الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد النظرية البعثية

جعفر المظفر

2021 / 6 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


في نقد النظرية البعثية*

في بلدان العالم الثالث التي لا تعيش إشكالية "التاريخ الباهر" عادة ما تكون شعوبها غير مكبلة بقيود ذلك التاريخ لذلك رأيناها أكثر قدرة على إختيار مناهجها وإستراتيجياتها وعقائدها بمنأى عن وطأِ وثقل تلك القيود.
على الجانب العربي لم يكن الأمر يجري بهذه السهولة, ففي هذه الرقعة من الأرض والمياه التي تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي والتي تضم بين كفتيها بلدانا من قارتين هما أفريقيا وآسيا لم يكن الخيار الإستراتيجي العقائدي والسياسي لشعوب هذه المنطقة خيارا سهلا وذلك بسبب ذلك التمازج والتفاعل المعقد ما بين الهوية القومية والدين, أي بين العروبة والإسلام, حتى كأنك تراهما في بعض الأحيان وكأنهما حالة واحدة.
وعلى خلاف أغلب الأمم التي كان لها تاريخها وحضارتها كالصينيين والفرس واليونانيين والرومان على سبيل الأمثلة, فإن العرب كانوا قد تميزوا بجدلية العلاقة ما بين الدين والقومية,إذ كانت أمتهم قد نشأت ونمت وترعرعت بفعل روح الإسلام وإنتشاره كديانة ورسوخه على مدى قرون كدولة وأمة.
واليوم فإن إلتزام الفكر العروبي بعقيدة (أن العروبة جسد روحه الإسلام) سيتناقض مع مفهوم الدولة العلمانية التي تحتاج إلى فصل الدين عن الدولة ومساعدة الدولة والمجتمع للدخول إلى عصر الحضارة المنفلتة من إلزامات التاريخ الإسلامي وتداعيات خطابه الثقافي والسياسي.
وأزعم أن الإنشقاقات الكثيرة التي عانى منها الحزب قد جاء قسم كبير منها بسبب عجز الخطاب الثقافي للحزب من ترسيخ القناعة بنظريته نفسها. ونعرف أن العبرة لا تكمن في النيات الحسنة لأن الشيطان نفسه قد يكمن في التفاصيل.
إن العبرة هي في إختيار السبيل الأفضل والعملي لتحقيق الهدف, وأرى أن شعارات الرسالة الخالدة والأمة الواحدة كانت قد تحققت في مرحلة تاريخية حاسمة هي مرحلة النبوة التي ما عاد بالإمكان إستدعائها مثلما كانت عليه إلى عالمنا الحالي الذي لم يعد مُهيأً لإستقبال الأنبياء.
فإذا كان لا بد من الإيمان بالوحدة العربية فإن علينا أن نبلور نظرية عمل تتخلى عن منطق : لقد كنا, واليوم فإن بإمكاننا أن نصير لأننا كنا.
أو لأننا كنا .. فإن علينا أن نصير.
إن من شأن ذلك أن يُغيب فِعل الزمن عن سبل تكوين المناهج, ويضعنا على طريق هو خارج على التاريخ المحتكم بمعطياته الوضعية, ثم يضع في أيادينا أساليب لا تخدم الهدف ولا تستطيع أبدا تحقيقه.
وسأقول إنني عشت عن قرب محاولة تحقيق الوحدة بين العراق وسوريا في أعقاب زيارة السادات للقدس وإعلان ميثاق العمل القومي, فمن هو الذي أفشل ذلك الميثاق ووجه له رصاصات الموت ؟ بطبيعة الحال ليست هي الصهيونية كما كنا نردد لأجل تبرئة أنفسنا ومناهجنا من تهمة صناعة الخطأ أو المشاركة فيه, وليست هي الإمبريالية كما إعتدنا أن نزعم, وإنما هو "حزب صدام" من أفشل عملية بناء تلك الوحدة, ولا أدعي أن "حزب حافظ الأسد" كان بأفضل حال منه لو توفرت له في تلك المرحلة فرصة المبادرة لأن مصلحة الحزب ومصلحة القائد الفرد البطل الهمام بدأت تطغى على مصلحة العقيدة, وحتى أن توضع الثانية في خدمة الأولى, وإنتهى العراق لأن يكون عراق صدام وسوريا إلى أن تكون سوريا الأسد.
ولنتذكر أيضا مجزرة قاعة الخلد عام 1979 والمحنة الكبيرة التي مر بها حزب الوحدة الذي كان عاجزا عن توحيد نفسه, ثم عودة العداء المميت بين سوريا والعراق إلى أشد من سابق عهده, ورأينا كيف وقف حافظ الأسد إلى جانب إيران في حرب الثمانية سنوات ثم قام بقطع ماء الفرات عن العراقيين لأجل الضغط على حكومته, ورأينا بالتالي كيف أن حزب الوحدة الذي يحكم في البلدين قد وضع البلدين في مواجهة ضدية وسيئة جدا مقارنة بالعلاقات البينية بين جميع البلدان العربية الأخرى. وهنا أيضا فإن الصهيونية لم تكن هي السبب .
وأجزم أن الذاكرة ما زالت تعيننا على إستعادة تجربة الوحدة بين مصر وسوريا, وكيف تراجع حزب الوحدة عن تقديم الدعم لها حين الإنفصال ولم نكن شجعانا بما فيه الكفاية لكي نجيب على سؤال مثل .. ولكن من فيهما كان هو الخطأ الوحدة أم الإنفصال؟!
وأيضا فإن لنا أن تتذكر أيضا كيف أن الحزب هو الذي دخل بشعاراته النظرية الخطابية على الواقع العراقي بعد الإطاحة بالنظام الملكي لكي يطالب بالوحدة الفورية بين العراق و(الجمهورية العربية المتحدة). وقد أدى ذاك التجريد الثوري الشعاراتي إلى دخول العراق في عصر الإحتراب البعثي الشيوعي وإنتكاسة النظام الجمهوري الجديد.
هل كان العيب في هدف الوحدة أو في محبتها أو في تمني إقامتها. كلا بطبيعة الحال, بل لعلي ما زلت أؤمن بالوحدة كثيرا, لكن هذا الإيمان لا بد أن يكون إيمانا عمليا, أي يقوم على ركائز تتناسب ومعطيات العصر, ولا بد أن يكون طريق الوصول إليها, ليس لأنها ضرورة من ضرورات الرسالة الخالدة كما كنا نؤكد, وإنما لأنها ضرورة إستراتيجية وغير متناقضة مع مفهوم الوطنية الذي كنا نعتبر الإيمان به خروجا على العقيدة القومية ونعتبره مرادفا لمفهوم القطرية, وهي تهمة كنا تدين من يؤمن بها آنذاك بتهم أقلها الإنحراف.
إن وحدة كالتي أتصورها, ستكون ضرورة يستدعيها الحاضر لأغراض المستقبل وليست (قدرا) يفرضه التاريخ, وهي لن تتم على طريقة سنكون لأننا كنا.
وماذا تعني الرسالة الخالدة غير إعطاء الأمة العربية دورا لا تستحقه غيرها من الأمم في وقت وصلت فيه بعض هذه الأمم إلى القمر وصنعوا لنا الراديو والقطار والسيارة والتلفزيون والآيباد ولقاحات الكورونا والإنفلونزا وعلمونا كيف نلبس البنطال والحذاء ونبني المدارس وغيرها وغيرها من الإنجازات العظمى وغير العظمى.
ثم لماذا لا تستحق الأمم الأخرى أن ترفع مثلنا شعار الرسالة الخالدة. ألم تمنح أثينا العالم أفضل فلاسفته القدماء, وبعدها صار الغرب مذخرا للعلماء والمخترعين الكبار ورحما لإنجابهم, ثم صار برمته ملجئا لنا نحن الهاربون من جنة الأمة صاحبة الرسالة الخالدة
في عام 1982 على ما أعتقد عقد صدام ندوة لكوادر الحزب في قاعة المجلس الوطني القديم وقد عرضت وقتها في التلفزيون العراقي, وعلِمنا حينها أن الحزب حرم على خمسة من أعضائه الوصول إلى القيادة القطرية وخفض مستوياتهم إلى درجة أعضاء عاملين بسبب مواصلتهم الصلاة في الجوامع. وكان من بين أولئك كما أتذكر السادة جعفر قاسم حمودي وبرهان التكريتي وطاهر توفيق العاني, أما السيد طاهر فكان إنتقاد صدام الشديد اللهجة له قد جرى عرضه علنا.
وأجزم أن موقفهم ذاك كان خاطئا وكان صدام على حق حينما أكد لهم أنه يقاتل الخميني لموقف وطني وعروبي, وأن أغلب الجند الذي يقاتل بهم هم من الشيعة, في حين أن إلتزامهم الإسلامي, أي أولئك القياديين, قد تقاطع حينها مع إلتزامهم العروبي وحتى مع إلتزامهم بمصلحة العراق لأن هذا الإلتزام بدأ يعطي تفسيرات ذات رائحة طائفية, حتى كأنه راح يسألهم : علموني بماذا أجيب جنديا شيعيا يقاتل في الحجابات ضد الخميني الذي يدعي أنه إمام الشيعة وزعيم أمتهم الإسلامية لو تساءل هذا الجندي ما معنى أن يصلي نصف أعضاء قيادته العليا صلاة علنية على الطريقة السنية.
لكن العجيب أن صدام نفسه الذي كان قد أعاب على أولئك الخمسة صلاتهم في الجوامع عاد هو نفسه لكي يكون راعية للإسلام, ولكي يبني جامعا في كل حي مهما صغر, ثم تجرأ على أن يجعل من ميشيل عفلق مسلما بعد موته, لا لشيء إلا لأنه أراد أن يشتري ولاء (السنة) بعد أن خرجت الكثير من المدن "الشيعية" ضد زعامته بعد كارثة (أم المعارك) في العام 1991, ثم إذا به يكتب القرآن بدمه !
ولست ضد أن يصلي القيادي, ولكن حينما تتقاطع ممارسته الطقوسه الدينية مع واجبه الوطني ومع طريقة التعبير السياسية عن ذلك الواجب فإن قياديا بها الشكل لا يستحق حتى ان يبقى مجرد عضو بسيط في حزب يقود بلدا, حتى وإن كان هذا البلد"عُليمانيا" وليس "عَلمانيا".
ولن يقول لي أحد أن الحزب ونظريته ورسالته الخالدة ذات التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية ليس لهما نصيب في هذا الخطأ, بل أن الحزب الذي سمح لرجال بهذه العقلية وبهذا النوع من السلوك للتواجد في قيادته العليا لا بد وأن يكون له النصيب الأكبر من الخطأ, فلولا نظريته لما إجتاز أولئك القيادين طريق عبورهم لنيل درجة العضوية. وقد رأينا كيف أن حزب الرسالة الخالدة قد واصل التجوال في مناطق منع التجوال بقيادة السيد عزت الدوري أحد شيوخ الطريقة النقشبندية الذي تجرأ ومد يده إلى تحالف بإدعاء (التكتكة) مع داعش حينما إحتلت الموصل.
إن على كل واحد منا أن يراجع مسيرته بوعي ووضوح ويتصدى لنقدها بكل شجاعة, فإذا لم نفعلها الآن فلن نفعلها غدا.
وإن غدا لناظره قريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القسم الثامن من دراسة بعنوان (البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يكثف غاراته على مدينة رفح


.. مظاهرات في القدس وتل أبيب وحيفا عقب إعلان حركة حماس الموافقة




.. مراسل الجزيرة: شهداء ومصابون في قصف إسرائيلي على منازل لعدد


.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟




.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة