الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح تاريخ إثيوبيا وصراع الدين والقومية - الدراسة الكاملة

عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)

2021 / 7 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


ملامح تاريخ أثيوبيا وصراع الدين والقومية - الدراسة الكاملة
تقديم
مابين الرغبة فى المعرفة ، والرغبة فى الوصول إلى إجابة السؤال الحائر ، هل سد النهضة مشروع تنموى ، أم مشروع من الإنتقام السياسى ، لتاريخ حكمته صراعات الدين والقومية بشكل خاص للغاية، كتبت هذا الموجز لتاريخ إثيوبيا ، والذى أرجوا أن يكون مفيداً لكل من يقرأه ، بشكل أو بآخر !!!
1-من العصر القديم إلى العصر الوسيط - من أكسوم إلى زاجوى إلى مملكة سليمان
يرتبط تاريخ إثيوبيا القديم بتاريخ مملكة أكسوم الأسطورية، والتى عاشت وإزدهرت لنحو عشرة قرون بدءً من القرن الأول قبل الميلاد حتى حوالى القرن العاشر الميلادى حين أسقطتها هجرات المسلمين، ومشاكل وراثة العرش ، نشأت أكسوم فى إقليم تيجراى بالقرب من سواحل البحر الأحمر، ولعبت دوراً هاماً فى تجارة العالم آنذاك ، حتى إعتبرت من القوى العظمى لزمانها ، فكان يقال هناك أربعة حضارات كبرى لذلك الزمن ، الفرس ، والروم ، والصين ، وأكسوم ، ولقد إصطبغت حضارة أكسوم بالصبغة السامية نتيجة لهجرات العرب واليهود من اليمن إلى شرق إفريقيا خلال القرون الأخيرة قبل الميلاد ، منذ سقوط الممالك الإسرائيلية فى الشمال ،حتى سقوط سد مأرب فى الجنوب ، ومازال علماء الأجناس يعتبرون الإثيوبيين من الشعوب السامية حتى اليوم ، نظراً لغلبة دماء المهاجرين الساميين عليهم . وقد أطلق اليونان القدماء على سكان أكسوم وشرق إفريقية تسمية الإثيوبيين ، أى محروقى الوجوه ، فأصبحت بلدهم تسمى إثيوبيا ، بينما أطلق عليهم العرب واليهود تسمية أحباش بمعنى الشعوب مختلطة الدماء ، نظراُ لإختلاط دمائهم بهم ، ولقد دخلت مملكة أكسوم الإثيوبية فى صراع مع مملكة نباتا السودانية الأقدم منها عمراً، والتى كانت قد غزت مصر وكونت الأسرة الخامسة والعشرين حوالى سنة 730ق.م وذلك فى المرحلة الأخيرة من تاريخها عندما نقلت عاصمتها إلى مروى، وأسقطتها بقيادة ملكها الشهير عيزانا حوالى سنة 350 للميلاد، وإنفردت بالنفوذ فى شرق إفريقية وحوض النيل.
وفى القرن الرابع الميلادى خضعت إثيوبيا ، أو بلاد الحبشة حتى ذلك الوقت ، للمؤثرات الرومانية المسيحية القادمة من مصر فإعتنقت المسيحية الأرثوذكسية القبطية ، وإنحازت للرومان فى سياستهم فى الجزيرة العربية والبحر الأحمر ، و ألغى إمبراطورها عيزانا تسمية الحبشة وإعتمد بدل منها التسمية اليونانية القديمة ، إثيوبيا ، فى محاولة واضحة منه للبعد عن تراث الساميين. وظلت مملكة أكسوم قوة عظمى فى إفريقية وحلقة وصل هامة فى التجارة العالمية بين الشمال والجنوب ، حتى قيام دولة العرب المسلمين فى المدينة خلال القرن السابع الميلادى ، ومانتج عنها من هجرات للقبائل العربية فى كل إتجاه ، وخاصة فى أخريات عهد الدولة الأموية ، مما عجل بسقوط أكسوم ، ونهاية الإمبراطورية الإثيوبية فى العصرالقديم. وبالإضافة إلى ضغط الهجرات العربية الإسلامية على سواحل شرق إفريقية ، والتى تسربت عناصر كثيرة منها إلى داخل الهضبة الحبشية نفسها ، فقد ختم الصراع على وراثة العرش مصير أكسوم النهائى ، وإجتاحت أكسوم قبائل وثنية سنة 1137م ، إنضمت إليها قبائل اليهود الفلاشا ، أى الغرباء أو المنفيين ، وقامت بتخريبها وهدم كنائسها ، وإغتالت البطرك القبطى، رغم أنها قد إعتنقت المسيحية بعد ذلك ، وأسست لحكم دام لنحو قرن ونصف ، عرف بإسم حكم الأسرة الزجوية ، فى نفس الوقت الذى كان الإسلام ينتشر فيه بقوة على الساحل وفى الداخل خاصة بين عرقيات الأورومو والبجة ، مما خلق حالة من التنافر الشديد بين قوميات الهضبة الحبشية وماحولها، ولكن وبعد حوالى قرن ونصف إستطاعت أسرة جديدة ، الإستيلاء على الحكم فى أكسوم ، حوالى سنة 1270م ، بقيادة الملك أيكونوا أملاك ، حاكم أمهرة وحلفائه التيجراى ، ونقلت العاصمة إلى إقليم شوا ، وأسست لحكم طويل ولعصر الإمبراطورية الإثيوبية المسيحية فى العصور الوسطى.
ونظراً لإن أساطير أكسوم القديمة قد نسبت مؤسسها منليك الأول ، إلى الملك سليمان وزوجته بلقيس ملكة سبأ ، فقد إعتمدت الأسرة الجديدة على هذا التراث الدينى الأسطورى وأطلقت على نفسها إسم الأسرة السليمانية ، وقام ملوكها بجمع الأساطير الخاصة بتاريخ إثيوبيا القديم فى كتاب عرف بإسم ، جلال الملوك ، واستردوا المسيحية القبطية كعقيدة رسمية للإمبراطورية، وأرسل إيكونوا أملاك إلى مصر فى طلب بطرك قبطى للإشراف على شئون كنيسته ، فأستجيب لطلبه ، وبعد أن أستتب لخلفائه الأمر ، وشعروا بالقوة بدأوا فى قتال الإمارات الإسلامية المحيطة بهم ، والتى عرفت بإمارات الطراز الإسلامى ، أو بإمارات الطراز الإسلامى السبع ، والتى إمتدت على سواحل القرن الإفريقى مقابل سواحل اليمن مثل إمارات ، زيلع وإيفات وهرر وعدل ومقدشيو وغيرها ، والتى شكلت ضغطاً كبيراً على المملكة المسيحية أدخلها فى حروب طويلة معها ، تمكن خلالها حاكم الصومال المسلم أحمد إبن إبراهيم بالتدخل ، وإجتياح شوا وإحتلاها ، بمساعدة العثمانيين الذين كانوا قد إحتلوا مصر فى هذه الفترة خلال القرن السادس عشر، لكن السليمانيين إستطاعوا طرده وقتله ، بمساعدة البرتغاليين الذين كانوا قد وصلوا إلى مياه البحر الأحمر فى ذلك الوقت أيضاً.
وهكذا شاركت إثيوبيا فى الحروب الصليبية فى أخريات العصور الوسطى ، بالإضافة إلى الحروب المستمرة بين قومياتها المختلفة بسبب الصراع على السلطة من جهة ، وبسبب الإختيارات الدينية المختلفة من جهة أخرى، والذى دفع بالملوك السليمانيين إلى إتباع سياسات التنصير بالقوة، وإلى إستحداث منصب أكابى ساعات ، الذى يشبه منصب رئيس محاكم التفتيش فى العصور الوسطى، للحفاظ على العقيدة الإرثوذكسية الرسمية للإمبراطورية المسيحية ، كما كان هناك تطور آخر داخل البيت المسيحى نفسه ، ترتب على تدخل أوربا ، فنتيجة للمساعدة التى قدمتها البرتغال للسليمانيين فى حربهم ضد المسلمين ، فقد سعوا إلى تحويلهم إلى الكاثوليكية ، وعندما وصل الملك سوسينوس إلى الحكم سنة 1607 ، رأى الأخذ بهذا الرأى لما يترتب عليه من فوائد الإرتباط بأوربا، وضمان مساعدتها ضد العثمانيين ، فأعلن تحول بلاده رسميا إلى الكاثوليكية سنة1626م ، غير أن رجال الدين رفضوا القرار، ودعوا الناس إلى الثورة مما إضطر الملك للعدول عن قراره وتنحيه عن العرش ليخلفه إبنه باسيليديس سنة 1632 ، والذى بدأ عصراً جديداً، عرف بإسم العصر الكوندرى نسبة إلى العاصمة الجديدة ، كوندر ، الذى إنتقل إليها ، وقام باسيليديس بطرد المبشرين الكاثوليك، وأرسل إلى والى مصر العثمانى يطلب بطرك أرثوذكسى ، رمز كنيستهم الوطنية ، ووحدتهم القومية ، كما فعل أملاك إيكونوا قبله بقرون عدة.
لكن سلطة ملوك كوندر سرعان ماأخذت فى الضعف بسبب قبائل الأورومو الوثنية فى الجنوب ، والتى إنتشر فيها الإسلام إنتشاراً كبيراً ، مما إضطر الملك أياسو الثانى من الزواج بإبنة أحد زعمائها توددا إليهم ، لكن الأمر إزداد سوءً فى عهد خليفته إيواس 1755- 1769م ، بسبب إزدياد نفوذ حكام إقليم تيغراى ، من جهة أخرى ، وإستمر ذلك التفكك حتى حوالى منتصف القرن التاسع عشر حين إستطاع زعيم قبلى يدعى كاسا القضاء على الفوضى التى أصبحت تعرف فى التاريخ الإثيوبى بعصر الأمراء ، وذلك بالقضاء على نفوذ الملوك المتنافسين، وعلى نفوذ الأورومو وتنصيب نفسه ملكاً بإسم تيودور الثانى سنة 1855م ، والذى يعتبر حكمه بداية تاريخ إثيوبيا الحديث.

2- العصر الحديث ونهاية الإمبراطورية السليمانية
وضع تيودور الثانى ( 1855-1868م) قواعد الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة ، فقلل من سلطات الكنيسة وإمتيازاتها لحساب الدولة ، وحدد من إمتيازات الأمراء الإقطاعيين ، وأنشأ جيشاً نظامياً حديثاً ، و تواصل مع الملكة فيكتوريا من أجل تحديث الجيش والنظم الإدارية والتعليمية بحكم الميراث المسيحى المشترك ، والروابط الدينية التى غذتها أسطورة الملك الإثيوبى الكاهن يوحنا، لكن أوربا كالعادة أرسلت مبشرين ، بروتستانت وكاثوليك ، مع الديبلوماسيين والمدرسين ، فتخوف منهم تيودور الأرثوذكسى وإعتقلهم ، فأرسلت بريطانيا حملة من 32000 جندى بقيادة الجنرال نابير ، هزمت قوات تيودور المحدودة فى مجدالا ، وهرب تيودور من ميدان المعركة ، لكنه فى النهاية ، وبدلاً من تسليم نفسه ، إنتحر، وولى البريطانيون بدلاً منه غريمه ، راس كاسا ، من تيجراى ، بإسم يوحنا الرابع.
سار يوحنا الرابع (1872-1889م) على نهج تيودور التحديثى ، و توسع فى الهضبة الإثيوبية ، وقمع الإمارات الإسلامية ، وزاد من تسليح جيشه بالأسلحة الأوربية ، فى نفس الوقت الذى نجح فيه فى مواجهة محاولات التسلل الأوربية إلى القرن الإفريقى ، التى إزدادت بعد إفتتاح قناة السويس ، كما تمكن من إيقاف التوسع المصرى فى القرن الإفريقى، بهزيمة الجيش الذى أرسله إسماعيل فى جوندت سنة 1875، وجورا فى العام التالى مباشرة ، ثم إستطاع تحييد الحملة الثالثة ، ووقع مع مصر معاهدة سلام ، لكنه لم يعش طويلاً بعد ذلك ، إذا أصيب بطلق نارى فى مواجهته مع القوات المهدية السودانية فى موقعة القلابات سنة 1899م توفى على أثره ، وتولى العرش بتزكية منه ، حاكم إقليم شوا ، ساهلى ماريام ، الذى حمل لقب منليك الثانى.
يعتبرمنليك الثانى(1889-1914) المؤسس الحقيقى للإمبراطورية الإثيوبية الحديثة، فقد شهد عهده مرحلة التدافع الأوربى لتقسيم إفريقية ، بموجب مقررات مؤتمر برلين الشهير سنة 1884، لكنه بدلاً من أن يسقط ضحية للتقسيم كسائر أنحاء القارة ، وخاصة للقوى المتنافسة الرئيسية فى شرق إقريقيا ، إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ، فقد تمكن من الحفاظ على إستقلال بلاده وتحويلها إلى قوة إقليمية ودولية، من خلال عمليات التحديث الواسعة التى قام بها فى كل إتجاه ، بما فى ذلك إرسال البعثات إالى أوربا سنة 1890 ، وتأسيس مجلس وزراء سنة 1900 ، وإنشاء أديس أبابا كعاصمة جديدة للإمبراطورية المسيحية ، ولقد إستطاع منليك الثانى توقيع معاهدة أوتشيالى مع إيطاليا ، أكثر القوى الأوربية طمعا فىى إثيوبيا سنة 1889م ، لكنه سرعان ما إنسحب منها سنة 1893م ، عندما تبين له خداع إيطاليا، ومحاولة نفاذها إلى قلب الهضبة الإثيوبية من خلال إرتريا ، التى كانت إيطاليا قد نجحت فى السيطرة عليها ، بعد إنحسار النفوذ المصرى عن إفريقية ، بسبب إحتلال إنجلترا لمصر سنة 1882، وأعلن النفير العام تحت راية الكنيسة الوطنية الأرثوذكسية القبطية ، وفى سنة 1896 ، تمكن من هزيمة إيطاليا فى معركة عدوة الشهيرة ، لينال بعد ذلك إحتراماً إقليميا ودولياً لم تنله دولة إفريقية . مرض منليك سنة 1908 ، وتوفى سنة 1913 ، وتولى بعده حفيده ليدج ياسو ، الذى تحول إلى الإسلام وهرب إلى إرتريا ، حيث قبض عليه بعد سنوات وأعدم فى عهد هيلاسيلاسى، وتولت بعده إبنته الإمبراطورة زوديتو ، ووصى العرش الأمير راس تافارى ، والذى سيصبح الإمبراطور هيلاسيلاسى سنة 1930.
عمل هيلاسيلاسى على إستكمال مشروع التحديث الذى بدأه منليك الثانى، لكنه قطع خطوات أبعد ، فقد إعتمد منليك على القوة لصهر وتوحيد قوميات بلاده العديدة ، ودفع الخطر الإسلامى والأوربى معاً ، حتى أطلق على عصره تسمية الإستعمار الإثيوبى ، بسبب المظالم التى وقعت على الأعراق غير الأمهرية ، بينما إعتمد هيلاسيلاسى على التحديث المؤسساتى أيضاً ، فقد إستطاع قبل تولية العرش ، وأثناء عمله كسفيرا لبلاده ، ضم إثيويبا إلى عصبة الأمم ، فكان ذلك حدثاً كبيراً، وإعترافاً بإثيوبيا كأمة حرة فى إفريقيا المستعمرات ، وبعد توليه العرش سنة 1930 وضع لبلاده دستوراً ، وكان أول دستور فى تاريخها ، ورغم أنه لم يكن دستوراً ديموقراطياً كما قد يتبادر إلى الذهن ، بل رسخ الحكم المطلق للأسرة السليمانية ، فمع ذلك فقد نقل ذلك الحدث مرجعية الهوية الوطنية من كنيسة العصور الوسطى الأرثوذكسية ، إلى مرجعية الدولة القومية ، التى مثلتها الأسرة الحاكمة ، وكان ذلك تطوراً كبيراً فى حياة أمة إعتمدت فى وحدتها الوطنية على خرافات العصور الوسطى الإقطاعية ، كما أنشأ بموجب ذلك الدستور برلمانياً إستشارياً من غرفتين ، إحتفظ لنفسه بمعظم سلطاته، وقد كانت نهضة اليابان الحديثة إلهاماً كبيراً له ، مع الفارق ، فقد ظل إمبراطوراً ثيوقراطياً مستنيراً فى النهاية ، وقد قام هيلاسيلاسى بتوسيع التعليم الغربى بشكل كبير ، سواء من خلال البعثات أو من خلال إفتتاح المدارس والجامعات الغربية فى بلاده ، وقد عملت الطبقة المتغربة كرابط لتوحيد قوميات إثيوبية المتنافرة ، بدون العنف الذى لجأ إليه منليك، ولذا فقد عملت إيطاليا على إعدام المئات منها حتى لايقودوا المقاومة الوطنية ضدها أثناء إحتلالها لإثيوبيا خلال الحرب العالمية الثانية ، كذلك فقد عملت طبقة الشباب المتغرب على الوقوف ضد التيارات المحافظة فى المجتمع ومساعدة هيلاسيلاسى فى تنفيذ خططه التحديثية.
كان هيلاسيلاسى يخشى خطر الإستعمار الأوربى لبلاده فى ذروة الحقبة ألإستعمارية الغربية، ربما بنفس قدر خشيته من الإستعمار الإسلامى ، وقد حسن ذلك من علاقاته مع الدول الإسلامية الكبرى، المجاورة والبعيدة ، والتى زار العديد منها ، لكن ذلك لم يمنع من إعتماده تجربته التحديثية على الدول الغربية بشكل أساسى، حيث زار العديد منها أيضاً ، وعقد معها الصفقات فى كل مجال ، وإعتمد على خبرات الأفروأمريكيين بشكل خاص ، وبدت تجربته فى التحديث والحفاظ على الإستقلال الوطنى ناجحة ، مشهورة فى العالم ، لكن تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن فقد كان موسولينى مصمماً على إستعمار القرن الإفريقى فى خضم صعود المد الفاشى فى العالم . وفى سنة 1934 إنتهز موسولينى حادثة والول ، وهى نقطة حدودية غير مرسومة فى عمق صحراء أوجادين كانت تقع بها بعض الآبار التى يستفيد منها الرعاة الصوماليون والإثيوبيون ، حيث تصادمت القوات الإيطالية والإثيوبية ، وأمر بالهجوم الشامل من الصومال الإيطالى ومن إرتريا ، وقدمت إثيوبيا شكوى إلى عصبة الأمم سنة 1935م بلاجدوى ، كما حاولت إنجلترا وفرنسا تسوية النزاع من خلال لجنة هور- لافال سنة1935 ، لكن اللجنة سرعان ماإنهارت نتيجة للضغط الإيطالى ، ورغبة الدول الأوربية فى مجاملة إيطاليا لإبعادها عن ألمانيا، بينما لزمت الولايات المتحدة الحياد ، ورغم مساندة الرأى العام العالمى ، وجمعيات الإخوة الإفريقية فى العالم ، فقد إنهارت المقاومة الإثيوبية بسبب تفوق السلاح الإيطالى وهرب الإمبراطور والعائلة المالكة إلى القدس ومنها إلى إنجلترا ، وترك بلاده بين مقاوم وبين متعاون مع المستعمر الإيطالى إنتقاماً لمظالم الماضى ، وفى القدس أعد هيلاسيلاسى خطابه الشهير ، نداء إلى عصبة الأمم ، الذى ألقاه على العالم من جنيف فى سويسرا سنة 1936 م مندداً بالإحتلال الإيطالى ، لكن ذلك لم يغير من حقيقة الأمر الواقع شيئاً ، فقد أحتلت أديس أبابا وأصبحت الإمبراطورية الإثيوبية جزءً من شرق إفريقية الإيطالى ، الذى شمل الصومال الإيطالى وإرتريا ، وبعد محاولة إغتيال الحاكم الإيطالى جرازانى فى فبراير 1937 ، نفذت السلطات الإيطالية بمعاونة ميليشيا القمصان السود الفاشية، عملية إنتقام جماعى تم خلالها إعدام أكثر من ثلاثين ألف إثيوبى ، منهم الكثير من النخب التى تلقت تعليهما فى الخارج ، ومن رهبان الكنيسة الأرثوذكسية ، والتى حاولت السلطات الإيطالية كثلكتها وتوطينها ، وقطع علاقتها بالكنيسة القبطية ، دون جدوى، كما غذت الصراعات بين المسيحيين والمسلميين، وباقى القوميات الإثيوبية المتناحرة ،حتى إستسلمت إثيوبيا فى النهاية للإستعمار الإيطالى ، الذى بدأ مشروعه الخاص فى تحديثها.
وفى خضم ذلك التحول برزت جماعة عرفت بإسم الأسد الأسود، عارضت حركة التحديث الإيطالى فى المجالات الزراعية والإدراية وغيرها ، والتى لاقت بعض الإستحسان من قطاعات من الشعب الإثيوبى الناقم على نظام الحكم العنصرى السابق ، بينما رأى فيها الوطنيون المحليون إستغلالاً وخطراً كبيراً على هويتهم الوطنية ، كما هو الحال فى كل عصر الإستعمار الأوربى.
قاد الإمبراطور هيلاسيلاسى حركة المقاومة من الخارج ، وبدخول إيطاليا الحرب العالمية الثانية الى جانب ألمانيا سنة 1940 إتخذت القضية الإثيوبية طابعاً دولياً ، وشاركت المقاومة الإثيوبية فى طرد إيطاليا من شرق إفريقية بمساعدة بريطانيا ، التى سرعان ما أخذت مكان إيطاليا ، كسيد جديد لإثيوبيا سنة 1941 بعد هزيمة إيطاليا، ودعى رئيس وزرائها ونستون تشرشل إلى عودة هيلاسيلاسى من المنفى ليقود بلاده كشريك إسترتيجى للمعسكر الغربى، وهو ماحدث فعلاً ، وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية إنضمت إثيوبيا للأمم المتحدة التى حلت مكان عصبة الأمم، وحاولت من خلالها الحصول على بعض تعويضات عن خسائرها المادية والمعنوية أثناء فترة الحكم الإيطالى ، وإستطاعت فعلاً ضم إرتريا بتأييد من إنجلترا والولايات المتحدة .
ورغم بعض الإصلاحات ومشروعات التنمية التى قام بها هيلاسيلاسى بمساعدة بريطانيا ، فإنه لم يستطع تغيير البنية العنصرية لإثيوبيا ولاتحقيق أى إصلاحات إجتماعية حقيقية ، فقد ظلت قومية الأمهرة مسيطرة على معظم القوميات الأخرى ، كما زاد من قبضته على شئون الكنيسة الأرثوذكسية ، التى إستطاع توطينها حين حصل على موافقة المجمع المقدس للكنيسة القبطية المصرية سنة 1946 ، على أن يخلف الأنبا كيرلس ، آخر مطران مصرى ، راهب إثيوبى له نفس الصلاحيات ، وهو ماحدث فعلاً بعد وفاة المطران كيرلس سنة 1950، حيث تم تعيين الأنبا باسيليوس أول مطران إثيوبى ، وفى سنة 1958 خطى خطوة أكبر حين طلبت الكنيسة الإثيوبية من الكنيسة الأم فى الإسكندرية رفع درجة المطران الإثيوبى، بحيث يمنح حق تعيين الأساقفة ، فوافقت الإسكندرية سنة 1959 ، ومنحت المطران الإثيوبى رتبة بطرك جاثليق ، وهى درجة وسطى بين المطران والبطرك ، تمكن صاحبها من تعيين الأساقفة ، وبذلك نجح هيلاسيلاسى عملياً فى فصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة الأم فى الإسكندرية فصلاً نهائيا. كما طرح هيلاسيلاسى فكرة سد النهضة لأول مرة، لكن الظروف لم تسمح بتنفيذها.
وفى خضم الصراع الدولى والشقاق المحلى ، تعرض هيلاسيلاسى أثناء زيارة خارجية لأمريكا الجنوبية ، لمؤامرة للإطاحة بحكمه قادها بعض عناصر الجيش بالتعاون مع ولى عهده سنة 1960م ، لكن الحرس القديم تمكن من القضاء عليها ، وإستمر هيلاسيلاسى فى حكم إثيوبيا المتصارعة.
وجدت إثيوبيا نفسها طرفاً فى الحرب الباردة ، التى سرعان ماإشتعلت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، ورغم تبعية هيلاسيلاسى للمعسكر الغربى ، فقد حاول إتخاذ موقفاً وسطاً ، حيث إنضم إلى حركة عدم الإنحياز التى أسسها ناصر ونهرو وتيتو سوكارنو سنة 1964م ، بسبب تصاعد المد الشيوعى بين صفوف الطلاب الإثيوبيين ، والذى تمثل فى تيار التماسيح الذى رفع شعار الأرض لمن يفلحها ، وقبل ذلك بسنة واحدة كان قد إستطاع تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية مع بعض القادة الأفارقة ، والتى أصبحت أديس أبابا مقرها الدائم، لكن ذلك النجاح النسبى لم يمكن إستمرار حكم هيلاسيلاسى لأكثر من ذلك ، ففى سنة 1974 وبسبب نوبات الجفاف والمجاعة والفوارق الطبقية ، قامت جماعة ماركسية من صفوف الجيش يقودها ضابط إثيوبى من أصل إرترى، أمان عندوم ، بإنقلاب على هيلاسيلاسى وتحديد إقامته فى قصره ، وتصفيته بعد فترة من إحتجازه، لينتهى بذلك حكم الإمبراطورية السليمانية المسيحية الذى دام قرون طويلة، لتدخل إثيوبيا حقبة عنيفة أخرى من تاريخها ، هى الحقبة الماركسية.

3- الحقبة الماركسية
Derg´-or-Dergue - Amharic
تسمى التجربة الماركسية الإثيوبية، التى تلت عصر هيلاسيلاسى، بحقبة الديرج وجمهورية إثيوبيا الشعبية الديموقراطية ، التى أسسها منجستو فى نهايات حكمه، تأسس الديرج ، أو اللجنة التنسيقية لضباط الجيش والشرطة فى يونيو سنة 1974، من نحو مائة وعشرين عضواً من ضباط الجيش والشرطة ، من صغار ومتوسطى الرتب بقيادة العقيد أتنافى أباتى، و الرائد منجستو هيلامريم ، وذلك أثناء الإضطرابات التى عمت إثيوبيا فى أخريات عهد هيلاسيلاسى ، بحجة السيطرة على حركات التمرد فى صفوف الجيش وعلى الإنفلات الأمنى الذى ترتب على الثورة الشعبية ضد هيلاسيلاسى ، و لكن اللجنة بدأت تخطو خطوات أبعد من مجرد ضبط الأوضاع الأمنية إلى السيطرة على مقاليد الحكم الفعلية ، فسرعان ما أجبرت الإمبراطور فى أغسطس على القبول بمقترح دستور جديد تتحول فيه إثيوبيا إلى ملكية دستورية ، وفى سبتمبر تم عزل الإمبراطور وسجنه فى قصره ، وإختار الأعضاء راعى منجستو وقائده السابق ،والذى بدأ الإنقلاب على هيلاسيلاسى، الجنرال أمان عندوم، رئيساً للديرج ورئيساً مؤقتاً للدولة ، وذلك أثناء إنتظار عودة ولى العهد ، إبن هيلاسيلاسى، الملك الدستورى الجديد ، الذى كان فى رحلة علاج إلى أوربا ، كما غير الدرج مضمون إسمه إلى المجلس العسكرى الحاكم المؤقت لإثيوبيا ألإشتراكية ، بدلاً من اللجنة التنسيقية السابقة ، ولكن سرعان ماحدث خلاف بين الجنرال عندوم وبين منجستو، حيث إعترض الجنرال على الإسراف فى عمليات تصفية وإعدام أتباع النظام السابق ، فتمت الإطاحة به من قبل حزب منجستو وأتنافى وإعدامه مع بعض مؤيديه وبعض أتباع النظام السابق فى نوفمبر 1974 ، بما فيهم بطريرك الكنيسة الإثيوبية ، وعُين الجنرال تفارى بنتى رئيساً للديرج ، ورئيساً مؤقتاً للدولة بدلاً منه ، مع منجستو والعقيد أتنافى أباتى ، كنائبين له ، وفى مارس 1975 تم إلغاء النظام الملكى رسمياً ، وسيطر الدرج على مقاليد الحكم كلياً ، وأعلن إثيوبية ماركسية لينينية ، وفى فبراير 1977 ، أكمل منجستو خطوات صعوده الشيطانية إلى السلطة ، فقام بتصفية الجنرال تفارى بنتى ، وحوالى ستين من كبار الضباط والمسؤلين ، أثناء إجتماع للجنة فى مذبحة بشعة، وأصبح قائدا غير منازع للديرج ، بعد تسليم منافسه الباقى العقيد أتنافى بقيادته ، والذى سرعان ماقام منجستو بتصفيته هو الآخر فى نوفمبر من نفس العام أيضاً، وتفرغ للمرحلة الوحشية من حكمه، التى شرع فيها فى تصفية جميع المعارضين لحكمه تصفية عشوائية،والتى عرفت بالإرهاب الأحمر.
بدأت بوادر الحرب الأهلية ضد الديرج عام 1976 فى أعقاب إلغاء الملكية ، وبداية عمليات التأميم والمصادرة وإعادة توزيع الأراضى الزراعية ، والشروع فى نفس الوقت ، فى تصفية المعارضين من كافة الإتجاهات السياسية ، حتى اليسارية منها ، مما دفع بحزب الشعب الثورى الإثيوبى (إيبرب) ، بشن الحرب على الديرج ، فيما عرف بالإرهاب الأبيض ، الذى توج بمحاولة إغتيال منجستو ، والذى رد عليه منجستو بالإرهاب الأحمر، الذى أعلن عنه رسميا فى مارس 1977 فى ميدان الثورة بأديس أبابا ، ميدان ميسكل سابقا ، صارخاً ، الموت لأعداء الثورة ، وبتحطيم ثلاث زجاجات من الدم ، فى إشارة البدء الوحشية للقضاء على أعضاء حزب الشعب الثورى ، و كل من يشتبه فى تأييدهم له من الطبقات البورجوازية والفلاحية والشبابية ، وذلك فى ثلاث موجات متتابعة من التصفيات و التنكيل والسجن ، إمتدت من العاصمة أديس بابا إلى الأرياف والضواحى ، بدأ فيها بتصفية حزب الشعب الثورى الإثيوبى ومؤيديه ، ثم ثنى بتصفية حركة كل إثيوبيا الإشتراكية (ميسون) ومؤيديها والمتعاطفين معها ، والتى كانت قد إنحازت إليه فى البداية، وذلك فى حملة وحشية مازال الإثيوبيون يحتفظون بآثارها المرعبة فى متحف خاص حتى اليوم ، وببعض ذكرياتها التى لاتصدق ، حيث يقال أن الأسرة التى كانت تطلب جثة أحد ذويها للدفن ، كان عليها أن تدفع ثمن الرصاصة التى قتل بها الضحية ، كان العصر هو عصر التجربة الماركسية فى العالم ، ونجح منجستو فى حسم الحرب الأهلية لصالحه سنة 1978 ، بعد سقوط عشرات الآلاف من الضحايا ، كما نجح فى صد الهجوم الصومالى على صحراء أوجادين ، والهجوم الإريترى الذى شنته جبهة تحرير إرتريا فى حدود عهد الإرهاب الأحمر ، إعتماداً على تأييد الإتحاد السوفيتى وكوبا ودول أوربا الشرقية خارجياً ، وعلى تأييد قطاع كبير من الشباب الماركسى والمجالس المحلية داخلياً ، كما كان الحزب الديموقراطى الإثيوبى الملكى قد تفتت ، بعد أن حقق بعض الإنتصارات العسكرية على الديرج ، ويذكر أن منجستو فى خضم إحساسه بالقوة فى أعقاب هذه السنوات التى صعد فيها نجمه فى سماء السياسة الإفريقية ، قد رد على إعلان أنور السادات ، عضو حزب سافارى الذى أسسته الولايات المتحدة من بعض دول اليمين العربى وإيران فى ذلك الوقت ، عن رغبته فى توصيل مياه النيل إلى صحراء النقب والقدس ، كعلامة على التعاون والسلام فى زيارته لإسرائيل سنة 1979 ، بالتهديد بإقامة مجموعة من السدود على النيل الأزرق ، تعرقل تحقيق رغبة السادات تلك ، وهو التحدى الذى رد عليه السادات بالتلويح بالحرب ، ورد عليه منجستو بتحطيم زجاجة أخرى من الدم.
كان الإرهاب الأحمر صفحة أليمة فى تاريخ إثيوبيا، حجبت فيه الأيدولوجية الوافدة، صراع الدين والقومية المزمن فى تاريخ إثيوبيا.
بدأ منجستو خطة عشرية للتنمية الإقتصادية من 1983-1993، ونجح فى تحقيق ثورة تعليمية فى البلاد ، إذ إزداد عدد المتعلمين من جهة ، والقادرين على القراءة والكتابة من جهة أخرى بشكل كبير ، خاصة فى المناطق الريفية ، وفى صفوف النساء ، إعتماداً على خدمات نحو ستين ألف من الشباب الماركسى ، الذين تطوعوا للعمل فى مجال التعليم ومحو الأمية ، لكن الجفاف والحروب الأهلية التى سببتها أساليبه العنيفة فى إدارة البلاد ، أفشلا الخطة فى النهاية ، وفى عام 1987 ، حل لجنة الديرج العسكرية الحاكمة ، وإستبدلها بحزب العمال الإثيوبى ، الذى كان قد أسسه سنة 1984 من معظم ضباط الديرج وبعض المدنيين ، فى محاولة لتأسيس ذراع مدنى للحكم على غرار الأحزاب الشيوعية الكبرى فى العالم ، ووضع دستوراً جديداً للبلاد، كما غير إسم إثيوبيا إلى جمهورية إثيوبيا الشعبية الديموقراطية سنة 1987 ، لكن كل ذلك التجديد لم يفده شيئاً ، كان الإتحاد السوفيتى فى إنهيار ، وكذلك معظم النظم الشيوعية فى العالم ، وفقد منجستو ماكان يحصل عليه من دعم عسكرى وإقتصادى ومعنوى تدريجياً، وذلك بينما كانت أحزاب المعارضة بمختلف طوائفها ، قد شكلت فى بداية الثمانينات ، جبهة التحرير الثورية الديموقراطية الشعبية المكونة من أربعة أحزاب قومية رئيسية ، جبهة تحرير شعب تيجراى ، والحركة الديموقراطية لشعب جنوب إثيوبيا ، حزب الأورومو الديموقراطى ، حزب أمهرة الديموقراطى ، وبالتعاون مع جبهة تحرير شعب إرتريا ، وبدأت الحرب على منجستو(الأمهرى) ، الذى فر فى النهاية إلى زيمبابوى طالباً اللجوء السياسى سنة 1991 ، بعد تحذير أمريكى بعدم جدوى المقاومة ، وحكم عليه بالإعدام غيابياً بتهمة الإبادة الجماعية ، لكن زيمبابوى رفضت تسليمه ، بسبب بعض خدماته السابقة لها ، بعد أن خلف عصره الوحشى نحو مليون ونصف مليون قتيل إثيوبى ، وفى تلك السنة الأخيرة من حكمه تم تهربب الدفعة الأخيرة من يهود الفلاشا من العاصمة أديس بابا مباشرة ، بعد أن كان يتم تهريبهم سراً عبر السودان طوال عهده ، ودخلت قوات الجبهة أديس أبابا بقيادة ميليس زيناوى( التيجراوى) ، قائد جبهة تحرير تيجراى ، الذى أسس للحقبة الحالية من تاريخ إثيوبيا ، والتى يمكن تسميتها بالحقبة الفيدرالية ، والتى تبلور فيها مشروع سد النهضة.

4- الحقبة الفيدرالية وسد النهضة
لم تتفجر صراعات الدين والقومية فى كل تاريخ إثيوبيا ، كما تفجرت فى الحقبة الفيدرالية الديموقراطية التى أسسها ميليس زيناوى ، فقد كان زيناوى ، الذى قاد تحرير إثيوبيا من ديكتاتورية منجستو ديكتاتوراً كبيراً بدوره ، وقد حكم إثيوبيا لنحو عشرين عاماً غير منازع ، وهى فترة أطول من الفترة التى حكمها منجستو فى صراع مع زملائه ، وقد فعل زيناوى ، كل مافعله منجستو من التخلص من خصومه ، ولو بطريقته الخاصة ، فبينما إستخدم منجستو السلاح ، فقد إستخدم زيناوى السياسة والحيلة ، والسلاح أيضاً.
حكمت جبهة التحرير الثورية الديموقراطية إثيوبيا لنحو خمس سنوات إنتقالية بقيادة ميليس زيناوى ، تم أثنائها وضع دستور 1994 ، الدستور الثالث فى تاريخ إثيوبيا الحديث ، بعد دستور هيلاسيلاسى 1930 ودستور منجستو 1987 ، وقد أقر بصيغة الدولة الفيدرالية القومية ، وهى صيغة فريدة فى التاريخ حاولت فيها الحكومة الإنتقالية ، إرضاء النزعة العرقية المتأصلة فى نفوس الإثيوبيين ، مع منح قدر من الحرية والحكم الذاتى للأقاليم فى نفس الوقت ، لكنها مع ذلك قد حافظت على سيطرة المركز الذى تحكمه الجبهة الثورية من العاصمة أديس أبابا ، بحيث لم يفز فى أول إنتخابات جرت بموجب الدستور الجديد سنة 1995 ، سوى أحزاب الأقاليم الموالية للحكومة المركزية فى العاصمة ، وقد شهدت تلك الفترة ، وحتى قبل الإنتخابات التى شابها كثير من القمع والتزوير، إنشقاق حركة تحرير أورومو، التى تحولت إلى حركة معارضة مسلحة منذ ذلك التاريخ ، وفى هذه الإنتخابات فاز الحزب الحاكم بمعظم مقاعد البرلمان ، وأصبح ميليس زيناوى أول رئيس وزراء لإثيوبيا لفترة خمس سنوات ، كما إنتخب الأورومو المسيحى نيجاسوا جيداد ، وزير الإستعلامات السابق فى الحكومة الإنتقالية ، رئيساً لفترة ست سنوات، فى نظام حكم برلمانى يلعب فيه الرئيس دوراً رمزياً .
سيطر زيناوى على الحياة السياسية لإثيوبيا ، ورغم خلفيته الماركسية ، فقد حاول تحسين الإقتصاد بفتح السوق الإثيوبية للإستثمار وخصخصة بعض قطاعات الإنتاج التى أممت فى عهد منجستو ، بإستثناء ملكية الأراضى الزراعية التى ظلت ملكية عامة بحكم الدستور، وقد تسبب ذلك فى شئ من تحفيز الإستثمار المحلى والأجنيى وفى التقارب النسبى مع الغرب فى نفس الوقت ، وهى السياسات التى أخذت فى التصاعد والإزدياد فى كل الحقبة الفيدرالية حتى أصبحت إثيوبيا من أصدقاء العالم الغربى، وسوقاً هاماً لإستثماراته الرأسمالية.
جرت إنتخابات سنة 2000 فى نفس الظروف من القمع والتزوير وشراء الأصوات ، بحيث أدت فى النهاية للإنشقاق الثانى لمكون هام من مكونات الخريطة السياسية الإثيوبية وهو حزب الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى ، الذى يقود الصراع ضد نظام أبى أحمد اليوم ، بسبب نفس الظروف ، وبسبب الإنحياز المتزايد لزيناوى بإتجاه إقتصاد السوق، وقد وضع قادته قيد الإقامة الجبرية على أثر ذلك الإنشقاق ، وفاز الحزب الحاكم مرة أخرى بمعظم الأصوات ، وأصبح زيناوى للمرة الثانية رئيساً للوزراء ، وخلف الأورومو جريما ولد جرجس الرئيس نيجاسوا ، الذى لم يعد مرضياً عنه بسبب إنحيازه لموقف الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى.
دخل زيناوى فى صراع طويل مع إرتريا ، وكانت إرتريا قد حصلت على إستقلالها من إثيوبيا سنة 1993 بموجب إعلان الجبهة الثورية بالرغبة فى تحويل إثيوبيا إلى ديموقراطية فيدرالية، وبالسماح للأقاليم التى تريد الإنسحاب من الإتحاد الإثيوبى بالإنسحاب سلمياً ، لكن ترسيم الحدود لم يتم بعد إستقلال إرتريا ، ولذا فقد إندلعت الحرب مرة أخرى بين الدولتين سنة 1998 بسبب النزاع حول بعض المناطق الحدودية فى منطقة بادم ، والتى سرعان ماإنتشر حتى وصل إلى ميناء عصب الإثيوبى الهام ، وفى يونيو سنة 2000 تم التوصل إلى إتفاق لوقف إطلاق النار ، مع وصول بعثة أممية ونشر قوات حفظ سلام للإشراف على وقف إطلاق النار بين البلدين ، كما تم البدء فى ترسيم الحدود، وفى نهاية السنة تم توقيع إتفاقية سلام بين البلدين فى الجزائر، رغم إستمرار توتر العلاقات ، وإستمرار وجود بعثة الأمم المتحدة للإشراف على الهدنة ، وعلى إنسحاب القوات الإثيوبية من المناطق الإرترية التى كانت قد إحتلتها أثناء النزاع، وفى سنة 2002 تم التوصل إلى إتفاقية لترسيم الحدود دخلت فيها منطقة بادم فى حدود إرتريا ، رفضها زيناوى رفضاً تاماً ، وظلت علاقات البلدين فى حالة من التوتر ، كما ظلت قوات الأمم المتحدة على حماية الهدنة حتى غادرت بدورها سنة 2008 دون أن يتم ترسيم الحدود. وأثناء ذلك الصراع الطويل مع إرتريا ، ظلت الجبهة الثورية تحكم البلاد بيد من حديد، رغم الإنشقاقات الداخلية التى أصابتها ، ورغم المجاعة والجفاف ووباء الكوليرا الذى ضرب البلاد سنة 2003.
كانت إنتخابات 2005 علامة مميزة فى تاريخ إنتخابات إثيوبيا الفيدرالية ، وذلك بالعنف الذى سادها وبعشرات القتلى ومئات الجرحى وآلاف الموقوفين الذين راحوا ضحايا لنتائجها المشكوك فيها ، فقد إعترضت نصف الدوائر الإنتخابية فى البلاد على الظروف التى تمت فيها الإنتخابات من تخويف وتزوير، بحيث إندلعت المظاهرات فى أديس أبابا ، وتعطل إعلان النتائج لمدة ثمان أاسابيع ، وإمتنع كثير من النواب الفائزين عن أخذ مقاعدهم فى البرلمان ، وإستمر إعتقال المعارضين من الناشطين والمثقفين ،وظلت الإضطرابات حتى العام التالى 2006 حين تمكن حزب الجبهة الحاكم من التوصل لإتفاق مع النواب المعترضين، بحيث وافقوا على أخذ مقاعدهم فى البرلمان ، وظل زيناوى يحكم قبضته على البلاد ، ولكن بأغلبية قليلة فى البرلمان هذه المرة ، وفى تلك السنة أيضاً دعمت إثيوبيا الحكومة المؤقتة فى الصومال ضد حركات المتمردين الإسلاميين ، وظلت قواتها هناك حتى سنة 2009 ، مما زاد من توتر علاقتها بإرتريا التى كانت تدعم المتمردين ، لكنه زاد من إقترابها من العالم الغربى فى نفس الوقت.
تميزت إنتخابات سنة 2010 بالإعتدال ، لكنها كانت الإنتخابات الأخيرة فى حياة ميليس زيناوى السياسية ، فقد توفى فجأة فى أغسطس 2012 وهو يعالج فى بروكسل من مرض غامض لم يكشف عنه حتى اليوم ، وكان مازال فى السابعة والخمسين من العمر ، وخلفه نائب رئيس الوزراء ، ووزير الخارجية هيلامريم ديسالين ، وهو بروتستنتى من عرقية ولاتيا الصغيرة فى الجنوب ، كما شهد العام التالى أيضاً نهاية الرئاسة الثانية للرئيس جريما ، وإنتخاب الديبلوماسى السابق مولاتو تيسوم كرئيس جديد.
ترك زيناوى خلفه بلداً ممزقاً بالصراعات العرقية والحكم الديكتاتورى ، كما كان قد إستلمه بعد قضائه على حكم منجستو ، نعم بمعدلات نمو إقتصادى مرتفعة ، حيث إستطاع أن يجمع بنجاح بين النظامين الإشتراكى والرأسمالى ، ولكن بسجل حقوق إنسان لايختلف كثيراً عن العصر الذى سبقه ، ففى سنة 2009 تم تمرير قانون لمكافحة الإرهاب أصبح بعد ذلك سيفاً على رقاب المعارضين، وقد تم من خلاله القبض على كثير من الناشطين والمثقفين بتهمة مخالفة ذلك القانون ، حتى إضطر كثير منهم إلى الهرب خارج البلاد ، وفى سنة 2011 أعلنت الحكومة تجريم ثلاث حركات معارضة مسلحة ، منظمة جينبوت 7 ، وجبهة تحرير أوجادين ، وجبهة تحرير أرومو ، وإعتبرتها منظمات إرهابية ومنعتها من النشاط ، وقامت بإعتقال كثير من المتهمين بالتعامل معها.
ترك ميليس زيناوى أيضاً ماهو أخطر من كل ذلك ، فقد أحيا مشروع هيلاسيلاسى زمن الحرب الباردة ، مشروع سد الألفية على النيل الأزرق ، والذى أصبح سد النهضة بعد ذلك ، والذى وضع كل شرق إفريقيا على أبواب عصر حروب الماء وصراع الحضارات بين شمالها وجنوبها ، بحجة إحتياجات التطوروالتنمية، التى لاتحتاج إلا إلى مثل ذلك السد الخطير العملاق ، فى بلد يملك العديد من السدود الصغيرة والمتوسطة ، وإحدى عشر نهراً ، وتيرليون متر مكعب من مياه الأمطار سنوياً ، ولايضيره سوى تلك التدفقات السنوية المحدودة ، من بحيرة تانا إلى النيل الأزرق إلى النيل الكبير، الذى يعيش عليه نحو مائة وخمسين مليون إنسان ، فى مصر والسودان ، وبنظرة ضيقة إلى الأنهار كأنها حقول نفط أو غاز ، وليست ممرات مائية دولية
تعود جذور مشكلة النيل إلى الحدود الإفريقية التى وضعها الإستعمار البريطانى بين دول وادى النيل، وإشترط فيها عدم إقامة أى سدود أو مشروعات مائية تعرقل جريان النيل إلى مصر والسودان ، التى كانت مستعمرات بريطانية فى ذلك الوقت ، وفى سنة 1929 ، تم تأكيد هذه الإتفاقيات مرة أخرى ، وبعد رحيل البريطانيين وإستقلال السودان عن مصر سنة 1956 ، تم إعادة توزيع حصص مياه الفيضان ، التى كان يعود معظمها إلى مصر سنة 1959 ، بحيث أصبح لمصر 5-55 مليون متر مكعب من الماء ، وللسودان 5-18 مليون متر مكعب ، بمجموع 74 مليون متر مكعب ، وهى النسبة المقررة بها حتى اليوم ، والتى قرر ميليس زيناوى تغييرها عندما جاء إلى الحكم سنة 1991 ، بإنشاء سد عملاق وخزان ، يسع وبالمصادفة الغريبة ، تماماً لحصة مصر والسودان البالغة 74 مليون متر مكعب من الماء ، وربط منذ ذلك التاريخ نهضة بلاده من خلال التوسع فى توليد الطاقة بشكل خاص ، بما يعنى إقامة المزيد والمزيد من السدود على أنهار بلاده الكثيرة، وحرمان مصر والسودان من مياه النيل الأزرق ، أكبر الأنهار ، وليس مجرد إعادة توزيع حصص المياه بشكل عادل كما يزعم
عبر زيناوى عن تلك الأفكار فى مؤتمر القمة الإفريقية الذى عقد بالقاهرة سنة 1993 ، فتصدى له رئيس المخابرات المصرية آنذاك ، الجنرال عمر سليمان ، سائلاً إياه بحدة ، من تظن نفسك ، لم يجب زيناوى ، لكنه أسرها فى نفسه ، وقال للرئيس الأرتيرى أسياسى أفورقى الذى كان حاضراً المؤتمر ، سأري العرب من أكون ، تبعاً لرواية الرئيس الإرترى نفسه فى أحد برامج التليفزيون الأرتيرى سنة 2016 ، والذى وصف سد النهضة بأنه ليس أكثر من مشروع سياسى ، وقد صدق توصيفه كما أثبتت الأحداث فعلاً ، مجرد صراع حضارات ، وتصفية حسابات ، وترحيل مشاكل ، بدأه زيناوى وتابعه خلفائه.
لم يدخر زيناوى وقتاً ، وأنشأ سنة 1994ماعرف بإسم المؤسسة القومية للطاقة ، والتى تولت إنشاء مجموعة من السدود الصغيرة والمتوسطة على أنهار إثيوبيا فى كل إتجاه ، عرفت بإسم جلجل واحد وإثنين وثلاثة ، تولت إنشائها شركة سالينى الإيطالية ، التى تولت إنشاء سد النهضة بعد ذلك ، قبل أن تنضم إليها الصين ، وفى عام 1995 وقعت محاولة إغتيال حسنى مبارك فى أديس أبابا و إتهمت مصر إثيوبيا بالتقصير فى حماية الرئيس ، وقطعت العلاقات بين مصر وإثيوبيا ، مما ساعد إثيوبيا على المضى قدماً فى تنفيذ مشروعاتها سراً ، دون التشاور مع الجيران ، وفى عام 1999 تقدم زيناوى بمبادرة مياه النيل ، التى إضطرت مصر لحضورها فى تنزانيا للإتفاق على فكرة وضع أسس للتعاون فى إستخدام مياه النيل ، وفى عام 2005 حول زيناوى المؤسسة القومية للطاقة إلى ماعرف بإسم برنامج التنمية الإثيوبية الشاملة ، الذى يهدف إألى الإنتقال من بناء السدود الصغيرة والمتوسطة إلى السدود الكبرى العملاقة ، ومنها سد النهضة على النيل الأزرق ، الذى كان مكتب الإستصلاح الأمريكى قد حدد موقعه سنة 1964 ، زمن الحرب الباردة فى عهد هيلاسيلاسى ، مع ثلاثة مواقع أخرى صالحة لإنشاء السدود الكبرى، إختار منها زيناوى موقع النيل الأزرق تحديداً ، لكن البنك الدولى ، المانح الرئيسى لبرامج التنمية الإثيوبية فى ذلك الوقت ، إعترض على المشروع ، ووصف الطموح الإثيوبى بالخطورة وعدم المسؤلية ، نظراً لعدم حاجة إثيوبيا لكل هذا القدر الضخم من الطاقة، ولعدم قدرة بنيتها التحتية على تحمل مثل تلك المشاريع العملاقة أيضا. قبل زيناوى رفض البنك الدولى فى صمت ، وبدأ فى وضع لبنات المشروع السرى إكس سنة 2006 ، والذى لم يكن فى الواقع سوى مشروع سد النهضة ، مما دعى الرئيس المصرى حسنى مبارك، عندما وصلته تلك الأنباء إلى دعوة زيناوى للقاء فى منتجع شرم الشيخ 2006 ، حيث هدده تهديداً صريحاً بإستخدام القوة إذا كان ماتردد من أنباء عن بناء السد صحيحاً ، كما طلب من الرئيس السودانى عمر البشير السماح بإنشاء قاعدة جوية صغيرة فى مدينة كوستى جنوب الخرطوم ، يمكن أن تنطلق منها القوات المصرية الخاصة لتدمير السد ، إذا وصلت الأمور إلى طريق مسدود ، وقد وافق الرئيس البشير على طلب مبارك فى ذلك الوقت ، ثم أعلن عن تأييده لمشروع السد بعد رحيل مبارك ، وفى سنة 2010 إمتنع مبارك عن مقابلة زيناوى فى مؤتمر إقتصادى دولى عُقد أيضاً فى شرم الشيخ ، مما أدى إلى الفراق التام بين الطرفين ، وبدأ زيناوى يشق طريقه منفرداً فى سبيل مشروعه الكبير ،فدعى فى نفس سنة 2010 دول حوض النيل لمؤتمر فى عنتيبى فى الكنغو ، والذى رفضت مصر والسودان حضوره ، وذلك لمناقشة إعادة توزيع حصص مياه النيل بحجة أنها تقررت فى الحقبة الإستعمارية خارج إرادة الشعوب الإفريقية، وفى فبراير 2011 خلع حسنى مبارك بثورة شعبية ، وفى إبريل وضع زيناوى حجر الأساس لمشروعه على مرأى ومسمع من العالم ، لكنه لم يكمل أكثر من ذلك ، حيث توفى فجأة سنة 2012 بمرض غامض لم يكشف عنه حتى اليوم.
تصدى ديسالين لمشاكل بلاده بنفس الشكل المعتاد زمن زيناوى ، فبينما كانت إنتخابات مايو 2015 تقترب ، إشتكت جماعات المعارضة من المضايقات الحكومية ، وإتهمت الحكومة بخنق وسائل الإعلام الحرة ، وإضطهاد السياسيين البارزين ، وكسب حزب الجبهة الحاكم ومؤيديه كل مقاعد البرلمان فى هذه الإنتخابات ، وكانت خطة لربط العاصمة أديس أبابا ببعض مناطق الأورومو المجاورة قد أثارت شهوراً من القلاقل سنة 2015 ، فتم التخلى عنها سنة 2016 ، وفى نفس السنة حدث مزيد من الإضطرابات فى منطلق الأمهرة والأورومو والمناطق الجنوبية ، بسسب ثورة تلك القوميات على إعتقال النشطاء والمثقفين والشعور بالتهميش وعدم الرضى عن أسلوب الحكومة العنيف فى الرد على المطالب والمظاهرات بالقتل والإصابة والإعتقال ، حتى إضطرت الحكومة لإعلان حالة الطوارئ فى أكتوبر 2016 ، والتى رفعت بعد نحو عام فى أغسطس 2017 ، وفى أكتوبر أعيد إنتخاب ديسالين كرئيس للوزراء بالإجماع ، ومع بداية عام 2018 أفرج ديسالين عن كثير من المعتقلين وأغلق كثير من مراكز الإعتقال ، وأعقب ذلك بإستقالة مفاجئة فى فبراير من نفس العام معللاً ذلك برغبته فى إفساح الطريق لقيادة جديدة قد تتمكن من تحقيق المصالحة السياسية فى البلاد ، وفى مارس إنتخب حزب الجبهة الثورية الحاكم أبى أحمد من قومية الأورومو، رئيساً للتحالف ، وفى إبريل من نفس العام إنتخبه البرلمان رئيساً للوزراء.
تصدى ديسالين أيضاً لمشروع سد النهضة الذى إعتبره زيناوى أهم المشاريع ، وإستغل فترة اَلإضطرابات التى مرت بها مصر بعد خلع مبارك وتولية محمد مرسى والظروف التى أحاطت برئاسته ، وقام بتحويل مجرى النيل الأزرق سنة 2013 ، بهدف وضع أساسات السد ، وقد إقترح محمد مرسى القيام بعمل عسكرى رداً على ذلك ، لكن وزير الدفاع آنذاك ، عبدالفتاح السيسى، والذى أصبح رئيساً فيما بعد ، أقنعه بالإكتفاء بالضغط الديبلوماسى.
وفى عام 2014 تم اللقاء المباشر الأول بين عبدالفتاح السيسى وديسالين فى قمة الإتحاد الإفريقى فى مدينة مالابو بغينيا الإستوائية ، حيث بدأت مفاوضات مباشرة بين الطرفين ، وأخرى سرية برعاية دولة الإمارات العربية المتحدة ، إنتهت بالتوقيع على إتفاقية لإعلان المبادئ فى مارس 2015 ، وافقت فيها مصر لأول مرة فى تاريخها ، منذ رفض ناصر والسادات ومبارك ومرسى لمجرد مناقشة الفكرة ، على حق إثيوبيا فى إنشاء سد على النيل الأزرق ، وتلا ذلك التوقيع على وثيقة الخرطوم فى ديسمبر من نهاية العام نفسه ، والتى اكدت إعلان إتفاق المبادئ بشكل نهائى ، ووضعت الخطوط العريضة لإستكمال الدراسات بشأن السد، وبهذا تكون مصر قد وقعت على إتفاق يحق لإثيوبيا إقامة سد قد يعوق وصول مياه النيل إلى مصر ، دون الحصول على أى ضمانات عملية لحقوقها المائية ، مع إشراك طرف ثالث فى الإتفاق بصفة مريبة غير مفهومة ، هو دولة الإمارات العربية المتحدة ، ومبعوثها سئء السمعة محمد دحلان ، والتى أخذ تدخلها فى الشئون المصرية يزداد منذ ذلك التاريخ بشكل ملحوظ ، فى نفس الوقت الذى بدأت فيه إثيوبيا تفرض سرية تامة على إستكمال أعمال السد ، ومنحت بعض الشركات الصينية إمتياز إكمال أعمال التوربينات بعد إستبعاد الشركة الهندسية ميليك التابعة للجيش الإثيوبى بسبب تهم بالفساد ، حتى تم إنجاز الجزء الأكبر منه وأصبح أمراً واقعاً على الأرض ، وأصبح معه الوجود الصينى فى عملية التنمية الإثيوبية أمراً واقعاً أيضاً.
وعد أبى أحمد بتحسين الظروف فى بلاده ، بما فى ذلك دعم الديموقراطية ومحاربة الفساد وتنمية الإقتصاد، كما تعهد بحل الصراع الطويل مع إرتريا ، وبالفعل عمل سريعاً على الوفاء بتعهداته، فأفرج عن آلاف السجناء السياسيين ، ورفع حالة الطوارئ التى فرضت فى أعقاب إستقالة ديسالين ، كما رفع منظمة جينبوت 7 ، وجبهة تحرير أورومو ، وجبهة تحرير أوجادين ، من قائمة المنظمات الإرهابية ، مما دفع بجبهة تحرير أوجادين إلى الموافقة على إلقاء السلاح بعد نحو ثلاثين عاماً من القتال، وعلى الجانب الإقتصادى عمل أبو أحمد على المزيد من خصخصة الإقتصاد ، خاصة فى قطاع الطيران والإتصالات ، فى محاولة لتشجيع الإستثمارات ، وتوج كل ذلك بوضع نهاية للصراع الإرترى الطويل ، والإعتراف بمعاهدة السلام التى وقعت مع إرتريا فى الجزائر سنة 2000، وبإتفاقية ترسيم الحدود التى تم التوصل إليها سنة 2002 ، والتى كان زيناوى قد رفضها تماماً . وفى أكتوبر 2018 شكل أبى أحمد مجلساً للوزراء ، خفض فيه عدد الوزراء من ثمانية وعشرين إلى عشرين فقط، وجعل نصفهم من النساء ، فى مبادرة فريدة لاقت إستحسان المجتمع الدولى، وفى نفس الشهر إستقال الرئيس مولاتو قبل إنتهاء فترة رئاستة الرسمية ، وخلفته الديبلوماسية السابقة ساهيل ورك زويد ، كأول إمرأة تصل إلى هذا المنصب فى تاريخ إثيوبيا، وفى أكتوبر 2019 حصل أبى أحمد على جائزة نوبل للسلام تقديراً لجهوده فى دعم الديموقراطية وتحسين ظروف بلاده ، وإنهاء النزاع الإرترى بشكل خاص، وفى ديسمبر من نفس العام 2019 حل أبى أحمد تحالف الجبهة الثورية الحاكم ، الذى أسسه زينازى ، وأسس مكانه حزب جديد بإسم حزب الإزدهار ألغى فيه نظام الفيدرالية القومية العرقية وأسس لمبدأ الإنتماء الوطنى العام ، بصرف النظر عن الإقليم ، وهى الخطوة التى أثارت الأورومو ،وأدت إلى إنفصال تيجراى.
ورغم جائزة نوبل للسلام ، فلم يكن أبى أحمد رجل سلام ، فقد تصدى لمشكلة إنفصال تيجراى بكل عنف، وإنتقام وتحالف شرير مع عدو الأمس الإرترى ، ضد حليف الأمس التيجراى ، كما تصدى لمشروع سد النهضة بنفس روح زيناوى العنصرية ، فجعل منه مشروعاً سياسيا، وليس مجرد مشرع إقتصادى، فبالغ فى التأكيد على البعد القومى للمشروع فى كل خطاب ، حاشداً الجماهير خلفه فى حالة من الحرب ، دون أن يبدى أن مرونة فى المفاوضات ، أو أى إستعداد لتقدير إحتياجات الجيران، وأصر على عملية الملء الأول لخزان السد دون التشاور مع مصر السودان ، كما نص إتفاق 2015 ، ولم يعبأ حتى بالإتفاق الثلاثى الذى تم التوصل إليه فى واشنطن فى فبراير 2020 ، وقام بالملء الأول للخزان فعلاً فى يوليو 2020 ، كما أصر بعد ذلك على المضى قدماً فى الملء الثانى الخطير المفترض فى يوليو 2021 هذا ، وهنا بدا حجم الكارثه واضحاً للمصريين والسودانيين عندما رأوا هذا السد العملاق أمامهم يقطع النيل ، بفتحتين صغيريتين ، تشبه فتحتى الصنبور ، لتمرير المياه إلى مصر والسودان كلما سمحت الظروف ، ومعه السؤال الأخطر والكبير ، ماذا لو أنهار السد ، لأى الأسباب ، وإندفعت مياه البحيرة الضخمة التى تحمل 74 مليون متر مكعب من الماء ، كما حذرت بعض المكاتب الإستشارية ، لتمسح مصر والسودان فى لحظات من الوجود.
وهكذا إنتهى نحو عقد من التفاوض بأسلوب ضحكت عليك ، وحول الملف إلى الإتحاد الأفريقى ، نتيجة لرفض إثيوبيا تدويل قضية السد ، وظل يتأرجح منذ ذلك الحين بين الإتحاد الإفريقى ومجلس الأمن بناء على طلب مصر والسودان ، فى الوقت الذى إستمر فيه أبى أحمد فى إستغلال ورقة السد ، كمشروع سياسى ضد الأعداء ، من أجل حشد شعبه الممزق خلفه ، ونقل صراعات الدين والقومية المزمنة فى تاريخ بلاده إلى خارج حدوده ، وكسب إنتخابات 2020 ، التى تأجلت لنحو عام بسبب جائحة كورونا ، والتى جرت أخيراً فى خضم صراع القوميات المعتاد ، مع نفس الشكاوى المعتادة من التزوير والقمع والإبادة الجماعية فى إقليم تيجراى.
لم يكن سد النهضة فى الواقع سوى تنمية بطعم الإنتقام السياسى ، جاءت فى لحظة وجود رئيس مصرى متخاذل ، لكن فى ظرف دولى من الصراع على إفريقية، قد يحبط أهدافها الشريرة فى النهاية!!!

أهم المراجع :
1-تاريخ إثيوبيا - د. زاهير رياض - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة 1966
2-تاريخ إثيوبيا - ساهيد أديجوموبى - ترجمة مصطفى مجدى الجمال - المركز القومى للترجمة - القاهرة 2018
3-من عمر سليمان إلى السيسى - القصة الكاملة لسد النهضة - الجزيرة ميدان-8-4-2021
4-موارد إثيوبية المائية - البوابة نيوز - 30- يونيو 2020
5-Modern history of Ethiopia - Bahru Zewede - Internet publications
6-History of Ethiopia - Britannica
7- Exiled Palestinian leader looks for regional Allies in Mediation on Nile Dam deal- Newsweek – 28- 4- 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جهد مشكور
صلاح الدين محسن ( 2021 / 7 / 4 - 23:53 )
تحياتي


2 - الرد على الأستاذ صلاح الدين محسن تعليق رقم 1
عبدالجواد سيد ( 2021 / 7 / 5 - 00:34 )
شكراً على مروركم الكريم

اخر الافلام

.. من هم المتظاهرون في الجامعات الأمريكية دعما للفلسطينيين وما


.. شاهد ما حدث مع عارضة أزياء مشهورة بعد إيقافها من ضابط دورية




.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف الحرب في غزة| #الظهيرة


.. كيف سترد حماس على مقترح الهدنة الذي قدمته إسرائيل؟| #الظهيرة




.. إسرائيل منفتحة على مناقشة هدنة مستدامة في غزة.. هل توافق على