الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاتر ورّاق جلال برجس: حبكة سينية لتعرية أحشاء المدن

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2021 / 7 / 11
الادب والفن


لن يشكّ قارئ رواية الشاعر والروائي الأردني جلال برجس: "دفاتر الورّاق"، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لهذا العام 2021، على الأغلب، بأن الجائزة تجاوزت هذه السنة بجدارة إبداعها شكوك التلاعب والانحياز التي ترافق مواسم الجوائز عادة، على عمومها المحلية والدولية، صعوداً إلى جائزة نوبل التي طالما رافقها التشكيك المحقّ ربّما بمنحها جوائز أدبية لغايات سياسية، أو جوائز سلام لمجرمي حرب، أو داعمي ديكتاتوريات وصامتين عمداً أمام المجازر وجرائم الحرب ضد الإنسانية.
"دفاتر الورّاق"، روايةٌ آسرة، تستحقّ التكريم الذي تناله، فهي لا تضاهي الروايات المبدعة التي تنال التكريم على عناصرها وحلولها الفنية فحسب، بل تتميّز كذلك بتعدد وغنى العناصر التي تنتقل بالقارئ من حقل فني حافل بالمدهش إلى حقل آخر بمدهشات مفاجئة، وتقيم القنوات والعوالم بين الحقول بسلاسة وإقناع، رغم كثرة المصادفات التي توحي بالاختلاق، لكنها تُبدد الشعور بذلك، مؤكدة على ما يعرف الناس الآن من أن العالم قرية صغيرة واحدة فعلاً، باختبارهم تجارب ما تساعدهم وسائل التواصل الاجتماعي على اكتشافه وعيشه، في حياتهم وفي الرواية التي تكشف لهم أبعاد التواصل والمصادفات.
ويلمس القارئ بإحساسه أكثر من التصريح له به، كما تفعل الكثير من الروايات، أحد أهم العناصر الفنية التي يعتزّ الروائيون بإنجاحها لرواياتهم، ويبتكرون من أجل فتح مغاليقها ما يبتكرون: جسر الحبكة الذهبي بينهم وبين ليالي شهرزاد، التي يوفر سحر حبكتها لهم مفاتيح أقفال حبكاتهم المبتكرة.
ولا يتجلّى سحر عنصر رواية دفاتر الوراق الشهرزادي، بإبداع تداخل دفاتر إبراهيم الورّاق ودفاتر الشخصيات المرافقة له، ولا بانفتاح حكاياتها السلس الممتع على بعضها فحسب، بل ينبض كذلك بنار التشويق التي تمتلك شغف القارئ وتطلّعه لاستمرار ليالي فصول الدفاتر دون توقف بصياح ديك الصباح: "حينما سمعت ذلك الاسم تذكّرت ما قرأته عن رجل مهم يدعى إياد نبيل، وُجد مقتولاً في بيت ثان له، وبدا لي أن السيدة إيميلي لا تعرف ما جرى. ــــ قبل أن يموت والدي وزّع ما يملكه علينا أنا وأختي، وبعد رحيله بأشهر انتقلت إلى بيت جديد، وعملت في التجارة إلى أن حصّلت ثروة كبيرة. صار عندي شركة بسبب أنشطتها جعلتني ألتقي بإياد نبيل، كنت في تلك الأيام قد تصالحت مع جزء مما حدث لي، بمجرد أن رأيته يدخل مكتبي عاد الزمن بي يجرّني إلى الوجع، يومها طلبت منه أن يعلن أبوّته ليوسف، أشعل سيجاره، ونظر إلي بعينين غير اللتين رأيتهما في منتزه جزيرة الدانوب، وقال متعجرفاً: ـــ وما يدريني أنه ابني؟ فضربته بمنفضة السجائر، وسجنت بسببها شهرين بعدهما حارب أنشطة عملي إلى أن أعلنت الإفلاس.
في تلك الليلة حدثتني السيدة إيميلي عن يوسف، وكيف نشأ في ظروف نفسية صعبة، وأن أكثر ما يؤرقه هو شعوره بأنه ابن حرام لا ينتمي إلى عائلة.".
في غنى حبكة الورّاق، ينسج برجس سرير حكايات دفاتره، في بنية بسيطة تتضمّن سبعة فصول، يوجز كلاً منها بقولٍ لكاتب أو عالم أو فيلسوف، سرعان ما يكتشف القارئ عمق تداخله كخيط عضوي في أحداث وشخصيات وفلسفة فصل الرواية الذي يفتتحه، بارتقاء فني ّيعكس مقدرة برجس على الارتقاء، من وضع القول مثالاً للتشبيه، إلى جعله جزءاً عضوياً من الرواية، ليجعل بطله يعيش حالة فصامه النفسي كورّاق قرأ جميع ما يحويه كشك كتبه، بتمثل وتجسيد شخصيات الروايات التي قرأها وأعجب بكتّابها وأبطالها، في أفعاله التي يدفعه إليها الكائن الآخر المنفصم عنه، في سرقة البنوك والبيوت، والقتل. ويضع برجس بذلك لقارئه زاداً ثقافياً متداخلاً بحياته وكاسراً للأزمنة والأمكنة، وكاشفاً للواقع بسكين تعريةٍ قاسية، لكنها تنضح بالحب واحترام القيم وعذابات الضمير المختلطة بمشاعر أحلام اليقظة في ردّ الظلم. فنشهد على التوالي قول: فيكتور هيغو حول الضمير: "ضميري يطاردني، فهو الذي يتعقّبني، ومتى سقط الإنسان في قبضة ضميره فلا مفرّ له"، وقول المثل الإفريقي: "السكين الحادة تجرح غمدها"، وقول فرويد: "المشاعر المكتومة لا تموت أبداً، إنها مدفونة وهي على قيد الحياة وستظهر لاحقاً بطرق بشعة"، وقول تولستوي: "كل إصلاح يفرض بالعنف لا يُعالج الداء. وإن الحكمة أن تبتعد عن العنف"، وقول الطيب صالح: "أيّ ثمن باهظ يدفعه الإنسان حتى تتضح له حقيقة نفسه وحقيقة الأشياء"، وقول الشاعر المنتحر أتيلا يوجيف: "وسوف يأخذونني، ويشنقونني، ويغمرونني بالثرى المبارك، وتنبت الحشائش المسمومة فوق قلبي الجميل"، وقول نجيب محفوظ: "ما أشد حيرتي بين ما أريد وما أستطيع".
ولا يكتفي برجس بثراء تداخل أقوال هؤلاء في روايته، فيتحف قارئه بشلال من المعرفة التي تغسل الروح، بمقاربات ومداخلات استيهامات فصام إبراهيم الورّاق، وأفعاله، على سبيل المثال، مع بطل أرنست هيمنغواي في "وداعاً للسلاح"، ومع بطل رواية غونتر غراس "طبل الصفيح"، وبطل رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب":
"يسكنك سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، وها هو الآن قد استفاق من غفوته، كنتَ تعتقد أنك قتلتَه لتفسح المجال لشخصية أخرى من شخصيات الروايات التي استقرّت في لا وعيك. لقد رسمتْ كلمات محفوظ له صورة في مخيلتك، وجعلتْك براعته الروائية تنفذ إلى داخله فترى أحزانه، وآماله، ولماذا صار لصاً؟ لم تقل لأحد إنك تعاطفت معه وأهلك ينظرون إليك مستغربين من حالتك الغريبة في تقمص شخصيات بعينها!... كان أبوك محتاراً إلى أي طبيب سيذهب ويخبره عن ولعك الغريب في التقمص."
ويقيم برجس مقارباته ومداخلاته بتوافق مذهل بين حالة بطله وأبطال الروايات اللذين يتقمصهم، وفق حالته كورّاق، ومثقف، بعمق نفسي واضح الجهد في الشغل عليه، باستبطان فرويد ويونغ ودوستويفسكي، وبأسلوب شاعري يعكس ويجسد حالات التوهان والضياع والانتحار تأثراً بفعل مآسي الفقر والاستبداد والذكورة الخاوية القاتلة والاغتصاب.
وتلعب منظومة السّرد التي وضعها برجس لجريان روايته دوراً مهماً متداخلاً وفاعلاً في إبراز عمق حالات الشخصيات التي تتحدث عن نفسها من خلال الدفاتر، حتى في شخصية جاد الله التي تكتب حياة عائلتها وقهرها وخذلانها بصيغة الراوي العارف، في ظل تغيرات مدينة عمّان في المراحل التاريخية الفاصلة مثل مرحلة نكبة فلسطين، وهزيمة 1967، ومراحل اتفاقيات السلام مع إسرائيل وما خلفت من استبداد للحكومات العربية بمواطنيها، وفي ظل تغيّره بفعل الخوف والخزي من استسلامه لقهر هذه الحكومات، وتفاقم حالة الخوف والخزي معه حتى الوصول إلى محاولة الانتحار التي تحققها له مأساة ابنه إبراهيم الضائع بهذه المآسي.
ويأتي التعاطف الإنساني الذي فتحه برجس بحراً يغمر أحداث وشخصيات روايته، بعرض حالات الفقر وفساد الأفراد والحكومات، وضياع الذين تقع عليهم أفعال الفساد والظلم، ليغمر القارئ ويصيبه بعدوى التعاطف، حتى مع اللص الذي يسرق البنوك وبيوت الفاسدين ويوزّع المسروقات على المشردين والفقراء كما روبن هود، من دون أن تقع الرواية في فخاخ "البوليسية" التي يدفعها للارتقاء إلى عمق حركة الشخصية الإنسانية، وردود أفعالها على الظلم، في آرائها، وأحلام يقظتها بقتل الظلم والظالمين، وفي وقوعها بأمراض الفصام التي تتداخل فيها مشاعر الظلم والخذلان وعذاب الضمير، لتحمي نفسها من انفجار روحها أو لتُلقيها في الكوابيس التي تفتك بها.
ويلفت النظر في بحر التعاطف الإنساني الذي يغمر دفاتر الورّاق، ما صوّره برجس من ظلم المجتمع الذكوري للنساء، على أيدي الآباء والإخوة التي تمتد بسكاكينها إلى رقابهنّ حتى حدود الذبح "غسلاً للعار" على الحب أو المشيئة الحرة أو على مجرد التعليم.
كما تلفت النظر معالجة برجس النفاذة للمكان، كصدر للملاذ والحنان والحماية، وكهوّة للغرق والتدمير كذلك، بمفاهيم عميقةٍ متداخلةٍ مع أفكار غاستون باشلار حول المكان، ومعاناةٍ مباشرة فيما يحدث لمدينته عمّان من تغيرات ساحقة، كنموذج عن المدن التي تأكل أبناءها، وتلقي بنفسها في مهب رياح الدمار.
في ختام دفاتر ورّاقه، يفتح برجس روايته على بداياتها وعلى الأمل في متاهات الضياع:
"أكتب رغم قناعتي من أن الكتابة لن تجعلني أنجو مما وصلت إليه، لكنني متأكّد من أنها ستردم هوّتي المعتمة فأحظى بالسكينة. ها أنا أُفرغ كل ما بي على بياض وورق دفترٍ وجدته أعظم هدية قدمتها لي ناردا التي تأتي مرتين في الأسبوع لزيارتي، تجلس معي ساعتين تحدثني عن كل شيء، حتى إنها أخبرتني أن المتجر الذي أقيم مكان كشك الوراّق كان يبيع المخدرات، مثله مثل
سائر المتاجر التي تعود لإياد نبيل، ناردا التي تراجعت عن الانتحار في تلك السنة عندما رأت في عرض البحر قارباً يعود وحيداً نحو اليابسة، أدركتْ لحظتها أن الفقد لا يجابَه بالموت بل بالحياة. هذا اليوم هو موعد زيارتها لي، سأسلمها هذا الدفتر مثلما سلمتها بقية الدفاتر. لكنني لست متأكداً من قناعتي بتسليمها دفتراً دونت فيه كوابيس رأيت خلالها والدي يدفع بنفسه عن الكرسيّ، وابن أنيسة يقتل عماد الأحمر، ويوسف السمّاك يقتل إياد نبيل، ورأيت ليلى تقتل رناد محمود. لن أفعل ذلك، لأن علينا الصمت إذا ما اختلط الوهم بالحقيقة.".
جلال برجس: "دفاتر الوراق"
المؤسسة العربة للدراسات والنشر، لبنان، بيروت 2020
366 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش


.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان




.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص