الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة المجلس الوطني لإعلان دمشق (القسم الثاني)

فارس إيغو

2021 / 7 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


المقدمة
قد يتساءل القارئ، لماذا تخصيص مقالة تتألف من 18 صفحة للحديث عن المجلس الوطني لإعلان دمشق في الداخل السوري.
وما هي أهمية هذا الحدث المفصلي بالنسبة لمستقبل المعارضة السورية قبل الثورة وبعدها؟
إنّ ما جرى قبل انعقاد الجلسة اليتيمة للمجلس بشهور وأثناءها وما بعدها سوف يطبع المعارضة السورية لفترة طويلة بهذا الانشقاق الذي حدث أثناء انعقاد الجلسة الأولى والأخيرة للمجلس العتيد، وإعلان النتائج والانعكاسات التي جرت بعدها من توقف وجمود حركة المعارضة أو اقتصارها على النخب السياسية التي شكلت الأمانة العامة إلى حين اندلاع الربيع العربي. وبهذا يكون هذا الفشل الذي يعزى إلى تياري المعارضة الرئيسيين القومي ـ الماركسي والليبرالي، وبالخصوص التيار الليبرالي الذي توسع في الفترة بين 2005 ـ 2007. ومهما كانت المقدمات فإن النتائج أثبتت أن التجربة قد انتهت قبل أن تنضج، معلنة بذلك النهاية الثانية لربيع دمشق. فهل كان من الممكن تجنب كل ذلك؟. سنرى ذلك من خلال هذه المقالة المؤلفة من قسمين والتي خصصناها بصورة حصرية للمجلس الوطني لإعلان دمشق، والذي تحدث عنه مطولاً السيد موفق نيربية في محاضرته في موقع مشروع وطن في 29/06/2021.
لقد خصصنا القسم الأول من مقالة المجلس الوطني لمعالجة مقولة ((الفرصة التي أضاعتها المعارضة السورية)) في نهاية عام 2007، وسنناقش في هذا القسم الثاني قرار اللجوء إلى صناديق الانتخاب لاختيار الأمانة العامة للمجلس الوطني لإعلان دمشق في الداخل السوري، وما تسبّب فيه من شق المعارضة إلى تيارين، بعد أن تمّ تجميعها في إعلان دمشق نهاية عام 2005، وهكذا فإنّ شهر العسل لم يستمر سوى 20 شهراً.
فشل التوافق في لحظة مصيرية من لحظات بناء المعارضة السورية الديموقراطية
يقول السيد موفق نيربية في روايته عن المجلس الوطني، وسنقتطع من كلامه الأمر الذي يخص اختيار صندوق الاقتراع الحكم في اختيار رئاسة المجلس والأمانة العامة:
((بعد تشكيل إعلان دمشق لم تنتظر الخلافات الداخلية المتربصة دائماً بين الاتجاهين الأساسيين اللذين أشرت إليهما سابقاً (يقصد القومي والليبرالي). في عام 2006، كان هناك ازدهار وتوسع أفقي للإعلان، ولعمله في المحافظات جميعها، وفي خارج البلاد، الأمر الذي دفع مكتب إعلان دمشق في أوائل 2007 إلى الاتفاق المبدئي على عقد المجلس الوطني الموسع، من خلال سلسلة تحضيرات تربط ما بين مفهومين يفرقان النخبة عموماً، وهما مفهوم التوافق ومفهوم الممارسة الديموقراطية. يعني مفهوم التوافق أن تُهندس (أو تُركب) قيادة من مجموعة القوى، وتكون لهذه القوى حقوق الفيتو على توجه لاحق للمجلس الوطني لإعلان دمشق (التدخل الخارجي، أولية قيادة المجلس الوطني لإعلان دمشق في الداخل، رفض الخطاب الطائفي، الخطوط الحمراء المتعلقة بوحدة سورية أرضاً وشعباً ورفض أي نوع من المشاريع الفيدرالية والكونفدرالية والحكم الذاتي، والموقف الواضح في العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل إلخ. والشرح هذا من عندي)؛ أما مفهوم الممارسة الديموقراطية الآن وليس غداً، فهو يعني الانتخاب الديموقراطي لتعيين أعضاء الأمانة العامة للمجلس الوطني، والقبول بما يأتي به صندوق الانتخاب... ولكن الانتخابات آنذاك كانت هي مشكلة أخرى، ابتدأت منذ صباح انعقاد المجلس الوطني، في 01/12/2007، الأمر الذي أخر الجلسات مرتين في ذلك اليوم... وعندما جرت الانتخابات قام الاتحاد الاشتراكي بترشيح عبد المجيد منجونة إلى جانب المرشح المتفق عليه أصلاً وهو حسن عبد العظيم، وإضافة إلى الاثنين كان هناك مرشحة توافق عليها الجميع وهي السيدة ندى الخش، حتى أنها طرحت من قبل الآخرين وليس من قبل الاتحاد الاشتراكي. وقد أدى هذا الأمر إلى تشتيت الأصوات، وسقوط حسن عبد العظيم رئيس حزب الاتحاد الاشتراكي والتجمع الوطني الديموقراطي في الانتخابات. ويعزى عدم نجاح حسن عبد العظيم جزئياً ليس فقط لتشتت الأصوات، وإنما برأيي إلى استهدافه من قبل البعض بطريقة من الطرق. وبعد ذلك سرّ طرفٌ وابتهج بالتخلص من الطرف الآخر (المقصود التيار الليبرالي ممثلاً بالسيد س. نشار والسيد رياض سيف)، ونجح هذا الطرف الآخر (المقصود الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الماركسي) بالتهرب من مسؤولية انعقاد المجلس كلها (وهذا نوع من الحكم على النوايا)، بما جرى من تجميد العضوية من قبل الاتحاد الاشتراكي، ثمّ حزب العمل، وبذلك ضاعت على البلاد فرصة لا تعوض برأيي الشخصي، ولم يظهر ما يماثلها لاحقاً، في شبكة امتدادها الوطنية، ولم يأت ما يماثلها حتى في أيام الثورة، وما تقتضيه هذه الثورة من إحساس بالمسؤولية الكبرى والالتفات إلى التوحد والعمل الموحد، والاتفاق معاً على برنامج واحد)) (1).
هذا ما حصل في جلسة المجلس الوطني الوحيدة في الرواية التي أدلى بها السيد موفق نيربية في موقع مشروع وطن، من دون أن يتوقف طويلاً حول ما حدث في الكواليس التي دارت قبل أسابيع، بل أشهر من انعقاد الجلسة اليتيمة في 01/12/2007، والتي لا أدّعي أنني عرف حقيقة ما جرى، بل أحاول أن أسرد رواية أخرى اعتباراً من معايشتي للجان إحياء المجتمع المدني منذ بداية تشكيلها في مدينة حلب، ومن ثمّ لجنة إعلان دمشق في مدينة حلب، والمناقشات التي دارت قبل انعقاد جلسة المجلس الوطني الشهيرة.
إنّ مفهوم التوافق ومفهوم الممارسة الديموقراطية لم يكونا موضوعين تقنيين فقط، اقتصرت مناقشتهما على أعضاء اللجنة التحضيرية التي ترأسها السيد موفق نيربية، بل كانا حديث الناشطين في المعارضة السورية قبل عدة أسابيع من انعقاد المؤتمر إذا لم تخونني ذاكرتي، وأذكر أنّ الاجتماع الأخير للجنة إعلان دمشق (بوجود الاتحاد الاشتراكي) في مدينة حلب قد ناقشت هذا الأمر، وحدث نقاش حاد انقسم فيه المجتمعون إلى أغلبية مؤيدة للممارسة الديموقراطية بالتصويت على تعيين الأمانة العامة للمجلس، وعلى رأسهم السيد س. نشار. أما في الطرف الثاني المؤيد للتوافق فكان متكوّن حصرياً من الاتحاد الاشتراكي وعدد قليل من الأعضاء. وكان موقفي هو مع التوافق، وقد شرحته على الشكل التالي: لا يمكننا في هذه المرحلة من الصراع ضد الاستبداد أن نطرح التصويت العددي ضمن التنظيمات الي تضم تحالفاً بين أطراف مختلفة من أحزاب المعارضة السورية والمنظمات والجمعيات (اللجان من أجل إحياء المجتمع المدني، لجان حقوق الإنسان، إلخ)، والشخصيات المستقلة، لأنّ ذلك سيؤدي إلى الإقصاء والتهميش للبعض، وبالتالي، إلى عودة الانقسامات إلى ما كانت عليه قبل الاتفاق على إعلان دمشق. لم أكن في ذلك الوقت (وأظن أن هذا الرأي ينطبق على الآخرين) قد تعمقت كثيرا في قضايا الانتقال الديموقراطي في المرحلة التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية، كان الأمر نظرياً بحتاً، وممارساتياً بعيداً عن أنْ يكون أمراً واضحاً بالنسبة للجميع. أما الحجج التي كانت بيد الفريقين فقد اقتصرت على بعض الحجج الشكلية التي لم تتعدى المرحلة الآنية، ولم تكن في الحقيقة تنظر إلى عمل المعارضة على المدى المتوسط والطويل، على اعتبار أنّ الوعي السياسي للنخب التي تشكل المعارضة يجب أن يبقى حذراً، لا بل شديد الحذر من الارتدادات والقوى التي تتشكل ويعاد تشكيلها في حال دخول المجتمعات العربية مرحلة الاصطفاف في المعركة من أجل الديموقراطية، لأنّ الاصطفاف في هذه المرحلة يكاد ـ لكي ينجح في مهمة الانتقال ـ تجاوز الانقسامات الأيديولوجية والطبقية ـ وعدم الاستهتار بالقوى والمصالح المصطفة خلف الاستبداد وقدرتها ومرونتها على تجاوز البُنى الحزبية والأيديولوجية، كما هو الحال بالنسبة لحزب البعث في سورية الذي أصبح هيكلاً فارغاً لا يفيد سوى في استمرار الخطاب الإعلامي الرسمي السوري معبراً عن الدفاع عن القومية العربية والقضية الفلسطينية.
هنا بدأت عملية (التلاعب السياسي) بمواقف نشطاء الصف الثاني في المجلس الوطني وعددهم يشكل 80% من عدد أعضاء المجلس الوطني لكي يكون التعيين بالانتخاب الديموقراطي وليس بالتوافق، على اعتبار الممارسة الديموقراطية هي التي تضمن الشرعية. وفي ذلك الوقت لم يكن النشطاء ـ مع انكفاء العملية البيداغوجية التي تولت مهمتها اللجان من ضمن مهمات أخرى ـ قد اطلعوا على أدبيات تخص عملية الانتقال الديموقراطي، فاندفعوا ـ بنيّة صادقة ـ يؤيدون منهج الانتخاب بدلاً من منهج التوافق الأكثر تماشياً مع تمثيل الجميع في كافة تنظيمات المعارضة، وهكذا بلع أغلبية أعضاء الصف الثاني ((المناورة)) التي كان للتيار الليبرالي بزعامة س. نشار و ر. سيف اليد الطولى في ترجيحها لتهميش القوميين والماركسيين في إعلان دمشق، وهكذا حدث الانقسام الذي استمر في ثنائيات وتسميات متعددة إلى الآن، بالرغم من تراجع حدته مع تشكيل اللجنة العليا للمفاوضات بمباركة وإشراف من المملكة العربية السعودية، وحسم الصراع العسكري نسبياً لصالح بقاء النظام نهاية عام 2016.
التراضي والتوافق بين كافة أطياف المعسكر الديموقراطي على مبادئ الحكم الديموقراطي قبل الاحتكام إلى صندوق الاقتراع
لقد أضاءت تجربة السنوات الثلاثة الأولى من الربيع العربي على هذه المسألة بصورة أصبح الخطأ فيها يمكن أن يعزى، لا إلى غياب المعرفة، بل إلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة. وهنا تأتي التجربة المصرية لتكشف الأخطاء الكبيرة التي تسببت بها النخبة السياسية المعارضة، والتي بتنافسها للوصول إلى السلطة ذهبت إلى حد التحالف مع قوى الثورة المضادة. لقد كان الاحتكام المباشر إلى صندوق الاقتراع دون الاتفاق على مبادئ الحكم الديموقراطي، ودون التشاور حول أخطار مرحلة الانتقال الديموقراطي في عالم عربي كانت الثورة المضادة في حالة التأهب القصوى للانقضاض على الثورات العربية منذ انهيار النظام المصري الذي كان مدعوماً بقوة من قبل منظومة دول الخليج العربي. يعني أنّ فهمنا التاريخي للنظام الديموقراطي يقتصر على حكم الفئة الغالبة وانتهى، هذا ما أطلق عليه الإسلاميّون في مصر بغزوة الصناديق. وفي الحقيقة هذا ما فعله الإخوان والسلفيون في مصر بعد انتخابات عام 2012، وما فعله ليبراليو المجلس الوطني الذي انتهى في يوم انعقاده في صناديق الاقتراع، عندما دَّفعوا ـ جهلاً أو بوعي بائس ـ إلى تحكيم العدد في زمن لا يجوز فيه سوى التوافق للمكونات التي تسعى إلى الديموقراطية.
لقد كلفت هذه العملية الجزائر ما سمي فيما بعد بالعشريّة السوداء (1990 ـ 2000)، وحوالي 180.000 إلى 200.000 قتيل وجريح ومُعاق من طرفي الصراع، ومن المدنيين العزل، عندما اتجهت السلطة العسكرية الحاكمة في الجزائر إلى الذهاب مباشرة إلى صندوق الاقتراع دون تحضير البلاد من خلال فترة انتقالية تتوافر فيها الفرص المتكافئة لجميع التيارات السياسية في البلاد، وتحدّد فيها شروط اللعبة الديموقراطية بحيث تضمن الدولة حياد أماكن العبادة والجمعيات الدينية من التدخل في العملية السياسيّة لصالح الطرف الأقوى في المعادلة السياسية (ونقصد الإسلاميين). وفي هذه الحالة، التي حدثت فيها الانتخابات المحلية ومن ثم التشريعية في الجزائر، كان من المتوقع أن تكون غزوة الصناديق تصب تماماً لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحلفاءها الأكثر تشددا، وذلك بعد سنوات من الحكم الاستبدادي والفساد المعمم في كافة مؤسسات الدولة ونهب القطاع العام والثروة البترولية من قبل طغمة أوليغاركية مدنيّة وعسكرية تمّ تصويرها (زوراً) من قبل الإسلاميين على أنها "علمانية" و "فرانكوفونية" و "تغريبيّة" معادية لثقافة الشعب المسلم في الجزائر، بينما هي في التحليل السياسي الأخير، سلطة انقلابية تسير في سلسلة الانقلابات العسكرية التي قام بها الضباط الأحرار في العالم العربي منذ بداية الخمسينيات، وشملت الموجة الأولى منها: مصر (1953) والعراق (1958) واليمن (1962) وسورية (1963). وأما الموجة الثانية فقد ابتدأت في الجزائر مع الاستيلاء على السلطة من قبل العسكر عام 1965 بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين (1932 ـ 1978) (2)، وامتدت فيما بعد إلى ليبيا (أيلول 1969) والسودان (1970).
لكن، دعونا نفكر بعمق في السؤال: لماذا نجحت تونس وفشلت مصر في تجربة الانتقال؟
هناك عنصر مهم في دراسات الانتقال الديموقراطي هو ((ثقافة النخب السياسية)) كما أشار إلى ذلك المفكر الفلسطيني عزمي بشارة. إن النخب السياسية التونسية كانت قادرة على المساومة والتوافقات السياسية، وفي النهاية، التوصل الى نتائج ليس فيها منتصر ومهزوم، تضمن سلامة المرحلة الانتقالية من الثورة المضادة، ومن اضطرابات الشارع الذي يريد استباق النتائج الاجتماعية والاقتصادية للممارسة الديموقراطية.
وبالنتيجة، استطاعت النخبة السياسية التونسية على المساومة والتوافق على الحكم، بما في ذلك الحركة الإسلامية التونسية. لقد وافقت حركة النهضة رغم فوزها بالانتخابات بأن تحكم مع الأطراف الوازنة الأخرى في الحكومة الأولى، وكانت جاهزة للتنازل عن الحكم في الأزمة الثانية للتحول الديموقراطي خوفاً من تكرار تجربة الإخوان المسلمين في مصر. إن المرونة التي أبدتها الحركة الإسلامية في تونس كانت أحد أهم عوامل التوصل الى وفاق مع عناصر من النظام القديم، أي التيار البورقيبي في النظام التونسي. إن من دخل في المساومة مع المعارضة التونسية هو التيار البورقيبي الذي حيّدّه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكان بقيادة الباجي السيبسي وآخرين، هؤلاء مع التيار الإسلامي تمكنوا من التوصل الى المساومة والتوافقات التي أنجحت تجربة الانتقال الديموقراطي في تونس، وإن كانت المخاطر التي تواجه التجربة التونسية تقع في الملف الاقتصادي ـ الاجتماعي.
إن تجاوز الأيديولوجيا (بالمعنى الذي يشير إلى أن الأيديولوجيا تحاول إغفال الواقع تحت حجب كثيفة وكتيمة لصالح الطموحات والأهداف والبرامج السياسيّة المستحيلة) هو شرط لازم (ولكنه ليس كافي) لأي تحوّل ديموقراطي، وهذا ما حدث في تونس بفضل وجود تيار إسلامي وطني ديموقراطي هو حزب النهضة، ودور الغنوشي وبعض القيادات الأخرى في تجاوز الأيديولوجيّة الإسلاميّة ولو لفترة معيّنة لصالح عمليّة الانتقال الديموقراطي الحرجة والخطرة.
النموذج التونسي والمصري هو أكبر إثبات لصحة هذه الفرضيّة حول ضرورة التوافق والحكم بالتراضي طوال فترة الانتقال الديموقراطي بعد سقوط الأنظمة الاستبداديّة والفترة التي تسبقها أيضاً، فالتجربة التونسيّة من اللحظات الأولى، وحتى قبل الترويكا التي حكمت تونس في أول تجربة ديموقراطيّة بعد ثورة الياسمين، سارت وفق هذا النهج التوافقي ـ التصالحي، ولكن تجسدت على أفضل وجه في هذه اللحظة التأسيسيّة عندما قررت ثلاثة أحزاب متمثلّة في البرلمان، وتشكل أغلبيّة نيابيّة واسعة، التعالي على الأيديولوجيا بهذا المعنى الذي أشرنا إليه أعلاه. لقد كانت التجربة التونسيّة هي التجربة الأولى للنجاح النسبي للثورات العربيّة، وهذا هو الذي مكّن تونس من تجاوز الأخطار السياسية التي تواجه أي مرحلة انتقاليّة نحو النظام الديموقراطي.
في المقابل، فإنّ النخبة السياسية المصرية قد رسبت بالمطلق في المساومة والتفاوض على حكومة ائتلافية تضمن استمرار عمل المبادئ الديموقراطية في السلطة الانتقالية، وتمنع عودة النظام القديم باسم الحفاظ على الأمن والحفاظ على الاستقرار، وهي عناصر خطاب يهدف إلى التلاعب بمصطلح الاستقرار، ليس لمصلحة المكونات الاجتماعية والاقتصادية، بل استقرار دوام النظام في السلطة، ودوام القمع والتعسف في استعمال السلطة ضد الأصوات المعارضة.
لقد كان فشل الثورة المصرية في الوصول إلى أهدافها بسبب غياب ثقافة التوافق والمساومات لدى النخبة السياسية المصرية، بالإضافة إلى إصرار الإسلاميين على الاستحواذ على منصب الرئاسة عن طريق غزوة الصناديق، اللحظة الحاسمة للثورة المضادة للانقضاض على التجارب الثورية الأخرى في ليبيا واليمن وسورية.
الخاتمة
تعتبر شهادة السيد موفق نيربيّة الصوتية بداية لفتح النقاش وإضاءة ما حصل في الكواليس قبل وبعد الجلسة اليتيمة للمجلس الوطني لإعلان دمشق. ومع الأسف، لا نجد أي شهادات ومقالات أخرى تضيء هذه اللحظة المفصليّة في سجل تاريخ المعارضة السورية الديموقراطية منذ ما سمي بالنهضة الأولى لها مع هبّة النقابات عام 1979، ونتمنى ظهور شهادات أخرى للشخصيات التي كانت لها أدوار رئيسة في المحادثات التي سبقت انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق، وما حدث في الجلسة الشهيرة التي انعقدت يوم السبت 01/12/2007، ونخص بالذكر شخصيات مهمة بالمعارضة السورية كانت لها أدوار مهمة، وبالخصوص منذ عام 2000، ومن هذه الشخصيات: السيد سمير نشار والسيد حسن عبد العظيم والسيد رياض سيف، لما فيها من دروس تاريخيّة للأجيال الشابة في المعارضة السورية، وكونها ستشكل جزءاً من الذاكرة التاريخية للمعارضة السورية الديموقراطية.
وفي ختام هذه المقالة الطويلة (والتي نشرت على حلقتين) عن قصة المجلس الوطني لإعلان دمشق سنضيف هذا الملحق الذي يتضمن فقرات من مقالة للصديق وائل السواح عن المجلس الوطني نشرت في موقع صفحات سورية، بالإضافة إلى المقالة الكاملة للسيد محمد سيد رصاص، والتي نشرت في موقع فولتير السوري، وهي تتضمن رأي آخر معارض للمعارضة الإعلانيّة ـ المجلسيّة ـ الائتلافيّة (وإن كان ليس معارضاً للديموقراطيّة)، لكن له منهج مغاير في رؤيّة الأمور (وإن كان أحياناً استفزازياً)، ولكن من المفيد أن يتعرف القراء على هذه المعارضة للمعارضة، دون أن ترمى بشكل متسرّع إلى اعتبارها معارضة من داخل النظام ذاته.
وائل السواح ومحاولة للإضاءة على ما حدث
في هذا المقطع بعض الفقرات التي تخص المجلس الوطني والانتقادات التي تعرّض لها من بعض المعارضين فيما يخص النقاط التي عرضناها في المقالة الأولى التي نشرت في موقع الحوار المتمدن، وهذه المقالة الثانية. يقول الكاتب:
((ويستطيع المتابع للحركة السياسية في سورية أن يرى أن صياغة البيان الختامي، رغم حفاظها على بقايا النفس اليساري القومي، فإنها تختط لغة جديدة مختلفة عن الخطابات السابقة للمعارضة السورية بشكل عام، وتختط خطّا جديدا في العلاقة بين السلطة والمعارضة يقوم على اختلاف في البرنامج السياسي والرؤية الاستراتيجية لمستقبل البلاد. فبينما كانت السلطة والمعارضة في الماضي تتبنيان نفس الخطاب القومي الاشتراكي التحريري، اتّجه خطاب المجلس الوطني لإعلان دمشق ليتبنى خطابا ديمقراطيا - ليبراليا معتدلا... وقد جاءت نتائج الانتخابات لتؤكد هذا النزوع الجديد. فمعركة الترشح والانتخاب لم تكن معركة ودّية، ولم يُراعَ فيها مسائل التوازنات الحزبية. وفي هذا المجال يعلق المحامي فائق حويجة قائلا إن الحصافة وبُعد النظر السياسي كان يتطلّب من الجميع أن يجهدوا أنفسهم ليس في تقريب وجهات النظر بالمعنى التوفيقي للعبارة، بل في إطار العمل من اجل الحفاظ على هذا الإعلان من التفتت. وأضاف المحامي المعارض أنه كان يتطلب من الجميع الإقرار ـ ولو الضمني ـ بأن تسويد وجهة نظر على أخرى ولو تمّ ذلك بأكثر الطرق المشروعة ديموقراطياً بصناديق الاقتراع من شأنه في ظل ضعف الثقة بين مكوّنات أساسية في الإعلان، أن يودي بالإعلان إلى الهاوية، خصوصاً إن أخذنا بالاعتبار غياب الإمكانات الواقعية التي تجعل من الفعل الجذري داخل أطر الإعلان، فعلاً صائباً، حتى لو أدى ذلك إلى تشظي أطر الإعلان ـ غير مأسوف عليها في هذه الحالة. طبعاً هذا يكون عندما يكون التغيير المنشود مسألة وقت، أي عندما تكون (الجماهير الشعبية الحاشدة) لا تفعل شيئاً إلا انتظار انطلاق “الدخان الأبيض” من نوافذ الإعلان كي تتعمشق به طائرة نحو تحقيق الأهداف التاريخية المنشودة.... ولئن عبّر الناقد (المحامي فائق حويجة) عن ضيقه بتفرد تيّار بعينه بالأمانة العامة للإعلان بليونة ولطف، فإن ناقدا آخر للتيار الليبرالي هو محمود جديد يشكك بشكل مباشر في أن التيار الليبرالي داخل الإعلان يمارس ممارسات غير وطنية منها رفضه «تمرير أيّة عبارة تتضمّن توصيفاً حقيقياً لدور الولايات المتحدة ومخططاتها في المنطقة ضمن مشروع البيان الذي كان يُعَدّ للمجلس الوطني». وأشار إلى رفض العبارة المقترحة من حزبي الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي وهي «الوقوف ضدّ مشروع الهيمنة الأمريكي ـ الصهيوني» واستبدالها بعبارة «ممسوخة تقول العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأمريكية، وكأنّ أمريكا نظيفة طاهرة ممّا يجري في فلسطين والعراق، ولبنان، والصومال، والسودان». ثم يضيف: «إنّ رؤية إعلان دمشق ليست قاصرة سياسياً فحسب، بل وخطيرة أيضاً، لأنّها جاهزة مسبقاً لوضع سورية بشكل كامل تحت المظلة الأمريكية، وبشكل أسرع من وتيرة النظام السوري نفسه»)).
ـ وائل السواح ((المجلس الوطني لإعلان دمشق نقطة فارقة في تاريخ سوريا الحديث))، موقع صفحات سورية، تاريخ 29/08/2018.
محمد سيد رصاص والتفسير الكلي بالنهج التآمري
يعتبر زعيم الحفاظ على الأرثوذكسية المذهبية للمكتب السياسي ورفض النهج الإصلاحي الانحرافي لحزب الشعب الديموقراطي، أنّ لحظة تشكيل المجلس الوطني لإعلان دمشق في الداخل هي لحظة التقاء مصيريّة بين المعارضة السورية لإعلان دمشق (المسيطر عليها من قبل النهج الانحرافي لحزب الشعب والليبراليين الجدد الذين سيطروا على إعلان دمشق بالمال السياسي) والمحور الأمريكي التطبيعي في المنطقة. وقد يكون في مقالة السيد محمد سيد رصاص نقاط مهمة نلتقي معه فيها، ولكننا نستنكر صياغة هذه العناصر ضمن نظرية متكاملة ذات بنية تآمرية وضع فيها السيد رياض الترك في مركز دائرتها. سنضع المقالة كلها نظراً لأهميتها القصوى في التعبير عن تيار ـ ولو كان صغيراً ـ في المعارضة السورية، وهو تيار يتعرض لاتهامات نعتبرها من طرفنا مجحفة، باعتباره معارضة تعمل في فلك النظام. لنقرأ ما جاء في هذه المقالة التي تعبّر عن تيار صغير جداً وهامشي في المعارضة السورية للنظام:
((قرأ الأستاذ رياض الترك بدقّة حدود التقاربات الأميركية ـ السورية الأخيرة، من خلال دعوته، وهو الحريص منذ سقوط بغداد على محاولة ضبط ساعة المعارضة السورية على إيقاع «العامل الدولي»، إلى عقد ما سُمّي «المجلس الوطني لإعلان دمشق» بعد أيام قليلة من انعقاد مؤتمر أنابوليس، حيث أتت تطورات الأسابيع اللاحقة لهذا المجلس، المنعقد في أوّل أيام شهر كانون الأول، لتبين فشل المسعى من أجل فك التحالف السوري ـ الإيراني، عبر بوابتي «التسوية» و«قصر بعبدا»، وهو ما أعاد الأمور بين واشنطن ودمشق إلى المربع الأول... كانت فكرة «المجلس الوطني لإعلان دمشق» قد طُرحت في أواخر الربيع الماضي بعد وصول الجهود التي كرّستها القمة العربية في العاصمة السعودية في آذار الماضي لإحداث تقارب سعودي ــ سوري، إلى الطريق المسدود، في ظلّ تجمّع الغيوم لمجابهة أميركية ـ إيرانية تحت عنوان «ملف طهران النووي»... وقد لوحظ في هذا الصدد، تركيز الأستاذ الترك على محاولة إيجاد جسم لهذا المجلس لا يكون أساساً من الأحزاب الموجودة في «إعلان دمشق»، بل من «المستقلّين»، لتفادي تجربتي «التجمع الوطني الديموقراطي»، المؤسَّس منذ عام 1979، والسنتين الماضيتين من «إعلان دمشق»، عندما لم يستطع الأستاذ الترك وضعهما في المآلات المبتغاة منه بسبب وجود أحزاب قوية فيهما، مثل «حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي»، كانت معارضة لتوجهاته، فيما لوحظ أيضاً، رفض أكثرية أطراف «إعلان دمشق» أي موقف متمايز أو مضاد تجاه «المشروع الأميركي في المنطقة» عند مناقشة مشروع مسودة البيان السياسي للمجلس، إلى حدود وصلت لرفض أيّ طروحات «معتدلة» حيال ذلك، مثل عبارتي «رفض المشروع الأميركي ـ الصهيوني» أو «المشروع الصهيوني المدعوم من الإدارات الأميركية»... أكَّد ما حصل في يوم انعقاد المجلس انتصار توجهات الأستاذ الترك، الذي قاد تكتلاً مؤلفاً من الليبراليين والإسلاميين والأحزاب الكردية (ما عدا الحزب اليساري الكردي) ضدّ الناصريين وشيوعيي «حزب العمل»، حيث مرّر ما أراده في البيان السياسي مكتفياً بإعطاء خصومه عبارة «العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأميركية»، مع السكوت التام عن أميركا ومشروعها في المنطقة وكلّ المواضيع تحت شعار «الديموقراطية أولاً»، ومُسقطاً قيادات «الاتحاد الاشتراكي» و«حزب العمل الشيوعي» في انتخابات هيئة الأمانة العامة عبر تكتل تصويتي كان واضحاً من مجرى عملياته واتجاه الأصوات أنه مُدبَّر ومبرمج... قاد هذا إلى جعل «إعلان دمشق» أقرب إلى حزب، حيث لا يوجد التصويت في التحالفات، بل التوافقات في التوجهات والتعيينات المسماة من الأحزاب في المناصب، وهو ما أدى إلى إسقاط صفة الائتلاف أو التحالف العريض عن «إعلان دمشق» ليصبح تياراً واحداً، من ثلاثة ألوان، صار سهل الانقياد بتركيبته الحالية، يجمعه عامل المراهنة على «العامل الدولي» في تحقيق أجنداته، لا على «العامل الذاتي»، مستنداً إلى تحليل مؤدلج يرى «الديموقراطية» مفتاحية للقضايا الوطنية والاجتماعية و«الإثنية»... في الوقت الذي يقوم فيه أرباب هذا الطرح بالانزياح (منذ أربع سنوات ونصف أعقبت سقوط بغداد) عن مواقفهم السابقة في القضايا الثلاث المذكورة باتجاه تفسيرات ليبرالية تضع العروبة واليسار وراءها وباتجاه فهم جديد يتلاقى مع توجهات الإدارة الأميركية حيال موضوع «الأقليات القومية»... هنا، كان يوم الأول من كانون الأول عام2007 تاريخاً لانشقاق المعارضة السورية إلى اتجاهين مختلفين، عبر مبادرة قام بها زعيم أحد الاتجاهين، مثلما قام المرحوم خالد بكداش بشقِّ الحزب الشيوعي السوري عبر بيان 3 نيسان 1972 بدعم من السوفيات والسلطة السورية... بالتأكيد ستكون ولادة التيار المعارض الآخر، المناهض للتيار الأميركي في المعارضة السورية الذي أصبح متبلور الملامح والتوجهات والقوام، تدريجية، إلا أنها ستأخذ ملامح لتيار يأخذ أبعاداً أربعة: قومية عربية ـ وطنية سورية ـ ديموقراطية ـ اجتماعية، وهو شيء كامن في المعارضة السورية ويقترب من الوضوح... وهذا ما سيشكّل عملية تاريخية، تمنع تكرار ما فشل فيه الوطنيون العراقيون، المعارضون لصدام حسين أثناء عامي 2002 و2003، في عرقلة عملية تحوّل المعارضة العراقية إلى الخط الأميركي بأكملها، من أجل إنشاء خطّ وطني ديموقراطي في المعارضة السورية، يرى التداخل بين البعدين بالتوجه المعارض في ظلّ الوضع الناشئ، بعد 11 أيلول2001 و9 نيسان 2003، عن تصادم «الدولي» الغازي للمنطقة، مع «الإقليمي»، الممانع لأسباب تتعلق بالأدوار الإقليمية، فيما لا يرى هذا الخط أن الولايات المتحدة قد استطاعت في 9 نيسان 2003، إسقاط صدام حسين فقط، بل العراق بأكمله. هذا إذا لم يكن هذا اليوم بمفاعيله على العرب أكبر وأخطر من مفاعيل يوم 15 أيار 1948)).
ويختم الكاتب مقالته هذه بالخلاصة الاتهامية للمعارضة السورية التي تشكلت حول إعلان دمشق باعتبارها الأداة التنفيذية للخارج، داعياً إلى قيام تيار معارض جديد يقطع مع كل السياسات الشرق أوسطية للمحور الأمريكي ـ الغربي في المنطقة:
((هل سيستطيع المعارضون السوريون، المضادون للخط الأميركي، التجمع في تيار واحد، بعدما امتلك التيار الأميركي الأداة التنفيذية، في ظلّ العاصفة الكبرى التي من الواضح أنها ستنشب في كامل الشرق الأوسط خلال العام القادم، بين «الدولي» المتمثّل بواشنطن، و«الإقليمي» المتجسّد بدمشق وطهران؟)).
ـ محمد سيد رصاص ((ما بعد مجلس «إعلان دمشق» .... الأخبار))، موقع فولتير، 24/12/2007.
الهوامش
(1) هل كنا ساذجين؟ هل ما زلنا كذلك؟ تقديم موفق نيربية، موقع إدارة مشروع وطن، على الرابط الالكتروني:
https://youtu.be/WNM7qMjz0QE
يوتيوب تاريخ 01/06/2021.
(2) واسمه الحقيقي محمد ابراهيم بوخروبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ