الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (سالم من الجنوب) الحلقة الرابعة

زاهر رفاعية
كاتب وناقد

(Zaher Refai)

2021 / 7 / 12
الادب والفن


حين وصل مفوّض الشّرطة ساحة الرّقص, وصل وحده دون سلاح, فهو مفوّض العمدة لشؤون تصحيح الخطايا في قريتهم, وهذا التّفويض كان دوماً سلاح مفوّض الشرطة الأوحد لجعل كلمته هي كلمة الفصل في نزاعات أهل القرية, ومع أن لقرى الجنوب قاضٍ في محكمة هناك عند قمّة الجبل, إلّا أن تلك القمّة كانت ممتنعة الوصول, لأنّ الطّريق إليها يمرّ عبر الغابة الموحشة, التي يسودها حكم الوحوش الجائعة, كما أنّ أحذية أهل القرية البالية والّتي ورثها آباؤهم عن أجدادهم و أورثوها لهم, لم تكن لتضمن جفاف أقدامهم ريثما يعبرون المستنقعات الآسنة في طريقهم إلى القمّة العادلة تلك, لذلك فقد ارتضى أهل الجنوب دوماً كلمة المفوّض للبتّ فيما من شأنه أن يهدد التّواطؤ العام في القرية.
ارتأى نصف حضور الزّفاف أنّ هراوة المصرفيّ الشاب، الّذي هوى بها فوق رأس عمّه دون قصد كما يدّعي, قد قوّضت التواطؤ الرّاقص بين أهل القرية, بينما نصف الحضور الآخر لم يخالفوهم في هذا, إلّا أنّهم طلبوا أخذ تبريرات الشّاب و اعتذاره بالحسبان لدى الحكم على فعلته. وفي غمرة خلافهم هذا رأوا المفوّض ينزل من عربة المستثمر الذي غاب منذ دقائق لإحضار مصحح الخطايا, حينها همدت أصواتهم كما همد جسد الخاطب في الحبالٍ الّتي أتوا بها من بيت سالم, وقد رمتها لهم زوجه من الشّرفة ليوثقوه بها, ولم يكن حين اعتلى المفوّض منصّة العروسين من صوت سوى صوت زوجة سالم تولول من الشّرفة و تصفع وجهها براحتيها, تؤازرها بالصّمت ابنتها, في ثوبها الّذي ما زادته المأساة إلّا بياضاً.
هناك في طرف الحلبة, تحت جدار منزل أحدهم, أرخى سالم رأسه الدّامي فوق صدر أمّه, و الّذي لطالما اعتاد أن يرخيه هناك حين يدمى, غير غاضب ولا حزين, بل ساهماً في وجوه أهل قريته, الّتي لم يغادرها منذ يوم مولده الأوّل قبل ما ينيف عن بضع و خمسون عاماً من اليوم. هؤلاء القوم ما كان لسالم أن يتصوّر يوماً اغترابه عنهم, ليس إلى هذا الحدّ, و كأنّ الإغماء كان مولده الثّاني, فأحال الغمض "سالماً" طفلاً صغيراً يستعذب فضّ دمعه على عباءة أمّه. ومن فوق وجنتيه امتزجت ملوحة الدّمع بصفاء ما ينساب من رأسه, وقطرت من طرف ذقنه الدّماء الباكية, فاستقرّت من أمّه في الموضع الذي رأى أنّها قد دسّت تحته عظمة الكلب.
كان لوجه المفوّض ملامح أمكنها أن تنزع الأفراح و تستعذب الأتراح, ولذا لم يدعُه "سالم" لحفل الزّفاف, و هذا ما تبدى في نظرات العتاب القاسية الّتي رمق بها المفوّض سالماً لحظة وصوله هناك, وبتلك النّظرات, شقّ طريقه بين الحشود, حتى وصل حيث يتمدد الخاطب وقد سحب ابن المستثمر إحدى حذائي الشّاب ودسّه في فمه, لأنّ المصرفيّ الشاب كان ما برح يسبّ و يلعن جميع من لم يصدّقوا حسن نيته في الرّقص مع عمّه, أمّا المفوّض فكان لامع الحذاء أسوده, ولم يكن حذاؤه كأحذية هؤلاء الفلاحين وارثي الأحذية البالية, بل كان حذاؤه أهلاً للثقة بجفاف باطنه, ولصاحبه أن يأمن منه على قدميه, فلا لدغ أفاعٍ ولا عفن مياه آسنة, ولا خوف من شقّ دروب الغابات, الّتي ما فتئ يحلم بذرعها, بغية خطو القمم الّتي يروم دوسها.
بكعب هذا الحذاء راح المفوّض يداعب هراوة الشاب الملقاة أرضاً, وهو يتمعّنها بسخرية, ثم أمر الحضور بتحرير العريس من قيوده, فاستجاب له ابن سالم و حلّ قيود "المؤذي برقصه" تاركاً اياه ينتزع حذاءه بنفسه من بين أسنانه ويعيده إلى رجله.
حين اعتلى مفوّض الشرطة منصّة العرس, توقّفت زوجة سالم عن لطم نفسها, و ابتلعت صرخاتها ليتمكّن الجمع من سماع ما سيقوله "لامع الحذاء" لكنها لم تغادر الشّرفة حيث تقف, فهي لم تسطع لبيتها تركاً, لأنّ سالم كان قد آمنها على ابنتها, واستحلفها الأيمان أن تحرص عليها وألّا تتركها تغيب عن ناظريها إلى أن ينتهي الزّفاف ويصبح الخاطب زوجاً, و مع أنّ زوجة سالم قد أدّت الأمانة إلى الآن على أتمّ وجه, إلّا أن قلبها كان يتفطّر أسىً لمرأى جبين زوجها يقطر في حجر أمّه لا حجرها هي, لأنّ سالم ما فتئ منذ تركت زوجه بيت أبيها واتخذت من بيت سالم مخدعاً لها في الحياة, وفي كل مرة يقطر وجه زوجها دماً أو دمعاً أو أي شيء آخر غير العرق و البصاق, كان يضنّ على عباءة زوجه بأيّة قطرة, وعلى الرّغم من أنّ زوجة "سالم" كانت هي الأخرى أمّاً, لا يقطر أولادها حين يدمون جباههم أو يبكون عيونهم إلّا على صدرها, إلّا أنّه كان يعتصرها توق غامض لتبنّي زوجها, وقد حال "حبّ العادة" المترسّخ في صميم علاقة سالم بأمّه, بين سعادة الزّوجة و تلبية ذلك التّوق.
فتح "المفوّض" ذراعيه كأنّه نسر ينقضّ على حمامة, ففهم الجمع دلالة وجوب التزام الصّمت لأنّ "متين الحذاء" يودّ بدأ الكلام, غير أنّ الصمت كان بالفعل سيّد الحضور, لا لأنّهم يحبّون سماع خطبه الجوفاء الّتي تحتاج لغة أخرى ليفهموا مقاصده ودلالاته, بل لأنّه ومنذ مولده قبل أربعين سنة وحتى هذا اليوم, كان المفوّض يعتقد من نفسه, أنه كان مَلِكَاً في كل حيواته ما قبل هذه, ولم يرتكب قط خطيئة الوجود الباعث للملل, إلّا أنّ عزوفه عن انجاب أيّة فضيلة من بين الخطايا قد أخاف منه النّاس ..ألا ليته أملّهم ضحكاً.
خلال العشر سنوات المنصرمة, والتي هي مدّة وجود مفوّض الشرطة هذا بينهم, لم يعتد أهل الجنوب حشره في شؤون قريتهم, ولولا ابن القحة الشماليّ هذا قد ذهب لإحضاره, كما هي عادة أهل الشّمال, لكان الجمع قد عاودوا الرّقص الآن, أو ذهبوا سيّان لدفن "سالم" أو صهره, وفي كل الأحوال, لن تتأتّى للمفوض الفرصة الّتي كان ينتظرها منذ سنوات, وهي الاحساس بأنّ أهل القرية يحتجنه ولو لمرّة واحدة, فطوال ما أقام بينهم, كان يحشر نفسه في مجالسهم, حيث يصمتون كما هم الآن, كي لا يدعوا الفرصة لرأيه في القضية أن يدلى, أما هنا والآن فالأمر يختلف بعض الشيء, فهم صامتون ليس نكاية كما جرت العادة, بل على كره صاغرون.
خاطبهم كما الملك الذي يجده من نفسه (يا أهل القرية الجنوبية, أليس منكم عاقلٌ يخبر عشيرته أنّ النّاس قد بلغوا آفاق الكون, و أنّ هناك أناس من الشمال قد بعثوا لأهليهم برسائل من القمر المضيء مع الحمائم, وأنتم هنا تتناطحون كالتيوس تحت ضوء القمر ذاته, ثم تلقون باللائمة على الحاكم أدام الله ظله, و على عمدته في الجنوب أنار الله خطاه, ولكنكم تعلمون كما يعلم حاكمنا, أنّ تولّيه حكم أمثالكم ابتلاء من الله ليعظم به قدر الحاكم عنده, فهنيئاً لحاكمنا تيوساً أمثالكم, و هنيئاً لكم دماء أعراسكم.
و عليه .. أقرر أنا بصفتي مفوض العمدة والّذي هو مفوّض من الحاكم رفيع المقام عند الحقّ في السماء, أنّ إقامة حفلات الزفاف قد أصبح منذ اليوم, أمراً يستوجب العقوبة الّتي لم أحددها بعدُ, وقد لا تغدو محددة إطلاقاً.
خرج "الخاطب" عن صمته, وصرخ في وجه العمدة (هذا غير مقبول عندنا أيها المحترم, فإن كان يصحّ أن يتزوج النّاس دون الإعلان عن ذلك, أقصد هناك من حيث قدمتم قريتنا, فيشرّفنا أن نخبركم رفضنا التشبّه بكم..)
نزل الجواب كالصاعقة على شرف الـ"المفوّض" وهو الذي لم يعتد من أهل القرية سوى السّماع و هز الرأس, (انظر لهؤلاء الديدان) حدّث المفوّض بذلك نفسه وهو يتراكض باتجاه رأس المصرفيّ الشاب, والّذي كان قد أسلم لراحة الاستلقاء أرضاً, فلم يكلّف نفسه عناء الوقوف, حتّى بعد أن حرروه من كل الأحبال التي أعاقت محاولاته الفاشلة للتخلص منها. وهوى "المفوّض" فوق أسنان الشابّ بأسفل حذاءه اللامع, فهشّم ثلاثة من أسنانه, كانت الفتاة قد بلغ مسمعها صوت تكسّرهم, فندت عنها آهة مكتومة, لكأنها آهة عاشق ولهان, فطرب لآهتها سمع الخاطب, لأنّه أحبّ جمال وقعها, تماماً كما أحبّ الـ"مفوّض" جمال وقع تكسّر الأسنان.
هبّ سالم واقفاً وترك حجر أمّه المتعب, بينما يده ظلت تمسك جرح رأسه (نعم يا هذا فلسنا نحن من نزوّج أبناءنا وبناتنا في غرفٍ مظلمة) قالها سالم بغضبٍ تعمّد المبالغة بإظهاره.
اخرس يا ابن الخرفة, هكذا رد الـ"المفوّض" على كلام "سالم" , ولكن من قال أن سالماً قد اكتفى بالقول فحسب, ولم يهبّ واقفاً, ليأخذ بهراوة صهره على عجل, فيجعلها تستقر في مفرق شعر رأس الـ"مفوّض" حيث دارت عينا هذا الأخير نصف دورة إلى أعلى, و اتسعت حدقتاه, بينما كان للون الدّم الممتزج بسواد شعره, لوناً كلون الدّم الذي كان يتقطّر من عظمة الكلب في يد الفارس.
.
رابط الحلقة الأولى:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=712551
.
رابط الحلقة الثانية:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=713091
.
رابط الحلقة الثالثة:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=724510








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور خالد النبوي يساند والده في العرض الخاص لفيلم ا?هل الكهف


.. خالد النبوي وصبري فواز وهاجر أحمد وأبطال فيلم أهل الكهف يحتف




.. بالقمامة والموسيقى.. حرب نفسية تشتعل بين الكوريتين!| #منصات


.. رئاسة شؤون الحرمين: ترجمة خطبة عرفة إلى 20 لغة لاستهداف الوص




.. عبد الرحمن الشمري.. استدعاء الشاعر السعودي بعد تصريحات اعتبر