الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم ريتا … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 7 / 8
الادب والفن


كان مجتمعنا قديماً ، وحالياً وسيبقى : اقلية متخمة تحتل القمة ، وأغلبية محرومة تتمرغ في السفح ، وما بينهما طبقة متوسطة هزيلة تتكون من قلة من الموظفين والمعلمين .... وللطبقة الاولى مستشفياتها الخاصة في الداخل والخارج .. اذ كان معظمهم يتطببون في مستشفيات لندن وباريس وبيروت وغيرها ، اما المنتمون الى الطبقة الثانية فليس لهم الا ما بات الناس يطلقون عليه بمستشفى الفقراء العام .
ام ريتا .. تعمل سستر في هذا المستشفى ، وهي سيدة في الخمسينات من العمر .. مخلوقة رقيقة وطيبة يجب ان لا يخلو الكون منها .. متفانية في عملها .. تحب الكل .. لا تفارق وجهها الابتسامة ، ولا تبخل بها على أحد ، ولا تفرق في معاملتها بين فقير ومعدم ، وهما الشريحتان الاكثر تردداً على هذا المستشفى .. ربما يدفعها في ذلك ايمانها الروحي .. فالكل سواء عندها .. لا فرق بين زيد وعمر ، وكما يقولون القلوب سواقي .. لهذا يبادلها الناس الحب بالحب والاحترام بالاحترام .. !
وعندما تنتهي ام ريتا من عملها في المستشفى تبدء بتلبية حاجة سكان الحي خصوصاً النساء منهم بأن تحقن هذه ابرة او تعالج جرحاً او تولِّد حاملاً ، وهكذا .. !
تعيش أم ريتا مع زوجها وأبنتهم الوحيدة ريتا ، أما اولادهم الاثنين عزيز ووليم فيعيشون في المهجر ، وريتا فتاة في نضارة العشرينات من العمر .. متوسطة الجمال .. وجه ملائكي مضئ ، وملامح دقيقة ، وبشرة صافية تميل الى الشحوب .. لا اثر للزينة او مساحيق التجميل على وجهها .. مرهفة الحس .. طيبة القلب .. نقية السريرة .. حلوة المعشر .. يشرق وجهها بابتسامة دائمة .. كأنها نسخة طبق الاصل من أمها .. تخطت سنين الدراسة الابتدائية قفزاً دون تلكؤ أو تعثر .. لكنها علقت في السنوات اللاحقة ، وبدءت تأخذ المرحلة بسنتين .. ربما بسبب صعوبة المواد او ربما بسبب آخر .. ! تركت ريتا الدراسة بعد ذلك ، وكرست وقتها للاعتناء بالبيت ، وخدمة والديها اللذان يقضيان جل وقتهما في العمل .
لا احد يعرف مالذي جرى للفتاة ريتا ، واحدث عندها هذا التحول ، وهذا التغيير الزلزالي في كل شيء ، وليس في دراستها فقط ، والاجابة على هذا التساؤل وهذه الحيرة صعب ..
كان الواقع يؤكد ان شيئاً خطيراً قد حدث .. جعل الفتاة تائهة شاردة .. تسرح في عالم بعيد لا تكاد تبصر من هو أمامها .. أهملت كل شيء حتى نفسها .. هزلت وتدهورت صحتها ، وكأن بينها وبين النوم مشكلة ، وبدت كزهرة تذوي أو ذبالة تخبو ..
حتى لم تعد تؤدي التزاماتها الروحية التي لم تكن تنقطع عنها يوماً .. لا ترى على وجهها الا إبتسامة فاترة سطحية صادرة عن الشفتين فقط .. أين هذا من ريتا القديمة التي كانت دائمة الضحك والمرح والابتسام النابع من القلب الى القلب .. يُرجِع البعض ذلك الى شيء ما في باطنها او في قلبها قد اغلقت عليه صدرها .. !
شاع في الحي أن ريتا تحب الشاب علي بل تهيم به عشقاً ، وهو يبادلها الحب بالحب ، وان قصة حب اسطورية على غرار قصة المجنون وليلى يعيشها الشابان .. قلوب بكر لم تُمس .. تستعر بنيران الحب ، ولهيب الهوى .. !
وعلي .. شاب اسمر طويل القامة وسيم الشكل .. تنتشر في مكانات متفرقة من وجهه هالات سوداء صغيرة ربما من سوء التغذية أو كثرة السهر وقلة النوم .. لكنها على أي حال لم تؤثر على وسامته وجاذبيته .. هاديء الطبع .. قليل الكلام .. غامض الشخصية .. يرتدي بنطلون اسود وقميص ابيض لا يغيرهم الا نادراً ، وفي الشتاء يضيف اليهم سترة قديمة يبدو لونها ، وكأنه رصاصي !
يتسلل علي كل ليلة الى زقاق قريب من بيت ريتا جعل الاثنان منه ملتقى دائم لهم .. يحجون اليه .. لا يمنعهم حر أو برد .. يخيم عليهم ستار من الظلمة .. لا تسمع لهم سوى همساً يختلط بوقع انفاسهم ، ووجيب قلوبهم ، تقضي ريتا معظم وقت اللقاء ، وهي تبكي بكاءً اشبه بالانين .. ممسكةً بيد علي .. تغرقها بدموعها ، ولولا لعقة من تماسك ، وجَلَدْ لشاركها علي البكاء بالبكاء !
عجيب هذا الشئ الذي اسمه الحب .. ! يدرك الاثنان استحالة زواجهم ، فهم ضحية بريئة لحب يحده اختلاف الدين ، ولم تكن ريتا تبالي او تهتم بفقر علي أو تعيره أي أهمية مثلما يقلقها ، ويقض مضجعها اختلاف الاديان بينهما ، واستحالة العيش معاً .. !
كانت ريتا وأهلها من الطبقة فوق المتوسطة ، تختلف في معيشتها عن الحياة التي كان يعيشها علي وأهله ، وان جاز لنا تصنيف علي طبقياً ، فهو بكل تأكيد من سكنة ذلك السفح الذي يعيش أهله على الطوى ، فوالده كان يعمل عتالاً في الرصيف بأجرٍ يومي .. بالكاد يكفيهم ضروريات الحياة ، وبعد تخرج علي من المتوسطة عمل محاسباً ، وعتالاً في نفس الوقت في احد المتاجر في رصيف نمرة أربعة ..
ورغم هزالة المرتب ، وطول ساعات العمل لكنه يصر على الاستمرار فيه لانه - كما يقول - يريد الاستفادة من خبرة صاحبه الهندي ، وفي المساء ينتظم في احدى المدارس الاعدادية المسائية !
يزداد الحب على مر الايام ، وينمو حتى يصل الى أعلى مدياته ، وعندما مرض علي يوماً وأمتنع .. أو الأصح منعه المرض من لقاءها لأسابيع .. ترى نظرة الحزن والألم والفزع ، وقد استيقظت في عيني ريتا واضحة وصريحة ، ولم تتحمل طول الفراق ، فمرضت هي الأخرى ، وكأن علي كان كنافخ الروح فيها !
لم تدري ام ريتا ماذا تفعل فهي بين نارين ، لقد كان كل شيء يقف بالضد من جمع الاثنين في حياة واحدة ، بل هو الى المستحيل أقرب ! تجلس على حافة فراش ابنتها ، وهي تنظر اليها بهلع ، وتحس بألمها وكأنها تعيشه ، ثم قالت بلهفة .. تريد أن تستحثها على الفضفضة :
— مابكِ حبيبتي .. تكلمي أنا أمكِ .. قولي شيئاً .. ؟
لم ترى الا وجها باكياً ، وشفاه لا تتوقفان عن الغمغمة ، وكأنها تحدث نفسها .. ! لعلها كانت تهذي بكلمات كان علي يرددها :
— لو استطعت ان أهب لك العالم كله لما ترددت ، ولكني لا أملك سوى قلبي أهديه اليكِ .. !
تتطلع اليها أمها بقلق دون أن تفهم شيئاً ، أو ربما تفهم كل شيء ، ولكن ما بأليد حيلة .. !
تمر الايام ويتعافى علي ، ويعود الحبيبان الى لقاءاتهم من جديد ، وبشكل مفاجيء وغير متوقع شكّل صدمة للجميع .. يختفي علي من العمل والبيت ومن الحي كله وكأنه لم يكن ، ولا احد يدري الى أين ذهب هذا الشاب ، وأي طريق سلك ، وعلى أية أرض نزل .
ثم حانت اللحظة ذات يوم .. في ليلة بدا فيها نور القمر خافتا .. كأنه مصباح واطيء الذبالة .. ناعس النور ، والنجوم تتراقص .. كأنها اشباح مصابيح ، وكان الحي نصف نائم .. اختفت ريتا هي الاخرى بعد اختفاء علي باسبوع أو أكثر ..
تطايرت الإشاعات ، وبدء الكلام يتردد على استحياء في جنبات الحي سرعان ما علا وكثر ، وبدء الخبر يتنقل من فم الى فم ومن جار الى جار ، ويتوقف عند كل اذن صاغية .. لكن الايام ، وانهماك المتقولين في مجريات الحياة ، وشقائها اليومي ، لم يترك لهم فرصة أن يلوكوا في الموضوع أكثر !
اما أم ريتا وأبو ريتا فقد طار صوابهم خاصة بعد ان أعادوا ربط خيوط المأساة ببعضها ، وعرفوا الحقيقة : ان علي وريتا قد تزوجوا ، وابتلعتهم مدينة من مدن العراق الكبيرة التي لا يستطيع المرء ان يعثر فيها حتى على نفسه ، ولم يُعرف لهم بعد ذلك أثر !
عجيبة المرأة إن أحبت .. تندفع في حبها بلا تردد ، ولا خشية من تقاليد ، ولا خوف من فوارق ، ولا من كثرة السدود والحوائل . فهي إن أرادت .. تكون قادرة على فعل أي شئ !
آلى أبو ريتا على نفسه ، وحرَّم على زوجته ، وحتى على أولاده البعيدين ألا يعرفوها أو يروها أو يتصلوا بها أو تأتي سيرتها على ألسنتهم ، وان كل ما كان بينهم قد انقطع ، ولم تعد بعد الان ابنتهم ، ولكن الايام كعادتها - الكفيلة بتغيير كل شيء - ما لبثت ان جعلته يغفر ، وينسى ويرد على الخطابات التي كانت ريتا تُرسلها ، وتلح في ارسالها كل اسبوع .. بخطاب مقتضب بارد في البداية ، ثم ازداد حرارةً .. بعد أن خفت حدة التوتر بتراكم الأيام .. خاصةً عندما كتبت لهم بأنها سعيدة مع علي سعادة لا تدانيها سعادة ، وهو رجل طيب ويحبها جداً ، وقد خيرها بين اعتناق دينه أو بقاءها على ايمانها ، واختارت الاول لضرورات الحياة ، وتطلب أن يسامحوها .. ! وهي حامل الان ، وانهم يفكرون في الهجرة ان سنحت لهم الفرصة .
على إثر ذلك الحادث الذي هز الجميع ، بدا على أم ريتا التجهم ، وذبلت ابتسامتها الحنون .. حزناً والماً على فراق ابنتها الوحيدة .. لكن معاملتها للمرضى وأدائها لواجبها وتفانيها فيه لم يطرء عليهم أي تغيير .
ربما ارتدادات الحادث والضغط النفسي والتعب والسهر والقلق الذي لم تعد تنهض به صحتها ولا سنها ، قد أثر على المرأة فتدهورت صحتها ، وتمر الايام الطوال عليها ، وهي طريحة الفراش .. ثم ازدادت حالتها تدهوراً .. قام نسوة الحي بالتناوب على خدمتها ، وتنظيف البيت وغيرها من الامور ، وبعد مرور أشهر قليلة .. توفيت !
هزَّ خبر وفاتها سكان الحي ، وبكاها الصغير قبل الكبير ، وأصروا على تشييع جنازتها الى مثواها الاخير في المقبرة التابعة الى الكنيسة .. كانت تكرر قبل وفاتها : أن الحياة بدون ريتا تبدو كمقبرة .. !
لا تزال ذكراها الطيبة باقية في مخيلة الندرة ممن بقوا من سكان ذلك الحي الذي اصبح هو الآخر أثراً بعد عين .. تراكمت رسائل ريتا على عنوان أمها في المستشفى ، وعندما فتحوا آخر رسالة قرأوا فيها خبراً تبشرهم فيه ، بانها أخيراً ولدت طفلاً جميلاً .. أسموه حسين !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال