الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السخرية عند محمد الماغوط

علي الشمري

2021 / 7 / 11
الادب والفن


في البدء، يعترف محمد الماغوط أن حس البساطة والمفارقة قد تعلّمه من والده، كان هذا في طفولته حينما سافرا معًا الى مدينة طرطوس، وعند حاجز المدينة طلبوا منه بطاقة الهوية، فقدم لهم فاتورة الكهرباء.
منذ ولادته كان فقيرًا، حافيًا يمشي في قريته - السلمية - ، يرتعد من البرد، ولا يملك ما يكفي لكي يشتري بنطالًا جديدًا، يقول عن نفسه: ولدت مذعورًا وسأموت مذعورًا، انا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني.
في الحوارات التي أجراها معه خليل صويلح، كان محمد الماغوط على درجة عالية من الوضوح، والصدق، والشفافية والبساطة، تكلم عن حياته ونفسه كما هي، بلا تزويق ولا حياء، فرغم أنه محمد الماغوط، الذي فاقت شهرته الحدود، ولم يكن عابرًا أو طارئًا على الشعر، إلا أنه كان بمنتهى البساطة، ليس بينه وبين التصنع علاقة، على غرار أقرانه من الشعراء، شاعر يقتات على همومه، يخاف من طرقة الباب لئلا يكون السجان، والحزن كان رفيقه حتى أنفاسه الأخيرة.

لم يدخل في حروب الشعراء الطاحنة حول شرعية القصيدة التي كتبها وأصبح أحد روادها، ظل بعيدًا عما هو شعر وليس بشعر.
" وحينما كثرت الكتابات النقدية حول شعره، تشبث الماغوط بعفويته وفطرته وراح يؤكد صراحة بأنه لم يكمل تعليمه، وتاليًا لم يطلع على خزائن الحداثة كي يغرف منها نصوصه او يتأثر بأعلامها "
فهو شاعر لم يكمل تعليمه الابتدائي كما يعترف، لكنه يقول: تعلمت كثيرًا من السجن والسوط العربي بيد السجان، السجن والسوط كانا معلمي الأول، وجامعة العذاب الأبدية التي تخرجت منها انسانا معذبًا وخائفًا الى الأبد.
هكذا ظل يعرّف نفسه حتى آخر حياته.
الخوف والفزع والفقر والتشرّد وتراكمات الحياة المريرة لم تجعل من الماغوط سوى الشاعر الذي لا يهمه سوى أن يكتب ويكتب ويكتب، لا يعنيه التنظير ولا التأصيل والنقد ولا التفلسف، فهو الذي رفع لافتة طوال حياته كتب عليها: أكتب كي أنجو. وفي الفترة التي قضاها في السجن يقول انه قرأ أكثر من خمس وعشرين ألف صفحة، هذا الهم الوحيد الذي ظل يحمله طيلة حياته، فهو لم يكن تعنيه النقاشات ولا الحوارات التي تجري على مسمعٍ منه بقدر ما تعنيه حاجاته، وحينما توطّدت علاقته مع أعضاء مجلة شعر وراح يحضر في لقاءاتهم كان يكتفي بالصمت، يقول: لم أكن اتكلم في اللقاءات التي كانت تتم في اغلب الاحيان في بيت يوسف الخال، كنت اسمع الأحاديث عن شعراء واسماء لا اعرفها، عزرا باوند، إليوت، سوزان برنار، فأنا لا اجيد لغة غير العربية، كنت اصمت خلال الحوارات والنقاشات، وعندما يحضر الطعام، آكل..
لم يكن انتماءه للحزب القومي ايمانًا منه بمبادئه، انما لحاجة أجبره الفقر عليها، فهو الذي لم يقرأ من مبادئ الحزب صفحتين ولم يعرف عنها شيء، يَذكُر لخليل صويلح ذلك قائلًا : كنت عضوا في الحزب السوري القومي، وحصل الأمر دون قناعة تُذكر، ربما كان الفقر سببًا في ذلك، فبالنسبة لفتىً يافعٍ وفقيرٍ مثلي، كنت بحاجة الى انتماء ما، وكان هناك حزبان يتنافسان في السلمية، حزب البعث و الحزب السوري القومي، وفي طريق الانتساب لأحدهما اتضح لي أن أحدهما بعيد عن الحارة، ولا يوجد في مقره مدفأه، ولأنني كنت متجمد الأطراف من البرد، اخترت الثاني دون تردد، لأنه قريب من حارتنا وفي مقره مدفأه، ومنذ أن انتهت موجة البرد لم احضر اجتماعًا ولم اقم اي نشاط لصالحه.
ساخًرا يقول: مرة كلفني الحزب بجمع التبرعات والاشتراكات من احدى القرى، فاشتريت بما جمعته بنطلونا، وسجنت بسببه أكثر من مرة.
ظلّت المفارقة والسخرية من كل الأشياء التي واجهته حاضرة في حديثه، وهذا كان نتيجة لما عاناه، فوجد في السخرية من كل ما واجهه ضالته، عن دراسته يذكر: في سن الرابعة عشر كنت سأدرس الزراعة، وكنت متفوقًا وفجأة احسست أن ليس اختصاصي الحشرات الزراعية بل الحشرات البشرية.
هكذا تكمن في إجاباته السخرية الذكية التي لها دلالتها الواضحة.
عن القصيدة الأولى التي نشرها وقت كان يقيم في قريته البسيطة يقول : أول قصيدة نشرتها كانت بعنوان (غادة يافا) وقد نُشرت في مجلة الآداب البيروتية، ولأن هذه المجلة لم تنشر لأحد الا اذا كان اسمه مسبوقًا بلقب كبير، فإنني استعرت لقب دكتور ووضعته امام اسمي، رغم انني لم احصل الا على شهادة الابتدائية، وحين نُشرت القصيدة على صفحات الآداب، صُعق مأمور البلدية، وهو شاعر ايضًا وكان منذ سنوات يرسل قصائده الى المجلة دون أن تنشر، ولما سأل عمن يكون الدكتور محمد الماغوط، قال له وجهاء البلدة ( إنه لا دكتور ولا يحزنون) بل هو مجرد فلاح تشققت كعوب قدميه من العمل.
في بيروت وشوارعها عاش التشرد والفقر أيضًا، ذلك أنه هرب من سوريا بسبب أنه كان مطلوبًا للسلطة، وقتها كان لا يملك أجرة تكسي توصله الى مقر مجلة شعر التي كان ينشر فيها، لم تأخذه العزة بتجاهل من ساعده هناك حينما كان بلا عمل ،معترفًا بموافقه الساخرة قائلًا: حين جئت الى بيروت كنت عاطلًا عن العمل، وكان يوسف الخال يحاول ان يجد لنا عملًا في الصحف (انا وفؤاد رفقة)، ويرسلنا، حيث نبدأ عملنا بالتعرف الى السكرتيرة، ثم نعرض عليها الزواج، فيتصل اصحاب العمل بيوسف ليقولوا: هؤلاء شغّيلة ام خطّيبة !
يمكن أن نجد تلك السخرية والضحكة والبساطة في الفيلم الوثائقي التي أجرته قناة الجزيرة مع الماغوط في بيته، كان كما يحب أن يكون، يستمع للقرآن مرة، يشرب ينام ويشخر في أخرى، متمددًا على كنبته، يدخّن ويتحدث عن حياته وحرمانه وفقره وخوفه دون ان يترفّع عن ذلك، مشددًا في كل مرة على دور السجن والسلطة في تحويله الى رجل خائفٍ وحزينٍ على الدوام.


ولو سُئل أحد الشعراء عن الجملة التي سيكتبها على شهادة قبره، فكيف سيجيب، لا شك أنه سيبتكر الصور ويزوّق الإجابة ويتكلّف بما يضيق بالفهم حتى يقال عن إجابته إنها متفرّدة ونادرة، لكن ماذا أجاب محمد الماغوط حينما سُئل هذا السؤال، قال بتهكّم:
" لا شيء ... شخّوا عليه "

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للمراجعة أكثر :
- محمد الماغوط، اغتصاب كان و اخواتها، حوارات حرّرها خليل صويلح.
- محمد الماغوط، فيلم وثائقي من إنتاج قناة الجزيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب


.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي




.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت


.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري




.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض