الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متحف الذاكرة الحيفاوية

سميح مسعود

2021 / 6 / 24
الادب والفن


يُعَرّف التراث المادي بمفهومه البسيط، على أنه مجمل الموروثات المادية ذات الجذور القديمة التي تنتقل من جيل إلى آخر، جامعة في تفاصيلها إبداعات فنون كثيرة متنوعة وواسعة النطاق، من أبرزها الصناعات التقليدية، والحِرَف اليدوية الشعبية بمختلف أشكالها ومظاهرها الفنية وخاماتها .
وتعكس المقتنيات التراثية المادية القديمة بتنوعها الخصب، صوراً مهمة وجذابة ضمن تشكيلات منسجمة تعطي فكرة جلية عن الماضي بأحقابه المتتالية، وتُوثق لمعلومات واقعية وكثيفة عن أحداثه على مدار الأيام المتعاقبة، وتبيّن أوجه الحياة القديمة بكل تفاصيلها.. إنها تضيء الذاكرة الجمعية بصور مفعمة بدلالات تطال الزمان والمكان، نحن أحوج ما نكون لها، لاكتشاف الذات، ومدّ خط من التواصل مع الأمس البعيد مهما تباعدت الأيام وتوالت الحقب.
ومن حسن حظي أنني احتفظ بمقتنيات مادية تراثية قديمة لوالدي، تُلامس مشاعري وأعيد بها رسم صور كثيرة عن أيامي الماضية، وأرجع بها في غمرة عاطفة لا حدود لها إلى مسقط رأسي حيفا، مستحضراً تفاصيل حياة أسرية هانئة لا يمكن أن تطويها يد النسيان.
حُفِظَت تلك المقتنيات في بيت أسرتي في حيفا لسنوات طويلة، تعودتُ على رؤيتها عندما كنت طفلاً، وقد نقلها والدي إلى بيت الأسرة في قرية بُرقة قبل حدوث زلزال النكبة بفترة قصيرة، وأوصاني أن أحافظ عليها، وبعد رحيله نقلتها إلى عمّان بصعوبة على امتداد سنوات عدّة، وهي معي الآن في عمّان مثقلة بحكايا ملحمية توازي أضخم الروايات ، عن مرارة المنافي والشتات والإقتلاع من الأرض والحرمان من الوطن.
ولمزيد من الحرص على تعريف الأجيال الفلسطينية الصاعدة عليها بكل مدلولاتها التراثية والوطنية، جمعتُ صورها في كتاب أصدرته بعنوان " متحف الذاكرة الحيفاوية"،يحتوي على أحد عشر فصلاً تتضمن مقتنيات شخصية ومقتنيات عامة ومجلات قديمة وأوانٍ منزلية وحُلي تقليدية ونقود فلسطينية ونقود قديمة وطوابع بريدية وراديوهات ومصابيح ومفاتيح.
وفي مقدمة المقتنيات الشخصية يوجد حقيبة حديدية صغيرة لحفظ أوراق والدي الهامة، كاميرا فوتوغرافية قديمة، صورة فوتوغرافية شخصية بإطار خشبي، ولاعة فضية، ساعة جيب فضية وأخرى عادية، موس حلاقة، متر خشبي للقياس، علاقة مفاتيح، علبة نظارات، فرشاة حلاقة، علبة دخان 555"" مربعة الشكل من المعدن الخفيف، وعلبة دخان "كرافن A" مستديرة الشكل من المعدن الخفيف، وطربوش أحمر من بقايا العهد العثماني.
وبالنظر إلى الزمن المتغلغل بعمق في هذه المقتنيات، يُلاحَظ من السجلات المحفوظة لدي في الوقت الحالي بخط والدي، أن الحقيبة الحديدية اشتراها من طبرية عام 1923، وصورته الفوتوغرافية الشخصية التقطت في طبرية بتاريخ 15/6/1934، وأن الطربوش الظاهر في الصورة قد اشتراه من طبرية في العام نفسه، وأنه اشترى الكاميرا الفوتوغرافية من حيفا عام 1935، وساعة الجيب الفضية عام 1931، وفرشاة الحلاقة الصغيرة عام 1925، وعلب الدخان حفظها من أيام الحرب العالمية الثانية، ومع أن والدي لم يمارس عادة التدخين طيلة حياته، إلا أنه مراعاة لأساليب الضيافة التي اتبعت وقتذاك في فلسطين، كان لا بد من تقديم الدخان بأنواعه المختلفة للضيوف، ومن أهم أنواع الدخان التي كانت تقدم في هذه المناسبات "البليرز وكرافن Aو555" الأجنبية، وسجائر "أوتومان و اهرام ونجاح ومبروك" المحلية من إنتاج شركة الدخان والسجائر الوطنية الكبرى "قرمان ديك وسلطي "ومقرها حيفا.
ويبين والدي في أوراقه أنه اشترى ساعة الجيب الفضية بأربع جنيهات فلسطينية من دكان "إذاعة حيفا" في شارع أمية، لصاحبه عبد الفتاح أبو زيد بتاريخ 7/10/1937، أي قبل ولادتي بنحو عام، وأنه اشترى نظارة شمسية بجنيه فلسطيني من دكان "ا. مدزيني" في عمارة الكرمليت، وقد فُقدت وبقيت علبتها.
وتشتمل المقتنيات الشخصية أيضاً على آلة خياطة يدوية قديمة اشتراها والدي عام 1935 للاستخدامات الذاتية المنزلية، كانت في الزمن الماضي من مقتنيات البيوت الأساسية، تعمل يدوياً قبل ظهور آلات الخياطة الكهربائية.
ومن ضمن المقتنيات الشخصية مقص معدني يستخدم مع آلة الخياطة، وكيس لحفظ الكتب طرزته أمي في أيام صباها، منشه (هواية) يدوية مصنوعة من قش القمح، شال من قماش الحرير الأبيض، مزين بقطع فضية رقيقة ممزوجة بزخرفة جميلة تجعل منه شالاً للمناسبات، تنساب أطرافه بجمال وأناقة على العنق والكتفين، استخدمته أمي لأول مرة يوم عرسها عام 1918، وحزام من الحرير المقلم بألوان متعددة يغلب عليها اللون الأحمر تظهر كأنها موتيفات متداخلة، تلبسه النساء في منطقة بُرقة على الخصر فوق الأثواب العادية المشغولة من قماش سادة (بلون واحد).
ويوجد ضمن هذه المجموعة من المقتنيات، ثوب تقليدي لأمي مُقلم فضفاض يقرب عمره من مئة عام، مفتوح من الأمام مما يجعل منه ثوباً واسعاً، قماشه من الحرير الممزوج بخيوط قصب مذهبة، مزين بألوان مختلفة من تدرجات الأحمر والأصفر والأخضر التي تعطيه بريقاً ولمعاناً خاصاً، وتتكرر في نسيجه دائرة زخرفية بانتظام على شكل نقاط كبيرة باللون الأبيض، ويستعمل هذا الثوب كرداء خارجي فوق الملابس العادية في مناسبات الأفراح، ويُسمى بالقفطان أو العباءة.
أما المقتنيات العامة فإنها ذاكرة غنية بقطع قديمة متنوعة مختلفة الأشكال والاستخدام، تعكس صوراً مركبة مرئية بنكهة خاصة تساعد على اكتشاف الماضي من جديد، يظهر في قطع منها زخرفة سطحية متداخلة، يمكن تلمسها في الأشغال الخزفية على الصحون، والمزهريات ذات العنق الطويل المزينة بزخرفة فوق طلاء شفاف مائل إلى اللون الزهري، وعلى الخناجر الفلسطينية والاردنية والعُمانية والمغربية واليمنية، ويمكن الإحساس بالجمال التقليدي ضمن هذه المقتنيات في الأشغال الفضية على كوب أصفهاني بمقبض نصف دائري،
وفي هذه المجموعة جو عابق بتاريخ حيفا ما قبل النكبة،يتجسد في هاتف قديم،وجهاز فونوغراف " صوت سيده"اشتراه والدي من محل بوتاجي الشهير في حيفا في صيف عام 1946، مع مجموعة من الاسطوانات منها اسطوانة "على بلد المحبوب وديني".
وفي فصل المجلات القديمة احتفظ والدي بنسخ كثيرة من الصحف والمجلات طيلة سنوات حياته، منها صحيفة الاتحاد وصحيفة الكرمل ومجلة الزهرة لجميل البحيري ومجلة النفائس العصرية لخليل بيدس، لكنه للأسف تلفَ الكثير منها مع الزمن، ولم يبقَ من مجموعته سوى القليل من الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية المتبقية ، تشتمل على عددين صدرا في عام 1940 لمجلة "هنا القدس"، مجلة القسم العربي في الإذاعة الفلسطينية التي كانت متخصصة بشؤون الإذاعة وبرامجها، وثمن النسخة منها أربعة ملاليم، كما تشتمل على ثلاثة أعداد صدرت في الأعوام 1945، 1944 و1946 لمجلة "المنتدى" التي أُسست في عام 1936 وكانت تصدر عن مكتب المطبوعات في القدس مع دار الإذاعة الفلسطينية، ورأس تحريرها عبد الرحمن بشناق، وثمن النسخة منها 20 مليماً.
وتشتمل المجلات والصحف العربية المتبقية، على أول ثلاثة أعداد لمجلة "الروائع" العراقية (1938)، و عدة أعداد من مجلة "الجامعة" الأمريكية (1908)، ومجلة "المجلة" العراقية (1941)، ومجلة "الاعتدال" العراقية (1934)، وصحيفة "العالم العربي" العراقية (1940)، ومجلة "المصور" المصرية (1942)، ومجلة "الينبوع" العراقية (1946)، ومجلة "الشرق الأدنى" المصرية (1928)، ومجلة "الرابطة العربية "المصرية (1941)، ومجلة "رسالة المحبة" القبطية المصرية (1942).
ومن أبرز المجلات والصحف الأخرى المتوفرة لدي، العدد الأول من صحيفة "الوقائع العراقية"، وهي الجريدة الرسمية لحكومة العراق، و قد صدر يوم 19 تشرين الثاني 1922، ويلاحظ من محتوياته أنه لا يتضمن البلاغات والقوانين الحكومية الصادرة عن ديوان مجلس الوزراء فقط، بل يشتمل أيضاً على خلاصة أخبار العالم ومعلومات عامة عن عناصر الأرض وأعمق مكان في البحر وغرائب المأكولات وأخبار العاصمة بغداد، بما في ذلك أخبار الموظفين والوفيات، وبعض الطرائف.

وأما فصل الحُلي التقليدية فإنه يشتمل على أنماط مشغولات معدنية متنوعة مستلهمة من مكونات الحياة العادية، تتجسد في قطع تراثية أصيلة حضرية وبدوية بأشكال ونماذج مختلفة، ممزوجة بتزيينات زخرفية تقليدية وعفوية، ومصنوعة يدوياً من خامات نحاسية وبرونزية وفضية بزخرفة نقوش نافرة أو محفورة متداخلة على سطحها، تحمل ملامح سحر الحياة التقليدية العربية، وتبرز ما أبدعه الصناع في مجال صياغة الأساور والكرادين والخواتم والقلائد والضفائر (قراميل) والأحزمة والخلاخيل، التي كانت تستخدم كحلي للعنق والمعصم والذراع والخصر والرأس وأطراف الشعر والأصابع.
وترجع أصول الحُلى التقليدية في هذا الجزء من الكتاب من حيث صنعها ونشأتها، إلى مصادر فلسطينية محلية (النقب وأريحا)، ومن مصادر عربية أخرى مختلفة، منها: مصر (سيناء)، المغرب (فاس)، العراق، سورية وشرقي الأردن، ويلاحظ تشابه بعض تلك المقتنيات بالشكل وطريقة الصنع، لأنها من مخرجات صناعة تقليدية انتشرت في العديد من الدول العربية.
إضافة إلى مقتنيات الفصول التي ذُكرت،يضم فصل النقود أربع مجموعات من النقود، تعدّ نقود المجموعات الثلاث الأولى سجلاً لما كانت عليه النقود المتداولة في فلسطين، أقدمها مجموعة النقود العثمانية التي بدأ تداولها عام 1516 وحتى سقوط الحكم العثماني في عام 1917، وكانت تسمى بأسماء السلاطين، وأشهر ما تداول منها الليرة العثمانية الذهبية والليرة الرشادية والريال المجيدي الفضي، وتوابعها بكل فئاتها من بشلك ومتليك وباره وقرش وغيرها من المصكوكات الذهبية والفضية والنحاسية التي كانت تحمل على وجهها نقش الطغراء، وعلى خلفها مكان الضرب، والطغراء نصوص كتابية تضم اسم السلطان واسم أبيه ولقبه و تُكتب بشكل فني مزخرف.
ومع بداية احتلال الجيش البريطاني لفلسطين في عام 1917 تم تداول نقود المجموعة الثانية، وقد اشتملت على النقود المصرية الورقية والمعدنية بكل فئاتها، واستمر تداولها حتى عام 1927، ومن ثم بدء تداول نقود المجموعة الثالثة، مع ظهور النقود الفلسطينية التي أصدرها مجلس النقد الفلسطيني، وكانت على نوعين: مصكوكات معدنية، وأوراق نقدية، كتب عليها بالعربية والإنجليزية والعبرية، اشتملت المصكوكات المعدنية على ثلاثة أنواع: برونزية ونيكلية وفضية، من الفئات 1 مل و2 مل و5 مل و20 مل و50 مل و100 مل، جميعها صكت بشكل دائري، بعضها صك بثقب من الوسط، كتب على أحد وجهيها "فلسطين" باللغات الثلاث، وعلى وجهها الآخر غصن زيتون، كما كتب عليها قيمتها وتاريخ الصك، وقد استمر إصدار هذه النقود حتى عام 1946.
واشتملت النقود الورقية على فئات: نصف جنيه (500 مل)، وجنيه واحد، و5 جنيهات، و10 جنيهات، و50 جنيه، و100 جنيه، أشكالها ونظام الكتابة عليها باللغات الثلاث واحد تقريباً في جميع الفئات، مع اختلاف في أطوالها وألوانها، يظهر على وجه الجنيه الأول رسم قبة الصخرة، وعلى الوجه الثاني قلعة القدس.
أما نقود المجموعة الرابعة من المقتنيات، فهي مقتنيات عامة جُمعت على سبيل الهواية، من هواة جمع النقود ومن السواح، وتشتمل على أوراق نقدية قديمة من فئات مختلفة كانت متداولة في العراق ومصر والاتحاد السوفييتي وسورية ولبنان والجزائر، إضافة إلى سندات مصرية خاصة بفلسطين، تتألف من: 5 غروش عثمانية عليها طغراء السلطان (1331هجرية)، روبل عليه صورة لينين (1917)، دينار عراقي عليه صورة الملك فيصل الأول (1931)، دينار عراقي عليه صورة الملك فيصل الثاني (1939)، 1000 فرنك فرنسي / الجزائر عليه عبارة باللغة العربية : "في المخالطة الهنا وفي الهنا الغنا"(1923)، 10 ليرات صادرة عن بنك سورية لبنان (1939)، 5 جنيهات مصرية (1946)، وسند تبرع لإنقاذ فلسطين العربية بقيمة 50 جنيه

هذا ويحتل فصل الطوابع البريدية مكاناً طاغياً في كتابي، إذ يضم مجموعة كبيرة من الطوابع العثمانية التي بدأ استخدمها في فلسطين عام 1865، وطوابع أخرى أصدرتها القوات البريطانية في عامي 1917 و 920، وعام 1927 حيث أصدرت حكومة الانتداب أول مجموعة طوابع مصورة عن فلسطين، تألفت من أربعة عشر طابعاً تحمل رسوم أربعة أماكن دينية، صممها الرسام البريطاني ف. تيلور، وهذه الأماكن هي: "قبة الصخرة"، "قلعة القدس - باب العمود"، "قبر راحيل" و"جامع مدينة طبرية"، كما صدرت مجموعة مماثلة خلال الفترة 1932-1944 بألوان مختلفة، هي آخر مجموعة بريدية صدرت في فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
وعلى هذا النحو من التفصيل يوجد في فصل الراديوهات ثلاثة راديوهات قديمة، كان لها في الماضي دور التلفاز في الوقت الراهن في مجال البث الإذاعي بمختلف تفاصيل برامجه اليومية المتعاقبة، كانت تعمل أجهزة الراديو في البداية باستخدام بطاريات السيارات كمصدرأساسي للتشغيل، وذلك بشبك سلك بين الراديو والبطارية، وكان يتم إعادة شحن البطارية كلما فرغت في محلات خاصة بذلك، كما كان يوضع أنتين عالٍ للراديو على أسطح المنازل لاستقبال المحطات الإذاعية، وبعد ذلك عند انتشار الكهرباء، أخذت أجهزة الراديو تعمل باستخدام هذا المصدر الجديد للطاقة.
وفي فصل المصابيح التي تسمى أيضاً القناديل والشمعدانات والفوانيس، والصغيرة منها النووايس،.كانت من أهم أدوات الإنارة ابتداءً من ستينيات القرن التاسع عشر، سُرجت في البداية بالزيت، ومن ثم بالكاز، وأكثرها شيوعاً يتكون من وعاء منتفخ يوضع فيه الكاز، وفتيل يصنع من خيوط الكتان، في أسفله قاعدة مستديرة أو مخروطية، وفي أعلاه ما يشبه الرقبة يخرج منها طرف الفتيل التي تضاء به، ويُثبت عليها زجاجة طويلة ملتصقة به كالمدخنة، بتدرجات أرقام مختلفة 2، 3، 4، 5، حتى لا يطفأ الضوء من جراء هبوب الهواء، تُغسل وتنظف قبل كل استخدام.
وتجدر الإشارة إلى أن أهم مصباح في المجموعة مصباح أبيض مصنوع من مادة الأوبولين بشكل بالغ الرشاقة، يستحضر في داخلي ذكريات كثيرة، وما أزال أذكر مكان شرائه من أحد دكاكين سوق الشوام في حيفا، وقد حملته معي إلى قرية بُرقة في عام 1945، واستخدمته مع جدتي لإنارة البيت طيلة عام كامل، وعلى وميض شعلته بدأت بقراءة الكتب المقررة في الصف الأول الابتدائي، وبخاصة كتاب "راس-روس" لخليل السكاكيني.
بعد ذلك أرجعته إلى حيفا عندما التحقت بمدرسة البرج، وكانت أسرتي تستخدمه في أوقات الحرب وانقطاع التيار الكهربائي، ومن ثم تم إعادته ثانية إلى بُرقة بعد النكبة، ومنحني الإنارة طيلة دراستي الابتدائية والثانوية، ثم نقلته إلى الكويت عام 1995، حيث كنت أعيش مع أسرتي هناك، وعندما أُحلت على التقاعد في عام 2006 نقلته بعناية خاصة إلى عمّان حيث ما زال فيها حتى الآن، كل ما أراه يجعل من مسقط رأسي؛ حيفا، مكاناً واقعياً مادياً مرئياً تخيم عليه أيام طفولتي التي عشتها في كنف والديّ في زمن مضى.
ويبين والدي في أوراقه أنه اشترى لوكس ضمن مجموعة المصابيح بجنيه وعشرة قروش (110 قرشاً) من دكان "إذاعة حيفا" في شارع أمية لصاحبه عبد الفتاح أبو زيد، بتاريخ 1/12/1941، واشترى من الدكان نفسه بابور (بريموس) بجنيه بتاريخ 5/1/1938، كما اشترى أيضاً نواسة (مصباح صغير بضوء خافت) ثمنها 39 قرشاً، بتاريخ 1/10/1947.

وثمة جانب مهم في فصل المفاتيح لأنها تعبّر عن الهجرة القصرية والشتات والتمسك بالأرض والوطن، المحافظة عليها بمثابة تأريخ مادي لأماكن الطفولة والدراسة وكل مرافق الحياة الماضية في فلسطين، هي جزء من موروث رمزي احتفظ بها والدي بين مقتنياته، وأشركني بها، تتضمن مجموعة مفاتيح بأشكال وأحجام مختلفة لبيت أسرتي في حيفا، ولبيتين لنا في بُرقة للأبواب الخارجية والداخلية وللخزائن و"النمليات" والأدراج و"الجوارير"، وللصناديق الصغيرة والشنط المحفوظة في البيوت.
إنها من أهم المقتنيات التي تورث من جيل إلى آخر، يتعمد الأباء تجذيرها في ذاكرة الأبناء والأحفاد، لطبع حياتهم المعاصرة بدلالات تربطهم بأمكنة لهم يتنامى عبرها ارتباطهم الدائم بالأرض/الوطن، بعيداً عن واقع الأمكنة والأوطان الأخرى التي ارتحلوا لها، بما يساعدهم على خلق منطق خاص بهم ينسجم مع تطلعاتهم الوطنية.
ومع مجموعة المفاتيح المحفوظة يوجد لدي أيضاً مجسد قبضة كف نحاسية شديدة السماكة أصابعها ملتصقة بعضها ببعض، كانت تثبت بشكل نافر على سطح باب بيتنا الخارجي قبل انتشار استخدام الجرس الكهربائي، ويتم الدق بها بالأيدي على الباب المغلق من قبل الزوار للسماح لهم بالدخول.
كما يوجد أيضا لوحة صممتها بإطار وفق منظورخاص بها، يبرز مفتاحين متوسطَي الحجم مرتبطين معاً بحلقة من القماش لبيت أسرتي في حيفا، ومفتاح كبير للباب الخارجي لبيت أسرتي في بُرقة، وجميعها مثبتة في اللوحة تحت غطاء زجاجي، وعلى طرفَيّ اللوحة تم كتابة "حيفا – فلسطين"، و"بُرقة – فلسطين"، وفي أسفل اللوحة سجلت جملة تعبر عن الدلالات الزمانية والمكانية للوحة، مفادها: "مفتاح بيت أبي في القلب أبقيه / عسى الأحفاد ترجعه وتسكنه وتحميه".
وترتبط المفاتيح بأبواب البيوت ونوافذها التي تتشابك في ذاكرة الفلسطيني في الشتات مع أرضه ووطنه وهويته، تقدم له صوراً من الماضي مكتظة بأحداث كثيرة ذات تفاصيل كبيرة وصغيرة تعاقبت من قبل، تتداخل مع تكوينات وجوه وحكايا عذبة الإيقاع تسكن أعماق الذاكرة بحيثيات حياتية لا حد لها مستمدة من الأمس البعيد.
***

صدر كتابي" متحف الذاكرة الحيفاوية" في عام 2014، وتم إشهاره أثناء انعقاد ندوة" ذاكرة مدينة،ذاكرة مثقف، عائد إلى حيفا" التي نظمتها رابطة الكتاب الأردنيين في عمّان وحضرها من حيفا:الفنان التشكيلي عبد عابدي والكاتب د. جوني منصور، والكاتب د.ماجد خمرة، والكاتب فتحي فوراني، وتم فيها تكريم ما يقرب من أربعين شخصية حيفاوية في مقدمتهم إميل حبيبي،وإميل توما، والشاعر الكبير حنا أبو حنا،ورئيس القائمة المشتركة أيمن عودة، و الصحفي نجيب نصار بتقديم دروع لهم من رابطة الكتاب الأردنيين.
وأسعدني أن كتابي استقبل باهتمام كبير من قبل الندوة واعتبر مؤشراً على تألق حيفا لوجودها الملموس على اتساع صفحاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب


.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا




.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم