الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آراء المؤرخين في نشأة المعتزلة، تّسميتها ومواقفها!

الياس خليل نصرالله

2021 / 6 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


يختلف العلماء والمؤرخون بالنسبة لظهور المعتزلة وتسميتهم. فالبعض يرى بدايتهم أيام الخليفة علي بن أبي طالب، حيث اعتزل بعض الصحابة السياسة وانصرفوا إلى العقائد والعبادة. فيذكر الملطيّ لزومهم بيوتهم بعد تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، ولزومهم العلم والعبادة. ويؤيّد ذلك أحمد أمين، بأن مبدأهم كان أول أمرهم التفرغ للعبادة، إلّا أنهم خلال مسيرة تطوّرهم انغمسوا في السياسة. أما القاضي عبد الجبار المعتزلي فيكتب "أن كل ما ورد في القرآن من لفظ الاعتزال كان المراد بِه الاعتزال عن الباطل". ويقول الشهرستاني: "إنّ تسمية المعتزلة أطلقها الحسن البصري على واصل لتقريره أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا بكافر مطلق، فاعتزل مجلسه"، ليقول فيه الحسن: "اعتزلنا واصل"، فسمّي هو وأصحابه المعتزلة (الشهرستاني، الملل والنحل ج1 ص 64). أما البغدادي فيُرجِع هذه التسمية لرفض النظام اتهام الأزارقة (فرقة من الخوارج) بالفسق بعد ثورتهم في بغداد. ولأنهم اعتزلوا إجماع الأمة (الفرق بين الفرق، ص 78). أما ابن قتيبة، فيفرض أن إيمان "النَظَّام" بمذهب القدرية ("والتي من مؤسسيها معبد الجهني وغيلان الدمشقي و الجعد بن درهم" الذين كانوا أول ضحايا الحرية ضد الطغيان الأموي، وقد أمر الخليفة عبد الملك بن مروان واليه بقتل معبد، لقول معبد: أن الإنسان حر، وهو الذي يخلق افعاله بنفسه)، عيون الأخبار، ص، 243. وتفيد المصادر أن الوالي خالد القسري صعد المنبر وقال: "ارجعوا فضحوا، تقبل الله منكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، ونزل عن منبره وذبحهُ". "اللاهوت العربي" للباحث يوسف زيدان.
أما أحمد أمين، في كتابه "فجر الاسلام" فيقول: "ولنا فرض آخر في تسميتهم، لفتنا إليه ما قرأناه في "خطط المقريزي"، أنه كانت فرقة يهودية منتشرة في ذلك العصر، اسمها "الفروشيم" ومعناها اعتزل، وكانت هذه الفرقة تتكلم في القدر (ليس كل الأفعال خلقها الله)، فلا أستبعد أن قوما من اليهود قد أسلم، واعتنق مذهبهم وسموه "معتزلة"، لأن "الفروشيم" و"المعتزلة"، فسّروا الدين بمقتضى المنطق (منقول من ضحى الإسلام عن المقريزي). ويؤيد ايضا المستشرق "ألفونس نليلنو "أنهم أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية لوقوفهم موقف الحياد في المنازعات التي جرت في حينه بين المسلمين - الفتنة الكبرى (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، ص، 175-184م). ويضيف المرتضى المعتزلي أنهم هم من أطلق التسمية على أنفسهم لاعتقادهم بالأقوال المحدثة والمبتدعة (المنبه والامل ص 4).
يستدلّ مما تقدّم، تضارب التفسيرات بشكل خاص لتسميتهم المعتزلة، إلّا أن التفسير الرائج، هو اعتزالهم مجلس الحسن البصري، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، أي عزل مرتكب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين.

الظروف التاريخية والمناخ الفكري والسياسي لظهورها
هناك سبب سياسي ينحاز له الكثير من الباحثين في تاريخ الفكر، لظهورهم، وهو توسّع الإسلام ودخول شعوب كثيرة فيه، وقد دخلت معها ثقافات مختلفة. وكذلك توسّع حركة ترجمة الفلسفة اليونانية بشكل خاص، مما نجم عنه عدم كفاية المنهج التقليدي النقلي لحاجات الفكر والجدل الديني، مما أقنع المعتزلة أنه من الضروري تطبيق المنهج الطبيعي العقلي في كافة النواحي الحياتية. كما اتّسمت مرحلتهم بصراع العناصر غير العربية مع العنصر العربي الأرستقراطي. واتسعت فيها الحركة الشعوبية التي رفضت التمييز ضدها على أساس عرقيّ ونفي المساواة بين المسلمين. وشكّل استخدام العقل كأحد الأسلحة التي استخدمتها القوى الغير عربية لتقوم بإبراز تفرّدها عن طريق المعرفة. وهكذا مثّل الإعلاء من شأن العقل كإحدى وسائل الدفاع الأساسية عن الإسلام في فكر المعتزلة. وشكلت المعتزلة المعارَضَة لأفكار حركتي الجبرية والمرجئة، المدافعتين عن استمرارية الحكم الأموي الذي رفع من شأن الأرستقراطية العربية وهمّش بقية الأعراق حتى ولو كانت مسلمة. فرفضت المعتزلة "الجبرية" التي أكّدت أيديولوجيتها حتميّة بقاء الحكم الأموي وأنه مُقرَر من عند الله، ومن يعارضه فهو كافر. أمّا "المُرجئة" فدعت إلى ضرورة تأجيل وإرجاء بحث أخطاء السلطة الأموية إلى يوم القيامة، وحكمت على مرتكب الكبيرة بالإيمان.

اعتمد الأمويّون النصّ الدينيّ مصدرًا ينتقون منه الآيات التي تبرر شرعية ممارساتهم وانحرافاتهم عن جوهر الدين. بينما المعتزلة كما يُشير "حسين مروة" في كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية،" بأنهم "حرّفوا الألفاظ ذات المدلول المادي عن معانيها اللغوية المباشرة (بتأثير فكر أرسطو)، إلى معانٍ مجازيّة وإلى دلالات رمزية، فالسند هو القدرة، والاستواء على العرش هو السمو والمهابة، والأعين هي الرعاية والارادة". لذا كانت المعتزلة عُصارة التلاقح المنطلِق من إعمال وتوظيف العقل والمنطق لمواجهة جبروت السلطة وتحدّيات العصر. فنجدها تعارض تعصب الأمويّين للعنصر العربي، وتطالب باستبدال التوجّه العرقي بالتوجّه العقلاني، أي أنهم أسسوا فكرًا عقلانيًا يرفض التمييز العرقي، ويؤكّد ذلك الجاحظ بقوله "أن الأصول العرقية (الإثنية) لا يصحّ لها أن تكون عقبة في سبيل وحدة قوم يجمعهم اللغة والدين والهويّة والعادات والأخلاق". ويضيف: "أن محبة الوطن شيء شامل لجميع الناس وغالب على جميع الجيرة" (رسائل الجاحظ ص،29-31، وص،63). والمعتزلة، في بدايتها امتنع "واصل" عن الحسم في قضية مرتكب الكبيرة واختار التسوية (منزلة بين المنزلتين)، لتعرّضه لتهديدات السلطة الأموية، إلّا أنه رغم موقفه هذا، ساهم في الثورة العباسية ضد الأمويّين. فنجد "نيربرغ"، يذكر في "دائرة المعارف الاسلامية"، "أنه خلال الفترة الأخيرة للدولة الأموية، واصلت مجموعات من المعتزلة بنشاط فعال في خدمة القضية العباسية" (ص 164).

المعتزلة والفكر اليوناني
تذكر المصادر أن "مدرسة واصل" عاصرت حركة الترجمة التي وصلت أوجها في عهد المأمون (وساهم السِرْيّان في ترجمتها). ويذكر "دي لاسي أوليري" في كتابه "الفكر العربي ومركزه في التاريخ"، "أن جيل المعتزلة هو جيل أولئك الذين أظهروا معرفة مباشرة بالفلسفة اليونانية مثل أبي هذيل العلّاف، حيث بدأت هذه الفلسفة تُدرس بحماس شديد، ويُسلم بها دون تساؤل مما أدى لخلق النهج التحليلي، المنطقي والقوي في العقائد الاسلامية" (ص، 110). ويضيف أن "ابراهيم بن سيار المعتزلي، كان تلميذًا متخصّصًا في الفلسفة اليونانية، وأن بشر بن المعتمر نجح أكثر من سابقيه في تطبيق التفكير الفلسفي على حاجات الإسلام، وأن للعلّاف الفضل في تطعيم مبادئ الاعتزال بمبادئ الفلسفة" (أوليري، ص، 100، 101، 110).

ويذكر كولدتسهير أن "اتصال المعتزلة بالفلسفة اليونانية، هو الذي مكنها من بلورة مبادئها" (العقيدة والشريعة في الاسلام ص 62). ويضيف الشهرستاني: "أن النظّام قد طالع الكثير من كتب الفلسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة" (الملل والنحل ج1، ص،201). ويذكر وأنهم "اعتمدوا الاستدلال لإثبات العقائد لأن كل مسألة كانوا يعرضونها على العقل، لأن المعارف كلّها معقولة بالعقل وواجبة بنظر العقل" (الملل والنحل ج 1، ص، 38). وأكدوا "أنه إذا تعارض النص مع العقل، قدموا العقل لأنه أصل النص، لأنه لا يتقدّم الفرع على الأصل". لذا يجب معرفة الحُسن والقُبح فقط بالعقل. ومن الجدير ذكره بأنها نقلت من الفلسفة المضمون والأسلوب، والمقولات التي وسّعت ورسّخت مفاهيمها في العدالة والحريّة. ولذا يطرح ادونيس أنها "هدفت خلق وتثبيت فهم جديد للموروث الثقافي، ومنهج جديد في البحث والمعرفة المرتكز على العقل والتحليل لخدمة قضايا الفكر في عصرها" (أدونيس، الثابت والمتحول، ج1، ص، 139).

نظريتهم في المعرفة
ترتكز نظريتهم في هذا المجال على اعتبار العقل كوسيلة للمعرفة. أي أن المعارف عندهم "كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل" (الشهرستاني، الملل والنحل ص، 50). وتفسير ذلك أن العقل هو الذي يقتضي الفعل، ويتوصل إلى ما في الأشياء من صلاتٍ أو فسادٍ بطبيعته الذاتية، ولا سلطان لغيره عليه. وتبدأ المعرفة العقلية في فلسفتهم بالشكّ. برأي الجبائي المعتزلي، "الشكّ قبل النظر، لأنه لا نظر في غير سابقة شك" (اسماعيل المهداوي، الفكر الاسلامي بين العقل والخرافة، مجلة الكاتب المصرية، سنة ١٩٦٧، ص 104). لذلك يفرض جولدتسهير، "نحن لا نستطيع أنكار أهمية نشاطهم وإبداعهم وخاصة توظيف العقل في قضايا ومعضلات الإيمان في أبحاث الدين والثقافة. فكان لنشاطهم الفكري دور حاسم في توفير أجواء حرية التفكير والعقلانية، وأثر فكرهم على معارضيهم". ويضيف أنهم قالوا: "ان خمسين شكًّا خير من يقينٍ واحد" (المصدر السابق. ص، 102). ويبرز النظام دور الشكّ في المعرفة بأن "الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولَم يكن يقينا حتى صار فيه شكّ، ولَم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد آخر بدون أن يكون بينهما حالة شك" (الجاحظ، كتاب الحيوان، ج 6، ص، 35-٣٦). ويؤكد إبراهيم النظام، "أن خمسين شكًّا خير من يقينٍ واحد" (كتاب الحيوان، ج 3، ص، 60). إذًا تكون المعتزلة في موضوع الشكّ -برأي احمد امين - سباقة لأوروبا ، إذ كان منهجهم في البحث أشبه ما يكون بمنهج من يسميهم الفرنجية العقليين، عمادهم الشك أولاً، والتجربة ثانيًا والحكم اخيرًا. والتعرف عندهم على الحقيقة لا يقتصر فقط على الشكّ، أنما يحتاج إلى التجربة، أي الممارسة والفعل، وبذلك رفضوا أن تكون الرواية والنقل هما الطريق إلى المعرفة، أنما الفعل هو طريقها. ونجد الجاحظ يتطرق بل يحدد موقفه من ذلك بقوله: "لم أعِب الرواية أنما عِبت الإيمان بها وتوكيد معانيها". (كتاب الحيوان، ج 1، ص، 85).

عارضت المعتزلة التعلّم بحشو المعلومات، لأن البحث والتحليل المنطقي، والنظر في الأدلّة، يسبق، بل يفوق الِعلم بها. فنجد النظّام يفرض "أن الكتب لا تُحيي الموتى ولا تحوّل الأحمق عاقلاً، ولا البليد ذكيًّا ولكنّ الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول، فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفّي" (كتاب الحيوان، ج 5، ص، 10)، اي عندها "ستقوم الكتب بشحذ الفكر وتفجير المواهب". ويحدّد النظّام دور الِعلم في المعرفة بقوله: "العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك، فإذا أعطيته كلّك كانت من عطائه لك البعض" (إبراهيم أبو ريدة، إبراهيم النظّام وآراؤه الكلامية والفلسفية، ص، 73). وعليه يفترض القاضي عبد الجبار المعتزلي أن "العلم لا يحتاج إلّا لصحة العقل، ويصعب على البليد استحضار العلوم، ولا أقول، يستحيل عليه فهمها، لأنه إذا استعمل طريق العقل واجتهد، يمكنه اكتساب المعرفة". وهذا التوجّه لا ينفيه علم النفس الحديث. كما آمنت بقدرات كل إنسان على استيعاب المعارف، بفرضها أن الفرق بين العامة والعلماء لا يعود إلى قصور أو نقص في القدرات العقلية للعامة أنما للظروف التي حرمت العامة من فرص المران والتعلّم. يحمل توجههم هذا دعوة صريحة لديمقراطية التعليم وتحقيق المساواة الحقيقية.

المعتزلة هم واضعو أسس علم الجدل والمناظرة في الفكر الإسلامي كنهج للتوصل إلى الحقيقة. وهذا دفع لتسميتهم "فلاسفة الجدل في المساجد". فنجد صاحب "الانتصار"، أبو الحسين الخياط، يعرّفهم "أنهم أرباب النظر، دون جميع الناس وأن علم الكلام لهم" (ص، 72). ولخّص الراغب الأصفهاني أسلوبهم في إدارة النقاش والحوار بهذه الحادثة. "اجتمع متكلّمان فقال المعتزلي لنظيره بشرط ألّا تغضب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تُقبل على غيري وأنا أكلمك" (منقول عن أوليري، ن. م. – ص، 115).

وأضافوا لهذه الشروط أن المذاهب لا إجبار فيها، من شاء اختار منها ما شاء، سرّ ذلك صاحبه أم ساء (رسائل الصاحب بن عبَّاد، منقول من كتاب محمد عمارة، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، ص، 184). إلّا أن فئات منهم عند مشاركتها في السلطة تنكرت لذلك. إذًا يستدل مما ذُكر أن المعتزلة قالت: أن الوصول إلى المعرفة يكون بواسطة العقل، الشك، التجربة، التحليل والاستدلال والنقاش الحرّ. والعقل في منظور فكرهم هو الذي يحلّل يقبل ويدحض ويختار ما هو منطقي وضروري لمصلحة الإنسان، لذا هو المصدر لتحررنا من العقائد الجامدة. لذا قام أحمد أمين بتوصيفهم أنهم "أطلقوا للعقل العنان في بحث جميع القضايا، فجعلوا للعقل الحقّ في بحث ما في السماء والأرض وفي الله والإنسان" (ضحى الإسلام، ج 3، ص، 68-69).

توصّل علماء المعتزلة بتحليلاتهم إلى نتائج مهمة ورائدة في مضمار العلوم. فالنظّام أثبت عدم فناء المادة، وعرَّف عملية الخلق بأنها حلول وجود محل وجود آخر، والطفرة برأيه هي "بأن الجسم الواحد يكون في مكان، ثم يعبر إلى المكان الثالث، من غير أن يمرّ في الثاني". كما برهن "أن الأجسام جميعها متحرّكة، وهي تتحرّك في الوقت الذي تُحسب فيه ساكنة، أي أن الأجسام غير باقية، مُتجدّدة مع أن الحسّ يحكم بخلاف ذلك" (حسين مروة، ن. م.، ص 801). أمّا "الأعراض في فكره، كلّها جنس واحد وكلّها حركات" (البغدادي، الفرق بين الفرق، ص، 126). وأثبت "أننا نشمّ رائحة الورد الجميلة، بِنَاء على ذرات انبعثت من الوردة فلامست خيشومنا، وأننا نتذوّق الأشياء بناء على ذوبان ذرات تلامس غدة الذوق، وإذا لم تتحلّل الذرات فلا نُدرِك لها طعمًا". لذا وصفه المستشرق هورتن "بأنه أعظم مفكري زمانه تأثيرًا، وهو في الوقت نفسه أول من مثّل الأفكار اليونانية تمثيلاً واضحًا"، وأيضًا مذهبي "التجدد" (هيراقليطوس) و"الطفرة" (عبد الهادي ابو ريدة، إبراهيم النظام، ص، 115). أمّا معمر بن عُبَّاد المعتزلي فقد قال بوحدة الوجود، واعتبر الجاحظ المادّة قديمة أمّا أعراضها فمخلوقة ومتغيرة.

موقف المعتزلة من حرية الإنسان
الإنسان في فكرهم حرّ في خياراته وقراراته، ولإثبات ذلك استنطقوا النصّ القرآني خير داعم لوجهة نظرهم. واندفعوا لعرض وجهة نظرهم حول حرية الإنسان مستندين إلى النصّ الدينيّ وإلى منهجهم العقلاني. فشدّدوا على حرية الإنسان في تصرفاته وخياراته، وتحمّله المسؤولية المباشرة عن النتائج المترتبة على أفعاله. ويربطون هذه النظرة بمفهوم العدل الإلهي الذي يجازي على الثواب والعقاب. فإذا لم يكن الإنسان حرّا في خياراته فكيف يمكن مجازاته في هذه الحالة على أمور مفروضة عليه. وذهبوا إلى عدم تدخل الله في شؤون الإنسان بشكل اعتباطي. وينطلقون في تعريفهم هذا للحرية انطلاقًا من كون عقل الإنسان هو المرشد للإنسان في أفعاله، خيرًا كانت أم شرًا. ويعتبر المعتزلة أن خيار الإنسان وفعله يصعب أن تتحقق من دون امتلاكه القدرة، المُستمدة من الحرية والعدل الإلهي حيث ينصّان على مسؤولية كل إنسان عن أفعاله. ويؤكّد الجاحظ، أحد أعلام المعتزلة، على تميّز الإنسان عن غيره من الكائنات الحيوانية بقدرته واستطاعته على الفعل والاختيار، وترتّب القدرة والاستطاعة على وجود العقل" (جُوبهت بردود عنيفة من قبل "الجبرية" لأن أفعال الإنسان عندهم تقرّرها المشيئة الإلهية).
مبادئ المعتزلة
تتفق الدراسات على خمسة أصول أجمعت عليها المعتزلة، وشكّلت مفتاح سجالاتها الفكرية والسياسية مع معارضيها. وهذه الأصول هي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وانطلقت جميعها من منظومة فلسفية توظّف النصوص الدينية لتبرير شرعية صراعها مع خصومها. ولقد كان أحد الأصول يحتلّ الأولوية والأهمية حسب دوره في حسم السجالات السياسية والفقهية الدائرة مع خصومها. أمّا وظيفة هذه الأصول، فكانت مساعدة الفرد على التمييز بين الحقّ وانعدامه في العالم.

التوحيد: أكّدوا أولوية التوحيد بقولهم أن الله قائم بذاته ولا توجد له صفات زائدة عن ذاته، ولا يتدخل في أفعال الناس. وتأثير أرسطو واضح هنا، "حيث فرض أن الباري عِلْم كلّه، حياة كلّه، بصر كلّه."

العدل: سُميت المعتزلة بأهل العدل والتوحيد. ينطلق ويرتكز هذا المبدأ على أن الإنسان هو الذي يحدّد أفعاله، خيرها وشرها، والقوة الإلهية مُنزهة عن أفعال الشرّ، (أعمال الله كلّها حسنة، وهو لا يفعل إلّا الخير). يفرض محمد عمارة أن فكرتهم في العدل "ترتبط بتوفّر مبدئي الحرية والاختيار لكل إنسان، أي إثبات القدرة والاستطاعة لدى الإنسان، ونسب أفعاله إليه" (المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، ص، 35).
ويفرض الجاحظ "إذا ذهب التخيير، ذهب التمييز، وَلَن يكون للعالم تثبُت، توقف وتعلم" (كتاب الحيوان، ج 1، ص، 68). ان الإرادة في تعريفهم تتمتّع بحرية التنفيذ ولا تقوم بتقييدها إرادة سابقة، أي لا يقيّدها قدر سابق أو خرافة. وأكدت بهذا الطرح، استقلالية الإرادة الإنسانية، لأنه من المستحيل اجتماع مؤثرين معًا على مؤثر واحد. ونجد النظّام يعرف القدرة "بأنها القدرة على الفعل قبل حدوث الفعل" (سامي النشار، الفكر الفلسفي في الاسلام، ج 1، ص، 603). وبرأي بشر بن المعتمر المعتزلي "أن كل ما تولّد من فعلنا مخلوق لنا" (ضحى الاسلام ج 3، ص، 59). وتفسير ذلك أن الإنسان هو الذي يفعل كل شيء ويتحمل مسؤوليته. وقامت المعتزلة بتحديد طبيعة الفعل الإنساني "كلّها من جنس واحد، وكلّها حركة" (سامي النشار، المصدر ذاته، ص، 601). وبرأيها "أن كل شيء ليس بحركة ليس من صُنع الإنسان" (ضحى الإسلام ج 3، ص، 59). إلّا أنهم لم ينفوا ارتباط حرية العمل بالظروف الملموسة والعينية. والفعل الإنساني، برأيهم هو فعل لغاية، "لأن الحكيم لا يفعل فعلاً إلّا لحِكمة وغرض، والفعل من غير غرض سُفه وعبث" (ضحى الاسلام. ص، 47). ويضيف سامي النشار أنهم قالوا: "إن حياة الكائن الحيّ تتجه نحو غاية، وهذه ستتحقق مهما اجتمعت عقبات دونها" (ن٠م، ص، 506). وربطوا تصوّراتهم للعدل بدرجة خدمته المصلحة العامة، بقولهم "ما يقتضيه العقل من المنفعة والمضرّة لمصلحة الآخرين" (محمد عمارة، ن. م. ص141). وأضافوا أيضًا "أن الإنسان يختار أفعاله ويحدّد رزقه بجدّه وعمله،" وهذه دعوة لتحرير الفرد من الكسل والاتكالية، (إلّا أنهم لم ينفوا ارتباط ذلك بالظروف المتاحة للعمل والإمكانيات).
لقد قادتهم فلسفتهم في مضمار العدل والحريّة للتمييز بين القتل والموت الطبيعي. فالقتل برأيهم هو اعتداء ظالم اقترفه القاتل ضد أخيه الإنسان وأضافوا أنه لو لم يُقتل، لجاز أن يعيش إلى وقت آخر. ويُثمّن محمد عمارة موقفهم هذا بأنه "قمّة الجرأة في مناقشة وحسم قضية الآجال، وتقريرهم أن من أنهى أجل القتيل هو القاتل نفسه، ويكونون بذلك قد أجازوا للإنسان إمكانية السعي لتحقيق التقدّم الصحي والمعيشي، بزيادة متوسط عمر الإنسان بخفض نسبة الوفيات، لاعتقادهم بإمكانية التأثير الإنساني لتحديد مدى الآجال وأوقاتها (محمد عمارة، ن. م، ص115). ومن الجدير ذكره ربطهم المتبادل بين الحرية والعقل "لأنه برأيهم لا عقل بدون حرية ولا حرية بدون عقل" (أدونيس، ن. م.، ص 115). وبرأيي هذا طرح موضوعي لأن العقل يلعب دورًا فعّالاً في فهم الواقع، بينما الحرية تسعى لتغييره أو أعادة تشكيله حسب متطلّبات العقل ليقوم بخلق وعي جديد يتناسب مع الواقع الجديد.
يُستدل ممّا تقدم أن جوهر الإنسان في فكر المعتزلة يكمن في الحرية، العدل والعقل، وإيمانهم أن الإنسان قادر ويستطيع بإرادته وحريته وعقله تذليل العقبات وتغيير واقعه نحو الأفضل.
الوعد والوعيد: يحدده القاضي عبد الجبار بأن "الوعد - هو كل خير يتضمن إيصال النفع إلى الغير أو دفْعِ الضرر عنه في المستقبل. اما الوعيد -فهو كل فعل يتضمن إيصال الضرر إلى الغير أو تفويت النفع عنه في المستقبل" (منقول من كتاب سامي النشار نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ج١ص٤٣٦). ويضيف القاضي عبد الجبار "هو العلم بأن كل ما وعد الله به من الثواب لمن أطاعه، وتوعّده العقاب لمن عصاه.. ولا يجوز له الخُلْف في وعده ووعيده، ولا الكذب في الأخبار فيه، بخلاف ما ذهب اليه المرجئة" (الاصول الخمسة ص٧٠). وقصدت المعتزلة أن عقل الإنسان وارادته، تدفعه لاختيار وتحديد أعماله، فعليه هو المسؤول عن نتائج أعماله الإيجابية والسلبية. فلقد أنطلق هذا التوجه بفعل رفضهم موقف حركتي الجبرية والمرجئة بالامتناع عن مقاومتها الحاكم الظالم - مرتكب الكبيرة، وتبرئته من العقاب (الخلود في النار)، إذا مات بلا توبة. أن الثواب في فلسفتهم ينطبق على كل فعل استحسنه العقل ونجم عنه الخير، ويكون العقاب على كل فعل استقبحه العقل، وحمل معه الأذى والظلم للأفراد والمجتمع. فكل إنسان في تصورهم هو حر في خياراته وقراراته، ويجب أن يدفعه ذلك لتصدي لكل ظلم، وإذا تقاعس في هذا الواجب، سيفقد كل بارقة أمل للتحرر من الاستغلال والاستعباد.

المنزلة بين المنزلتين: قرروا بموجبها موقفهم الأخلاقي بأن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن (هو بمنزلة بين المنزلتين). ينسب دارسو هذا المبدأ إلى تأثير الفلسفة الرواقية على فكرهم، حيث كان الرواقيون يميّزون بين قيمتي الخير والشر وقالوا أن هناك أشياء خيرة وأخرى شريرة وأشياء بين البينين. وبرأي محمد عمارة، هذا موقف تسوية، هدف في حينه بقاء المعتزلة في إطار الجماعة الإسلامية، وعدم تحوّلها إلى عدو. هذا معناه أن الرابطة مع المؤمنين غير مقطوعة، والكفاح ضد الظالم والخروج عليه أحد الأمور والواجبات المشروعة (محمد عمارة، ن. م. ص، 68).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قصدت به المعتزلة مشاركة كلّ مسلم مؤمن في تقويم المعوجّ من أمور الحياة العامة. وهذا، عملاً بحديث الرسول الكريم "أن خير الناس آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر". والنهي برأيهم يكون "بالقلب إن كفى. وباللسان إن لم يكفِ، وباليد إن لم يُغنيا، وبالسيف إن لم تكْفِ اليد" (أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 4، ص، 65). وموقفهم هذا بالأساس هو دعوة لتحديد موقف الناس من السلطة الحاكمة وأعوانها. طبقت المعتزلة موقفها هذا "حين استخدمت سيوفها في أواخر الدولة الأموية بتأييدها الخليفة يزيد الثاني المستنير ضد الوليد الثاني المشهور بفسقه"، (إسماعيل المهدوي، الفكر الاسلامي بين العقل والخرافة، مجلة الكاتب المصرية، 1967، ص، 99).

موقفهم من الصدفة والغيبيات
شكّلت حركة المعتزلة تنظيرا وإدراكا عقلانيا للواقع. وفرضت وتوصلت أن لكل حادثة مسبباتها، وهناك ارتباط عضويّ بين السبب والنتيجة. دفعها تفكيرها هذا لأنكار الصدفة، لأنها في نظرها، هي مسبّبات لأسباب قد تكون مجهولة لنا اليوم، أو مجهولة لبعضنا إلّا أنها ليست معدومة. إذا يكون التعريف لبعض الحوادث بأنها صدفة لا لانعدام أسبابها، أنما ناجم عن ضعف وقصور في القدرة الإنسانية لكشفها. وبرأي محمد عمارة فرضت المعتزلة "أن تطوّر القدرة البشرية في المعرفة سيُؤدّي لكشف العلاقة القائمة بين هذه المسبّبات التي يحسبها البعض مصادفات. أن موقفا كهذا يطرح تحدّيا للفكر الإنساني لأن يثابر في البحث لاكتشاف مسبّبات الحدث الذي حُدّد كصدفة" (محمد عمارة، ن. م.، ص 158). كما أدّى اعتقادهم بقدرة الإنسان تشكيل، هيكله وتغيير واقعه، لرفضهم كلّ تفسير غيبيّ، سحريّ وأسطوريّ للواقع. يذكر أحمد أمين أنهم أنكروا السحر لأن الساحر لا توجد له القدرة على قلب الحقائق أنما يملك القدرة على قلب أوهام الرائي (ضحى الإسلام، ن. م.، ص، 86). ونجد الجاحظ المعتزلي يهزأ من الخرافات الشائعة في عصره.. ولا مجال لذكرها هنا (ضحى الإسلام ص٨٦). كما أنكرت المعتزلة الجنّ والأرواح الشريرة والأفعال الغيبية. واعتاد كلّ معتزلي تأنيب كلّ من اعتقد بالجنّ أو رؤيته. ولذا يؤكّد التنوخي أن "نساء المعتزلة لم تكن تخشى الجنّ والأرواح الشريرة، وكذلك صبيانهم، لأنهم لم يعتادوا سماع روايات الجنّ من آبائهم" (ضحى الإسلام، ن. م.، ص، 88). أمّا إبراهيم النظّام فيذكر "أن الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، فهو مِنّا" (الشهرستاني، الملل والنحل، ص، 61). يمكن الاستنتاج مما تقدّم أن عقلانيتهم حرّرتهم من ذلك، وأثبتوا أيضًا أن للتربية دورها في تحرير الإنسان من عبودية الأوهام والخرافات والسحر والجبرية.

المعتزلة والسلطة والإمامة
تشكّلت رؤيتهم السياسية استنادًا إلى أصولهم الخمسة، وأبرزها ارتباطا بالسياسة هو أصل العدل، والذي قرّروا فيه حرية ومسؤولية كلّ فرد عن أفعاله. والعدل هو من أهمّ دعائم الدولة الأخلاقية، لفرضهم أن كلّ صاحب سلطة مسؤول عما يرتكبه أو يُرتكب باسمه من مظالم. وانشغلت المعتزلة في محاربة الأسس الفكرية التي استندت إلى عقيدة الجبر والإرجاء، والتي اعتبرت تسويغا لسلطان الأمويين الجائر. وكانت نقطة إدانتهم الأمويين، تحويلهم الخلافة من شورى إلى مُلك عضوض، حُبّا منهم في الدنيا، وهو أمر ارْتُكِبت في ظلّه مظالم كثيرة. إلّا أن ذلك لم يمنع المعتزلة اعتبار خلافهم مع الأمويين سياسيا وليس دينيا، مصدره تغيير نمط السلطة في الدولة، بتعطيل إقامتها على الشورى. فكان خلافهم مع الأمويين ليس دينيًا أنما سياسيًا مدنيًا، باعتبارهم ملوكًا وأمراء نبذوا العدل، فيتوجب الخروج عليهم عندما تتوفر الفرصة لهم.
ولَم يعتبروا الإمامة من أصول الدين وخاصة بأنها أعظم أركان الدين، "فلم يعتبروها شأنًا من شؤون الوحي، بأيّ حال من الأحوال، فالإمامة كما فهمها المعتزلة قضيّة مصلحيّة في المقام الأول للدين والدنيا. والإمام ليس إلّا رجلاً عاديًا، قد برز في حقلي العلم والعمل (الأصول الخمسة المنسوب إلى القاضي عبد الجبار، تقديم وتحقيق: د. فيصل بدر عون، ص، 11). ان المعادلة السياسية التي بلورتها المعتزلة خلال مسيرتها ترتبط بشكل وثيق بأصولها، وتشمل طريقة اختيار الحاكم وطبيعة العلاقة بينه وبين الرعية، وحقّها في عزله محاسبته والثورة عليه، إن قام بأمر أو حدث مشين. وأكّدوا ضرورة وجود دولة وسلطة حاكمة، "لأن الإنسان برأيهم مخلوق اجتماعي مدني، الأمر الذي سيدفعه إلى نوازع الشرّ والأطماع. إذًا، فواقع كهذا يتطلب الحاكم لإقامة العدل بين الناس" (رسائل الجاحظ، ج 1، ص، 161). ونجد بعضهم قد ذهب إلى إلغاء الدولة في حالة "تعادل وتعاون وتناصر الناس على الْبِرّ والتّقوى، واشتغال كلّ واحد من المكلّفين بواجباته، عندها يمكن الاستغناء عن الإمام" (الشهرستاني، الملل والنحل، ص 87).
تتّفق المعتزلة على أن اختيار الحاكم وتولّيه السلطة يكون بالشورى والاختيار والعقد والبيعة له من الأمّة. واعتبروا اختياره، محاسبته، انتقاده وعزله حقّ شرعي للأمّة. وحددوا أن عملية الاختيار والمبايعة والتنصيب، تعاقد بين طرفين، الطرف الأول الخاصة (أهل الحل والعقد لأن كفاءتهم تخوّلهم اختيار الأفضل). وهم ممثلو الأمّة والناطقون باسمها ومصلحتها. والطرف الثاني الحاكم. وأكّدت ضرورة عدم مخالفة الحاكم لشروط العقد وخاصة قيامه بالاعتداء على حقّ وحرية الأمّة في تقرير شؤونها وتوقّفه عن خدمة مصلحتها. الأمّة هي وحدها صاحبة الحقّ الشرعي لعزل الإمام حتى باستعمال القوة. ويذكر القاضي عبد الجبار "أن فُسق الحاكم، ظلمه، أو أيّة مخالفة منه لشروط العقد، يتوجب على الأمّة التمرد عليه" (ص، 575). ولا تكتفِ المعتزلة بعزله أنما القيام بتغييرات جذرية لتحسين أوضاع المجتمع. "أن الأوضاع الجائرة في المجتمع، ووجود حكّام ظالمين، فكل ذلك عند المعتزلة لا يجوز أن يُردّ إلى الله. فكما يتحمّل الفرد مسؤولية أعماله، فيتوجب انطباق ذلك على الحاكم، لذلك ينبغي التصدّي لهذا الظلم والفساد وإجراء تغييرات من جهة البشر لمصلحة المجتمع، والفرد والمجتمع تقع على عاتقيهما تحمل مسؤولية التغيير، ويكون التغيير بالأمر عن المعروف والنهي عن المنكر" (الأصول الخمسة، ن. م. ص 10-11) أمّا معتزلة بغداد فأقرّت "حُكْم المفضول على من هو أفضل منه، إذا كان أقدر على قيادة الشعب أو أكثر علمًا في شؤون السياسة والإدارة". ويجب تقديمه على من يسبقه في العبادة وخاصة إذا كان للمتغلّب شوكة مكنته من الولاية (الأصول الخمسة، ن. م. ص 10).



المعتزلة والمرأة
من الطبيعي أن تتطرّق حركة المعتزلة التي تركت بصماتها بوضوح على خريطة الثقافة الاسلامية، بتعظيمها دور العقل كوسيلة للفهم، وتأييد موضوع المساواة بين الجنسين. فنجد الجاحظ يؤكّد ضرورة معاملة المرأة وإعلاء شأنها بقوله "لسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل، أن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين وأكثر. ولكن رأينا ناسًا يزرون عليهن أشدّ الزراية، ويحتقرونهن أشد الاحتقار، ويبخسون حقوقهن. وأنه من العجز أن يكون الرجل، لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلّا بأنكار حقوق الأمهات والأخوال، فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من محاسن… وعليه لا ينبغي لمن عظّم حقوق الآباء للذكور أن يصُد ويتنكر لحقوق الأمهات" (رسائل الجاحظ، ص، 68). أن ما كتبه الجاحظ هو مطالبة جلِيّة للرجال لاحترام حقوق المرأة، ودعوته هذه في ظروف عصره هي مطالبة جريئة ومتحدّية وتفوق كل تصور لإعلاء مكانة المرأة. ونجده يعارض أن "لا تكون ديّة المرأة مثل ديّة الرجل"، وينتقد التسرّي وفساد الأخلاق، والمتاجرة بالنساء، فكيف لا يمكن توصيفه بأنه من المبشرين بتحرير المرأة.

المعتزلة في الحكم
لقد تحوّل الاعتزال إلى أيدولوجية الإمبراطورية العباسية في مرحلة أوجها، إبان عصر المأمون حتى اعتلاء الواثق سدّة الحكم. وهناك تحليلات ووجهات نظر مختلفة بالنسبة لهذا الموضوع. فجولدتسهير وغيره يفرض أن ثمامة بن الأشرس وأحمد بن داود (قاضي القضاة)، كان لهما التأثير الواسع لنشر الاعتزال في الدولة العباسية. وهما اللذان أوعزا للمأمون لأن يقرّر الاعتزال أيدولوجية الدولة (جولدتسهير، ن. م.، ص، 150).

ونجد أيضا أحمد أمين يؤيد "أن المعتزلة هي التي أقنعت المأمون بتحويل الاعتزال مذهبًا رسميا للدولة، وذلك لحمل الخليفة في تسخير الدولة لنشر وتعميم فكرها... وقِبل المأمون هذا العرض لأنه رأى فيه واجب الخليفة، حفظ الدين وإقامة العمل والعدل بحقّ الرعية" (ضحى الإسلام، ن. م.، ص 165-166). إلّا أن هناك من يفرض أن الدافع لاختيار المأمون الاعتزال كمذهب رسمي للدولة كان بدافع مصلحته لمواجهة التمزّق في إمبراطوريتيه، وكسبه التأييد والدعم عن طريق إعلانه العقل منهجا للتفكير ورابطة جديدة للمجتمع في عصره (اسماعيل المهدوي، ن. م.، ص 99). ومن الطبيعي أن تستغلّ السلطة قوّتها ومواردها وجبروتها بتجنيدها، فئات من المعتزلة، بدعم سياسة الخليفة، لرغبتها في تطبيق نظريتها في الحكم، وأيضًا هذا لا ينفي أن محفز بعض المعتزلة لدعم هذا الموقف، لتحقيق مكاسب شخصية. وأوضح مثال لذلك (تحمس قاضي القضاة من المعتزلة). فاعتمدت هذه العناصر على سيف الخليفة في فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى وسيلة تستغلّها وتوجّهها السلطة، لمقاومة أعدائها، بحجّة عدم قبولها أيدولوجية المعتزلة التي تبنتها الدولة. فتحوّل الاعتزال في عصر المأمون إلى فكر وأيدولوجياتها مفروضة قسرا وبالقوة على الشعب (خاصة المعارضة). فأوجد الخليفة باسمهم وبمشاركة مجموعات أخرى مختلفة من أنصاره وأعوانه أشبه ما يكون بمحاكم تفتيش تمتحن عقائد الناس، وترغمها على القول بخلق القرآن، ومن يرفض ذلك، كان يتعرّض للعذاب والحرمان من الوظائف والقتل (مثال: محنة أحمد بن حَنْبَل).
وعليه فأن كلّ من شارك في أعمال القمع هذه، يكون قد تنكر لمبادئ المعتزلة الداعية لحرية الاختيار والبحث وحرية الإرادة. ولقد أثارت الممارسة الاستبدادية لعناصر من المعتزلة أسئلة كثيرة. منها هل مارسوا هذا العنف لوحدهم، ووفقا لخياراتهم الفكرية والسياسية؟ أم كانوا أداة وظّفها الخليفة العباسي لخدمة حكمه؟ ومن الصعب لخليفة في أوج سلطانه أن يسلمهم استقلالية تامة لاتخاذ القرارات. وعليه فكل من تعاون منهم في الحكم كان اداة اغرتها السلطة ومكاسبها وهيبتها، فانخرطت لدوافع مختلفة ومتناقضة في ممارسات متضاربة مع مبادئها. برأيي كان من الأفضل لهذه الحركة بألّا تنزلق وتتوّرط في فخاخ ومكائد السلطة، وخاصة أن الفئات الشعبية كانت مُجيّشة ومُهيأة، لمعاداتها، والانقضاض عليها، وخاصة أن نهج المعتزلة العقلاني غريب عنها (لذا صدق القائل بأن سواد الشعب لم يكن تتوفر له الظروف لتقبل تصوّر دينيٍ مؤسسًا على العقل لِتَحَكُم مُرَكَب العاطفة عليه). لذا صدق من عرّفهُم، بأنهم كانوا نخبة ثقافية فكرية، عجزت عن توفير الطابع والقاعدة والدعم الجماهيري لمذهبها، وهذا حال دون تقبّل دين مؤسس على العقل. ولقد أخطأ بعضهم حين مارس التكفير لمعارضيه، وتطبيق النظرية بحدّ السيف، مما أدّى لتحوّلها من حركة تعتمد على قوة العقل إلى حركة تعتمد على عقل القوة. لقد امتلأت السجون في عهد مشاركة فئات منها في الحكم بسجناء الرأي، وكان معظمهم من القائلين بأولوية النقل مثل أحمد بن حَنْبَل. وتعكس تجربة المعتزلة كنخبة مثقّفة مارست السلطة السياسية أو بشكل أدقّ شاركت فيها، لتحوّلها السلطة الحاكمة وسيلة لتدعيم سلطانها، ولتواجه عن طريق فكرها أزمة ومعضلة تلازم الدين والدنيا، الجمع بين النظرية والممارسة، التي من الصعب حتى اليوم الفصل بينها في العالم العربي والإسلامي.
لقد أدّى واقع مأزوم كهذا إلى قيام السلطة بتوظيف واستغلال أدلجة فكرها لخدمة مصلحتها بانتقاء وتفسير القيم التي تدعم مصلحتها وتُشرعن استمرار تسلطها. فنجم عن ذلك تورّط أو اندماج بعض قيادات المعتزلة في خدمة مخطّطات السلطة لقمع كل من تسوّل له نفسه بتحديها (ولا نُبرّئ هنا بعض المشتركين من تهمة الانتفاع الشخصي). أنه من الخطل تناسي عصرهم لنُسقط عليهم تصوّراتنا المعاصرة، لأن حدود عقلانيتهم ومواقفهم يجعل من المستحيل بأن يتجاوزوا حدود عصرهم، وخاصة حين يمتزج عضويًا الدين بالسياسة (هذا واقعنا حتى اليوم). وتوحي لنا تجربة المعتزلة بأنه في ظروف انعدام حرية الرأي والفكر، يغدو المثقّف المندمج في السلطة أداة تساهم في أنتاج القهر والقمع. ويمكن أن نفرض هنا أن تقدم الأمم منوط بإقامة علاقة صحية وسوية بين الفكر النظري والعمل السياسي (وهذا يستحيل تحقيقه عندما يكون الدين والسياسة منظومة شمولية تسخّر كلّ شيء لخدمتها)، لتتحول إلى أداة للقهر السياسي أو الاستقواء الفكري، باسم الدين، لتصبح السلطة السياسية والدينية اداة بل حربة بيد تيار فكري لمواجهة وقمع تيارات أخرى، وتتحوّل السجالات المستندة إلى العقل واللسان إلى معارك يتم التسلّح فيها بنفوذ السلطان وقهر السجّان. فالأفكار مهما كانت تمتلك من سلامة وتكامل منطقها وقوة برهانها، ستصبح فاسدةً عندما تتحوّل إلى أيدولوجية تبرّر وتشرعن ممارسات السلطة. ولعلّ الجاحظ أدرك نسبية الأفكار البشرية وطابعها التطوّري بقوله: "ينبغي أن يكون سبيلنا بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا، لأننا وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من سيكون بعدنا سيجد عبرًا أكثر مما وجدنا" (الجاحظ، كتاب الحيوان). وهذا معناه أن الجاحظ الوحيد، تمكن من إدراك واستبصار تاريخية الفكر والعقل وهذه معضلة كل حركة وفكر بكونه وليد عصره.
بعد هزيمة المعتزلة وما حصل من تنكيل بأقطابها (منذ خلافة المعتزّ)، وإعمال القتل بمناصريها وحرق كتبها، توفّرت الظروف والمناخ لدخول الفكر العربي في عصر الجمود والحرب على العقلانية بفعل عوامل كثيرة من بينها فشل المعتزلة بفرض فكرها بالقوة في مناخ كان من المستحيل توفير نجاحها، ويسمّى محمد أركون هذه الحقبة "غير المسموح التفكير فيها، أو المستحيل التفكير فيها" (أركون، الفكر العربي، ترجمة عادل العوّا). فمنذ دخول المجتمعات العربية عصور الانحطاط، كان لفشل تجربة المعتزلة في فرض تصوّرهم العقلاني للدين، ردة ونكوص، تميّزت بهيمنة الفكر المحافظ والسلفي، المؤسس على الإيمان بعجز العقل في فهم أمور السلطة والدين، والجزم القاطع بأن المعرفة فقط بالنقل، وتحريم الجدل والحوار في الدين وانتصار الجبرية التي ما زالت متفشية حتى عصرنا. أن تورّط بعض المعتزلة في فرض فكرها بالقوة، ما زلنا نعاني وطأة انعكاساته السلبية حتى يومنا، حيث الفكر النخبوي التنويري في مجتمعاتنا المعاصرة ينحصر في نخبة مثقّفة متنوّرة، ولا يتوفّر له بفعل عوامل متعددة القاعدة الجماهيرية، لتقبّله من الغالبية الساحقة للشعب، فقوى القهر أقوى من قوى التنوير، لأنها تملك التحالفات، القوة، والامكانيات للترويج للفكر السلفي الغيبي الذي يُكرّس استمرارية بطشها واستغلالها من قبل السلطة وأعوانها.

إلّا أن أحمد أمين يتطرق إلى مدلولات وأبعاد الخسارة الفادحة لطمس فكر المعتزلة بقوله "أنه لو سادت تعاليم المعتزلة في هذين الأمرين، أعني سلطان العقل وحرية الإرادة بين المسلمين في عهد المعتزلة، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي... الذي أعجزهم فيه التسليم، وشلّهم الجبر، وقعد بهم التوكّل".. فكان موتها من أكبر وأفدح مصائب المسلمين (ضحى الإسلام، ن. م.، ج3، ص 62-63، 207). ويضيف المؤرخ الحيفاوي بولس فرح "أن الإنسان العربي يجد في فكر المعتزلة في حاضره مادة للتفكير الحرّ ولانطلاق العقل من مستنقع الجمود والخرافة والغيبيات والاستسلام المهين للطغاة والظالمين. أنهم المفكرون الأحرار في الاسلام، أنهم صوت احتجاج العقل ضد العقيدة الجامدة" (مقدمات في تاريخ العرب ص 162). ومن مظاهرها التقدّمية والإيجابية أيضًا "سعيها لطرح نهج جديد لتوحيد الأمّة على أسس ومنطلقات جديدة، تعتمد على العقل وقدرتها على توفير قاسم مشترك عقلاني، لخلق ثقافة وهُوية مشتركة".

وفي الختام فأن حركة المعتزلة على صعيد الممارسة لم تخل من مفارقات وأخطاء، إلّا أن ذلك لا يطمس إيجابيّاتها التي فاقت كثيرا سلبياتها. فيكفيهم فخرا أنهم كانوا رواد الفكر العقلاني في حضارتنا. وقد جسّدت حركتهم: العقلانية باعتمادها العقل أساسا لنظريتها في المعرفة الشاملة في كل المجالات، لكونها الأداة المعرفية الاساسية، التي يمكنها لوحدها أن تفسر وتعالج كافة المجالات. ولقد قامت بدور الريادة في قضايا عديدة منها: مبدأ الشك، العلم، تأكيد الطابع العقلاني للدين، أي تأسيسه على العقل والمنطق ليصبح مرجعا وحَكْما في امو الدين والعقيدة، بلورة نظرية العقد الاجتماعي في الحكم، وشرعية عزل الحاكم الفاسد حتى باستعمال القوة، تحديد وتقرير مبدأ حرية الاختيار. أن النظر اليها في سياقها التاريخي، يجعلنا نثمنها ونقوِّمها كحركة تنويرية، تقدمية ونقلة نوعية حضارية، ساهمت في تطور وتبلور الفلسفة الاسلامية في القرن الثالث هجري. كما شكلّت أبحاثها فلسفتها العلمية امتدادا طبيعيا للعقلانية المستمدّة من اليونان بشكل خاص. فكل ما تقدّم يجعلها مدخلا لتحقيق الحداثة في مجتمعنا، وأيضًا مؤشرا بأن النزعة العقلانية وحرية الفكر والبحث، قد رافقت وواكبت الأطوار التي كان فيها المجتمع الاسلامي في حالة تقدّم وازدهار، بينما أطوار الانكماش، النكوص والجمود، فقد أفرزت الفكر المحافظ والمتزمّت، السلفي، التيمية والجبرية.

شفاعمرو - حزيران 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من يتحمل مسؤولية تأخر التهدئة.. حماس أم نتنياهو؟ | #التاسعة


.. الجيش السوداني: قواتنا كثفت عملياتها لقطع الإمداد عن الدعم ا




.. نشرة إيجاز - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجزيرة


.. -تجربة زواجي الفاشلة جعلتني أفكر في الانتحار-




.. عادات وشعوب | مدينة في الصين تدفع ثمن سياسة -الطفل الواحد-