الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر فى الميراث الإثيوبى

داليا سعدالدين
باحثة فى التاريخ

(Dahlia M. Saad El-din)

2021 / 7 / 3
الادب والفن


ارتبط اسم "مصر" فى التراث الشعبى الإثيوبى بنظرتين متناقضتين؛ إحداهما نظرة قداسة وامتنان، والأخرى يغلب عليها مشاعر الشك والريبة مما يرتبط باجواء الاضطهادات الدينية وما يترتب عليها من آثار اجتماعية واقتصادية وخيمة ناجمة عن أجواء الحرب التى عانى منها المجتمع الإثيوبى خلال فترات تاريخه الوسيط؛ والتى استمرت فى شكل نوع من الاضطرابات السياسية حتى توحيد إثيوبيا سياسيا فى عهد الامبراطور العظيم "منليك الثانى – 1889: 1913". النظرة الأولى لمصر ارتبطت بكونها مصدر للشغف والتقديس؛ فذلك لكون الديانة المسيحية قد دخلت إثيوبيا من خلال أفباط مسيحيون كانوا رهبانا ارتحلوا للجنوب نحو إثيوبيا عبر بلاد النوبة وممالكها القديمة والوسيطة. وقد وجد التراث الإثيوبى مصدر هذا الإلهام الثرى فى نبوءات الكتاب المقدس؛ إذ تقول الأية الكريمة: "يَأْتِى شُرَفَاءُ مِنْ مصْرَ. كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى اللهِ" (مز 68: 31)؛ حيث اعتبر التراث أن الأباء الرهبان الذين جاءوا من أرض مصر هم مصدر انقاذ مملكة "كوش" القديمة من ظلام الوثنية. كما اعتبرها- فيما بعد - القوميين المتدينين نبوءة تعلن عن قرب سيطرة وحكم الرجل الأسود فى المستقبل، بعد أن استمر حكم الرجل الأبيض زمنا طويلا لم ينل العالم خلاله غير ويلات الحروب وانتشار المجاعات؛ خاصة وأنهم اعتبروا الآية: "كُوشٌ قُوَّتُهَا مَعَ مصْرَ وَلَيْسَتْ نِهَايَة. فُوطٌ وَلُوبِيمُ كَانُوا مَعُونَتَكِ." (ناحوم 3:9) نبوءة عن أن قوة أفريقيا وخلاصها يكمنا فى وحدة الأفارقة جنوبا وشمالا، بالإضافة إلى الإيمان الصحيح الذى مصدره هو الإيمان الذى أتى إلى إثيوبيا من مصر.
وعلى صعيد اخر؛ فكما ارتبط اسم مصر وشعبها برحلة العائلة المقدسة؛ هربا من بطش هيرودس ملك فلسطين تحت الحكم الرومانى؛ والذى قرر قتل جميع الأطفال الرضع خوفا من نبوءة انتشرت عن ولادة "ملك اليهود". وهكذا هربت العذراء مريم بوليدها يسوع برفقة خطيبها يوسف النجار ليحتموا بأرض مصر ويظلوا بها قرابية الثلاث سنوات. فقد ارتبطت اسم مصر ايضا بأسطورة انتقال اختيار الرب لشعبه المختار، أو شعبه المقدس من شعب إسرائيل إلى الشعب الإثيوبى، وتأسيس الاسرة السليمانية الحاكمة لأراضى إثيوبيا. وذلك طبقا لما ورد فى الكتاب الإثيوبى المقدس "كبرا ناجشت" – جلال الملوك – الذى هو أحد روائع الأدب الشعبى الإثيوبى. وقد اختلف الباحثين فى زمن تأليفه ما بين القرنين السادس والثالث عشر الميلاديين، إلا أن معظم الآراء قد اتفقت على كتابته فى القرن الثالث عشر. وكتاب "كبرا ناجشت" فيما يعتقده الباحثون المختصون فى علم اللغة الجعزية يحتوى على خلط واضح بين المادة الأسطورية والمادة التاريخية، ويعود أصل بعض النصوص إلى مصادر مصرية قديمة وإلى العهد القديم وبعض المصادر الإسلامية، وأيضًا إلى كتب الأبوكريفا – وهى الأسفار التى لم يتم اعتمادها لتصبح جزء من الكتب المقدسة – وأيضا بعض المعتقدات الأفريقية الأقدم من كل هذا. وعمومًا اتفق الباحثون على كونه عملاً أدبيًّا متكاملاً.
وطبقا لكتاب "كبرا ناجشت" فقد وقع اختيار االله على شعب إثيوبيا نظرا لشدة إيمانه. وتأكيدا لذلك الاختيار؛ فقد شاء الرب أن تزور الملكة الإثيوبية "ماكيدا" - التى تحل محل الملكة "بلقيس" فى التراث اليهودى والإسلامى – الملك "سليمان" فى أورشليم؛ وتتزوجه لتلد منه "منليك الأول بن سليمان"، الذى يشب فى كنف والدته الملكة فى إثيوبيا. وعندما يصل "منليك الأول" لسن الشباب تقرر والدته الملكة "ماكيدا" أن يزور ولده الملك "سليمان" فى "أورشليم" ليعمده. إلا أن "منليك" يقرر القيام بسرقة "تابوت العهد" ومعه اثنا عشر كاهنًا من أبناء القضاة ليؤسس بهم مملكة "داوود" الأرضية فى إثيوبيا. وتستمر الأسطورة فى سرد احداث قصة هروب "منليك" والاثنى عشر شاب ومعهم "تابوت العهد"؛ فتروى أن "التابوت" كان يطير فى اتجاه مصر التى عبر منها متجها إلى إثيوبيا (انظر الخريطة)

هكذا كانت نظرة التقديس الإثيوبية لمصر؛ إذ من أرضها جاء الأباء الرهبان الأوائل ليعملوا على نشر الديانية المسيجية لهداية الإثيوبيين لتعاليم الله الواحد وينقذوهم من ظلام الوثنية. ومن ناحية أخرى كانت أرض مصر مباركة مرتان؛ المرة الأولى حينما احتمت بأرضها وشعبها العذراء مريم وابنها يسوع من بطش هيرودس. أما المرة الثانية فقد بارك أرضها وشعبها "تابوت العهد المقدس" إذ طار فوقها حتى يصل إلى إثيوبيا ليعلن أن الشعب الإثيوبى أصبح هو الشعب المختار بديلا لشعب إسرائيل الذى بعد عن تعاليم الرب. وعليه يتم الإعلان عن تأسيس مملكة داوود الأرضية فى أرض إثيوبيا من خلال الابن لابكر للملك "سليمان" من الملكة الإثيوبية "ماكيدا"؛ ألا وهو الملك "منليك الأول" المؤسس الأسطورى للأسرة السليمانية الحاكمة فى إثيوبيا حتى سنة 1974.
أما عن نظرة الشك والريبة فهى نظرة تاريخية بعيدة عن مسألة القصص الدينى وظلاله المقدسة. إذ ارتبطت نظرة الشك والريبة فى نوايا المصريين بأحداث القرون الوسطى من قضايا الاضطهاد الدينى وما تلقيه على الأمور السياسية من ظلال؛ خاصة وأنها كانت فترات الحروب الصليبية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ انتشرت الإمارات الاسلامية شرق مملكة إثيوبيا خلال القرن الثالث عشر الميلادى؛ حيث سيطروا على الطرق التجارية من وإلى المرتفعات الإثيوبية؛ لذا شعر ملوك إثيوبيا من أسرة زاجوى (حوالى 1137: 1270م.) أن الكنيسة المرقسية الأم فى الإسكندرية قد تواطأت ضدهم وتحالفت مع الحكام العرب لمصر؛ أو أن هؤلاء الحكام قد أثروا على الكرازة لتعيين اساقفة مصريين للكنيسة الإثيوبية يعملون على توطيد وتعزيز المصالح الاقتصادية الاسلامية فى المرتفعات الإثيوبية؛ وذلك لضمان الاستمرار السياسى من خلال تأمين وتأكيد المصالح الاقتصاية للإمارات الصومال الإسلامية فى الهضبة الإثيوبية! كما لأن أحداث سنة 1321م. خلال فترة حكم الملك الناصر محمد بن قلاون من حرق وهدم العديد من كنائس فى مصر، طبقا لما أورده المقريزى فى كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك، الجزء الثانى (ص 495: 496)؛ قد ألقت بظلالها على وجهة الظر الإثيوبية تجاه مصر. ذلك أن تلك الأحداث قد رد عليه الملك "أمدى سيون" (1314: 1344م.) من الأسرة السليمانية بزيادة الحملات العسكرية على الإمارات الصومالية المسلمة فى منطقة القرن الأفريقى.
ثم يأتى القرن التاسع عشر ليضيف بعضا من أحداثه عل العلاقات الإثيوبية- المصرية. حيث كان طموح الخديوى "إسماعيل" فى بسط السيطرة السياسية المصرية على الهضبة الإثيوبية تأصير كبير فى العلاقات. ذلك أن الإمبراطورية المصرية خلال عهد الخديوى "إسماعيل" قد وصلت لأقصى اتساع لها؛ إذ وصلت السيطرة المصرية عبر السودان إلى شمال أوغندا غرب الهضبة الإثيوبية. كما كاد البحر الأحمر أن يكون بحيرة مصرية خالصة لولا سيطرة الإنجليز على ميناء عدن فى باب المندب؛ إذ كانت الإدارة المصرية فى سواحل شرق أفريقيا قد وصلت إلى منطقة "راس حافون" فى الصومال على المحيط الهندى (انظر الخريطة رقم 2). أى أن السيطرة المصرية فى المنطقة كانت أشبه ما تكون بالكماشة على الهضبة الإثيوبية وبالتالى على مملكتها. لذا طمع الخديوى "إسماعيل" فى ضم الممكلة الإثيوبية لتصبح ضمن سيطرة الإارة المصرية فى منطقة القرن الأفريقى. وعليه فقد أرسل الحملات العسكرية لإخضاع الممكة الإثيوبية؛ غير أن تلك المحملات كلها باءت بالفشل.
قد يطول الحديث عن مصر فى الميراث الإثيوبى سواءا أكان موروث شعبى تداخلت فيه الخرافة مع الأسطورة فى سرد أحداث التاريخ المشترك للبلدين، أو تاريخ رسمى قد يتم اسقاط بعض أحداث عمدا. غير أن الواقع والمستقبل معا يشيان بما تم تحويره من حلقات التاريخ خلال هذين المستويين؛ ولنا فى تاريخ "دير السلطان" فى الأراضى المقدسة أصدق دليل؛ وهو ما لا يتسع المقام لسرد أحداثه الماضية؛ إلا أن واقعه يعكس بعض روءئ الشك والريبة تجاه مصر فى الميراث الإثيوبى على الصعيد الشعبى؛ والذى يتم الاستفاده منه لصالح المستوى السياسى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي