاوز "اسكربتات" معدّة مسبقاً عمّا يجب أن تقوله وسائل الإعلام، ولكن الناس يعبّرون عن همومهم وغضبهم، ويتساءلون عن مسارات الحياة والموت، بعد أن تشاركوا مشهد الصدمة، وفي تعبيراتهم مضامين ورموز تستحق التأمل، وربما المشاهدة مراراً. يردّد أحد الضحايا، في تسجيل مصوّر، أن كل من في القطار أخواته. يتناول أحوالهم ومعاشهم، ما بين عمال وشباب يرتحلون إلى العاصمة بحثاً عن العمل، أو مجنّدين فقراء مسافرين لأداء خدمتهم العسكرية. ويحكي أحد الجنود أنه فرح حين وجد، هو وزملاؤه، مقاعد للجلوس في قطار بأسعار قدر استطاعتهم، وأنهم، في الغالب، المجندون في خط الصعيد، يستقلون هذا القطار الذي يتناسب مع ظروفهم المعيشية، بعد أن ارتفعت تكلفة القطارات المكيفة. تمتزج هنا في أحاديث ركاب القطار علاقات الانتماء الاجتماعي والطبقي والجغرافي والقرابة علاقات الدم والصداقة والزمالة، والهموم المشتركة، وتنشئ، في النهاية، مشهداً من التضامن والتعاطف الشعبي، يتجاوز الدوائر المحلية، وإن انطلق منها.
لم تكن حادثة القطارين الوحيدة المحزنة في مصر، شهد معها، الأسبوع الماضي، تزامن حوادث مشابهة، كانهيار عقار وموت وإصابة عشرات في منطقة جسر السويس أو نشوب حرائق متتالية بالمحافظات، فيما يشبه أسبوع الآلام، ما يُفقد الأفراد الإحساس بالأمان والأمن، ويشعرهم بالخوف والأسى، ويجعلهم أكثر حساسية تجاه المخاطر والأزمات. وتمثل هنا أي فرصة لعودة الثقة بالأداء الرسمي، أو تحقيق نجاح أو تجاوز تحدٍّ، مناسبةً للاحتفاء والفرح لتجاوز الإحباط. لذا جاء خبر إعادة تسير السفن في قناة السويس بعد تعويم ناقلة عملاقة، تسببت في عطل الملاحة في القناة، مثل زفرةٍ للمحبطين، ومحاولة لتجاوز إحباطات أسبوع الآلام وأحزانه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تفرج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين عند حاجز عوفر


.. الأونروا تحذر... المساعدات زادت ولكنها غير كافية| #غرفة_الأخ




.. الأمم المتحدة.. تدخل الشرطة في الجامعات الأميركية غير مناسب|


.. تهديد جاد.. مخاوف إسرائيلية من إصدار المحكمة الجنائية الدولي




.. سورية تكرس عملها لحماية النازحين واللاجئين من اعتداءات محتمل